بحوث في الملل والنحل ـ جلد الخامس ::: 261 ـ 270
(261)
غَنِيٌّ كَرِيمٌ ) (1) . ( وَ مَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللهُ فَاُولئكَ هُمُ الكافِروُنَ ) (2) .
    سأل الأقرع بن حابس رسول الله ( صلّى الله عليه وآله وسلم ) : « الحج علينا كل عام يا رسول الله؟ فقال ( صلّى الله عليه وآله وسلم ) : لو قلت نعم لوجب ، ولو وجب لما قدرتم عليه ، ولو لم تفعلوا لكفرتم ، وقال : من ترك الصلاة كفر ، وقال : ليس بين العبد والكفر إلاّ تركه الصلاة ، وقال : ألا لاترجعوا بعدي كفّاراً يضرب بعضكم رقاب بعض وقال : الرشا في الحكم كفر ».
    وخلاصة البحث انّ الأباضية عندما يطلقون كلمة الكفر على أحد من أهل التوحيد فهم يقصدون كفر النعمة ، وهو ما يطلق عليه غيرهم كلمة الفسوق و العصيان ، والمعنى الذي يطلق عليه الاباضية كفر النعمة ويطلق عليه المعتزلة (3) الفسوق ، ويطلق عليه غيرهم النفاق أو العصيان فهو معنى واحد.
    والسبب الذي دعا الاباضية إلى اطلاقهم هذه الكلمة على العصاة بدلا من كلمة النفاق أو الفسوق أمران :
    أوّلهما : إنّها الكلمة التي أطلقها الكتاب الكريم والسنّة القويمة عليهم في كثير من المواضيع والمناسبات.
    ثانيهما : إنّ لكلمة النفاق أثراً خاصّاً في تاريخ الإسلام ، فقد اشتهر بها عدد من الناس في زمن رسول الله ، آمنوا ظاهراً ، ولكن قلوبهم لم تطمئن بالإيمان ، فكان القرآن الكريم ينزل بتقريعهم ، ويفضح بعضهم ، ويتوعّدهم بالعذاب الأليم
    1 ـ النمل : 40.
    2 ـ المائدة : 44.
    3 ـ اطلاق الفاسق على مرتكب الكبيرة غير مختصّ بالمعتزلة ، بل الأشاعرة والإمامية في ذلك أيضاً سواء ، بل الفرقتان الاخيرتان أولى بهذا الاصطلاح من المعتزلة ، لأنه عندهما مؤمن ، لا كافر ولا مشرك بخلاف المعتزلة فإنّه عندهم لاكافر ولا مؤمن بل منزلة بين المنزلتين.


(262)
في الدنيا والآخرة حتى اشتهروا بهذا الاسم وعرفوا به ، قال الله تعالى :
( المُنافِقُونَ والمُنافِقاتُ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْض يَأْمُرُونَ بالمُنْكَرِ وَ يَنْهَوْنْ عَنِ المَعْرُوفِ وَ يَقْبِضُونَ أَيْدِيَهُمْ نَسُوا اللهَ فَنَسِيَهُمْ إِنَّ المُنافِقِينَ هُمُ الفاسِقُونَ ) (1) حتى صارت هذه الكلمة تشبه أن تكون علماً لهم فإذا اطلقت انصرفت إليهم.
    والنقاش في هذا الموضوع نقاش لغويّ والاختلافات لفظي ، والنتيجة انّ من يصرّ على معصية الله يلاقي نفس الجزاء الذي يلاقيه من يكفر بالله ، أمّا معاملة المسلمين لمن يفسق عن أمر الله ، أو ينافق في دين الله ، أو يكفر بنعمة الله ، فإنّها معاملة للعاصي المنتهك الذي تجب محاولة ارشاده إلى وجوب الاستمساك بدينه ورجوعه إلى أوامر ربّه ، واقلاعه عن محادة الله ورسوله ، فإن أصرّ واستكبر وتغلّب عليه الشيطان ، بُرِئ منه (2) .
    يلاحظ عليه
    أوّلا : انّ المحكّمة الاُولى كانوا لايريدون من الكفر إلاّ الخروج عن الدين ، وكانوا يقولون للإمام أميرالمؤمنين : تب من كفرك ، وكان يجيبهم : أبعد ايماني بالله ، وجهادي مع رسول الله أشهد على نفسي بالكفر؟ لقد ضللت إذاً وما أنا من المهتدين (3) .
    فلمّا أحسّ عبدالله بن اباض أو من قبله بتطرّف هذه الفكرة عاد بتأويله إلى كفر النعمة تحرّزاً عن ردّ فعل للنظرية الاُولى.
    ثانياً : لو فرضنا إنّ القرآن الكريم استعمل الكفر في كفر النعمة أو استعمله الحديث في حق تارك الصلاة ، ولكن هذا الاستعمال طفيف جدّاً ، فقد ورد لفظ الكفر ومشتقّاته في القرآن قريباً من 450 مرّة واُريد في أغلبها كفر الملّة
    1 ـ التوبة : 67.
    2 ـ علي يحيى معمّر : الاباضية في موكب التاريخ ، الحقلة الاُولى 89 ـ 92.
    3 ـ الرضي : نهج البلاغة ، الخطبة 58.


(263)
والخروج عن الدين ، ولو استعمل في كفر النعمة فانّما استعمل مورد أو موردين ، هذا من جانب ، ومن جانب آخر انّ لفظ الكفر والكافر يعطيان مفهوماً خاصّاً يهزّ القلوب ويروّعها ، إذ لايقصد منه إلاّ الخروج عن الدين فاستعمال ذلك في كلّ معصية كبيرة ، يقلّل من شدّة خطره ويُصغّر أمره العظيم. والأثر الخاص الذي ادّعاه لكلمة النفاق ، موجود في كلمة الكفر بوجه أشدّ. فلو عدلوا عن إعماله ، فليعدلوا عن اطلاق كلمة الكفر لأجله والكلمتان مشتركتان في أثر السيّىء.
    أوليس الأولى للاباضية أن ينتهجوا نهج جميع المسلمين فيختاروا لفظاً غيره في مورد ركوب الكبيرة ؟
    وقد تنبّه لما ذكرناه الكاتب الاباضي حيث علّق على ماينسب إلى الاباضية : « المخالفون كفّار نعمة لا كفّار في الاعتقاد » قوله : لا شكّ انّ أيّ مسلم إذا قيل له : « إنّ الاباضية يعتبرونك غير مسلم ، ويرونك كافراً » يتملّكه الغضب ويعتبرهم فرقة ضالّة ظالمة تستحقّ اللعن ، ولن ينتظر منك أن تشرح له الفرق بين معاني الكفر (1) .
    ولكن اللوم متوجّه عليه وعلى أسلافه لا لأصحاب المقالات فإنّهم استعملوا لفظ الكفر في حق المخالفين غير أنّ المتطرّفين فسّروه بالكفر في الاعتقاد وغيرهم فسّروه بكفر النعمة مستشهدين بأنّه ورد لفظ الكفر في مورد المرتكبين للكبائر ، ونقلوا عن الرسول الأعظم أنّه قال : الرشوة في الحكم كفر ، وقوله من أتى كاهناً أو عرّافاً فصدّقه فيما يقال فقد كفر بما اُنزل على محمّد (2) .
    1 ـ علي يحيى معمّر : الاباضية بين الفرق الإسلامية 1/103.
    2 ـ صالح بن أحمد الصوافي : الإمام جابر بن زيد : 123.


(264)
6 ـ الخروج على الإمام الجائر :
    يقول أبو الحسن الأشعري : « والاباضية لاترى اعتراض الناس بالسيف لكنّهم يرون ازالة أئمّة الجور ومنعهم من أن يكونوا أئمّة بأيّ شيء قدروا عليه بالسيف أو بغيره » (1) .
    وربّما ينسب إليهم أمر غير صحيح ، وهوأنّ « الاباضية لايرون وجوب اقامة الخلافة » (2) .
    إنّ وجوب الخروج على الإمام الجائر أصل يدعمه الكتاب والسنّة النبوية وسيرة أئمّة أهل البيت إذا كانت هناك قدرة ومنعة ، وهذا الأصل الذي ذهبت إليه الاباضية بل الخوارج عامّة ، هو الأصل العام في منهجهم ، ولكن نرى أنّ بعض الكتّاب الجدد من الاباضية الذين يريدون ايجاد اللقاء بينهم وبين أهل السنّة يطرحون هذا الأصل بصورة ضئيلة.
    يقول علي يحيى معمر : إنّ الاباضية يرون أنّه لابدّ للاُمّة المسلمة من اقامة دولة ونصب حاكم يتولّى تصريف شؤونها ، فإذا ابتليت الاُمّة بأن كان حاكمها ظالماً ، فإنّ الاباضية لايرون وجوب الخروج عليه لاسيّما إذا خيف أن يؤدّي ذلك إلى فتنة وفساد أو أن يترتّب على الخروج ضرر أكبر ممّا هم فيه ، ثم يقول : إذا كانت الدولة القائمة جائرة وكان في امكان الاُمّة المسلمة تغييرها بدولة عادلة دون احداث فتن أكبر تضّر بالمسلمين فإنّهم ينبغي (3) لهم تغييرها. أمّا إذ كان ذلك لايتسنّى إلاّ بفتن واضرار فإنّ البقاء مع الدولة الجائرة ومناصرتها في حفظ الثغور ومحاربة أعداء الاسلام ، وحفظ
    1 ـ الأشعري : مقالات الإسلاميين : 189.
    2 ـ علي يحيى معمّر : الاباضية بين الفرق الإسلامية : 2 / 53 ـ 54.
    3 ـ إنّ الرجل لتوخّي المماشاة مع أهل السنّة يعّبر عن مذهبه بلفظ لايوافقه ، بل عليه أن يقول مكان « ينبغي » « يجب ».


(265)
الحقوق ، والقيام بما هو من مصالح المسلمين واعزاز كلمتهم ، أوكد وأوجب (1) .
    إنّ ما ذكره لاتدعمه سيرة الأباضية في القرون الاُولى ويكفي في ذلك ما ذكره المؤرّخون في حق أبي يحيى عبدالله بن يحيى طالب الحق ، قالوا : إنّه كتب إلى عبيدة بن مسلم بن أبي كريمة وإلى غيره من الاباضية بالبصرة يشاورهم بالخروج ، فكتبوا إليه : إن استطعت ألاّ تقيم إلاّ يوماً واحداً فافعل ، فأشخص إليه عبيدةُ بن مسلم أبا حمزة المختار بن عوف الأزدي في رجال من الاباضية فقدموا عليه حضرموت ، فحثّوه على الخروج ، وأتوه بكتب أصحابه ، فدعا أصحابه فبايعوه فقصدوا دار الامارة إلى آخر ما سيوافيك بيانه من حروبه مع المروانيين وتسلّطه على مكّة والمدينة.
    وأظنّ انّ ما يكتبه علي يحيى معمّر في هذا الكتاب وفي كتاب « الاباضية في موكب التاريخ » دعايات و شعارات لصالح التقارب بين الاباضية وسائر الفرق خصوصاً أهل السنّة ، ولأجل ذلك يريد أن يطرح اُصول الاباضية بصورة خفيفة حتى يتجاوب مع شعور أهل السنّة ، تلك الأكثرية الساحقة ، وأوضح دليل على أنّهم يرون الخروج واجباً مع القدرة والمنعة بلا اكتراث ، إنّهم يوالون المحكّمة الاُولى ويرون أنفسهم اخلافهم والسائرين على دربهم ، وهم قد خرجوا على عليٍّ بزعم أنّه خرج بالتحكيم عن سواء السبيل.
    وأظنّ انّ هذا الأصل أصل لامع في عقيدة الخوارج والاباضية بشرطها وشروطها ، وأنّ التخفيض عن قوّة هذا الأصل دعاية بحتة.
    والعجب أنّه يعترف بهذا الأصل في موضع آخر من كتابه ويقول : إنّ الثورة على الضلم والفساد والرشوة ومايتبع ذلك من البلايا والمحن ، إنّما هو المنهج الذي جاء به الإسلام ودعا إليه المسلمين ، ودعا المسلمون إليه ، وقاموا
    1 ـ علي يحيى معمّر : الاباضية بين الفرق الإسلامية 2 / 53 ـ 54.

(266)
به في مختلف أدوار التاريخ ، ولم تسكت الألسنة الآمرة بالمعروف ، الناهية عن المنكر ، ولم تكفّ الأيدي الثائرة في أيّ فترة من فترات الحكم المنحرف .... وقد استشهد في هذا السبيل عدد من أفذاذ الرجال ، ويكفي أن أذكر الأمثلة لاُولئك الثائرين على الانحراف و الفساد : شهيد كربلاء الإمام الحسين سبط رسول الله ( صلّى الله عليه وآله وسلم ) وعبدالله بن الزبير نجل ذات النطاقين ، وسعيد بن جبير ، وزيد بن علي بن الحسين ، وكلّ واحد من هؤلاء يمثّل ثورة عارمة من الاُمّة المسلمة على الحكم الظالم ، والخروج عليه ومدافعته حتى الاستشهاد (1) .

7 ـ التولّي والتبرّي والوقوف :
    قد اتّخذ الاباضيون « التولّي » و« التبرّي » نحلة ولهما أصل في الكتاب والسنّة وهما ممّا يعتنقه كل مسلم اجمالا ، ولكن التفسير الاباضي لهذين المفهومين يختلف تماماً مع تفسير الجمهور ، وإليك بيانه بنقل نصوصهم من كتبهم :
    « أصل الولاية ، الموافقة في الدين ، فكل من وافقك في الدين فهو وليّك ، سواء علمت بموافقته أو جهلتها ، أو برئتَ منه بالظاهر ، لحدث عرفته منه وهو قد تاب ورجع عنه ، فالملائكة عليهم السلام أولياؤنا لأنّهم موافقوننا في أصل الامتثال ، وكذلك أهل الطاعة من الاُمم السالفة ، فإنّه وإن اختلفت الأوامر بالنظر لاختلاف الشرائع ، فالدين عندالله الإسلام أي الانقياد لأحكامه مطلقاً.
    فاعلم انّ ممّا يدين به المسلمون وهو لازم لهم ، الولاية لأولياء الله والحب لهم ، والبغض لأعداء الله والبراءة منهم. فولاية من اتّصف بالإيمان فرض
    1 ـ علي يحيى معمّر : الاباضية بين الفرق الإسلامية 1/183.

(267)
واجب ، ثبت وجوبه بأدّلة قطعية ، وأمّا البراءة فهي مثل الولاية فتجب البراءة من الفاسقين مطلقاً سواء كانوا من المشركين أو كانوا أهل كفر نعمة ، فالبراءة منهم واجب بنصّ الكتاب العزيز والسنّة المطهّرة.
    ثمّ إنّهم ذكروا للولاية والبراءة أقساماً نوردها فيما يلي :
    1 ـ أن يرد الكتاب بما يوجب ولاية أحد ، أو البراءة منه ، كالأنبياء المذكورين بأسمائهم في الولاية وكأبليس في البراءة.
    2 ـ ما نطق فيه رسول من رسل الله انّ فلاناً من أهل السعادة ، أو من أهل الشقاء ، بشرط أن يسمع السامع من لسان الرسول ذلك الكلام حين نطقه.
    3 ـ ولاية الجملة وبراءة الجملة ، وصورتها أن يعتقد المكلّف ولاية أهل طاعة الله من الأوّلين والآخرين إنسهم وجنِّهم وملائكتِهم ، وأن يعتقد البراء من جميع أهل معصية الله من الأوّلين والآخرين إنسِهِم وجنِّهم إلى يوم الدين.
    وهذا القسم هو الذي يعبّر عنه بعقيدة الإنسان لأنّه لابدّ لكل مكلّف أن يعتقده ديناً.
    4 ـ نعم يجب الوقوف فيمن لم يعلم فيه موجب الولاية ولا البراءة لقوله تعالى : ( وَ لا تَقْفُ ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ ) (1) ، وقال ( صلّى الله عليه وآله وسلم ) : « المؤمن وقّاف ، والمنافق وثّاب (2) .
    قال أبو سعيد الكدمي : واعملوا رحمنا الله وإيّاكم : انّ الولاية والبراءة فريضتان وقد نطق بذلك القرآن وأكّدته السنّة ، ونسخته آثار الأئمّة الذين هم
    1 ـ الاسراء : 36.
    2 ـ صالح بن أحمد الصوافي : الإمام جابر بن زيد : 258 ـ 263 بتلخيص ، وكان عليه أن يذكر قسماً خامساً وهو تولّي شخص معيّن لكونه مطيعاً والتبرّي منه لكونه عاصياً إذا لمسنا شخصيّاً منهما الطاعة أو العصيان ، ولعلّه لم يذكره لكونه مستفاداً من القسم الاوّل.



(268)
حجّة الله في دينه ، فمن ذلك قوله تعالى : ( قَدْ كانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِى إبْراهِيمَ والَّذِينَ مَعَهُ إذ قالُوا لِقَوْ مِهِمْ إنّا بُرَءَ ؤُاْ مِنْكُمْ وَ مِمّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ كَفَرْنا بِكُمْ وَ بدَا بَيْنَنا وَ بَيْنَكُمُ العَداوَةُ وَالبَغْضاءُ أَبَداً حتّى تُؤْمِنُوا بِالله وَحْدَهُ ) (1) .
    ويقول أيضاً : لايجوز له أن يتولّى أحداً من علماء أهل الخلاف ولامن أفضلهم ، ولو جهل أمرهم ، ولو ظنّ أنّهم أهل الحقّ وأهل الفضل ، ماجاز أن يتولّى أحداً منهم بدين (2) .
    ويقول أيضاً : البراءة حكم من أعظم أحكام الإسلام (3) .
    ويقول : واعلموا انّه ممّا يلزم المسلمون ويدينون به : الولاية لأولياء الله والحبّ لهم ، والبغض لأعداء الله والبراءة منهم ، ومن أحبَّ عبداً في الله فكأنّما أحبّ الله ، وذلك من أشرف أعمال البّر (4) .
    وقد حرّر هذه المسألة أحد المعاصرين من علماء الاباضية وقال :
    ولاية الجملة وبراءتها فريضتان بالكتاب والسنّة والاجماع على كلّ مكلّف عند بلوغه إن قامت عليه الحجّة ، وأمّا ولاية الأشخاص وبراءتها فواجبتان قياساً عليهما.
    إنّ محبّة المؤمن الموفي بدينه ، الحريص على واجباته ، المبتعد عن المحارم ، المتخلِّق بأخلاق الإسلام ، المتّبع لهدى محمّد ( صلّى الله عليه وآله وسلم ) وجبت محبّته على المؤمنين ، وأُعلِنَت ولايته بين المسلمين ، وطلبت له المغفرة والرحمة من ربّ العالمين.
    فإذا نزغ أحدهم من الشيطان نزغ ، ولم يستعذ بالله من الشيطان ، فأقدم على المعصية ولم يُسارع إلى التوبة ، انفصم هذا الرباط الذي يربطه
    1 ـ أبوسعيد الكدمي : المعتبر 2/134. والآية من سورة الممتحنة : 4.
    2 ـ المصدر نفسه 1/95.
    3 ـ المصدر نفسه : 1 / 135.
    4 ـ المصدر نفسه : 1 / 137.


(269)
بالمؤمنين ، وتهدَّمَتْ هذه الاُخوّة التي قامت على الدين حتى يجدّد ايمانه بربّه ، ويستغفرالله من ذنبه ، ويصل حبال قلبه بفاطر السموات و الأرض ، فإذا فعل ذلك ، رجعت منزلته بين اخوانه كما كانت ، وعزَّتْ نفسه بينهم بعد أن هانت ( ولِلِّهِ العِزّةُ وَ لِرَسُولِهِ وَ لِلمُؤْمِنِينَ ).
    إنّ المسلم الذي يعلن بين الملأ قول « لا إله إلاّ الله ، محمّد رسول الله » ، ثمّ يجترئ على أوامر الله فيتخلّى عن واجباته ، أو يقدم على ارتكاب المحظورات ... لايحقّ أن يكرم بالتساوي مع الصادقين ولا يمكن أن تشمله المحّبة في الدين ، بل يجب أن يجد الغلظة من المؤمنين وأن يسمع التقريع والتوبيخ ، وأن يُطْلب الابتعاد عنه ، وأن يُعْلَنَ البراءة منه ، ويُقلَّلَ التعامل معه حتى تضيق عليه الأرض بما رحبت ، ولايجد ملجأ من الله إلاّ إليه ، فأمّا أن يشرح الله صدره للإسلام ، وأن يفتح قلبه للإيمان وأن يسخّر أعضاءه للعبادة ، وأن يباعد بينه و بين المعصية فيتوب ممّا ارتكب ويعود إلى حظيرة الإسلام بالعمل الصالح ، والجهاد المتواصل ، جهاد النفس و الهوى ، فترتبط أواصره حينئذ بأواصر الناس ، ويصبح بعد الهداية و التوفيق أخاً في الله.
    وأمّا أن يرتكس إلى الشيطان ، ويصّر على العصيان ، ويبتعد عن محاسبة النفس ، ويستمرّ في الغواية والضلال ، وحينئذ لايمكن لأولياء الله أن يحبّوا عدوّالله ، ولا أن يرضوا عمّن جاهره بالمعصية ، وانّ القلوب المؤمنة لتستحي أن تّتجه إلى المليك الديّان لتطلب منه الرحمة والغفران ، لعبيد الشهوات و أغوياء الشيطان.
    إنّ العصاة الذين يصرّون على ما فعلوا ويجاهرون الله والناس بما ارتكبوا ، انفصلوا بكبريائهم عن ربّهم ، وابتعدوا عن محّبة إخوانهم ، وحادوا الله ورسوله.


(270)
( لا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَاليَوْمِ الآخِرِ يُوادُّونَ مَنْ حادً اللهَ وَ رَسُولَهُ .... ) (1) . ( إنَّ الَّذِينَ يُحادٌّونَ اللهَ وَ رَسُولَهُ أُوْلئِكَ فِى الأذَلِيْنَ ) (2) . ( إنَّ الَّذِينَ يُحادٌّونَ اللهَ وَ رَسُولَهُ كُبِتُوا كَما كُبِتَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ ) (3) .
    إنّ المجتمع الاسلامي أنظف من أن تقع فيه المعصية من مسلم ، ثم يسكتون عنه ، فيدعونه فيهم محبوباً قبل أن يبادر إلى التوبة والاستغفار والتكفير إن كانت المعصية ممّا يتحلّل منه بالتكفير.
    إنّ هذه القضيّة من القضايا التي يكاد ينفرد بها الاباضية (4) عن غيرهم من الفرق الإسلامية فلم يساووا بين مؤمن تقيّ وعاص شقيّ في المعاملة ، وقالوا : يجب على المجتمع المسلم أن يُعْلِنَ كلمة الحق في كلّ فرد من أفراده ، وأن يتولّى تهذيب الناشزين ، وتقويم المنحرفين وتربية المتذرّعين بالوسائل التي شرعها الإسلام للتربية الجماعية من أمر بمعروف و نهي عن منكر ، واعراض عمّن يتولّى عن الله.
    وليس من الحق أبداً أن نتغاضى عن اُولئك الذين يرتكبون المعاصي ، ونضعهم في صفّ واحد مع المؤمنين الموفين ، بل يجب أن نزجر العاصي عن معصيته ، وأن نعالِنَه بالعداوة ، مادام منحرفاً عن سبيل الله ، وأن لانساوي في المعاملة بينه و بين الموفي ، وأن لانعطيه من المحبّة وطلب المغفرة ، وحسن التعامل ، مانعطيه للذي يراقب الله في الخفاء والعلانية ، ويرجع إليه في كلّ كبيرة وصغيرة ، ويقف عند حدوده التي رسمها لايتخطّاها ، ( وَلِيَجِدُوا فِيْكُمْ
    1 ـ المجادلة : 22.
    2 ـ المجادلة : 20.
    3 ـ المجادلة : 5.
    4 ـ ستعرف ضعفه و انّه ممّا أصفقت عليه الاُمّة الإسلامية اجمالا ، نعم انفردت الاباضية بالغلظة والشدّة في المسألة.
بحوث في الملل والنحل ـ جلد الخامس ::: فهرس