بحوث في الملل والنحل ـ جلد الخامس ::: 401 ـ 410
(401)
سبحانه : ( وَ إذْ تَأَذَّنَ رَبُّكمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لاَزِيدَنَّكمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ ) (1) .
    على أنّه يحتمل أن يكون المراد من توصيف تارك الحج بالكفر ، هو كونه كافراً لجحد وجوبه ، فيرجع الأمر إلى جحد الرسالة و يؤيّده صدر الآية ( وَ لِلّهِ عَلّى النَّاسِ حجُّ البَيْتِ ) فأنبأ عن اللزوم ثمّ قال : ( وَ مَنْ كَفَرَ ) بلزوم ذلك و من المعلوم أنّ من أنكر لزومه فهو كافر.
    2 ـ ( فَلا وَ رَبِّكَ لايُؤْمنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيما شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لايَجِدُوا فِي أنفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَ يُسّلِّمُوا تَسْلِيماً ) (2) قيل : إنّه سبحانه أقسم بنفسه انّهم لايؤمنون إلاّ بتحكيم النبي و التسليم بحكمه ، و عدم وجدان الحرج في قضائه ، والتحكيم غير التصديق بل هو عمل خارجي (3) .
    يلاحظ عليه : أنّ الآية وردت في شأن المنافقين ، فإنّهم كانوا يتركون النبي و يرجعون في دعاويهم إلى الأحبار ، و هم مع ذلك يدّعون الإيمان بالنبي و الإذعان والتسليم له ـ صلّى الله عليه وآله وسلّم ـ فنزلت الآية بأنّه لايقبل منهم ذلك الإدّعاء حتى يُرى أثر الإيمان في حياتهم ، و هو تحكيم النبي ، في المرافعات و المنازعات و التسليم المحض أمام قضائه ، و عدم احساسهم بالحرج ، و هذا هو الظاهر من الآية ، لا أن التحكيم بما أنّه عمل ، جزء من الإيمان و هذا نظير ما إذا ادّعى إنسان حبّاً لرجل فيقال له : إن كنت صادقاً فيجب أن يرى أثر الحبُ في حياتك ، فاعمل له كذا وكذا.
    3 ـ ( إنَّهُ لاييْأسُ مِن رَوْحِ اللهِ إلاّ القَوْمُ الكافِرُونَ ) (4) بادّعاء أن الفاسق بفسقه
    1 ـ إبراهيم : 7.
    2 ـ النساء : 65.
    3 ـ ابن حزم الظاهري : الفصل 3 / 195.
    4 ـ يوسف : 87.


(402)
واصراره عليه ، آيس من روح الله فكان كافراً.
    والجواب : انّ المدعى ممنوع : فإنّ فسّاق المؤمنين ليسوا بآيسين بل يرجون رحمة ربّهم بالتوبة أو الشفاعة ، أضف إليه : المراد من « الروح » هذا ، الفرج بعد الشدّة ، ومثل هذا اليأس من الكبائر الموبقة ، ولكنّه لا يوجب كفراً ، وذلك لأنّ النهي في الآية نهي تشريعي و معناه أنّ اليأس من روح الله شأن الكافر دون المؤمن ، نظير قوله سبحانه : ( وَ مَا كَانَ لِمُؤْمِن أن يَقْتُلَ مَؤْمِناً إلاّ خَطَأً ) (1) أي ليس شأن المؤمن أن يقتل مؤمناً إلاّ عن خطأ خارجاً عن اختياره لا أنّ المؤمن لايقتل المؤمن عمداً أبداً ، و على ضوء ذلك فلو حصل اليأس من مؤمن فهو ركب الكبيرة الموبقة ، و مع ذلك فليس بكافر.
    4 ـ ( وَمَنْ لَمْ يَحْكُم بِمَا أنْزَلَ الله فَاُولئِكَ هُمُ الكافرون ) (2) .
    يلاحظ عليه : أنّه سبحانه وصف من لم يحكم بما أنزل الله بأوصاف ثلاثة :
    أ ـ ( وَمَنْ لَمْ يَحْكُم بِمَا أنْزَلَ اللهُ فَاُولئِكَ هُمُ الكافرون ) (3) .
    ب ـ ( وَمَنْ لَمْ يَحْكُم بِمَا أنْزَلَ اللهُ فَاُولئِكَ هُمُ الظّالِمونَ ) (4) .
    ج ـ ( وَمَنْ لَمْ يَحْكُم بِمَا أنْزَلَ اللهُ فَاُولئِكَ هُمُ الفاسِقُونَ ) (5) .
    والآيتان الأوّليتان نزلتا في حق اليهود ، كما هو لائح من صدريهما.
    والآية الثالثة في مورد النصارى و مع ذلك لايكون المورد مخصّصاً للآيات بهما و المقصود هو أنّ من لم يحكم بما أنزل الله سواء أكان من أهل الكتاب أو غيرهم ، فهو ظالم و فاسق و كافر ، أمّا كونه ظالماً ، فلأنّه تعدّى عن
    1 ـ النساء : 92.
    2 ـ المائدة : 44.
    3 ـ المائدة : 44.
    4 ـ المائدة : 45.
    5 ـ المائدة : 47.


(403)
الحقّ ، فترك حكم الله ، و حكم بحكم الجاهلية ، فإنّ الحكم حكمان امّا إلهّي وامّا جاهلي ، فإذا ترك الأوّل يكون من قبيل الثاني ، قال سبحانه : ( أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللهِ حُكْماً لِّقَوْم يُوقِنُونَ ) (1) .
    و أما كونه فاسقاً ، فإنّ الفسق هو الخروج عن طاعة الله ، يقال : فسقت التمرة : إذا خرجت قشرتها ، فالحاكم بغير ما أنزل الله خرج عن طاعة الله.
    وأمّا كونه كافراً ، فلأنّ الآية حسب شأن نزولها وردت في قوم ينكرون الرجم في توراتهم ، و لأجله يحكمون بغير ما أنزل الله ، فيكون هذا قرينة على أنّ الكفر لأجل انكار ما أنزل الله في الكتب السماوية ، وإلى ذلك ينظر ما نقله الرازي عن بعضهم : انّ قوله ( وَ مَنْ لَمْ يَحْكُم بِمَا أنْزَلَ الله ) إنّما يتناول من أنكر بقلبه وجحد بلسانه ، أمّا مَن عرف بقلبه كونه حكم الله ، وأقرّ به بلسانه ، إلاّ أنّه أتى بما يضاده ، فهو حاكم بما أنزل الله تعالى و لكنّه تارك له ، فلا يلزم دخوله تحت هذه الآية (2) .
    وعلى ضوء ذلك فالآية تختصّ بالجاحد لحكم الله الوارد في كتابه ، المستلزم لانكار رسوله الّذي أتى به في الكتاب.
    5 ـ ( فَأَنذَرْتُكُمْ نَاراً تَلَظَّى * لاَ يَصْلَـهَا إِلاَّ الاَْشْقَى * الَّذِى كَذَّبَ وَتَوَلَّى ) (3) .
    وجه الاستدلال ، انّ الآية تحصر الداخل في النار في الكافر ، حيث يقول : ( إلاّ الأشْقَى * الَّذِي كَذَّبَ تَوَلَّى ) فبما أنّ المسلمين اتّفقوا على دخول الفاسق في النار ، يلزم أن يكون الفاسق كافراً.
    يلاحظ عليه : أنّ الآية تحصر الخلود في النار و المقيم فيها في المكذّب
    1 ـ المائدة : 50.
    2 ـ الرازي : مفاتيح الغيب 3 / 421.
    3 ـ اللّيل : 14 ـ 16.


(404)
المتولّي لامجرّد الداخل فيها و تقول : ( لا يصلاها إلاّ الأشقى * الَذِي كذّب وتولّى ) وذلك لأن قوله ( لاَيَصْلاها ) ، من قوله صلى الرجل النار ، يصلاها أي لزمها (1) وهي عبارة اُخرى عن الخلود في النار فالآية لاتدل إلاّ على أنّ الخلود في النار من خصائص الكافر المكذّب المتولّي وأمّا المؤمن الفاسق فخارج عن حدود و دلالة الآية.
    هذا و ربّما يستدلّ بالآية على قول المرجئة القائلة بالنار للكافرين دون المؤمنين ، وذلك لأنّه سبحانه يقول : لا يدخل النار إلاّ الكافر ، والمؤمن الفاسق ليس كافراً ، وأجاب عنه القاضي المعتزلي على ما نقل عنه : بأنّ (ناراً) نكرة في سياق الاثبات ، و إنّما تعمّ النكرة في سياق النفي نحو قولك : ما في الدار رجل ، و غير ممتنع أن تكون في الآخرة نار مخصوصة لايصلاها إلاّ الذين كذبوا و تولّوا ويكون للفسّاق نار اُخرى غيرها (2) .
    وأوضحه الطبرسي في مجمعه و قال : إنّه سبحانه نكّر النار المذكورة ولم يُعرّفْها ، فالمراد بذلك انّ ناراً من جملة النيران لايصلاها إلاّ من هذه حاله ، والنيران درجات على ما بينّه سبحانه في سورة النساء (3) ، فمن أين عرف أنّ غير هذه النار لايصلاها قوم آخرون (4) .
    و لكن الاستدلال و الجواب مبنيان على أنّ « الصلي » بمعنى الدخول و لكنه غير صحيح لما عرفت من أنّه الدخول الملازم للبقاء.
    أضف إلى ذلك : انّه لودلّ على أنّ النار مختصّة بالكافرين يلزم منه الاغراء بالمعاصي لأنّه بمنزلة أن يقول الله تعالى لمن صدّق بالله و رسوله ولم يكذّب
    1 ـ يقال صلى فلاناً النار : أدخله إيّاها و أثواه فيها.
    2 ـ ابن أبي الحديد : شرح نهج البلاغة 8 / 115.
    3 ـ النساء : 145 : ( إِنَّ الْمُنَـفِقِينَ فِي الدَّرَكِ الاَْسْفَلِ مِنَ النَّارِ وَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ نَصِيراً ).
    4 ـ الطبرسي : مجمع البيان 5 / 502.


(405)
ولم يتولّ : أي معصية اقدمتَ عليها فلن يضرّك. و هذا هو الاغراء الّذي لايصدر من الحكيم.
    على أنّه سبحانه يقول بعدها ( وَ سَيُجَنَّبُها الأتْقَى * الَّذِي يُؤْتِي مَالَهُ يَتَزَكَّى ) (1) و يحصر المجنّب عن النار في الأتقى ، و معلوم أنّ الفاسق ليس بأتقى لأنّ « أتقى » مبالغة في التقوى و من يرتكب عظائم الكبائر لايوصف بأنّه أتقى.
    6 ـ ( إِنَّ جَهَنَّمَ لَمـُحيطَةٌ بِالْكَـفِرِينَ ) (2) .
    قالوا : و الفاسق تحيط به جهنّم فوجب أن يكون كافراً.
    يلاحظ عليه : أنّه من غرائب الاستدلالات ، فإنّه لم يقل سبحانه : و انّ جهنّم لاتحيط إلاّ بالكافرين ، حتّى يلزم أن يكون الفاسق من أقسام الكافر ، باعتبار كونها محيطة به أيضاً ولا يلزم من كونها محيطة بقوم ، ألاّ تحيط بقوم سواهم.
    7 ـ ( يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وجُوهُهُمْ أَكَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَـنِكُمْ فَذُوقُواْ الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ ) (3) .
    وجه الاستدلال : انّ الفاسق لايجوز أن يكون ممّن ابيضّت وجوههم ، فوجب أن يكون ممّن اسودّت و إذا دخل فيه يكون كافراً لقوله : ( بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ ).
    يلاحظ عليه : أنّ الآية تخبر عن وجود صنفين : صنف تبيضّ وجوههم ، وصنف تسودّ وجوههم ، فالاوّل من سمات المؤمن الّذي لم يخالط إيمانه بإثم ، والثاني من سمات الكافر الّذي لم يؤمن بالله أو صفاته أو أفعاله ، في النبوّة
    1 ـ الليل : 17 ـ 18.
    2 ـ التوبة : 49.
    3 ـ آل عمران : 106.


(406)
والخاتميّة. و أمّا انّه ليس هنا صنف ثالث و يحشرون بغير هاتين السمتين ، فلا تدلّ الآية عليه ، والمؤمن الّذي ركب الكبيرة هو من هذا القسم الثالث الّذي لم تتكفّل الآية ببيان حكمه.
    والحاصل انّ الآية تبحث عن المؤمن الخاص ، و الكافر المطلق ، وتذكر سماتهما وحالاتهما ، و أمّا القسم الثالث فهو خارج عن تقسيم الآية و لعلّ له سمة و علامة اُخرى غير بياض الوجه و سواده لم تذكرها الآية.
    قال الطبرسي : استدلّت الخوارج بذلك على أنّ من ليس بمؤمن فلابد أن يكون كافراً فإنّ الله سبحانه قسّم الوجوه إلى هذين القسمين.
    ولا تعلّق لهم به ، لأنّه سبحانه ذكر هنا قسمين من الوجوه متقابلين ، وجوه المؤمنين (غير العاصين) و وجوه الكفّار ، ولم يذكر وجوه الفسّاق من أهل الصلاة ، فيجوز أن يكون لها صفة اُخرى بأن يكون عليها غبرة لاتغشاها قترة أو يكون عليها صفرة أو لون آخر (1) .
    8 ـ ( فَأَعْرَضُواْ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ سَيْلَ الْعَرِمِ وَبَدَّلْنَـهُم بِجَنَّتَيْهِمْ جَنَّتَيْنِ ذَوَاتَيْ أُكُل خَمْط وَأَثْل وَشَيْء مِّن سِدْر قَلِيل * ذَلِـكَ جَزَيْنَـهُم بِمَا كَفَرُواْ وَهَلْ نُجَـزِي إِلاَّ الْكَفُورَ ) (2) .
    والفاسق لابد أن يجازى ، فوجب أن يكون كفوراً.
    يلاحظ عليه : أنّ المراد من قوله ( وَ هَلْ نُجزِي ) ليس مطلق المجازاة ، بل مجازاة الاستئصال ، والآية وردت في قصة أهل سبأ و هم استؤصلوا بالعقوبة ، فالمجازاة المقترنة بالاستئصال من خصائص الكفّار ، لاكل مجازاة.
    1 ـ الطبرسي : مجمع البيان 5 / 441.
    2 ـ سبأ : 16 ـ 17.


(407)
    9 ـ ( إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَـنٌ إِلاَّ مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغَاوِينَ ) (1) .
    وفسّر الغاوون في آية اُخرى بالمشركين قال سبحانه ( إِنَّمَا سُلْطَـنُهُ عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ وَالَّذِينَ هُم بِهِ مُشْرِكُونَ ) (2) .
    وعلى ضوء هذا فمرتكب الكبائر من الغاوين لأجل سلطة الشيطان عليه و هو حسب تعبير الآية الثانية من المشركين فينتج أنّ مرتكب الكبيرة مشرك
    يلاحظ عليه : أنّ الآية فسّرت الغاوين بصنفين : صنف يتولّونه ، و صنف به مشركون ، ومرتكب الكبيرة داخل في الصنف الأوّل لافي الصنف الثاني.
    10 ـ ( وَأَمَّا الَّذِينَ فَسَقُواْ فَمَأْوَيـهُمُ النَّارُ كُلَّمَآ أَرَادُواْ أَن يَخْرُجُواْ مِنْهَآ أُعِيدُواْ فِيهَا وَقِيلَ لَهُمْ ذُوقُواْ عَذَابَ النَّارِ الَّذِي كُنتُم بِهِ تُكَذِّبُونَ ) (3) .
    وجه الدّلالة انّه سبحانه جعل الفاسق مكذّباً.
    يلاحظ عليه : أنّ الاستدلال مبني على تفسير الفاسق بالمعنى الرائج في أعصارنا أي المؤمن بالله و صفاته و رسالاته المرتكب لكبيرة ، و هو غير صحيح إذ ليس كل فاسق بهذا المعنى مكذّباً ، فتعيّن أن يكون المراد من الفاسق في الآية من خرج عن الطاعة بتكذيبه ، ومن المعلوم أنّ مثله كافر ، قال سبحانه ( أَفَمَن كَانَ مُؤْمِناً كَمَن كَانَ فَاسِقاً لاَّ يَسْتَوُونَ ) (4) وبالجملة : المقصود من الفاسق في الآية من عصى عن طريق التكذيب الّذي يساوق الكفر ، لا من فسق ـ و هو مؤمن بقلبه ولسانه ـ بالخروج عن الطاعة لارتكابه المعاصي.
    1 ـ الحجر : 42.
    2 ـ النحل : 100.
    3 ـ السجدة : 20.
    4 ـ السجدة : 18.


(408)
    11 ـ ( هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ فَمِنكُمْ كَافِرٌ وَمِنكُم مُّؤْمِنٌ ) (1) .
    وجه الدلالة انّ من لم يكن مؤمنا فهو كافر ، والفاسق ليس بمؤمن فوجب أن يكون كافراً.
    يلاحظ عليه : أنّ الفاسق ، أي المسلم المعتقد بالله سبحانه ورسله وكتبه ، المرتكب لبعض المحّرمات ، مؤمن ليس بكافر ، فقوله : الفاسق ليس بمؤمن ، ممنوع ، فإنّ الفاسق على قسمين ، قسم يخرج عن طاعة الله سبحانه بالتكذيب والانكار ، وقسم يؤمن به ، ولكن لا يقوم في مقام العمل ببعض الوظائف ، فالأوّل كافر دون الثاني.
    وأمّا الشارح ابن أبي الحديد فبما أنّه من المعتزلة ، و مرتكب الكبيرة عندهم لامؤمن ولا كافر بل في منزلة بين المنزلتين ، أجاب بأنّ (من) هاهنا للتبعيض وليس في ذكر التبعيض نفي الثالث (ولعلّ هنا من ليس بمؤمن ولاكافر) (2) وهو كماترى ، لأنّ الآية في مقام الحصر.
    12 ـ ( قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الَّذِي يَقُولُون فَإِنَّهُمْ لاَيُكَذِّبُونَكَ وَلَـكِنَّ الظَّـلِمِينَ بَـاَيَـتِ اللهِ يَجْحَدُونَ ) (3) .
    وجه الدلالة انّ مرتكب الكبائر ظالم ، والظالم بحكم الآية جاحد والجاحد كافر ، وإلى ذلك يرجع استدلالهم حيث يقولون :
    1 ـ التغابن : 2.
    2 ـ ابن أبي الحديد : شرح النهج 8 / 118.
    3 ـ الأنعام : 33.


(409)
    13 ـ الفاسق ظالم لغيره ، أو لنفسه ، وكلّ ظالم كافر ، قال تعالى : ( أَن لَعْنَةُ اللهِ عَلَى الظَّـلِمِينَ * الَّذِينَ يَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ اللهِ وَيَبْغُوَنَها عِوَجاً وَهُم بِالاَْخِرَةِ كَـفِرُونَ ) (الأعراف / 44 ـ 45) (1) .
    يلاحظ عليه : أنّ الكبرى ممنوعة و هي انّ كل ظالم جاحد بآيات الله كما استظهره المستدل من الآية الاُولى أو أن كلّ ظالم كافر كما استظهره من الآية الثانية ، وذلك لأنّ المراد من الظالمين في كلتا الآيتين ليس هو مطلق الظالم ولو بمجرّد ارتكاب الكبيرة فقط ، بل المراد هو المكذّب بلقاء الآخرة.
    أمّا الآية الاُولى : فيشهد على ذلك سياق الآية : قبلها وبعدها حيث جاء في الآية المتقدّمة قوله ( قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ كَذَّبُواْ بِلِقَآءِ اللهِ ... ) وجاء في الآية المتأخّرة عنها : ( وَ لَقَدْ كُذِّبت رُسُلٌ مِن قَبْلِكَ ).
    وأمّا الآية الثانية : فذيلها شاهد على أنّ المراد هو الجاحد بالآخرة.
    أضف إلى ذلك : انّه كيف يمكن أن يعدّ كل ظالم و لو ظلم نفسه كافراً؟
    هذا هو نبيّنا آدم يقول : ( قَالاَ رَبَّنَا ظَلَمْنَأ أنفُسَنَا ) (2) وقال تعالى حكاية عن موسى : ( إنّى ظَلَمْتُ نَفْسِي ) (3) وقال حكاية عن يونس : ( إنِّي كُنتُ مِنَ الظَالِمِينَ ) (4) .
    14 ـ ( وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَـبَهُ بِشِمَالِهِ فَيَقُولُ يَـلَيْتَنِى لَمْ أُوتَ كِتَـبِيَهْ * وَلَمْ أَدْرِ مَا حِسَابِيَهْ ) (5) ... إلى قوله ( إِنَّهُ كَانَ لاَ يُؤْمِنُ بِاللهِ الْعَظِيمِ ) (6) والفاسق لايؤتى كتابه بيمينه بل يؤتى بشماله ، إذ لا ثالث فيدخل تحت قوله ( إِنَّهُ كَانَ
    1 ـ صالح أحمد الصوافي : الإمام جابر بن زيد العماني : 253.
    2 ـ الأعراف : 23.
    3 ـ القصص : 16.
    4 ـ الأنبياء : 87.
    5 ـ الحاقة : 25 ـ 26.
    6 ـ الحاقّة : 33.


(410)
لاَ يُؤْمِنُ بِاللهِ الْعَظِيمِ ) الّذي هو وصف عامّ لكل من اُوتي كتابه بشماله ، ولو أردنا صوغ الاستدلال في قالب علمي نقول : مرتكب الكبيرة يؤتى كتابه بشماله ، و كلّ من كان كذلك فهو ممّن لا يؤمن بالله العظيم ، فينتج : انّ مرتكب الكبيرة ممّن لا يؤمن بالله العظيم.
    يلاحظ عليه : أنّ الاستدلال مبني على أنّ المراد من الموصول في قوله : ( و أمّا من ... ) كل من يؤتى كتابه بشماله سواء كان جاحداً أو غير جاحد ليشمل المسلم المؤمن المرتكب للكبيرة ، ولكن المراد منه القسم الخاص من هذه الطائفة أعني الجاحد بالله العظيم ، أي من لم يوحّد الله سبحانه في دار التكليف ، والدليل على ذلك هو التعليل الوارد في الآية الاُخرى أعني قوله : ( إِنَّهُ كَانَ لاَ يُؤْمِنُ بِاللهِ الْعَظِيمِ ) فذيل الآية قرينة على اختصاص الموصول مع صلته ، بالجاحد ، لا المؤمن المذعن بكل الشرائع ، لوضوح انّه ليس كل مرتكب الكبيرة غير مؤمن بالله العظيم وليس ارتكاب الكبيرة دليلاً على عدم الإيمان به لقضاء الضرورة على بطلانه.
    ويؤيّد ذلك انّه علّل دفع الكتاب إلى الظهر في بعض الآيات الّذي هو بمنزلة دفعه إلى شماله بأنّه كان غير مؤمن بالآخرة قال سبحانه : ( وَأَمَّا مَنْ أُوتِىَ كِتَـبَهُ وَرَآءَ ظَهْرِهِ * فَسَوْفَ يَدْعُواْ ثُبُوراً ... إِنَّهُ ظَنَّ أَن لَّن يَحُورَ ) (1) ومعنى قوله « لن يحور » إنّه لا يرجع إلى الحياة في الآخرة.
    15 ـ ( فَمَن ثَقُلَتْ مَوَزِينُهُ فَأُوْلَـئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ * وَمَنْ خَفَّتْ مَوَزِينُهُ فَأُوْلَـئِكَ الَّذِينَ خَسِرُواْ أَنفُسَهُمْ فِي جَهَنَّمَ خَـلِدُونَ * تَلْفَحُ وُجُوهَهُمُ النَّارُ وَهُمْ فِيهَا كَـلِحُونَ * أَلَمْ تَكُنْ ءَايَـتِي تُتْلَى عَلَيْكُمْ فَكُنتُم بِهَا تُكَذِّبُونَ ) (2) .
    1 ـ الانشقاق : 10 ـ 11 و 14.
    2 ـ المؤمنون : 102 ـ 105.
بحوث في الملل والنحل ـ جلد الخامس ::: فهرس