بحوث في الملل والنحل ـ جلد الخامس ::: 281 ـ 290
(281)
في محلّه (1)
    إنّ القول بحجّية العقل لايعني منها إلاّ حجّيته في موارد يستقلّ بحكمها العقل على وجه اللزوم والقطع كالملازمات العقليّة ، مستقلّة كانت أو غير مستقلّة ، والأوّل كاستقلاله بالبراءة عن أيّ تكليف فيما إذا لم يرد من الشارع فيه بيان ، ولزوم الفحص عن بيّنة مدّعي النبوّة ، والنظر في دعواه وبرهانه ، والثاني كالمسائل المعروفة بباب « الملازمات العقلّية » في اُصول الفقه ، كادّعاء الملازمة بين وجوب الشيء ووجوب مقدّمته ، أو نقيضه (الضد العام) إلى غير ذلك ممّا هو مذكور في محلّه ، ولا يحتجّ به الاّ فيما إذا لم يرد من الشرع حكم في مورده ، وإلاّ فلا يقام له وزن ، ولأجل الغلوّا الموجود في كلماتهم التي ترتبط بالعقل نجد لهم فتاوى فقهية لاتوافق الكتاب و السنّة ، وقد أعطوا للعقل العاطفي فيها قيمة أكثر ممّا أعطوه للكتاب والسنّة ، فقدّموا حكم العقل الظنّي على الحكم الشرعي القطعي ، وإليك نماذج :
    1 ـ قد بلغت السماحة وحب السلام لدى الاباضية أنّ فقهاءهم فضّلوا الصلح بين أي فئتين من المؤمنين وقع القتال بينهما ، وأنّه لاينبغي لأحد أن يفضّل أيّ فئة منهما على الاُخرى ، حتى لاتحدث فتنة ، وفي ذلك قال أحد شيوخهم من المغاربة : « إنّه إذا وقعت الفتنة بين فئتين من المؤمنين فالأحبّ إليّ أن يصطلحوا ، فإن لم يفعلوا فالأحبّ إليّ أن لاتغلب فئة فئة ، فإنّ من أحبّ أن تغلب أحدهما الاُخرى فقد دخل في الفتنة ولزمه ما لزمه أهل تلك ، وكان سيفه يقطر دماً ، والسلامة عندي أن يكونا في البراءة سواء ، لايرجّح احدى الطائفتين ، فإنّه متى رجّح اُثم » (2) .
    1 ـ لا حظ محاظراتنا في الالهيات بقلم الشيخ حسن مكّي العاملي 1/24.
    2 ـ الدكتور رجب محمّد عبدالحليم : الاباضية في مصر والمغرب : 61 ، نقلا عن الدرجيني : طبقات المشايخ بالمغرب 2/491.


(282)
    لاشك انّ هذه الفتوى صدرت عن عاطفة القائل وكونه محبّاً للوئام والسلام ، لكنّها عاطفة في غير محلّها وربّما تتم لصالح الظالمين والفئات الباغية ، والذكر الحكيم يصرّح بخلافه وانّه يجب مقاتلة الباغي إن لم يرجع إلى أمر الله ، قال سبحانه : ( وَ إنْ طائِفَتانِ مِنَ المُؤْمِنِيِنَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُما فَإنْ بَغَتْ إحْداهُما عَلَى الاُخْرَى فَقاتِلُوا الَّتِى تَبْغِى حَتَّى تَفِىءَ اِلَى أَمْرِاللهِ فَإن فَاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُما بِالعَدْلِ وَ أَقْسِطُوا إِنَّ اللهَ يُحِبُّ المُقْسِطِينَ ) (1) .
    وعلى ضوء ما ذكره القائل ، فالواجب على المسلمين في الفتنة التي أثارها طلحة والزبير في خلافة علي ( عليه السَّلام ) أو الفتنة التي أثارها ابن أبي سفيان بعد حرب الجمل ، أن لاتفضّل أي فئة على الاُخرى حتى لاتحدث فتنة ، وهذا النوع من حبّ الصلح والسلام أشبه بالخضوع لعاطفة عشواء ولو كان في ذلك ركوب الباطل.
    2 ـ اتّفقت الاُمّة الإسلامية على أنّ الزنا بمجرّده لاينشر الحرمة بين الفاعلين إلاّ في موارد خاصّة كما إذا كانت الزانية مزوّجة ، ويسمى في مصطلح الفقه« الزنا بذات الاحصان » وروت عائشة : أنّ النبي ( صلّى الله عليه وآله وسلم ) قال الحرام ، لا يحرّم الحلال.
    ومع ذلك فقد جاءت الاباضية بفتوى شاذّة حسبها أنّها صيانة لكرامة المرأة حتى أنّ بعض المتأخّرين منهم صاغها في قالب اجتماعي حسب أنّه ينطلي على أصحاب الفقه ، قال :
    « لقد كانت بيئة الحياة في الاُمّة المسلمة لا تبيح للمرأة أن تخلى برجل أجنبي ولا تبيح لرجل أن يختلي بامرأة اجنبية عنه ، وذلك خوفاً من الفتنة ، لأنّ الدوافع الجنسية قد تتغلّب على النفس عند الرجل أو عند المرأة وهما مختليان ،
    1 ـ الحجرات : 9.

(283)
فيصلان إلى المحذور ، ويقع السوء الذي منه يحذران. ولقد درس الاباضية هذه المشكلة منذ خير القرون وانتهوا فيها إلى رأيهم الذي ينفردون به فيما أعرف ، فحرّموا الزواج بين من ربطت بينهما علاقة إثم ، وقد كانوا في تحريمهم لهذا الزواج يستندون إلى روح الإسلام الذي يحارب الفاحشة.
    روت اُمّ المؤمنين عائشة ـ رضى الله عنهاـ عن رسول الله أنّه قال : « أيّما رجل زنا بامرأة ثم تزوّجها فهما زانيان إلى يوم القيامة » (1) .
    يلاحظ عليه أوّلا : انّ الخضوع للعاطفة والتمسّك بهذه الذرائع إنّما يجوز إذا لم يكن في المسألة دليل من الشرع وإلاّ فيضرب بها عرض الجدار ، وإن نبع عن مبدأ عقلي!!! أو عاطفي ، فإذا كان الكتاب والسنّة واجماع الاُمّة حاكماً بجواز التزويج فلايسوغ لنا التمسّك بهذه الوجوه ، ويكفي في ذلك اطلاق قوله سبحانه : ( وَ أَُحِلَّ لَكُمْ ماوَرآءَ ذلِكُمْ أَنْ تَبْتْغُوا بِأَمْوالِكُمْ مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسافِحِين ) (2) ، نعم عن بعض الفقهاء اشتراط الجواز بالتوبة ، وعلى كلّ تقدير فليس في الاُمّة من يحرّم إلاّ الحسن البصري ، وقوله شاذّ مخالف للكتاب واتّفاق الاُمّة.
    قال الشيخ الطوسي : إذا زنى بامراة جاز له نكاحها فيما بعد ، وبه قال عامّة أهل العلم ، وقال الحسن البصري : لايجوز ، وقال قتادة ومحمّد (وفي نسخة أحمد) : إن تابا جاز وإلاّ لم يجز ، وروي ذلك في أخبارنا (3) .
    وقال ابن قدامة : « وإذا زنت المرأة لم يحل لمن يعلم ذلك نكاحها إلاّ بشرطين :
    1 ـ علي يحيى معمّر : الاباضية في موكب التاريخ ، الحلقة الاُولى 111 ـ 112 ـ
    2 ـ النساء : 24.
    3 ـ الشيخ الطوسي : الخلاف ج 2 ، كتاب النكاح ، المسألة 71 ص 378.


(284)
    1 ـ انقضاء العدّة.
    2 ـ التوبة : وإذا وجد الشرطان حلّ نكاحها للزاني وغيره في قول أكثر أهل العلم ، منهم : أبوبكر وعمر و ابنه و ابن عباس وجابر بن زيد وعطاء والحسن وعكرمة والزهري والثوري والشافعي و ابن المنذر و أصحاب الرأي ، وروي عن ابن مسعود والبّراء بن عازب وعائشة : انّها لاتحلّ للزاني بحال ، ويحتمل انّهم أرادوا بذلك ما كان قبل التوبة أو قبل استبرائها فيكون كقولنا ، فأمّا تحريمها على الاطلاق فلايصحّ لقول الله تعالى : ( وَ أُحِلَّ لَكُمْ ماوَراءَ ذَلِكُمْ أَنْ تَبْتَغُوا بِاَمْوالِكُمْ ... ) ، لأنّها محلّلة لغير الزاني فحلّت له كغيرها (1) .
    ثانياً : إنّ صيانة كرامة المرأة إنّما هو في تجويز الزواج لافي التحريم لأنّ الزواج ـ بعد الإثم ـ يغطّي الفاحشة التي صدرت منهما عن جهالة ، ويصير الفاعلان في المجتمع الإسلامي كزوجين شرعيّين يتعامل الناس معهما معاملة صحيحة وواقعية ، وأمّا إذا أفتينا بحرمة الزواج ، فالمرأة المخدوعة المحكومة بحكم العاطفة ربّما تلتحق بالغانيات إذا انتشر أمرها وظهر سرّها ، ورغب عنها كلّ شابّ غيور.
    3 ـ « قد وردت أحاديث كثيرة في النهي عن الاستجداء والمسألة ، واعتمد الاباضية تلك الأحاديث الشريفة فمنعوا المسلم من إراقة ماء الوجه والتعرّض لمذلّة السؤال ، فإذا هانت عليه كرامته ، وذهب يسأل الناس الزكاة ، حرم منها عقاباً له على هذا الهوان ، وتعويداً له على الاستغناء عن الناس ، والاعتماد على الكفاح » (2) .
    لاشك انّ السؤال و الاستجداء حرام شرعاً ومكروه في بعض الموارد ،
    1 ـ عبد الله بن قدامة : المغني 7 / 64 ـ 65.
    2 ـ علي يحيى معمّر : الاباضية في موكب التاريخ ، الحلقة الاُولى 116.


(285)
غير أنّ الافتاء بتحريم الزكاة بحجّة صيانة ماء وجه السائل فتوى على خلاف الكتاب والسنّة ، ولو كان ذلك موجباً للتحريم لصدر فيه نصّ عن رسول الله لكثرة الابتلاءبها.
    أضف إلى ذلك انّه سبحانه يأمر باعطاء السائل وعدم نهره ، يقول سبحانه : ( وَ الَّذِينَ فِي أَمْوالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ* لِلسَّائِلِ وَ الَمحْرُومِ ) (1) .
    وقال سبحانه : ( وأَمَّا السَّائِلَ فَلا تَنْهَرْ ) (2) .
    وقال سبحانه : ( وَ آتَى المَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي القُرْبَى وَاليَتَامى وَالمَسَاكِينَ وَ ابْنَ السَّبِيلِ وَ السَّائِلِينَ وَ فِي الرِّقابِ وأَقامَ الصَّلاةَ وآتَى الزَّكاةَ ) (3) ، والآية مطلقة تعم مورد الزكاة وغيره لولم نقل بورودها فيها.
    1 ـ المعارج : 24 ـ 25.
    2 ـ الضحى : 10.
    3 ـ البقرة : 177.


(286)

(287)
خاتمة المطاف
    قد تعرّفت في ماسبق على عقائد الاباضية وخصائصهم وقد اخترنا منها أموراً ثمانية بقي هنا أمرٌ يطيب لنا أن نلفت نظر القارىء إليه :
    أ ـ إنّ الاباضية لتجويزهم التقيّة جعلوا مسالك الدين أربعة تنتهي في المرحلة الرابعة إلى الكتمان المساوق للتقيّة ، فقالوا : مسالك الدين أربعة :
    1 ـ الظهور 2 ـ الدفاع 3 ـ الشراء 4 ـ الكتمان.
    إنّ للاباضية لجنة تقوم بالاشراف الكامل على شؤون المجتمع الاباضي تسمّى بـ « العزّابة » ولأجل ايقاف القارىء على خصوصيّات وصلاحيّات هذه اللجنة وشؤونها نأتي بنصّ كتابهم ، فإليك البيان :

مسالك الدين عند الباضية :
    إنّ المجتمع الإسلامي إمّا أن يكون ظاهراً على أعدائه ، حرّاً في أراضيه ، مستقّلا بأحكامه ، عاملا بكتاب الله وسنّة رسوله ، منفّذاً لأحكام الدين ، لايخضع


(288)
لأجنبيّ بوجه من الوجوه ، ولايستبدّ به حاكم ، ولا يطغى عليه ذو سلطان ، فهذه الحالة هي حالة الظهور ، وهي أكمل الحالات للمجتمع المسلم ، و عليها يجب أن تكون الاُمّة ، لأنّها المنزلة التي ارتضاها الله للمؤمنين ( وَ لِلَّهِ العِزَّة وَ لِرَسولِهِ وِ للمؤمِنينَ ). فإذا انحدر المسلمون عن هذا المقام ، وتضاءلوا عن هذا الشرف ، ونزلوا عن هذه المرتبة التي رفعهم إليها الإيمان بالله ، والثقة فيه ، فيجب أن لايهادنوا الظلم ، وأن لايستكينوا للطغيان ، وأن لايسمحوا للأيدي العابثة ، أن تعبث بمقدّرات الاُمّة ، فتنتهك حرماتهم ، وتحول دون اُمور دينهم ، وتتحكّم في أعمالهم وعباداتهم ، وتتصرّف في أموالهم بغير التشريع الذي وضعه عالم الغيب والشهادة ، والهدى الذي تركه محمّد ( صلّى الله عليه وآله وسلم ) لأبناء الإسلام.
    إذا انحدرت الاُمّة إلى هذه الوهدة ، فيسيطر عليها عدوّ أجنبي ، أو تخلّى ـ من أولته الاُمّة ثقتها ، وأسلمته مقاليدها ، ووضعت بين يديه رعايتها ـ عن الأمانة ، وحاد بها عن الطريق ، وخان الله ورسوله والمسلمين فيما وضع بين يديه ، وجب حينئذ أن يقف المسلمون في طريق تلك الدولة الباغية ، يأمرونها بالمعروف ، وينهونها عن المنكر ، ويلزمونها أن تسلك بهم طريق الصواب ، فإذا اعتزّت بالإثم ، واستمرأن طعم الظلم ، واستكبرت أن تخضع لأمرالله ، وأن ترجع إلى سبيل الله ، فحينئذ يأتي القسم الثاني من التنظيم الإسلامي وهو الدفاع ، والدفاع في مسالك الدين يرادف ما يعبّر عنه في العصر الحاضر بالثورة ... الثورة على الاستعمار الأجنبي ، أو الثورة على الاستعمار الداخلي : كالثورة على الظلم ، والثورة على الاقطاع ، والثورة على الفساد ، والثورة على الانحراف عن دين الله في كلّ مظاهره وأشكاله. والزعيم الذي يقود هذه الثورة يسمّى « إمام الدفاع » وله على الاُمّة الثائرة حق الطاعة والامتثال ، مادامت


(289)
الثورة قائمة ، فاذا استقرّت الاُمور ، ورجعت إلى الهدوء والاستقرار ، أصبح واحداً من أفراد الاُمّة ، له حقوقهم ، وعليه واجباتهم ، ورجوع الاُمور إلى نصابها يكون بأحد أمرين : إمّا نجاح الثورة ، وإمّا فشلها ، ونجاحها يكون بأحد أمرين : إمّا استجابة الدولة لمطالب الاُمّة ، ورجوعها إلى أحكام الله ، وفي هذه الحالة ينتهي عمل الثورة إلى هذا الحد. وإمّا الإطاحة بالنظام الفاسد ، وقلب الحكم الظالم ، وتغييره إلى نظام إسلامي ، يتمشّى مع التشريع الذي جاء به كتاب الله الكريم ، وعندئذ أيضاً لايكون لزعيم الثورة أو أمير الدفاع ، أيّ حق في الحكم ، إلاّ إذا اختارته الاُمّة ، لشروط توفّرت فيه بعد الهدوء والاجتماع و التفكير والمفاضلة ، حسب الشروط المتبعة في اختيار أمير للمؤمنين.
    فإذا ضعف المسلمون حتى عن هذا الموقف ، وأصبحوا لايستجيبون لداعي الثورة ، ويفضّلون طريق السلامة ، ويركنون إلى الدعة والاستراحة ، جاء المسلك الثالث من مسالك الدين ، وهو الشراء : فحق لقلّة منهم إذا بلغوا أربعين شخصاً أن يعلنوا الثورة على الفساد ، وبما أنّ هذه الثورة التي يقوم بها عدد قليل ، لايتوقّع لها النجاح في كفاحها ضدّ دولة ظالمة مسلّحة ، واُمّة مسالمة راضية بالذل ، فإن هذا التنظيم يشبه أن يكون شغباً على دولة ظالمة حتى لاتطمئنّ إلى تنفيذ خططها الجائرة ، وقد لاتكون لها نتائج غير هذا القلق الذي يخيّم على الظالمين ، والتوجّس والخوف الذي يسود أعمالهم وحركاتهم ، ولذلك فقد اشترط لهذا التنظيم ، شروط قاسية لايقبلها إلاّ الفدائيّون ، الذين وهبوا حياتهم لحياة الاُمّة ، وذلك أنّه لايحلّ لهم بعد أن ينخرطوا في هذه المؤسّسة ، أن يعودوا إلى بلادهم ، أو يستقرّوا في أمكنتهم ، أو يتخلّوا عن رسالتهم ، حتى ينتهي بهم الأمر إلى النجاح أو القتل ، والقتل أقرب الأمرين إليهم ، وعندما تضطرّ الظروف أحدهم إلى منزله لشأن من شؤون تمديد الثورة ،


(290)
كالتزوّد ، فإنّه يعتبر في منزله غريباً مسافراً يقصر الصلاة. ولكنّه عندما يكون في شعف الجبال ، أو بطون الأدوية ، يقطع المواصلات على الطغاة ، أو يهدم الجسور التي تمرّبها القطر الظالمة ، أو يقتلع اُسس القلاع التي تجمع ذخيرة الجبابرة ، حينئذ يعتبر في منزله وبين أهله ، وهم في كلّ ذلك لايحلّ لهم أن يروّعوا الآمنين ، أو أن يسيئوا إلى المسالمين. إنّه تنظيم رائع للفدائية في الإسلام عندما يتحكّم الظلم ، ويستعلي عبيد الشيطان ، وتعطّل أحكام الله بأحكام الإنسان ، يقول أبو إسحاق : « الشراء من أخص أوصاف الاباضية ».
    فإذا رضيت الاُمّة بالذل ، واستسلمت للظلم ، وجرى عليها حكم الطغاة ، ولم يقم فيها من يثور لكرامة الإسلام المهدرة ، ولالشرف الرسالة التي أعزّت الإنسانية ، وتغلّب حبّ الدعة على كلّ فرد ، وركن الجميع إلى الراحة ، فلم تتكوّن حتى الفدائية التي تقضّ مضاجع الظالمين ، وتذكّرهم أنّ حكمهم لن يقر ، وأنّ كراسيهم لن تستقر ، وأنّ المقاومة لاتزال هي أمل المؤمنين ، وانّهم سوف يحاسبون أمام الله ، والاُمّة حساباً عسيراً.
    إذا ضعفت الاُمّة حتى عن هذه المرتبة ، أصبحت تحت التنظيم الأخير ، تنظيم الكتمان. وعندئذ يجب أن يبتعد المؤمنون عن مساعدة الظالمين بتولّي الوظائف الظالمة ، وأن تتولّى شؤونهم جمعيات تبثّ فيهم هداية الله ، وتملأ قلوبهم بالإيمان بالله ، وتنشر فيهم المعرفة والثقافة الاسلامية التي تبصّرهم بدين الله ، فلاتكون علاقتهم بالظالمين إلاّ في أيسر طريق ، وأضيق مجال ، فيما يتعلّق بجباية الأموال المفروضة عليهم للحاكمين ، وهي الجمعيّات ، أو ما يسمّى في التنظيم الاباضي « بحلقة العزّابة » (1) .
    1 ـ علي يحيى معمّر : الاباضية في موكب التاريخ ، الحلقة الاُولى 93 ـ 96.
بحوث في الملل والنحل ـ جلد الخامس ::: فهرس