المتعة ::: 46 ـ 56
(46)
    لكن المشكلة هي أنّ المفترين على علي لمّا تعدّدوا ، تعدّد الوضع عليه والافتراء ، فجاء أحدهم فنقل عن علي أنّ التحريم من رسول الله ، وكان في الموطن الكذائي ، وجاء الاخر ـ وهو جاهل بتلك الفرية ـ وافترى عليه أنّ رسول الله حرّم في موطن آخر ، وجاء ثالث وهو لا يعلم بأنّ قبله من افترى على علي في موطنين ، فوضع موطناً ثالثاً ، وهكذا عادت المشكلة وتعدّدت الروايات ، فمتى حرّم رسول الله المتعة ؟ عادت المشكلة من جديد ، عندما يتعدّد المفترون ، وكلٌّ لا علم له باختلاق غيره ، حينئذ يتعدّد الاختلاق ، وإذا تعدّد الاختلاق حصل الاختلاف ، حتّى لو كانت الاحاديث موجودة في الصحيحين ، إذ الخبران حينئذ يتعارضان ، لانّ التحريم من رسول الله واحد.
    فمنهم من ينقل عن علي أنّ رسول ألله حرّم المتعة في تبوك ، ومنهم من ينقل عن علي أنّ رسول الله حرّم المتعة في حنين ، ومنهم من ينقل عن علي عن رسول الله أنّه حرّم المتعة في خيبر ، عادت المشكلة من جديد ، وقد أرادوا أن يجعلوا عليّاً موافقاً لعمر في التحريم ، فتورّطوا من جديد !!
    لاحظوا الاسانيد بدقّة ، فالسند واحد ، السند الذي يقول عن علي التحريم في تبوك هو نفس السند الذي يقول عنه أنّ التحريم


(47)
في خيبر ، وهو نفس السند الذي يقول أنّ التحريم في حنين ، فلاحظوا كيف يكون !!.
    الحديث الاول :
     قال النووي : وذكر غير مسلم عن علي أنّ النبي نهى عنها في غزوة تبوك ، من رواية إسحاق بن راشد عن الزهري عن عبدالله بن محمّد بن علي عن أبيه عن علي : أنّ رسول الله حرّم المتعة في تبوك.
    إذن ، الراوي من ؟ الزهري ، عن عبد الله بن محمّد بن الحنفيّة ، عن أبيه محمد بن الحنفية ، عن علي : إنّ رسول الله حرّم المتعة في تبوك (1).
    الحديث الثاني :
    أخرج النسائي : أخبرنا عمرو بن علي ومحمّد بن بشّار ومحمّد بن المثنّى ثلاثتهم قالوا : أنبأنا عبدالوهّاب قال : سمعت يحيى بن سعيد يقول : أخبرني مالك بن أنس ، أنّ ابن شهاب ـ أي الزهري ـ أخبره أنّ عبدالله والحسن ابني محمّد بن علي أخبراه ، أنّ أباهما محمّد بن علي بن الحنفيّة أخبرهما أنّ علي بن أبي طالب قال : نهى رسول الله يوم خيبر عن متعة النساء ، قال ابن المثنّى [ هذا
1 ـ المنهاج في شرح صحيح مسلم 6/119 هامش القسطلاني.

(48)
أحد الثلاثة الذين روى عنهم النسائي ، لانّه قال عمرو بن علي ومحمّد بن بشّار ومحمّد بن المثنّى ثلاثتهم ] قال ابن المثنّى : حنين بدل خيبر.
    نفس السند ابن المثنّى يقول : حنين ، قال : هكذا حدّثنا عبدالوهّاب من كتابه.
    ففي سند واحد ابن المثنّى يقول : حنين ، الاخران يقولان خيبر ، في سند واحد ، والسند ينتهي إلى الزهري ، الزهري عن ابني محمّد بن الحنفيّة ، ومحمّد عن أبيه علي عن رسول الله (1).
    وأمّا أخبار خيبر ، ففي الصحيحين ، أخرج البخاري : حدّثنا مالك بن إسماعيل ، حدّثنا ابن عُيينة : إنّه سمع الزهري يقول : أخبرني الحسن بن محمّد بن علي وأخوه عبدالله ، عن أبيهما : إنّ عليّاً قال لابن عباس.
    لاحظوا أيضاً قول علي لابن عباس ، هذه عبارة علي يخاطب ابن عباس ، لانّ ابن عباس إلى آخر لحظة من حياته كان يقول بحليّة المتعة ، هذا ثابت ، وعلي كان من القائلين بالحرمة كما يزعمون.
1 ـ سنن النسائي 6/126.

(49)
    فقال لابن عباس : إنّ النبي نهى عن المتعة وعن لحوم الحمر الاهليّة زمن خيبر (1).
    وأخرج مسلم : حدّثنا يحيى بن يحيى قال : قرأت على مالك على ابن شهاب [ عاد إلى الزهري ] عن عبدالله والحسن ابني محمّد ابن علي ، عن أبيهما ، عن علي بن أبي طالب : أنّ رسول الله نهى عن متعة النساء يوم خيبر وعن أكل اللحوم الحمر الانسيّة.
    هنا لايوجد خطاب لابن عباس ، فلاحظوا بقيّة الاحاديث :
    وحدّثناه عبدالله بن محمّد بن أسماء الربيعي ، حدّثنا الجويرية ، عن مالك بهذا الاسناد [ نفس السند ] وقال : سمع علي بن أبي طالب يقول لفلان [ لا يوجد اسم ابن عباس ] : إنّك رجل تائه ، نهانا رسول الله عن متعة النساء يوم خيبر.
    لاحظتم الفرق بين العبارات.
    حديث آخر : حدّثنا أبوبكر ابن أبي شيبة وابن نمير وزهير بن حرب ، جميعاً عن ابن عيينة. قال زهير : حدّثنا سفيان بن عيينة ، عن الزهري ، عن الحسن بن عبدالله بن محمّد بن علي ، عن أبيهما ، عن علي : إنّ رسول الله نهى عن نكاح المتعة يوم خيبر وعن لحوم
1 ـ فتح الباري في شرح صحيح البخاري 9/136.

(50)
الحمر الاهليّة.
    هنا أيضاً لا يتعرض إلى ذكر ابن عباس.
    وحدّثنا محمّد بن عبدالله بن نمير ، حدّثنا أبي حدّثنا عبيدالله ، عن ابن شهاب ، عن الحسن وعبدالله ابني محمّد بن علي ، عن أبيهما ، عن علي : إنّه سمع ابن عباس يليّن في متعة النساء فقال : مهلاً يابن عباس [ في هذا اللفظ مهلاً يابن عباس ، كان هناك : إنّك رجل تائه ، في لفظ آخر : قال لفلان ] : مهلاً يابن عباس ، فإنّ رسول الله نهى عنها يوم خيبر وعن لحوم الحمر الانسيّة.
    وأيضاً حديث آخر : حدّثني أبوالطاهر وحرملة بن يحيى قالا : أخبرنا ابن وهب ، أخبرني يونس ، عن ابن شهاب ، عن الحسن وعبدالله ابني محمّد بن علي بن أبي طالب ، عن أبيهما : إنّه سمع علي بن أبي طالب يقول لابن عباس : يابن عباس نهى رسول الله عن متعة النساء يوم خيبر وعن أكل لحوم الحمر الانسيّة (1).
    إذن ، لاحظتم أنّهم يروون عن علي بسند واحد أنّ رسول الله حرّم المتعة ، تارة ينقلون حرّمها في خيبر ، وتارة في تبوك ، وتارة في حنين ، وهذه الاحاديث وهي بسند واحد ، أليست تتعارض
1 ـ صحيح مسلم بشرح النووي ، هامش القسطلاني 6/129 ، 130.

(51)
ويكذّب بعضها بعضاً ؟ وقد وجدتم الخبر عند النسائي بسند واحد وفيه خيبر وحنين ، كلاهما بسند واحد !
    حديث التحريم في تبوك ، نصّ الحافظ ابن حجر بأنّه خطأ.
    هذا واحد.
    وحديث التحريم في خيبر خطّأه كبار الائمّة وكذّبه أعلام الحديث والرجال والسير ، لاحظوا السهيلي يقول : هذا غلط هذا كذب.
    فابن عبد البر ، والبيهقي ، وإبن حجر العسقلاني ، والقسطلاني صاحب إرشاد الساري ، والعيني صاحب عمدة القاري ، وابن كثير في تاريخه ، وإبن القيّم كلّهم قالوا : هذا غلط وخطأ (1) ، بل قالوا : النهي عن نكاح المتعة يوم خيبر شيء لا يعرفه أحد من أهل السير ورواة الاثر.
    إذن ، فماذا يبقى ؟ وما الفائدة من الافتراء على علي ، وبقي عمر في تحريم المتعة وحده.
    وهذه الاحاديث كلّها ـ كما قرأنا ـ تنصّ على أنّ عبدالله بن عباس كان يقول بالحليّة ، وهناك أحاديث أُخرى أيضاً لم أقرأها ،
1 ـ فتح الباري 9 : 138 ، عمدة القاري 17 : 246 ، ارشاد الساري 6 : 536 و 8 : 41 ، زاد المعاد 2 : 184 ، البداية والنهاية 4 : 193.

(52)
وعلي قال له : إنّك رجل تائه ، لانّه كان يقول بالحليّة.
    فإذن ، يكون ابن عباس مخالفاً لعمر ، وماذا فعلوا ؟ لابد من الافتراء على ابن عباس أيضاً ، فرووا أنّ ابن عباس رجع عن القول بالحلّيّة ...
    يقول ابن حجر في فتح الباري : كلّ أسانيد رجوع عبدالله بن عباس ضعيفة.
    ينصّ الحافظ ابن حجر وينصّ ابن كثير على أنّ ابن عباس بالرغم من أنّه خاطبه عليّ بأنّك رجل تائه ، وقال له : مهلاً يابن عباس ... وإلى آخره ، لم يرجع عن القول بالحليّة إلى آخر حياته ، فوضعوا على لسانه أحاديث بأنّه رجع ، وابن حجر يقول : هذه الاحاديث كلّها ضعيفة سنداً ، وابن كثير أيضاً يكذّب الرجوع (1).
    وبقي عمر وحده ، ولم يتمكّن أولياؤه من توجيه تحريم عمر وتبرير مقولته ، وماذا نفعل ؟ وما ذنبنا ؟ أرأيتم إنّنا نقلنا شيئاً عن أصحابنا ؟ أوجدتم رواية ذكرناها عن طرقنا ؟ وهل اعتمدنا في هذا البحث على كتاب من كتبنا ؟
    أليس الحقّ ـ إذن ـ مع علمائنا ؟
1 ـ فتح الباري في شرح صحيح البخاري 9 / 139 ، البداية والنهاية 4 / 193.

(53)
    وتبقى هنا نقاط أذكرها لكم :
    النقطة الاُولى :
    إنّ مدار هذه الاحاديث كما قرأناها على الزهري ، والزهري من أشهر المنحرفين عن علي ( عليه السلام ) ، وكان صاحب شرطة بني أُميّة ، مع أنّه فقيه كبير ، وكان من المقرّبين للبلاط ، وقد اتخذوا منه جسراً يعبرون عليه إلى مقاصدهم ، حتّى أنّ الامام زين العابدين ( عليه السلام ) كتب إليه كتاباً وعظه فيه ونصحه ووبّخه ولم يؤثر فيه ، والكتاب موجود حتّى في الكتب الاخلاقيّة الوعظيّة العرفانيّة مثل إحياء علوم الدين (1) ، وهو أيضاً موجود في أحد كتبنا ، عثرت عليه في كتاب
1 ـ إحياء علوم الدين 2 / 143.

(54)
تحف العقول لابن شعبة الحرّاني (1).
    هذا الرجل هذا شأنه ، والاسانيد كلّها تنتهي إليه ، والعجيب أنّه عندما يضع ، يضع الشيء على لسان أهل البيت وذريّة الائمّة الطاهرين ، وقد قرأنا في بعض البحوث السابقة حديثاً في أنّ أبابكر وعمر صلّيا على فاطمة الزهراء ، وهم يروون هذا الحديث عن الزهري عن أحد الائمّة ( عليهم السلام ) وأولادهم ، وهذا فعلهم متى ما أرادوا أن يضعوا مثل هذه الاحاديث يحاولون أن يضعوها على لسان بعض أهل البيت أو أبنائهم.
    النقطة الثانية :
    ذكروا أنّ عبدالملك بن عبدالعزيز بن جريج ، هذا الفقيه الكبير ، المتوفى سنة 149هـ ، وهو من كبار التابعين ، ومن أئمّة الفقه والحديث ، ومن رجال الصحاح الستة ، هذا الرجل تزوّج بأكثر من تسعين إمرأة متعة ، وقد أوصى إلى أبنائه وحذّرهم من أن يتزوّجوا بشيء من هذه النساء لانّهنّ زوجات والدهم ، وهذا من كبار التابعين في القرن الثاني ، لاحظوا سير أعلام النبلاء (2) وغير
1 ـ تحف العقول عن آل الرسول : 198.
2 ـ سير أعلام النبلاء 6/333.


(55)
هذا الكتاب من المصادر بترجمة ابن جريج المكّي.
    النقطة الثالثة :
    ذكر الراغب الاصفهاني في كتاب المحاضرات : قال يحيى بن أكثم لشيخ بالبصرة : بمن اقتديت في جواز المتعة ؟ قال : بعمر بن الخطاب ، فقال : كيف هذا وعمر كان أشد الناس فيها ؟ قال : لانّ الخبر الصحيح قد أتى أنّه صعد المنبر فقال : إنّ الله ورسوله أحلاّ لكم متعتين وإنّي أُحرّمهما عليكم وأُعاقب عليهما ، فقبلنا شهادته ولم نقبل تحريمه (1).
    النقطة الرابعة :
    ذكر ابن خلّكان بترجمة يحيى بن أكثم : أنّ المأمون الخليفة العبّاسي أمير المؤمنين عندهم ، أمر بأنْ ينادى بحلّيّة المتعة ، قال : فدخل عليه محمّد بن منصور وأبو العيناء ، فوجداه يستاك ويقول وهو متغيّظ : متعتان كانتا على عهد رسول الله وعهد أبي بكر وأنا أنهى عنهما ! ومن أنت يا جُعل حتّى تنهى عمّا فعله رسول الله وأبو
1 ـ محاضرات الاُدباء 2 / 214.

(56)
بكر ! فأراد محمّد بن منصور أن يكلّمه فأومأ إليه أبو العيناء وقال : رجل يقول في عمر بن الخطّاب ما يقول ، نكلّمه نحن ؟! ودخل عليه يحيى بن أكثم فخلا به وخوّفه من الفتنة ولم يزل به حتّى صرف رأيه (1).
    وصلّى الله على محمّد وآله الطاهرين.
1 ـ وفيات الاعيان 5 / 197.
المتعة ::: فهرس