بحوث في الملل والنحل ـ جلد الخامس ::: 231 ـ 240
(231)
    ماذا يريد من قوله : الظالم أهلها ، وهل يريد بلدة الكوفة وأهلها الملتفّين حول الإمام علي بن أبي طالب ( عليه السَّلام ) ؟ والحال انّ الآية نزلت في حق المشركين قال سبحانه : ( وِمالَكُمْ لاتُقاتِلُونَ فِى سَبِيِلِ اللهِ وِ المُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجال وَالنِّساءِ وَ الوِلْدانِ الّذيِنَ يَقُولُونَ رَبَّنا أَخرِجْنا مِنْ هذِهِ القَرْيَةِ الظّالِمِ أهْلُها واجْعَلْ لَنا مِنْ لَدُنْكَ وَلِيّاً واجْعَلْ لَنا مِنْ لَدُنْكَ نصِيراً ) (1) .
    إنّ المحكّمة الاُولى هم الذين بقروا بطن زوجة عبدالله بن خباب بن الأرت ، ذلك التابعي العظيم ، ولم يكتفوا بذلك ، فذبحوا زوجها كما يذبح الكبش ، بعدما أعطوه الأمان ، وهم الذين قتلوا ثلاث نسوة من طي ، وقتلوا أمّ سنان الصيداوية ، كل ذلك ارتكبوه بعد ما انتقلوا من الحروراء إلى النهروان ، ولمّا بلغ عليّاً هذه الجنايات المروِّعة عمد إلى مقاتلتهم بعد ما أتمّ الحجّة عليهم.
    وأيّ دليل على تطرّفهم أتقن من توصيف الإمام إيّاهم بقوله : « سيوفكم على عواتقكم ، تضعونها مواضع البُرء والسقم ، وتخلطون من أذنب بمن لم يذنب » (2) .
    أبعد هذا يصحّ للاُستاذ صالح بن أحمد الصوافي تخصيص التطرّف بالخوارج الذين جاءوا بعدهم.
    هذا هو شبيب ، مساعد ابن ملجم في قتل علي ، دخل على معاوية في الكوفة بعد قتل عليّ ، ولمّا وقف معاوية على أنّه فيها ، بعث إلى الأشجع لأن يخرجه من الكوفة ، وكان شبيب إذا جنّ عليه الليل خرج فلم يلق أحداً إلاّ قتله. (3)
    1 ـ النساء 75.
    2 ـ الرضي : نهج البلاغة ، الخطبة 127.
    3 ـ ابن الأثير : الكامل 3/206.


(232)
    وهذا هو قريب بن مرّة وزحاف الطائي قد خرجا في امارة زياد بن أبيه فاعترضا الناس ، فلقيا شيخاً ناسكاً من بني ضبيعة فقتلاه ، فخرج رجل من بني قطيعة من الأزد وفي يده السيف ، فناداه الناس من ظهور البيوت : « الحرورية »!!!
    انج بنفسك ، فنادوه (قريب وزحاف ومن معهما) : لسنا حرورية ، نحن الشرط ، فوقف فقتلوه ، ثمّ جعلا لا يمرّان بقبيلة إلاّ قتلا من وجدا حتى مرّا على بني علي بن سود من الأزد ، وكانوا رماة فرموهم رمياً شديداً ، فصاحوا : يا بني علي! البقيا! لارماء بيننا. قال رجل من بني علي :
لاشيء للقوم سوى السهام مشحوذة في غلس الظلام
    ففرّ عنهم الخوارج إلى ان واجهوا بنو طاحية من بني سود ، وقبائل من مزينة وغيرها ، ووقعت الحرب فقتل الخوارج عن آخرهم ، وقتل قريب وزحاف (1) .
    ما ذكرنا نماذج من استعراضهم للناس وقتلهم الأبرياء ، قبل قيام ابن الأزرق بالدعوة ، فإنّ ماذكرنا يرجع إلى عهد علي وما بعده بقليل ، وأمّا فتنة الأزارقة والنجدات فهي راجعة إلى عصر ابنه يزيد بن معاوية فهي من حوادث بعد الستين.
    ثالثاً : إنّ تخصيص اسم الخوارج بالمتطرّفين منهم كالأزارقة والنجدات تخصيص بلاوجه ، فقد اُطلق هذا اللفظ في عصر عليّ على هؤلاء أي على عبدالله بن وهب الراسبي وذي الخويصرة ومن قتل معهما في وقعة النهروان :
    هذا هو الإمام علي بن أبي طالب ـ بعد ما خرج من قتال الخوارج في ضفة النهر مرفوع الرأس ـ قال : لا تقاتلوا الخوارج بعدي فليس من طلب الحق فأخطاه
    1 ـ المبرّد : الكامل 2/180.

(233)
كمن طلب الباطل فأدركه (1) . فلو كانت هذه الكلمة لعلي كما هوالمقطوع لكان دليلا على أنّ القوم في بدء نشوئهم كانوا مسمّين بهذا الاسم ، وإن كان لغيره فالظاهر أنّ ذلك الغير هو الموالي للخوارج بقرينة مدحهم في ذيل الجملة ، فكان شاهداً على أنّ القوم كانوا مسمّين بهذا الاسم منذ البداية.
    ويظهر ممّا نظمه نفس الخوارج من الأشعار أنّ تسميتهم بها كان رائجاً في عصر معاوية أي قبل الستين وقبل أنّ يتسنّم الأزارقة والنجدات منصّة القيادة يقول عيسى بن فاتك من بني تميم تأييداً لموقف أبي بلال مرداس به ادية الذي قتل عام 60 في أبيات :
أألفا مؤمن فيما زعمتم كذبتم ليس ذاك كما زعمتم هم الفئة القليلة غير شكّ ويهزمهم بآسك أربعونا؟ ولكن الخوارج مؤمنونا على الفئة الكثيرة ينصرونا (2)
    ويُستنتج من ذلك الأمرين : أنّ الخوارج اُطلق يوم اُطلق على من خرج عن طاعة أمير المؤمنين وأنكروا التحكيم عليه من غير فرق بين أوائلهم ومن بعدهم.
    رابعاً : لاشك إنّ المحكّمة الاُولى كانوا يبغضون عليّاً ويكفّرونه ، وتشهد بذلك كلماتهم و أشعارهم خصوصاً في مفاوضاتهم مع عليّ ، وقد تضافرت الروايات أنّ حبّه آية الإيمان وبغضه آية النفاق ، ولايمكن لعالم ملّم بالأحاديث انكار ذلك.
    هذا هو مسلم روى في صحيحه عن زر بن حبيش قال : قال عليّ : والذي
    1 ـ الرضي : نهج البلاغة ، الخطبة 60.
    2 ـ المبرّد : الكامل 2/186 ، ابن سلاّم (م 273) بدء الاسلام وشرائع الدين : 111 ، مرّت قصة أبي بلال.


(234)
خلق الجنّة وبرأ النسمة أنّه لعهد النبيّ الاُميّ إليّ لايحبّني إلاّ مؤمن ولايبغضني إلاّ منافق (1) .
    وروى الإمام أحمد في فضائل الصحابة عن زرّ بن حبيش ، عن علي قال : عهد النبي إليّ أنّه لايحبّك إلاّ مؤمن ولايبغضك إلاّ منافق (2) .
    ورواه النسائي في خصائصه بعدّة طرق (3) .
    ورواه الحافظ ابن عساكر في تاريخه بأسانيد تربو على 18 طريقاً (4) .
    وعلى ضوء ذلك فهؤلاء محكومون بالنفاق والخلود في النار ، فيشملهم قول النبي الأكرم ( صلّى الله عليه وآله وسلم ) في شأن ذي الخويصرة الذي كان في الرعيل الأوّل من المحكّمة : فإنّه سيكون له شيعة يتعمّقون في الدين حتى يخرجوا منه كما يخرج السهم من الرميّة (5) .
    روى المبرّد في الكامل أنّ عليّاً (رضي الله عنه) وجّه إلى رسول الله مذهّبة من اليمن فقسّمت أرباعاً فأعطى ربعاً للأقرع بن جالس المجاشعي ، وربعاً لزيد الخيل الطائي ، وربعاً لعيينة بن حصن الغزاري ، وربعاً لعلقمة بن علاثة الكلابي ، فقام إليه رجل مضطرب الخلق غائر العينين ناتئُ الجبهة فقال : لقد رأيت قسمة مااُريد بها وجه الله ، فغضب رسول الله ( صلّى الله عليه وآله وسلم ) حتى تورّد خداه ، ثم قال : أيأمنني الله عزّوجلّ على أهل الأرض ولاتأمنوني؟ فقام إليه عمر فقال : أقتله يا رسول الله؟ فقال ( صلّى الله عليه وآله وسلم ) إنّه سيكون من
    1 ـ مسلم : الصحيح 1 ، كتاب الايمان 60.
    2 ـ أحمد بن حنبل : المسند 1/127. الحديث 948 ، وفضائل الصحابة 2/563 ، ونقله في كتابه الأخير في غير واحد من المواضع ، لاحظ الأحاديث 979 ، 1059 ، 1086 ، 1146.
    3 ـ الحافظ أبو عبدالرحمان النسائي : الخصائص 187.
    4 ـ ابن عساكر : تاريخ مدينة دمشق ، ترجمة الإمام علي بن أبي طالب 2/190 ـ 199.
    5 ـ ابن هشام : السيرة النبوية 4/496. ابن الأثير : الكامل 2/164.


(235)
ضئضىء هذا قوم يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية تنظر في النصل فلاترى ، شيئاً ، وتنظر في الرصاف فلاترى شيئاً ، وتتمارى في الفوق (1) .
    إنّ المحكّمة الاُولى كفّروا من طهّره الله سبحانه في كتابه وقال : ( إنَّما يُريدُ اللهُ لِيُذْهِبُ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أهْلَ البَيْتِ وَ يُطَهَركُمْ تَطْهِيراً ) (2) وقد اصفقت الاُمّة إلاّ الشواذ من الخوارج كعكرمة على نزول الآية في حقّ العترة الطاهرة ، هذا هو مسلم يروي في صحيحة عن عائشة ، قالت : خرج النبي غداة وعليه مرط مرجّل من شعر أسود وجاء الحسن بن علي فأدخله ، ثم جاء الحسين بن علي فأدخله ، ثم جاءت فاطمة فأدخلها ، ثم جاء علي فأدخله ، ثم قال : ( إنّما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهّركم تطهيراً ) (3) .
    وروى إمام الحنابلة في مسنده نزول الآية في شأن الخمسة الطاهرة ، فمن أراد فليرجع إلى مظانّه (4) .
    إلى غير ذلك من الآيات النازلة في حقّ أهل البيت.
    أفيصحّ لنا الحكم باسلام من يكفّر ويبغض ويقاتل من طهّره الله في نصّ كتابه ، ومحكم ذكره؟
    ولأجل ذلك فالمحكّمة الاُولى محكومون بالكفر والنفاق وإن افترضنا أنّهم اكتفوا بانكار التحكيم فقط ، ولم يستعرضوا المسلمين بالسيف ولم يقتلوا النساء ولا الأطفال ولاكفّروا المسلمين.
    وفي كلمات أئمّة أهل بيت اشارة إلى هذا النوع.
    1 ـ المبرّد : الكامل 2/142.
    2 ـ الأحزاب : 33.
    3 ـ مسلم : الصحيح 7/130.
    4 ـ أحمد بن حنبل : المسند : 4/107 و 6/292 ، 296 و 323.


(236)
    كان عبدالله بن نافع بن الأزرق يقول : لو عرفت أنّ بين قطريها أحداً تبلغني إليه الإبل يخصمني بأنّ عليّاً ( عليه السَّلام ) قتل أهل النهروان وهو غير ظالم ، لرحلتها إليه ، فقيل له : إئت ولده محمّد الباقر ( عليه السَّلام ) فأتاه فسأله ، فقال بعد كلام : الحمد لله الذي أكرمنا بنوبّته ، واختصّنا بولايته ، يامعشر أولاد المهاجرين و الأنصار من كان عنده منقبة في أمير المؤمنين ، فليقم وليحدّث ، فقاموا ونشروا من مناقبه فلمّا انتهوا إلى قوله : لاُعطينّ الراية غداً رجلا يحبّه الله ورسوله ويحبّ الله ورسوله ، سأله أبو جعفر عن صحّته فقال : هو حقّ لاشكّ فيه ، ولكن عليّاً أحدث الكفر بعد.
    فقال أبو جعفر ( عليه السَّلام ) : أخبرني عن الله أحبّ علي بن أبي طالب يوم أحبّه وهو يعلم أنّه يقتل أهل النهروان ، أم لم يعلم ، إن قلت : لا ، كفرت ، فقال : قد علم ، فقال : فأحبّه على أن يعمل بطاعته أم على أن يعمل بمعصيته؟ قال : على أن يعمل بطاعته ، فقال أبو جعفر : قم مخصوماً ، فقام عبدالله بن نافع ابن الأزرق وهو يقول : حتّى يتبّين لكم الخيط الأبيض من الخيط الأسود ، اللهُ يَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسالَتَه (1) .
    روى الشريف المرتضى عن الشيخ المفيد : أحبّ الرشيد أن يسمع كلام هشام بن الحكم مع الخوارج ، فأمر بإحضار هشام بن الحكم وإحضار عبدالله بن يزيد الاباضيّ (2) وجلس بحيث يسمع كلامهما ولايرى القوم شخصه ، وكان بالحضرة يحيى بن خالد ، فقال يحيى لعبدالله بن يزيد : سل أبا محمّد ـ يعني هشاماًـ عن شيء ، فقال هشام : لا مسألة للخوارج علينا ، فقال
    1 ـ ابن شهر آشوب : مناقب آل آبي طالب : 2/289 كما في البحار 10/158.
    2 ـ ترجمه ابن حجر في لسان الميزان 3 / 387 بقوله : عبدالله بن يزيد الفزاري الكوفي المتكلّم ، ذكره ابن حزم في النحل : انّ الاباضية من الخوارج أخذوا مذهبهم عنه.


(237)
عبدالله بن يزيد ، وكيف ذلك؟ فقال هشام : لأنّكم قوم قد اجتمعتم معنا على ولاية رجل وتعديله والإقرار بإمامته وفضله ، ثمّ فارقتمونا في عداوته والبراءة منه ، فنحن على إجماعنا وشهادتكم لنا ، وخلافكم علينا غير قادح في مذهبنا ، ودعواكم غير مقبولة علينا ، إذ الاختلاف لايقابل الاتّفاق ، وشهادة الخصم لخصمه ، مقبولةٌ ، وشهادته عليه مردودة.
    قال يحيى بن خالد : لقد قرَّبت قطعه يا أبامحمّد ، ولكن جاره شيئاً ، فإنّ أمير المؤمنين أطال الله بقاءه يحبّ ذلك ، قال : فقال هشام : أنا أفعل ذلك ، غير أنّ الكلام ربّما انتهى إلى حدّ يغمض ويدق على الأفهام ، فيعاند أحد الخصمين أو يشتبه عليه ، فإن أحبّ الإنصاف فليجعل بيني وبينه واسطة عدلا ، إن خرجت عن الطريق ردَّني إليه ، وإن جار في حكمه شهد عليه ، فقال عبدالله بن يزيد : لقد دعا أبومحمّد إلى الإنصاف ، فقال هشام : فمن يكون هذه الواسطة؟ وما يكون مذهبه؟ أيكون من أصحابي ، أو من أصحابك ، أو مخالفاً للملّة أو لنا جمعياً؟ قال عبدالله بن يزيد : اختر من شئت فقد رضيت به ، قال هشام : أمّا أنا فأرى أنّه إن كان من أصحابي لم يؤمن عليه العصبيّة لي ، وإن كان من أصحابك لم آمنه في الحكم عليَّ ، وإن كان مخالفاً لنا جميعاً لم يكن مأموناً عليّ ولا عليك ، ولكن يكون رجلا من أصحابي ، ورجلا من أصحابك ، فينظران فيما بيننا ويحكمان علينا بموجب الحقّ ومحض الحكم بالعدل ، فقال عبدالله بن يزيد : فقد أنصفت يا أبامحمّد ، وكنت أنتظر هذا منك.
    فأقبل هشام على يحيى بن خالد فقال له : قد قطعته أيّها الوزير ، ودمّرت (1) على مذاهبه كلّها بأهون سعي ، ولم يبق معه شيء ، واستغنيت عن مناظرته ، قال : فحرّك الرشيد الستر ، فأصغى يحيى بن خالد فقال له : هذا متكلّم الشيعة وافق
    1 ـ دمّر عليه : هجم عليه هجوم الشر. دمّر عليه : أهلكه.

(238)
الرجل موافقة لم تتضمّن مناظرة ، ثمّ ادّعى عليه أنّه قد قطّعه وأفسد عليه مذهبه ، فمره أن يبيّن عن صحّة ما ادّعاه على الرجل ، فقال يحيى بن خالد لهشام : إنّ أمير المؤمنين يأمرك أن تكشف عن صحّة ما ادّعيت على هذا الرجل ، قال : فقال هشام رحمه الله : إنّ هؤلاء القوم لم يزالوا معنا على ولاية أميرالمؤمنين عليّ بن أبي طالب ( عليه السَّلام ) حتّى كان من أمر الحكمين ماكان ، فأكفروه بالتحكيم وضلّلوه بذلك ، وهم الّذين اضطرّوه إليه ، والآن فقد حكّم هذا الشيخ وهو عماد أصحابه مختاراً غير مضطرّ رجلين مختلفين في مذهبهما : أحدهما يكفّره ، والآخر يعدّله ، فإن كان مصيباً في ذلك فأمير المؤمنين أولى بالصواب ، وإن كان مخطئاً كافراً فقد أراحنا من نفسه بشهادته بالكفر عليها ، والنظر في كفره وإيمانه أولى من النظر في إكفاره عليّاً ( عليه السَّلام ) قال : فاستحسن ذلك الرشيد و أمر بصلته وجائزته (1) .
    إنّ عداء القوم بالنسبة إلى الإمام أمير المؤمنين كانت ظاهرة في كتب أوائلهم ، هذا هو محمّد بن سعيد الكدمي أحد علماء المذهب الاباضي بعمان ، حتى لُقّب بإمام المذهب في القرن الرابع الهجري يذكر عليّاً في كتابه ويقول :
    « إنّ علي بن أبي طالب استخلف على الناس ، ونقض عهد الله وحكم في الدار غير حكم كتاب الله ، وقتل المسلمين وسار بالجور في أهل رعيّته ، فعلى الذي قد صحّت منه سعادة عليّ بن أبي طالب أن يتولّى لله علي بن أبي طالب على سفكه لدماء المسلمين وعلى تحكيمه في الدماء غير حكم كتاب الله ، وسيرته القبيحة ، لا يحلّ له الشك في ولايته ، وعليه أن يبرأ لله من باطله ومن سفك دمه إن قدر على ذلك ، وليس له أن ينكر على المسلمين
    1 ـ الشريف المرتضى : الفصول المختارة 1/26.

(239)
البراءة منه » (1) .
    وهذا هو ابن سلاّم الاباضي المتوفّى بعد عام 273 يقول : « وحكّموا الحكمين خلافاً لكتاب الله ، وحكّموا الحكمين في أمر قضاه الله ، واختلفت الاُمّة وتفرّقت الكلمة ، وصار الناس شيعتين مفترقتين ، وظهر أهل الباطل من أصحاب معاوية على أهل الحق ، فاختفى المسلمون بالحقّ الذي تمسّكوا به فاختلفت عليهم كلمة المختلفين ، يقتلونهم على دين الله الحنيف والملّة الصادقة ( مِلَّةَ إبْراهيِمَ حَنيِفاً وَ ما كانَ مِنَ المُشْرِكينَ ) (2) . يبصّرون الناس دينهم في السرّ ويصبرون في الله على الأذى والقتل ، واحتقروا ذلك في ذات الله » (3) .
    ياليت ابن سلاّم يشير إلى الذين حكّموا الحكمين خلافاً لكتاب الله ، إلى الذين فرضوا التحكيم على الإمام المفترض طاعته في أمر قضاه الله. أو ليس هؤلاء أشياخه وأولياءه الذين كانوا مقنّعين في الحديد يدعون إمامهم باسم عليّ لابإمرة المؤمنين ، ويقولون : « أجب القوم إلى كتاب الله وإلاّ قتلناك كما قتلنا ابن عفان ».
    إنّ الكاتب نسى أو تناسى الجرائم المريرة التي ارتكبتها المحكّمة الاُولى حين تنقّلهم من حروراء إلى النهروان. فكان الأولى له التنويه بذلك ، لكّنه شطب على هذه الحقائق التاريخية بقلم عريض ، وإلى الله المشتكى.
    يقول بعض فقهائهم في مسألة « الولاية والبراءة ».
    فإن قالوا : فما تقولون في علي بن أبي طالب؟ قلنا له : إنّ علي بن أبي طالب مع المسلمين في منزلة البراءة.
    1 ـ الكدمي ـ محمّد بن سعيد : المعتبر 2/41.
    2 ـ البقرة : 135.
    3 ـ ابن سلام الاباضي : بدء الاسلام وشرائع الدين 106.


(240)
    فإن قال : من أين وجبت عليه البراءة وقد كان إماماً للمسلمين وهو ابن عم رسول الله ( صلّى الله عليه وآله وسلم ) وختنه (1) ، مع فضائله المشهورة وقتاله بين يدي النبي ( صلّى الله عليه وآله وسلم ) المشركين؟
    قلنا له : أوجبنا عليه البراءة من وجوه شتّى ، أحدها أنّه ترك الحرب التي أمر الله بها للفئة الباغية قبل أن تفئ إلى الله ، و أحدها تحكيم الحكمين في دماء المسلمين وفيما لم يأذن الله به المضلّين الذين كان النبي ( صلّى الله عليه وآله وسلم ) يحذّرهما ويخوّفهما أصحابه.
    وأحدهما بقتله أهل النهروان وهم الأفضلون من أصحاب النبي ( صلّى الله عليه وآله وسلم ) وهم الأربعة آلاف رجل من خيار الصحابة رحمهم الله. والأخبار بذلك تطول ويضيق بها الكتاب ويتّسع بها الجواب ولم نعدّ كتابنا هذا لشرح جميع أخبارهم ، وإنّما أردنا أن نلوّح لكم ونذكر بعض الذي كان من أحداثهم ، لتكونوا من ذلك على علم ومعرفة لتعلموا ضلال من ضلّ وخالف وشغب عليكم وبالله التوفيق.
    فإن قالوا : فما تقولون في طلحة بن عبيدالله والزبير بن العوام؟ قلنا له : إنّهما عند المسلمين بمنزلة البراءة.
    فإن قال : من أين وجبت عليهما البراءة؟ قلنا له : بخروجهما على علي بن أبي طالب والمسلمين وطلبهما بدم عثمان بن عفان بإرادتهما إزالة علي بن أبي طالب عن إمامته ، وقالا : حتى يكون الأمر شورى بين المسلمين يختارون لأنفسهم إماماً غيره ، بعد رضائهما به وبيعتهما له وأعطيا صفقة أيديهما (2) على طاعة الله وطاعة رسوله وعلى قتال من خرج يطلب بدم
    1 ـ الختن : الصهر ، زوج الابنة ، والجمع : أختان.
    2 ـ صفقة الأيدي تعني توكيد البيعة.
بحوث في الملل والنحل ـ جلد الخامس ::: فهرس