بحوث في الملل والنحل ـ جلد الخامس ::: 251 ـ 260
(251)
    إنّ الرجل الواعي الطالب للحقيقة لا يخاف من لومة لائم ، ولا من مخالفة فئة ، فكان على الاباضية أن يرفعوا علم المخالفة في هذه المسألة ، وفي مسألة الرؤية ، وخلق القرآن ، ويندّدوا بالمخالفين سواء أكانوا من السنّة أو غيرهم ، فالحق أحق أن يتّبع ، كيف يصحّ لموحّد أن يقيس الواجب بالممكن فيصوّر له ذاتاً وصفة قائمة بها ، ويحكم بالتعدّد ويخرج في النتيجة بالقدماء الثمانية ثمّ يدّعي التوحيد ويخطّىء النصارى القائلين بالتثليث.
    ثمّ إنّ من يرى أنّ مرجع عينية الصفات إلى نفي حقائقها عن ذاته ، (كما عليه الزنادقة) رأي باطل صدر ممّن لاقدم له في المباحث العقلية ، وليس له مصدر إلاّ قياس الممكن بالواجب ، فإذا رأى أنّ القول بالعينيّة ينتج نفيها في الممكنات ، عاد يخطّىء القائل بالعينيّة في الواجب بأن معناها نفي حقائقها عن ذاته سبحانه.

2 ـ امتناع رؤية الله سبحانه في الآخرة :
     إنّ امتناع رؤية الله سبحانه من الاُصول التي استقاها الوعاة من المسلمين من القرآن الكريم وخطب سيّد الموحّدين أميرالمؤمنين ( عليه السَّلام ) إذ قال عزّ من قائل : ( لا تُدْرِكَهُ الأَبْصارُ وَ هُوَ يُدْرِكُ الأبْصارَ وَ هُوَ اللَّطِيفُ الخَبِيرُ ) (1) .
    وهذا الأصل أيضاً من الاُصول اللامعة في عقائد الاباضية ، والأسف انّ الكُتّاب المتأخّرين منهم يُقلِّلون من أهمية هذا الأصل ، توخّياً لتقريب عقائدهم من أهل السنّة. حتى أنّ علي يحيى معمَّر يُعَنْوِنُ المسألةَ بقوله : هل رؤية الباري جلّ وعلا في الآخرة ممكنة؟ والعنوان يحكي عن وجود ترّدد وشك في نفس الكاتب ، ولا أقل يطرح المسألة على شكل غير قطعي وعلى خوف ووجل ،
    1 ـ الأنعام : 103.

(252)
وليس كتابه كتاباً دراسياً يطلب فيه طرح المسائل على وجه السؤال والاستفهام.
    ثمّ إنّه يكتب : قد كان في الرؤية طرفان متطرّفان ووسط معتدل هوكان اللقاء بين المذهبين ، وذلك إنّ طرف الاثبات يبالغ حتى يصل به التطرّف إلى حدّ التشبيه والتمثيل والتحديد ، وطرف النفي يبالغ حتّى يصل به التطرّف إلى حد نفي حصول كمال العلم ، وبينهما يقف أصحاب التحقيق في الجوانب المتقاربة التي تلتقي في المعنى الواحد لقاءً كاملا أو لقاءً متقارباً ، وهذه الصورة تتمثّل فيما ذهب إليه بعض علماء أهل السنّة من أنّ الرؤية معناها حصول كمال العلم بالله تبارك وتعالى ، وعبَّر عنها آخرون منهم بأنّ الرؤية تقع بحاسّة سادسة هي كمال العلم ، واختلفت تعابير الكثير منهم ولكنّها تتلاقى في النهاية على نفي كامل الصورة التي يتخيّلها الإنسان لصورة راء ومرئىّ وما تستلزمه من حدود وتشبيه ، وتتّفق في النهاية على الابتعاد عمّا يشعر بأيّ تشبيه في أيّ مراتبه ، وبالمحدودية في أيِّ أشكالها ، وليس لنا أن نخوض فيه بغير القدر التي جاءت به النصوص.
    والمعتدلون من الاباضية لايمنعون أن يكون معنى الرؤية هو كمال العلم به تعالى ويمنعون الرؤية بالصورة المتخّيلة عند الناس (1) .
    عزب عن الكاتب انّ محلّ النزاع من القرن الأوّل إلى القرون المتأخّرة ليس إلاّ الرؤية بالأبصار لابحاسّة سادسة سمّاها كمال العلم ، فإنّ القائلين بالرؤية يستندون إلى ما رواه البخاري وأمثاله من أنّ النبي ( صلّى الله عليه وآله وسلم ) قال : « إنّكم ترون ربّكم كما ترون القمر ليلة البدر غير متضامّين » ، فليس للمحقّق الكلامي إلاّ موافقة هذا الأصل أو طرده من الرأس ، فاللجوء إلى الرؤية بحاسّة سادسة بمعنى كمال العلم تفسير بأمر بائن وخروج عن محطّ البحث.
    1 ـ علي يحيى معمِّر : الاباضية بين الفرق الإسلامية 1/291 ـ 292.

(253)
    وأظن وظن الألمعي يقين انّ الكاتب توخّياً لإيجاد القرب بين الاباضية وأهل السنّة تنازل إلى حدّ غير مطلوب ، ولم يقم بالدفاع عن مذهبه بحماس.
    نعم قد أحسن في المقام صالح بن أحمد الصوافي ، فقد طرح المسألة بشكل رصين ، ودفع شبهة القائلين في المقام ، ترى أنّه قام بتفسير قوله سبحانه : ( وُجُوهٌ يَوْمَئذ ناضِرَةٌ * إلى رَبِّها ناظِرَةٌ ) (1) ، الذي هو من أهم أدلّة القائلين بالرؤية ، فقال :
    « أوّلا : النظر في اللغة غير الرؤية ، ولذا يقال : نظرت إلى الهلال فلم أره ، ولايصحّ أن يقال رأيته فلم أره ، واطلاقه على الرؤية مجاز ، لايصحّ إلاّ لقرينة ، والعدول عن الحقيقة إلى المجاز خلاف الظاهر.
    ثانياً : إنّ سياق الآية دال على انتظار رحمة الله تعالى بدليل أنّه عطف عليها قوله : ( وَ وَجُوهٌ يَوْمَئِذ باسِرَةٌ * تَظُنُّ أنْ يُفْعَلَ بَها فاقِرَةُ ) (2) فلو فسّر النظر في الآية بالرؤية لارتفعت المناسبة بين الجملتين ولتداعى بناؤها واختلّ نظمها ، إذ لامناسبة بين عيون رائية ربّها ووجوه باسرة تظن أن يفعل بها فاقرة (3) .
    ثالثاً : إنّ النظر في الآية انتظار ما لهم عند الله من الثواب ، ومنه قول الشاعر :
فإن يك صدر هذا اليوم ولّى فإنّ غداً لناظره قريب
    وقول الآخر :
كلّ الخلائق ينظرون سجاله نظر الحجيج إلى طلوع هلال

    1 ـ القيامة : 22 ـ 23.
    2 ـ القيامة : 24 ـ 25.
    3 ـ صالح بن أحمد الصوافي : الإمام جابر بن زيد العماني : 238 وقد أوضحنا هذا الوجه في الجزء الثاني من هذه الموسوعة (لاحظ ص 202 ـ 208).

(254)
    وقول الآخر :
وكنّا ناظريك بكل فجّ كما للغيث ينتظر الغماما
    وقال امرؤ القيس :
وقد نظرتكم أعشى بخامسة للورد طال بها حبّي وتبساسي (1)

3 ـ القرآن حادث غير قديم :
    إنّ المترقّب من الأباضية الذين رفضوا القشرية ، وخضعوا للعقل ، أن يكون موقفهم في خلق القرآن موقف العدلية ويصرّحوا بأنّ القرآن مخلوق لله سبحانه وحادث بعد أن لم يكن ، لكونه حادثاً ومخلوقاً لله سبحانه غير أنّ الظاهر من بعض كتّابهم أنّهم يتحرّجون من التصريح بخلق القرآن وإن كانوا بعداء عن القول بكونه قديماً غير مخلوق. وننقل في المقام نصّين من كتّابهم ، حتى تلمس الحقيقة.
    1 ـ يقول الدكتور رجب : وبالنسبة لمشكلة خلق القرآن نراهم يقفون أمام هذا القول الذي فرضه المأمون على العالم الإسلامي فرضاً بتأثير من المعتزلة ، ممّا أدّى إلى تمزيق وحدة الاُمّة الفكرية ، وإلى اضطهاد كثير من العلماء والفقهاء ، ولذلك توقّف العمانيون عن القول بخلق القرآن ، وقالوا في صراحة واضحة في واحد من أهمّ كتبهم الفقهية : « لا يلزم الناس معرفة هذه المسألة » وكتب أبو عبدالله القلهاتي الذي عاش في القرن الرابع للهجرة ـ العاشر للميلاد ـ أكثر من عشرين صفحة في مناقشة القول بخلق القرآن والردّ على من قال بذلك ، كما كتب أحمد بن نظر العماني الذي عاش في القرن الخامس للهجرة
    1 ـ المصدر نفسه ، وقد اغرق نزعاً في التحقيق في اثبات القول الحق وتنزيهه ، والتبساس : هو الشوق الشديد.

(255)
ـ الحادي عشر للميلادـ في كتابه دعائم الإسلام خمسة وسبعين بيتاً من الشعر ، فندّد القول بهذه المسألة واستنكرها كل الاستنكار. وفي العصر الحديث نجد الشيخ نورالدين السالمي يعبّر عن هذا الموقف قائلا : « إنّ الأشياخ توقّفوا عن اطلاق القول بخلق القرآن وأمروا بالشدة على من أطلق القول في هذه المسألة ، حتى لايفتتن الناس في دينهم » (1) .
    ترى في هذا الكلام التناقض ، فبينما ينقل عن بعضهم الرد على من قال بخلق القرآن ينقل عن الأشياخ انّهم توقّفوا عن اطلاق القول بخلق القرآن ، وأمروا بالشدّة على من أطلق القول في هذه المسألة.
    لاشكّ إنّ القرآن ليس بمخلوق أي ليس بمختلق للبشر كما قال سبحانه حاكياً عن بعض المشركين : ( إنْ هذا إلاّ قَوْلُ البَشَرِ ) (2) ولكنّه مخلوق لله سبحانه ، إذ لايتجاور كون القرآن فعله ، وفعله كلّه حادث غير قديم ، وإلاّ يلزم تعدّد القدماء وأما علمه سبحانه بما في القرآن من المضامين والمعارف والحوادث فلاشك إنّه قديم ، وهو غير كلامه.
    فاللائق بمن يصف نفسه بأنّه أهل تقييد لاتقليد أن يصرّح بموقفه في مسألة خلق القرآن ، اللّهم إلاّ إذا كان موجباً للفتنة أو كانت عقول الناس بعيدة عن درك الحقيقة ، فحينئذ الأولى عدم البحث والطرح.
    ونؤكّد من جديد أنّ القول بعدم قِدم القرآن هو من الاُصول الوضّاءة في عقائد الاباضية ، وهم في الاعتقاد بها عيال على المعتزلة ، فاللائق بالكاتب الواعي أن يجهر بالحق ويحدّد محل النزاع ، وياللأسف انّ بعضهم ـ مثل الكاتب السابق ـ بدل أن يخرج من المسألة مرفوع الرأس ، ويحقّقها على ضوء
    1 ـ الدكتور رجب محمّد عبدالحليم : الأباضية في مصر والمغرب : 70 ـ 71.
    2 ـ المدثر : 25.


(256)
القرآن والعقل ، طفق يطلب من يقول بكون القرآن مخلوقاً من بين أهل السنّة.
    2 ـ يقول علي يحيى معمّر : إنّ من علماء أهل السنّة من يقول دون تحرّج أو احتراز : « القرآن مخلوق » فقد ذكر الخطيب البغدادي من طرق متعدّدة عن أبي يوسف انّ أبا حنيفة كان يقول : القرآن مخلوق ، أمّا أبو منصور الماتريدي ، فقد كان يقول : إنّه محدث ، ولم يحفظ عنه أنّ قال : مخلوق ، وقد كان أبو النضر العماني من أئمّة الاباضية يقول : إنّ القرآن غير مخلوق ، وأنكر انكاراً شديداً على من يقول بخلق القرآن ، وذهب القطب من أئمّة الاباضية انّ هذه المسألة ليست من الاُصول ، وقال أبو إسحاق طفيش : إنّ الخلاف فيها لفظي ، وهذا القدر كاف للدلالة على اللقاء بين المذهبين ، ويكفي أن يلتقي المسلمون على حقيقتين في هذا الموضوع : هي أنّ الله تبارك و تعالى سميع بصير متكلّم وانّ القرآن الكريم كلام الله عزّوجلّ أنزله على رسوله (1) .
    يلاحظ عليه : أنّ ما ذكره ناش من توخّي ايجاد اللقاء بين المذهبين : الأشاعرة والاباضية ، فلأجل ذلك ذهب ليجد من أهل السنة من يقول بأنّ القرآن مخلوق ، ومن أئمّة الاباضية من يقول : بأنّ القرآن غير مخلوق ، وهذا يعرب عن أنّه لم يتّخذ الكاتب في هذا الموقف رأياً حاسماً أوليس للأباضية فيه رأي جازم ، مع أنّ المنقول منهم كونه حادثاً أو غير قديم أو مخلوقاً بمعنى أنّه أنزله الله سبحانه وأوجده من العدم.
    فكان من الواجب على الكاتب أن يدافع عقيدته وعقيدة طائفته ويطرحها بوضوح ويذبَّ عنها ذبّاً علميّاً تحقيقياً متحرّياً للواقع.
    ثمّ إنّ ما ذكره في ذيل كلامه من أنّه « يكفي أن يلتقي المسلمون على أنّ القرآن الكريم كلام الله عزّوجلّ أنزله على رسوله ». وإن كان كلاماً صحيحاً ،
    1 ـ علي يحيى معمرّ : الاباضية بين الفرق الإسلامية 1/291.

(257)
إذ ليس الاعتقاد بالحدوث والقدم في القرآن من الأصول العقائدية التي يناط بها الإسلام و الكفر ، غير أنّه لو كان هذا هو الأصل الثابت في جميع المواقف فليضرب هذا الكاتب الاباضي صفحاً على الأصول التي اتّخذها اُصولا لمذهبه كمسألة التحكيم وولاء المحكّمة الاُولى ، أو ليس ذلك أوفق بالتقريب و توحيد الاُمّة وجعلهم صفّاً واحداً في مقابل الأعداء؟
    إنّ البحث عن التحكيم و المحكّمة وخلق القرآن وعدمه ومايأتي من الاُصول الاُخرى للاباضية من خلود الفاسق في النار وعدمه ، وكونه كافراً كفر النعمة ، بحوث علمية يختصّ فهمها بالمحقّقين والوعاة من علماء الإسلام ، فالتحيّز إلى هذه الاُصول وجعلها محاور للحقّ والباطل والإسلام والكفر ، لايدعمه الكتاب ولا يوافقه العقل ، فليكن شعار الجميع ما سمحت به قريحة شاعر الأهرام :
إنّا لتجمعنا العقيدة أمّة ويؤلّف الإسلام بين قلوبنا ويُضمّنا دين الهدى أتباعا مهما ذهبنا في الهوى أشياعا
    والحق إنّ الخوارج بالمعنى العام الذي يعمّ الاباضية لم يكن يوم ظهورها إلاّ حزباً سياسيّاً يهدف إلى تخطئة مسألة التحكيم مع عزل علي عن الحكومة والدعوة إلى بيعة رئيس المحكّمة الاُولى عبدالله بن وهب ، ولم يكن لهم يومذاك أي شأن في المسائل العقائدية الماضية ، ولمّا قضى عليٌ نحبه واستولت الطغمة الغاشمة من الأمويين و المروانيين على منصَّة الحكم ، صار الخوارج يكافحون الحكومات ، ويصارخون في وجوههم للقضاء عليهم ولم يكن لهم في هذه الأيّام أيضاً إلاّ هذا الأصل ، غير أنّ مرور الزمن وتلاقي الخوارج مع المعتزلة وغيرهم من الطوائف الإسلامية ، ألجأهم إلى أن يّتخذوا في بعض المسائل موقفاً فكريّاً ، فعند ذلك أصبحوا جمعيّة دينية وفرقة كلامية بعد ما كانوا حزباً سياسياً بحتاً


(258)
فتلاقوا في هذه المسائل مع المعتزلة بل تأثّروا بهم كما هو الحال في المسألة التالية ، فقد تأثرت الاباضية فيها عن المعتزلة وخالفوا الشيعة وغيرهم من الطوائف الإسلامية.

4 ـ الشفاعة : دخول الجنّة بسرعة :
    إنّ مرتكبي الكبيرة عند الاباضية إذا ماتوا بلا توبة ، محكومون بالخلود في النار ، فلأجل هذا الموقف المسبَّق في هذه المسألة فسّروا الشفاعة بدخول المؤمنين الجنّة بسرعة ، وفي الحقيقة خَصُّوها بغير المذنبين من الاُمّة ، وهذا التفسير يوافق ما عليه المعتزلة من أنّ الغاية من الشفاعة هو رفع الدرجة لامغفرة الذنوب.
    إنّ الشفاعة أمر مسلّم عند جميع المسلمين غير أنّهم اختلفوا في تفسيرها ، وهؤلاء كالمعتزلة ذهبوا إلى أنّ شفاعة النبيّ بل شفاعة جميع الشفعاء لاتنال أهل الكبائر متمسّكاً بقوله ( صلّى الله عليه وآله وسلم ) : « ليست الشفاعة لأهل الكبائر من اُمّتي ».
    يقول السالبي في كتابه شرح أنوار العقول : « فإن قيل : المؤمنون مستوجبون للجنّة بأعمالهم فلا معنى للشفاعة ، فالجواب أنّ الشفاعة لهم هي طلب تنقلهم من المحشر ، ودخولهم الجنّة بسرعة » (1) .
    يلاحظ عليه : أنّ الشفاعة مسألة قرآنية ، وفي الوقت نفسه مسألة روائية وحديثية ، فلا يجوز لمسلم الإدلاء برأي إلاّ بعد الرجوع إلى المصدرين الرئيسيّين مجرّداً عن كل رأي ، وأمّا تفسيرها على ضوء الرأي المسبق فهو من قبيل التفسير بالرأي الذي حذَّر عنه النبي في الحديث المتواتر عنه و قال : « من
    1 ـ صالح بن أحمد الصوافي : الإمام جابر بن زيد العماني : 256 ، نقلا عن مشارق أنوار العقول : 294.

(259)
فسّر القرآن برأيه فليتبوّء مقعده من النار » (1) .
    إنّ مسألة الشفاعة ليست مسألة جديدة ابتكرها الإسلام وانفرد بها ، بل كانت فكرة رائجة بين اُمم العالم من قبل ، وخاصّة بين الوثنيين واليهود ، فلو ذكرها القرآن فإنّما يذكرها بالمفهوم الرائج عندهم ، لا بمفهوم مغاير ، فلو أمضاها ، فإنّما أمضاها بهذا المفهوم ، ولو هذّبها من الخرافات وحدّدها في اطار خاص فإنّما هذّب ذلك المفهوم وحدّده ، ومن المعلوم أنّ الشفاعة عندهم إنّما هو لغفران الذنوب لالرفع الدرجة أو سرعة التنقّل إلى الجنّة ، ولأجل ذلك كانوا يرجون لصلتهم بالأنبياء حطَّ ذنوبهم ، وغفران آثامهم ، وكان المتطرّفون منهم يرتكبون الذنوب تعويلا على الشفاعة.
    وفي هذا الموقف وردّاً على ذلك التطرّف الباعث للجرأة ، يقول سبحانه : ( مَنْ ذَا الّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إلاّ بِاِذْنِهِ ) (2) ويقول أيضاً رفضاً لتلك الشفاعة المقترنة بالخرافة : ( وَلا يَشْفَعُونَ إلاّ لِمَنِ ارْتَضَى ) (3) .
    ومن تدبّر في الآيات الواردة حول الشفاعة أيجاباً وسلباً ، يقف على أنّ الإسلام قَبِلَ الشفاعة بنفس المفهوم الرائج بين الاُمم ، لكن حدّدها بشروط وجعل لها إطاراً خاصّاً ، وعلى ضوء ذلك فتفسير الشفاعة بدخول الجنّة بسرعة ، نبع من العقيدة بخلود العصاة في النار إذا ماتوا بلاتوبة ، فلأجل ذلك إلتجأوا إلى تفسير الشفاعة بغير المعنى المعروف.
    نعم يجب إلفات نظر القارىء إلى أمر هامّ :
    إنّ بعض الذنوب الكبيرة ربّما تقطع العلائق الإيمانية بالله سبحانه كما
    1 ـ حديث متّفق عليه. رواه الفريقان.
    2 ـ البقرة : 255.
    3 ـ الأنبياء : 28.


(260)
تقطع الأواصر الروحية بالشفيع فمثل هذا الشخص لاينال الشفاعة ، ولايرضى الرب بشفاعة الشفيع في حقّه ، وقد أوضحنا حقيقة الشفاعة وشروطها في موسوعتنا التفسيرية ، وقمنا بالذّبّ عن الاشكالات التي تثار حولها من جانب المعتزلة أو بعض المفكّرين الجدد (1) .

5 ـ مرتكب الكبيرة كافر نعمة لاكافر ملّة :
    اتّفقت الخوارج حتى الاباضية على أنّ ارتكاب الكبيرة موجب للكفر ، ولكن المتطرّفين يرونه خروجاً عن الملّة ، ودخولا في الكفر والشرك ، ولكن الاباضية لاعتدالهم ، يرونه كفر النعمة ، فالمسلم الفاسق كافر عندهم لكن كفر النعمة ، ولأجل التعرّف على حقيقة مرامهم نأتي بنص بعض كُتّابِهم ، وإن كان طويلا مفصّلا :
    يقول علي يحيى معمّر :
    « يحسب كثير ممّن لا علم له أنّ الاباضية ممّن يتّفقون مع الخوارج في تكفير العصاة كفر شرك ، ولايعرفون أنّ الاباضية يطلقون كلمة الكفر على عصاة الموحّدين الذين ينتهكون حرمات الله ، ويقصدون بذلك كفر النعمة ، أخذاً من الآيات الكريمة التي أطلقتها في أمثال هذه المواضيع و استناداً إلى أحاديث الرسول ( صلّى الله عليه وآله وسلم ) : ( وِلِلّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ البَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إلَيْهِ سَبِيلا وَ مَنْ كَفَرَ فَإنَّ اللهَ غَنِيٌّ عَنِ العالَمِيْنَ ) (2) . ( لِيَبْلُوَنِي ءَأَشْكُرُ اُمْ أَكْفُرُ وَ مَنْ شَكَرَ فَإنَّما يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَ مَنْ كَفَرَ فَإنَّ رَبِّي
    1 ـ لا حظ : مفاهيم القرآن 4/156 ـ 279.
    2 ـ آل عمران : 97.
بحوث في الملل والنحل ـ جلد الخامس ::: فهرس