بحوث في الملل والنحل ـ جلد الخامس ::: 311 ـ 320
(311)
    قد تعرّفت على عقائد الاباضية وشيئاً من اُصولهم وفقههم وسيرتهم والمسالك الأربعة عندهم ، فحان التعرّف على أئمّتهم و دعاتهم في القرون الاُولى ، خصوصاً أنّ الاباضية هي الفرقة الوحيدة الباقية من الخوارج المنتشرة في مناطق مختلفة أعني عمان ، الجزائر ، تونس ، ليبيا ، مصر ، المغرب وزنجبار.

1 ـ عبدالله بن اباض ، مؤسّس المذهب :
    هو عبدالله بن اباض المقاعسي ، المري ، التميمي ـ من بني مرّة ـ ابن عبيد ابن مقاعس من دعاة الاباضية بل هو مؤسّس المذهب.
    قد اشتهرت هذه الفرقة بالاباضية من أوّل يوم ، وهذا يدل على أنّه كان لعبدالله بن اباض دور في نشوء هذه الفرقة وازدهارها ، وإن كانت الفرقة يطلقون على أنفسهم أسماء اُخرى يشترك فيها سائر المسلمين كأهل الإسلام وأهل الحق أو جماعة المسلمين ، وغير ذلك ، غير أنّ هذه الأسماء لم تكن وافية بالتعرّف عليهم بل كان المعرّف لهم عنوانين : 1 ـ القعدة 2 ـ الاباضية.
    كل ذلك يشرف الإنسان على الاطمئنان بأنّ لابن اباض تأثيراً هامّاً في


(312)
نشوء هذه الفرقة ، وإليك البيان :

ظهور خط الاعتدال بعد مقتل الإمام :
    قد عرفت أنّ عليّاً ( عليه السَّلام ) قد قضى على الخوارج الذين كانوا يثيرون الشغب ، ويستعرضون الناس بالسيف ، فلمّا مضى علي ( عليه السَّلام ) وضع معاوية بن أبي سفيان السيف في الخوارج واستأصل شأفتهم لما كانوا يرتكبون من الأعمال الإجرامية التي عبّر عنها علي ( عليه السَّلام ) في خطبة له : « كلاّ والله إنّهم نطف في أصلاب الرجال وقرارات النساء. كلّما نجم منهم قرن قطع ، حتى يكون آخرهم لصوصاً سلاّبين » (1) .
    وقال ( عليه السَّلام ) مخطاباً لهم :
    « أما إنّكم ستلقون بعدي ذلاّ شاملا ، وسيفاً قاطعاً ، وأثرة يتّخذها الظالمون فيكم سنّة » (2) .
    ففي هذه الظروف القاسية وجد بينهم رجل يملك شيئاً من العقل ورأى أنّ تلك الأعمال الإجراميّة تسقطهم عن العيون ولا تُبْلِغُهم إلى الهدف ، وهو « أبو بلال مرداس بن حدير » ونقطة البداية في دعوة أبي بلال كانت هي انكار مسلك العنف وما يذهبون إليه من قتل المخالفين واستعراض الناس ، فأمر أتباعه أن لايُجرِّدوا سلاحاً ، ولايقاتلوا مسلماً إلاّ إذا تعرّضوا لعدوان ، أو واجهوا قتالا ، فكان عليهم حمل السلاح دفاعاً عن النفس ، وينقل البلاذري عنه قوله : « إنّ تجريد السيف واخافة السبيل لأمر عظيم ، ولكنّا نشذّ عنهم ولانجرّد سيفاً
    1 ـ الرضي : نهج البلاغة ، الخطبة 60.
    2 ـ الرضي : نهج البلاغة ، الخطبة 58.


(313)
ولا نقاتل إلاّ من قاتلنا » (1) .
    ويؤيّد الكاتب انّ خط الاعتدال ، ظهر بعد مقتل الإمام علي ( عليه السَّلام ) بقوله :
    « إنّ هذا المسلك (التطرّف) منهم ، دعا بعض من كانوا يوازرونهم ، إلى مخالفتهم ، والافتراق عنهم ، بل وتوجيه شديد النقد عليهم ، ... هذا البعض ـ الذي تشدّد بعد أن كانوا لهم مؤيّدين ـ بدا لهم رأي غير الذي ارتأوه جميعاً ورأوا أنّ عليّاً وإن أخطأ في قبول التحكيم ، وإن لم ينزل عند طلبهم عليه التوبة ممّا فعل ، وكذلك سائر أهل القبلة الذين مازالوا على الشهادتين ، إنّما هم مسلمون لايجوز قتالهم ، ولاسبي نسائهم ، وليست أموالهم غنيمة ، وانّ قتالهم لايكون إلاّ في حالة بغي وعدوان منهم ، فهنا يجب القتال بمقدار مايلزم لدفع العدوان وردّ البغي (2) .
    ويقول : إنّ المحكّمة بعد واقعة النهروان افتقدوا وحدة الصف ، وشاعت فيهم الفرقة ، وساد الاضطراب ، ممّا دفع بعضهم إلى الغلو في التطرّف ، وتنكُّبِ الطريق السوي ، ووجد بينهم من استنكره ولم يجد بداً من الافتراق عن هؤلاء الذين عرفوا بالخوارج ، إيماناً منهم بأنّ طريق الاستعراض بالسيف ، ليس هو طريق الإسلام ، وقد كان على رأس هؤلاء ـ الذين عرفوا بالقعدة ـ أبو بلال مرداس ومن خلفه من الدعاة الذين عرفوا فيما بعد بالاباضية (3) .
    وقد تأثّرت عدّة من الخوارج بهذه الفكرة واستفحلت دعوة أبي بلال ، وظهرت معالمها ، غير أنّ بني اُميّة لم يكونوا يرضون بوجود قدرة ماثلة أمامهم ،
    1 ـ صالح بن أحمد الصوافي : الإمام جابر بن زيد العماني : 138 وما نقله عن البلاذري مذكور في الأنساب 5/94.
    2 ـ صالح بن أحمد الصوافي : الإمام جابر بن زيد العماني : 105 و 131 ـ 132.
    3 ـ نفس المصدر.


(314)
فلأجل ذلك استعمل ابن زياد (والي البصرة) بعد موت أبيه زياد بن أبيه ، الشدّة والقسوة على جميع المحكِّمة متطرّفيهم ومعتدليهم ، فقتل أبابلال مرداس بن حدير في منطقة نائية عن البصرة (1) كما قتل أخاه عروة بن ادية (2) في البصرة فقطّع أيديه ثمّ صلبه.
    ففي البصرة اتّبع عمّال الأمويين سياسة البطش والتعذيب والنفي والقتل ضدّ معارضيهم بصفة عامّة ، ولم يستثنوا من هذه السياسة جماعة القعدة ، ورغم انّ هذه الجماعة لم تأخذ بأسلوب الخوارج في التطرّف والعدوان ، وترويع الآمنين ، ورفع السيف في وجه الدولة ، إلاّ أنّ عمّال بني اُميّة في بلاد العراق ، شدّدوا عليها خوفاً من دعوتها التي كانت تستسري بين الناس ، وتحاشياً للشرّ قبل وقوعه ، وقمعاً للنفاق قبل أن ينجم.
    وازاء هذا الإضطهاد لجأت القعدة إلى السرَّية والكتمان ، وظلّوا على هذا الأمر(إلاّ في فترة ثورة ابن الزبير) حتى جاء عصر الحجاج بن يوسف الذي قام بدوره في اضطهاة من ينكشف لديه أمره (3) .
    وبعد ما ثار عبدالله بن الزبير على عمّال يزيد ، ودانت له الحجاز والعراق ، فعند ذلك اجتمعت الخوارج وعلى رأسهم نافع بن الأزرق وعبدالله بن صفّار وعبدالله بن اباض ، فزعموا أنّه ربّما يوجد عنده أُمنيتهم ، ولكن بعدما وقفوا على عقائده في حق عثمان وأصحاب الجمل تفرّقوا عنه ، وغادروا مكّة المكرّمة فمنهم من ذهب إلى البصرة ومنهم من ذهب إلى حضرموت.
    وفي هذه اللحظة الحسّاسة بدأ الخلاف بين ابن الأزرق وعبدالله بن اباض
    1 ـ قتل أوائل خلافة « يزيد » في منطقة « آسك » قريبة من الأهواز عام 60.
    2 ـ وهو الذي سلّ السيف على الأشعث بعد عقد التحكيم كما عرفت تفصيله.
    3 ـ الدكتور رجب محمّد عبدالحليم : الاباضية في مصر والمغرب : 32 ـ 33.


(315)
فاختار الاُوّل الخروج وسلّ السيف ، وقتل المخالفين وسبي النساء وأنكر الثاني هذا التطرّف ، كل ذلك حوالي عام 64 إلى 65 من الهجرة ، فقتل الأوّل بسبب تطرّفه في ناحية الأهواز وبقي الثاني يعيش في ظل الاعتدال والتقيّة.
    كل ذلك يعرب عن أنّ عبدالله بن اباض كان في تلك الفترة رجلا كاملا لايقلّ عمره عن عمر الدعاة الذين يقودون اُمّة ويتأمّرون عليهم ، ولعلّه كان في تلك الأيام من أبناء الأربعين لو لم يكن أكثر ، فعلى ذلك نخرج بهذه النتيجة انّه كان من مواليد سنة 24 من الهجرة فيكون أصغر بسنتين من جابر بن زيد على رواية أو ستّ سنوات على رواية اُخرى.
    هذا من جانب ، ومن جانب آخر نرى أنّه يخاطب عبدالملك بن مروان في رسالة إليه بقوله : « فلا تسأل عن معاوية ولاعن عمله ولا عن صنعته غير انّا قد أدركناه ورأينا عمله وسيرته في الناس ، ولا نعلم أحداً اترك للقسمة التي قسم الله ، ولالحكم حكمه الله ، ولا أسفك لدم حرام منه » (1) .
    كل ذلك يعرب عن أنّ عبدالله بن اباض كان رجلا كاملا وداعياً قويّاً إلى خط الاعتدال وكان هو الناطق باسم هذه الجماعة ، فنسب المذهب إليه لأجل ذلك ، فكونه هو المؤسّس للمذهب أو الداعي القوي إلى خط الاعتدال الذي أسّسه أبو بلال هو الأقوى بالنظر إلى النصوص التاريخية ، والناظر إلى رسالته التي كتبها إلى عبدالملك بن مروان يجده مناظراً قويّاً ينقض دليل خصمه بحجّة أقوى من حجّته ، ونذكر منه نموذجاً :
    احتجّ عبدالملك على صلاح معاوية بقوله : « إنّ الله قام معه وعجّل نصره وبلّج حجّته وأظهره على عدوّه بالطلب لدم عثمان .... » فأجابه في ذلك
    1 ـ الحارثي : العقود الفضية : 122 كما في « الإمام جابر بن زيد » وسيوافيك نصّ الرسالة برمّتها عن مصدر آخر.

(316)
عبدالله بن اباض بقوله : « فإن كنت تعتبر الدين من قبل الدولة والغلبة في الدنيا فإنّنا لانعتبره من قبل ذلك ، فقد ظهر المسلمون على الكافرين لينظر كيف يعملون (1) وظهر المشركون على المؤمنين ليبلي المؤمنين ويُعلي الكافرين ... فلا تعتبر الدين من قبل الدولة ... ».
    ولو كان هو الكاتب لتلك الرسالة (2) ولم تكن مملاة عليه لدّل على احاطته بالآيات القرآنية والأحاديث النبوية. كل ذلك يؤيّد انّه هو المؤسّس الثاني للمذهب بعد انطماس خط أبي بلال. وبما أنّ في تلك الرسالة احتجاجات على الطغمة الأمويّة ، وفي الوقت نفسه ، تعكس الأحوال السائدة في تلك الأيّام ، نأتي بنصّها في آخر هذا الفصل و هي من المواثيق التاريخية.
    هذا ما وقفنا عليه بعد الغور في التاريخ.

رأى آخر في المؤسّس :
    هناك رأي آخر هو أنّ المؤسّس هو جابر بن زيد التابعي ، تلميذ ابن عبّاس وغيره كما سيوافيك ، وأنّ عبدالله بن اباض كان ناطقاً عن الجماعة التي كان يرأسها ويقودها ذلك التابعي سرّاً وخفاء.
    يقول علي يحيى معمّر :
    « وبعد وفاة جابر بن زيد ظهر عبدالله بن اباض بأجلى مظاهر الغيرة الدينية ولقّن أصحابه مبدأ الإقدام في تقرير الحق ، وقمع أهل الجور والظلم ،
    1 ـ لعلّه اشارة إلى قوله سبحانه في حقّ بني اسرائيل قال : ( عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يُهِلْكَ عَدُوَّكُمْ وَ يَسْتَخْلِفَكُمْ فِي الأَرْضِ فَيَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ ) ـ الاعراف 129 ـ.
    2 ـ قد نقل البرّادي في كتاب الجواهر المنتقاة رسالة ابن اباض في 156 ـ 167 والكتاب مطبوع بمصر طبعة حجرية ، كما نقلها مؤلف السير والجوابات لبعض أئمة الاباضيّة.


(317)
المنحرفين عن جادة الصواب ، حتى ظهرت هذه الفرقة الناجية المحقة الصادقة في أدوارها الوجودية في حالتي الكتمان والظهور » (1) .
    وقال أيضاً : « فقد كان يحضر مجلس جابر بن زيد عدد من الطلاب كقتادة ، وأيّوب ، وابن دينار ، وحيّان الأعرج ، وأبي المنذر تميم بن حويص ، ومنهم من يأخذ عنه أكثر ممّا يأخذ من غيره ، أو يكاد يختصّ بمجلسه ، كأبي عبيدة بن مسلم ، وضمام ، وأبي نوح الدهان ، والربيع بن حبيب ، وعبدالله بن اباض ، ومن هؤلاء الطلاب من كان يشتغل أثناء التحصيل وبعده بالشؤون العامة ، ومنهم من اشتغل بالمسائل السياسية ومطارحاتها مع حكّام الدولة الأموية في ميدان الكلمة دون استعمال السيف كعبدالله بن اباض ، ومنهم من جلس للتدريس وأخذ مكان الإمام كأبي عبيدة أبي نوح الدهان وقام بنفس الدور وتخصّص فيه (2) .
    إنّ ما ذكره بصورة أمر قاطع غير ثابت في التاريخ ، كيف وأغلب الظن انّ عبدالله بن اباض مات قبل جابر وانّه كان يقود أمر القعدة في حياة جابر ، وإن كانت الأقوال في زمان حياته مختلفة ، فمن قائل إنّه مات عام 80 إلى آخر إنّه مات قرابة 86 ، إلى ثالث بأنّه مات سنه 100 بالمغرب ودفن في جبل نفوسه ، كما أنّه اختلفت الأقوال في حق جابر وأكثر الأقوال إنّه مات عام 94 ، ذكر بعض المؤرّخين انّه مات عام 104 ، فكيف يمكن أن يكون عبدالله هو القائم بالأمر بعد وفاة جابر؟
    ويظهر تقدّم قيادة عبدالله بن اباض على جابر ، من الدكتور رجب محمّد عبدالحليم : قال : إنّ القعدة أو جماعة المسلمين هم الذين انظمّوا إلى جابر بن
    1 ـ علي يحيى معمّر : الاباضية في موكب التاريخ ، الحلقة الاُولى 151.
    2 ـ الاباضية بين الفرق الاسلاميّة 2/135 ـ 136.


(318)
زيد ، وانضووا تحت قيادته بعد أن انتهى دور عبدالله بن اباض ، فبعد أن رأوا مدى القوَّة التي ينعم بها هذا الفقيد الأزدي بسبب مساندة الأزد له ، لدرجة انّ الحجّاج المشهور بالبطش والعنف لم يجرأ على قتله عندما عرف صلته بالاباضية واكتفى بنفيه إلى بلدة عمان ولم يلبث أن عاد منها إلى البصرة مرّة اُخرى ، ولم يتعرّض له الحجاج في كثير أو قليل (1) .
    ويقول في موضع آخر : ولمّا أحسّ الحجاج بنشاط جابر بن زيد الذي تولّى أمر جماعة القعدة بعد عبدالله بن اباض ، ألقى به في السجن ثم نفاه إلى عمان ، ولمّا عاد منها ، ألقى به في السجن مرّة ثانية ، كما سجن قيادات القعدة الآخرين (2) .
    وهناك نظرية ثالثة وهي أنّ الرجلين كانا متعاصرين ، غير أنّ المصلحة الزمنية كانت توجب اختفاء جابر وظهور عبدالله بن اباض في الساحة. يقول الدكتور صالح بن أحمد الصوافي : « لقد آثرت الجماعة أن يظل أمر جابر مستوراً ولعلّ مرجع ذلك مارأوه من عظم الخسارة فيما لو اشتهر أمر جابر وأخذوه بالشدّة ، فإنّ ذلك يفقد الجماعة عقلها المدبّر وزعيمها الحقيقي ، ولقد بالغ جابر في التخفّي حتى قدّم سواه للتحدّث باسم الجماعة ومُناظرة خصومه ، وكان عبدالله بن اباض أحد اُولئك الذين تحدَّثوا كثيراً باسمهم حتى لقد ظن انّه الزعيم الحقيقي للجماعة فنسبها الآخرون إليه ، وعرفوها بأنّها جماعة الاباضية مع أنّ عبدالله بن اباض لم يكن إلاّ واحداً من أفرادها قدّمه زعيمها ـ جابر بن زيد ـ للتحدّث عنهم ومناظرة خصومهم » (3) .
    1 ـ الاباضية في مصر والمغرب : 200.
    2 ـ الاباضية في مصر و المغرب : 33.
    3 ـ صالح بن أحمد الصوافي : الإمام جابر بن زيد العماني 153.


(319)
    يلاحظ عليه : أنّه مجرد استحسان وتحليل حدسي لم يقترن بدليل ، وقد عرفت اقتران الرجلين في الولادة والوفاة وظهور عبدالله بن اباض في الدعوة أيّام يزيد بن معاوية ، ولم يكن يومذاك اسم من جابر ولاخبر.
    ثمّ إنّ الكاتب لمّا رأى أنّ المذهب منتم إلى ابن اباض طيلة قرون ، حاول أن يصحّح وجه النسبة إليه وإنّه كان فرداً واحداً من القعدة ، وذلك بوجهين :
    1 ـ إنّ هذه الجماعة لم تطلق على نفسها اسم الاباضية بل كانوا يسمّون أنفسهم أهل الدعوة أو جماعة المسلمين.
    2 ـ إنّ تسمية الاباضية إنّما أطلقها على هذه الجماعة مخالفوهم في فترات تالية ، وربّما كان الأمويّون كما يرى البعض هم الذين أطلقوا عليهم هذا الاسم نسبة إلى عبدالله بن اباض لأنّ الأخير كان من علمائهم وشجعانهم والمناظر باسمهم ، كما أنّ الأمويّين لايريدون نسبة هذه الفرقة إلى جابر حتى لايجذبوا إليه الأنظار ، ولايبدو في حياة جابر المشرقة ، فتميل إليهم النفوس ، فنسبوهم إلى عبدالله بن اباض وهو أقلّ منزلة من جابر في العلم و إن كان لايقلّ عنه في التقوى والورع والصلاح (1) .
    ولا يخفى ضعف الوجهين : أمّا الأوّل فلأنّ الهدف من التسمية هو التعرّف على المسمّى ، ومن المعلوم أنّ اللفظين المذكورين لفظان عامّان لايكونان مشيرين إليه.
    وأمّا الثاني : فمجرّد حدس لادليل عليه ، ولم يكن جابر بن زيد من المشاهير والأعلام بين العلماء والمحدّثين حتى تكون التسمية باسمه موجباً للانجذاب ، بشهادة انّه ليس لجابر روايات وافرة في الصحاح والمسانيد.
    1 ـ الدكتور صالح بن أحمد الصوافي : الإمام جابر بن زيد 161 ـ 162 نقلا عن تاريخ المغرب الكبير ، لمحمّد علي دبوز 2/298.

(320)
    ولعلّ القول الحق ما يذكره الصوافي في آخر كلامه ويقول : إنّ جماعة الاباضية كانت حريصة على التخفّي والتسترّ ولم تبد كجماعة خارجة ، وكان أوّل ظهور لها عندما راح عبدالله بن اباض يتحدّث باسمها ويبعث برسائل إلى الأمير الأموي عبدالله بن مروان ، فكان من الطبيعي أن تنسب هذه الجماعة إلى من أبدى للخليفة نفسه على أنّه صاحب الرأي والكلمة (1) .
    أضف إلى ذلك أنّه لم يثبت كون جابر بن زيد من الاباضية ، وسيوافيك انّه كان يصلّي خلف الحجاج ويأخذ جوائزه.

2 ـ جابر بن زيد العماني الأزدي :
    وهو الشخصية الثانية التي تتبنّاها الاباضية زعيماً ومؤسّساً لمذهبهم وقد أَطروه في كتبهم ، وقد تعرّفت على الاختلاف في ميلاده ووفاته ، فهو من رجال النصف الثاني من القرن الأوّل ، وقد طلع نجمه في هذه الفترة ، وهو عماني عاش في العراق وأمضى أكثر عمره في البصرة احدى عواصم العراق العلمية ، وإليك كلمات أهل الرجال في حقّه.
    1 ـ قال أبو حاتم الرازي : جابر بن زيد أبو الشعثاء الأزدي اليحمدي روى عن ابن عباس والحكم بن عمرو وابن عمر ، روى عنه عمرو بن دينار وقتادة وعمرو بن هرم. سمعت أبي يقول ذلك.
    وعن عطاء انّ ابن عباس قال : لو أنّ أهل البصرة نزلوا عند قول جابر بن زيد لأوسعهم علماً عن كتاب الله عزّوجلّ ، وقال عكرمة : كان ابن عباس يقول : هو أحد العلماء ، و عن تميم بن حدير عن الرباب قال : سألت ابن عباس عن شيء ، فقال : تسألونني وفيكم ابن زيد؟
    1 ـ الدكتور صالح بن أحمد الصوافي ، الإمام جابر بن زيد : 162 ـ 163.
بحوث في الملل والنحل ـ جلد الخامس ::: فهرس