بحوث في الملل والنحل ـ جلد الخامس ::: 411 ـ 420
(411)
    وجه الاستدلال انّ الفاسق ممّن خفّت موازينه ، و من خفّت موازينه فهو مكذّب حسب ظاهر الآية ، و المكذّب كافر بالاتّفاق.
    يلاحظ عليه : أنّ المراد من الموصول في قوله « ومن خفَّت موازينه » ليس كل من خفّت موازينه سواء كان مكذّباً بآيات الله أم مصدّقاً بها حتى يعمّ المؤمن الفاسق ، بل المراد هو القسم الخاص أعني الذين خفّت موازينهم لأجل التكذيب ، لالأجل أمر آخر ، أعني ارتكاب الكبيرة مع التصديق ، و يوضّح هذا الجواب ، ما ذكرناه في الآية المتقدّمة ، فلاحظ (1) .
    16 ـ ( وَمَن كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُوْلَـئِكَ هُمُ الْفَـسِقُونَ ) (2) .
    يلاحظ عليه : أنّ الآية ، دليل على أنّ كل كافر فاسق ، ولا تدلّ على العكس كما هو واضح.
    ثم إنّ الإمام علي ( عليه السَّلام ) ردّ على قول الخوارج بأنّ المسلم بارتكاب المعصية يصير كافراً بكلام منه موضع الحاجة :
    قال مخاطباً الخوارج : « فإن أبيتم إلاّ أن تزعموا أنّي أخطأتُ وضللتُ ، فلم تُضَلِّون عامّة امّة محمّد ( صلّى الله عليه وآله وسلم ) ، بِضَلالي ، وتأخذونهم بخطئي ، وتكفّرونهم بذنوبي! سيوفكم على عواتقكم تضعونها مواضع البرء والسقم ، وتخلطون من أذنب بمن لم يذنب ، وقد علمتم أنّ رسول الله ( صلّى الله عليه وآله وسلم ) رجم الزاني المحصن ، ثمّ صلّى عليه ، ثم ورّثه أهله ، وقتل القاتل وورّث ميراثه أهله ، وقطع السارق ، وجلد الزاني غير المحصن ، ثم قسم عليهما من الفيء ، ونكحا المسلمات ، فأخذهم رسول الله ( صلّى الله عليه وآله وسلم ) بذنوبهم ، وأقام حقّ الله فيهم ، ولم يمنعهم سهمهم من الإسلام ولم يخرج أسماءهم من
    1 ـ راجع الآية 9 ـ 11 من سورة القارعة.
    2 ـ النور : 55.


(412)
بين أهله » (1) .
    و حاصل كلام الإمام : انّه لو كان صاحب الكبيرة كافراً لما صلّى عليه رسول الله ( صلّى الله عليه وآله وسلم ) ولا ورّثه من المسلم ، ولا مكّنه من نكاح المسلمات ، ولا قسَّم عليه من الفيء ولأ خرجه عن لفظ الإسلام (2) .
    إلى هنا تمّ البحث عن كون مرتكب الكبيرة مؤمناً أو كافراً ، فحان الآن البحث عن الجهة الثالثة و هي : انّ مرتكب الكبيرة هل هو مخلّد في النار ـ إن لم يتب ـ أو أنّه يخرج منها بعد دخوله فيها وإنّما التأبيد للكافرين؟

الجهة الثالثة ـ صاحب الكبيرة و خلوده في النار :
    ذهب جمهور المسلمين إلى أن الخلود يختصّ بالكافر دون المسلم وإن أثم وركب الكبيرة ، وذهبت الخوارج و المعتزلة د إلى خلوده في النار إذامات بلا توبة. وبما أنّ المقام مختصّ بدراسة أدلّة الخوارج في ا لمسألة ، نكتفي ببيان أدلّتهم وأمّا ما استدلّ به جمهور المسلمين على عدم الخلود فيطلب من محلّه. فنقول : استدلّوا بآيات :
    1 ـ قوله سبحانه : ( وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ نَاراً خَـلِداً فِيهَا وَلَهُ عَذَابٌ مُّهِينٌ ) (3) ولا شكّ انّ الفاسق ممّن عصى الله و رسوله بترك الفرائض وإرتكاب المعاصي.
    يلاحظ عليه : أنّ الموضوع ليس مطلق العصيان ، بل العصيان المنضم إليه
    1 ـ الرضي : نهج البلاغة ، الخطبة 127.
    2 ـ ابن أبي الحديد : شرح نهج البلاغة 8 / 113 ـ 114.
    3 ـ النساء : 14.


(413)
التعدّي عن حدود الله ، و من المحتمل جدّاً أن يكون المراد من التعدّي ، رفض أحكامه سبحانه و عدم قبولها.
    بل يمكن أن يقال : إنّ قوله ( وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ ) ظاهر في تعدّي جميع حدود الله و هذه صفة الكفّار ، فالآية خاصّة بهم لا بمرتكب الكبيرة. وأمّا المؤمن الفاسق فإنّما يتعدّى بعض الحدود.
    2 ـ ( وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُّتَعَمِّداً فَجَزَآؤُهُ جَهَنَّمُ خَـلِداً فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَاباً عَظِيماً ) (1) فعدّ قاتل المؤمن من المخلّدين في النار من غير فرق بين أن يكون القاتل مسلماً أو كافراً.
    يلاحظ عليه : أنّ الآية ناظرة إلى القاتل المستحل قتل المؤمن أو قتله لأجل ايمانه و مثله كافر و يدلّ عليه ما قبلها ، قال سبحانه : ( سَتَجِدُونَ ءَاخَرِينَ يُرِيدُونَ أَنْ يَأْمَنُوكُمْ وَيَأْمَنُواْ قَوْمَهُمْ كُلَّ مَا رُدُّواْ إِلَى الْفِتْنَةِ أُرْكِسُواْ فِيْهَا فَإِنْ لَّمْ يَعْتَزِلُوكُمْ وَيُلْقُواْ إِلَيْكُمْ السَّلَمَ وَيَكُفُّواْ أَيْدِيَهُمْ فَخُذُوهُمْ وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ وَأُوْلَــِكُمْ جَعَلْنَا لَكُمْ عَلَيْهِمْ سُلْطَـناً مُّبِيناً ) (2) .
    ثمّ يقول : ( وَ مَا كَانَ لِمُؤْمِن أَنْ يَقْتُلَ مُؤمِناً إلاّ خَطَأً وَ مَنْ قَتَلَ مُؤْمِناً خَطَأً فَتَحرِيرُ رَقَبَة مُؤْمِنَة ... ) (3) .
    ثمّ يقول : ( وَ مَن يَقْتُلْ مُؤمِناً مُتَعَمِّداً فَجَزاؤهُ جَهَنَّمُ ... ) فالآية حسب السياق تختصّ بالمستحلّ الكافر ، خصوصاً بالنظر إلى قوله ( وَ مَا كَانَ لِمُؤْمِن أَنْ يَقْتُلَ مُؤمِناً ) والنفي وإن كان نفياً تشريعياً (ليس شأن المؤمن أن يقتل مؤمناً إلاّ خطأ) لاتكوينّياً(لايصدر من المؤمن قتل المؤمن) ولكّنه يصحّ أن يقع قرينة
    1 ـ النساء : 93.
    2 ـ النساء : 91.
    3 ـ السناء : 92.


(414)
على اختصاص الآية الثالثة بالكافر.
    3 ـ ( بَلَى مَن كَسَبَ سَيِّئَةً وَأَحَـطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ فأُوْلَـئِكَ أَصْحَـبُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَـلِدُونَ ) (1) .
    يلاحظ عليه : أنّ الموضوع للحكم بالخلود ليس مطلق من كسب السيّئة ، بل من اكتسب السيّئة و أحاطت به خطيئته ، والمسلم المؤمن مهما كان عاصياً لاتحيط به خطيئته ، فإنّ في قلبه نقاطاً بيضاء يشع منها إيمانه و اعتقاده بالله سبحانه و أنبيائه وكتبه.
    4 ـ ( إِنَّ الْمـُجْرِمِينَ فِي عَذَابِ جَهَنَّمَ خَـلِدُونَ * لاَ يُفَتَّرُ عَنْهُمْ وَهُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ * وَمَا ظَلَمْنَـهُمْ وَلَـكِن كَانُواْ هُمُ الظَّـلِمِينَ ) (2) . بحجّة أنّ المجرم أعم من الكافر و المؤمن الفاسق ، وقد حكم عليه على وجه الاطلاق ، بالخلود في النار.
    يلاحظ عليه : أنّ الآية واردة في حقّ الكفّار بشهادة سياقها ، قال سبحانه قبل هذه الآية : ( الَّذِينَ ءَامَنُواْ بِـَايَـتِنَا وَكَانُواْ مُسْلِمِينَ * ادْخُلُواْ الْجَنَّةَ أَنتُمْ وَأَزْوَجُكُمْ تُحْبَرُونَ ) ثم يقول ( إِنَّ الْمـُجْرِمِينَ فِي عَذَابِ جَهَنَّمَ خَـلِدُون ) فبحكم المقابلة مع قوله ( إنَّ الَّذِينَ آمَنُوا ) فالمقصود من المجرمين هو الكفّار.
    هذه هي الآيات استدلّت بها الخوارج ثمّ المعتزلة على تأبيد صاحب الكبيرة في النار.
    فلنكتف بهذا المقدار ، ومن أراد التفصيل فليرجع إلى محاضراتنا الكلاميّة (3) .
    1 ـ البقرة : 81.
    2 ـ الزخرف : 74 ـ 76.
    3 ـ محاضرات الاستاذ العلاّمة جعفر السبحاني بقلم الشيخ حسن محمد مكي : الالهيات 2 / 910 ـ 912.


(415)
المخالفون عند الخوارج :
    إنّ الخوارج يعدّون جميع المسلمين كفاراً ، لارتكابهم الكبائر و لا أقل لتصويبهم مبداً التحكيم ، و أكثرهم على أنّ الكفر كفر الملّة ، أي الخروج عن الدين إلاّ القليل منهم ، كالاباضية فإنّهم يعدّونه كفراً لنعمه مثلما مرّ في قوله سبحانه في مورد الحجّ : ( وَ مَنْ كَفَرَ فَإنَّ الله غَنِيٌّ عَنِ الْعَالمِين ) (1) .
    فإذا كانت سائر الفرق محكومة بالكفر ، فتكون دارهم دار الكفر ، لا دار الإسلام وقد أوجبت بعض الفرق منهم (كالأزارقة) لزوم الهجرة عنها ، للمعتنقين لمبادئ الخوارج. و على كلّ تقديره فهذه المسألة من شعب المسألة الثانية و هي أنّ مرتكب الكبيرة مؤمن فاسق ، أو كافر ، ولمّا ذهبت الخوارج إلى كونه كافراً فيكون جميع المسلمين المخالفين لهم في المبادئ ، كفّاراً.
    و بما أنّك عرفت أنّ مقوّم الإيمان عنصر قلبي ، فلا يضرّ ارتكاب الكبيرة بالايمان ، لا بمعنى أنّ الإيمان القلبي و إن لم يقترن بالعمل موجب للنجاة في الآخرة ، بل بمعنى أنّه يكفي في خروج الانسان من عداد الكافرين والدخول في عداد المسلمين : الإيمان القلبي بوحدانية الله سبحانه ، وكتبه ، ورسله ، ولهذا الإيمان آثار في الدنيا و الآخرة ، وكان النبي الأكرم ( صلّى الله عليه وآله وسلم ) يكتفي بالحكم في ايمان الرجل باظهار الشهادتين و هناك روايات متواترة بل متضافرة تدل على ذلك.
    قال رسول الله ( صلّى الله عليه وآله وسلم ) لعلي ( عليه السَّلام ) : « قاتل أهل خيبر حتى يشهدوا أن لا إله إلاّ الله وأنّ محمّداً رسول الله فإذا فعلوا ذلك ، فقد منعوا منك دماءهم و أموالهم ، إلاّ بحقّها و حسابهم على الله » (2) .
    1 ـ آل عمران : 97.
    2 ـ مسلم : الصحيح 7 / 121 ، ابن عساكر : ترجمة الإمام علي 1 / 159 ح 222 ، النسائي : خصائص أمير المؤمنين : 57.


(416)
    روى الشافعي في كتاب الأم عن ابي هريرة : أن رسول الله قال : « لا أزال اُقاتل الناس حتى يقولوا : لا إله إلاّ الله ، فإذا قالوا : لا إله إلاّ الله فقد عصموا منّي دماءهم و أموالهم إلاّ بحقّها و حسابهم على الله ».
    ثم قال : فأعلم رسول الله انّ فرض الله أن يقاتلهم حتى يظهروا أن لا إله إلاّ الله ، فاذا فعلوا منعوا دماءهم وأموالهم إلاّ بحقّها يعني بما يحكم الله عليهم فيها ، و حسابهم على الله بصدقهم و كذبهم و سرائرهم ، الله العالم بسرائرهم ، المتولّي الحكم عليهم ، دون أنبيائه و حكّام خلقه ، وبذلك مضت أحكام رسول الله فيما بين العباد من الحدود و جميع الحقوق ، و أعلمهم أنّ جميع أحكامه على ما يظهرون ، وأنّ الله يدين بالسرائر (1) .
    نعم ورد في بعض الروايات ، اقامة الصلاة و ايتاء الزكاة والحجّ و صوم رمضان : روى البخاري عن عبد الله بن عمر : قال رسول الله ( صلّى الله عليه وآله وسلم ) : « بني الإسلام على خمس ، شهادة أن لا إله إلاّ الله ، و أنّ محمّداً رسول الله واقام الصلاة ، و ايتاء الزكاة ، والحجّ ، و صوم رمضان » (2) ولكنّها من مظاهر العلم بالإيمان لامن مقوّماته لأنّ إيمان الانسان يتوقّف على مظهر له في حياته ، و الواجبات الواردة فيها مظاهر لهذا الإيمان.

الإيمان يزيد و ينقص :
    ثم إنّه مع القول بأنّ العنصر المقوّم للايمان هو الاعتقاد القلبي ـ نقول : الإيمان يزيد و ينقص في كلا الجانبين : العقيدة ، و العمل ، أمّا من جانب العقيدة : فأين إيمان الأولياء و الأنبياء بالله و رسله من إيمان سائر الناس ، وأمّا
    1 ـ الشافعي : الأم : 6 / 4 انظر موسوعة الإمام الشافعي : 7 / 241.
    2 ـ البخاري : الصحيح 1 ، كتاب الإيمان : 9.


(417)
من جانب العمل ، فأين إيمان من لايعصي الله سبحانه طرفة عين بل لايخطر بباله العصيان ، من المؤمن التارك للفرائض والمرتكب للكبائر.
    نعم لاننكر انّه ربّما يؤدّي ترك الفرائض ، و ركوب المعاصي ، مدّة طويلة إلى الالحاد و الانكار و التكذيب و الجحد قال سبحانه : ( ثُمَّ كَانَ عَـقِبَةَ الَّذِينَ أَسَـئُواْ السُّوأَى أَن كَذَّبُواْ بِئَايَـتِ اللهِ وَكَانُواْ بِهَا يَسْتَهْزِءُونَ ) (1) .
    إنّ وزان « العقيدة و العمل الصالح » وزان الجذور و السيقان في الشجرة فكما أنّ تقوية الجذور مؤثّرة في قوّة السيقان ، و كمال الشجرة وجود ثمرتها ، فكذلك تهذيب السيقان و رعايتها بقطع الزوائد عنها و تشذيبها ، و تعرّضها لنور الشمس ، مؤثّرة في قوّة الجذور ، إنّها علاقة تبادليّة بين العمل و العقيدة كالعلاقة التبادليّة بين الجذور و السيقان.
    أجل ذلك هو الحال بالنسبة إلى تأثير الإيمان في العمل ، و هكذا الحال بالنسبة إلى تأثير العمل في الاعتقاد ، فإنّ الّذي ينطلق في ميدان الشهوة بلاقيد ، ويمضي في اشباع غرائزه إلى أبعد الحدود ، يستحيل عليه أن يبقى محافظاً على أفكاره و اعتقاداته الدينية و قيمه الروحية.
    إنّه كلّما ازداد توغّلاً في المفاسد ازداد بعداً عن قيم الدين لأنّها تمنعه عن المضي في سبيله و التمادي في عصيانه ، و هكذا يتحرّر عن تلك المعتقدات شيئاً فشيئاً و ينسلخ منها و ينبذها وراءه ظهرياً.
    و قد أشارت الآية الكريمة إلى هذه الحقيقة أيضاً.
    و بهذا يعتبر الفصل بين العمل ، والكفر ، بين العقيدة و السلوك ، نظرية خاطئة ناشئة من الغفلة عن التأثير المتقابل بين هذين البعدين.
    1 ـ الروم : 10.

(418)
    ولهذا يسعى المستعمرون دائماً إلى افساد الأجواء الاجتماعية بهدف افساد الأخلاق والسلوك تمهيداً لتغيير الأفكار والقضاء على المعتقدات (1) .
    1 ـ محاضرات الاستاذ جعفر السبحاني بقلم جعفر الهادي : الله خالق الكون 636 ـ 637.

(419)
3 ـ في الخروج على الحاكم الجائر
    اتّفقت الخروج على لزوم الخوارج على الحاكم الجائر ، و جعلوه فرعاً من الأمر بالمعروف والنهيّ عن المنكر ، بشرط القدرة و المنعة عليه ، و يظهر ذلك من خطبهم و رسائلهم أوان قيامهم ، و هذا عبد الله بن وهب الراسبي عندما غارد مع جماعته الحروريّة ، متواجّهاً إلى النهروان ، خطب قومه و قال « أمّا بعد فوالله ما ينبغي لقوم يؤمنون بالرحمن ، و ينيبون إلى حكم القرآن ، أن تكون هذه الدنيا ـ الّتي الرضا بها و الركون إليها و الإيثار إيّاها عناء وتبارـ آثر عندهم من الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر ، والقول بالحقّ ، إلى أن قال : فاخرجوا بنا اخواننا من هذه القرية الظالم أهلها إلى بعض كور الجبال أو إلى بعض هذه المدائن منكِرين لهذه البدع ».
    و قال حرقوص بن زهير : « إنّ المتاع بهذه الدنيا قليل ، و إنّ الفراق لها وشيك ، فلا تدعونّكم زينتها و بهجتها إلى المقام بها ، و لا تُلفتنكم عن طلب


(420)
الحق وإنكار الظلم ، فإنّ الله مع الَّذين اتّقَوْا و الّذين هم محسنون » (1) .
    و هذا نافع بن الأزرق يقول لأصحابه عند خروجه : « إنّ الله قد أكرمكم بمخرجكم ، بصّركم عمّا عمي عنه غيركم ، ألستم تعلمون أنّما خرجتم تطلبون شريعته و أمره ، فأمره لكم قائد ، والكتاب لكم إمام ، و إنّما تتبعون سننه و أثره ... » (2) . إلى غير ذلك من كتب القوم و رسائلهم و خطبهم الّتي يرون فيها الخروج على الإمام غير العادل واجباً.
    أقول : الكلام في الإمام الجائر يقع في مقامين :
    الأوّل : في لزوم إطاعته و عدمه.
    الثاني : في وجوب الخروج عليه وعدمه.
    أمّا الأول : لاشكّ أنّ إطاعة الإمام العادل من صميم الدين فلا يشكّ في وجوب إطاعته اثنان ، إنّما الكلام في إطاعة الحاكم الجائر ، فقد ذهب أهل السنّة إلى وجوب طاعته مطلقاً سواء أمر بالمعروف أو أمر بالمنكر ، أو في خصوص ما لم يأمر بالمعصية ، ولكلٍّ من القولين قائل ونذكر بعض كلماتهم في المقام :
    1 ـ قال أحمد بن حنبل في رسالة ألّفها لبيان عقائد أهل السنة : « السمع والطاعة للأئمّة وأمير المؤمنين البرّ والفاجر ، ومَنْ ولي الخلافة ، فأجمع الناس و رضوا به ، و من غلبهم بالسيف ، ويُسمّى أمير المؤمنين » (3) .
    2 ـ و قال الشيخ أبو جعفر الطحاوي الحنفي (م ـ 321) في رسالته المسمّاة بيان السنّة و الجماعة ، المشهورة بالعقيدة الطحاوية : « و نرى الصلاة
    1 ـ الطبري : التاريخ 4 / 54 ـ 55.
    2 ـ الطبري : التاريخ 4 / 439.
    3 ـ أبو زهرة : تاريخ المذاهب الإسلامية 2 / 322 نقلاً عن إحدى رسائل إمام الحنابلة ، و كلامه مطلق يعم ما إذا أمر بالطاعة أو بالمعصية.
بحوث في الملل والنحل ـ جلد الخامس ::: فهرس