|
|||
(46)
تساهم في شفاء الافراد من الامراض ، فان الدين ، يوجب تعلم هذه العلوم ، والتقدم في تطبيقها ، وتنفيذها لمعالجة الناس. اما اذا كان هدف العلوم اضرار الناس واتلاف محاصيلهم ومصالحهم ، كنشر السموم او تلويث البيئة بحيث يشكل ضررا على الافراد ، فانه يمنع ذلك ويحرمه ، كما ورد في حديث الامام جعفر بن محمد في تحريم العلوم التطبيقية التي تؤدي الى الفساد والضرر.
وربما يستفاد من مقتضى نص قوله تعالى في خطاب النبي (ص) : ( وَقُل رَبّي زِدني عِلماً ) (1) ، زيادة على ما قيل بأمر الله النبي « ص » بعدم التعجيل بقراءة القرآن وقت نزول الوحي ، ان الاسلام لم يقيد العلم بعلوم الدين بل اطلق عبارة العلم لتشمل كل العلوم التي تنفع الانسان في حياته العملية والدينية. ومنها علوم الطب والتمريض والهندسة والفيزياء والكيمياء والفلك والتربة والجغرافية والتربية التي تساهم جميعاً في تيسير حياة الانسان. لظهور النص القرآني واطلاقه اولاً ، وللنصوص الشرعية الاُخرى التي تعضد هذا الرأي ، ثانياً. وربما نجد في حديث الامام موسى بن جعفر « ع » ( ص 464 ) ما يسند ، مع كونه مرسلاً ، الفكرة الاساسية للاسلام حول دور العقل في الحياة الاجتماعية. فلم يخلق العقل لمعرفة الصانع جل وعلى فحسب ، بل جُعل وسيلـة لتحصيل العلم الذي يؤدي الى منفعة الافراد وتسهيل امور حياتهم. ولم يقيد الشارع العلم بالعلم الديني فحسب ، بل اطلق معنى العلم ليشمل كل المنافع التي يستفيد منها الفرد في حياته الانسانية. فلم يهمل 1 ـ طه : 114. (47)
الاسلام الحث على طلب العلوم غير الدينية التي يتكامل معها المجتمع الانساني ، ويتوجه بعد سد حاجاته الاساسية الى معرفة الخالق وعبادته والتقرب اليه بشتى وسائل التقرب. فقد ورد عن الامام علي بن ابي طالب « ع » قوله : ( ان من علامة العاقل أن يكون فيه ثلاث خصال : يجيب اذا سئل ، وينطق اذا عجز القوم عن الكلام ، ويشير بالرأي الذي يكون فيه صلاح اهله ) (1). وعموم الاشارة بالرأي النافع الذي فيه صلاح القوم او الاهل ، ينطبق على كل امر فيه مصلحة انسانية ، تجريبية كانت أو اجتماعية.
1 ـ الكافي : ج 1 ص 19. (48)
ملحق : حديث الامام موسى بن جعفر (ع) في العقل والعلم
وفي حديث الامام موسى بن جعفر « ع » هذا الذي اختصرناه بما يناسب هذا الكتاب اشارة الى دور العقل والعلم في العبادة والتفكر ومنفعة الناس. يقول الامام « ع » في خطابه لهشام بن الحكم : ( ان الله تبارك وتعالى بشّر اهل العقل والفهم في كتابه فقال : ( فَبَشّر عِبادِ الَّذينَ يَستَمِعُونَ القَولَ فَيَتَّبِعُونَ اَحسَنَهُ اُولئِكَ الَّذينَ هَداهُمُ اللهُ وَاُولئِكَ هُم اُولُوا الاَلبابِ ) (1). ان الله تبارك وتعالى اكمل للناس الحجج بالعقول ، نصر النبيين بالبيان ، ودلّهم على ربوبيته بالادلة ، فقال : ( وَاِلهُكُم اِلهٌ واحِدٌ ، لا اِلهَ اِلاّ هُوَ الرَّحمنُ الرَّحيمُ. اِنَّ في خَلقِ السَّمواتِ وَالاَرضِ وَاختِلافِ الليلِ وَالنَّهارِ وَالفُلكِ التي تَجري في البَحرِ بِما يَنفَعُ النّاسَ ، وَما اَنزَلَ اللهُ مِنَ السَّماءِ مِن ماء فَاَحيا بِهِ الاَرضَ بَعدَ مَوتِها وَبَثَّ فِيها مِن كُلِّ دابَّة وَتَصريفِ الرِّياحِ وَالسَّحابِ المُسَخَّرِ بَينَ السَّماءِ وَالاَرضِ لآيات لِقَوم يَعقِلُونَ ) (2). وقد جعل الله ذلك دليلاً على معرفته بان لهم مدبّراً ، فقال : ( وَسَخَّرَ لَكُمُ الليلَ وَالنَّهارَ وَالشَّمسَ وَالقَمَرَ وَالنُّجُومُ مُسَخَّراتٌ بِأمرِهِ اِنَّ فِي ذلِكَ لآيات لِقَوم يَعقِلُونَ ) (3). وقال : ( هُوَ الَّذي خَلَقَكُم مِن تُراب ثُمَّ مِن نُطفَة ثُمَّ مِن عَلَقَة ثُمَّ يُخرِجُكُم طِفلاً ثُمَّ لِتَبلِغُوا اَشُدَّكُم ثُمَّ لِتَكُونُوا شُيُوخاً 1 ـ سورة الزمر : الآية 17 ـ 18. 2 ـ سورة البقرة : الآية 163 ـ 164. 3 ـ سورة النحل : الآية 12. (49)
وَمِنكُم مَن يُتَوَفّى مِن قَبلُ وَلِتَبلُغُوا اَجَلاً مُسَمّىً وَلَعَلَّكُم تَعقِلُون ) (1). وقال : ( وَاختِلافِ اللَّيلِ وَالنَّهارِ وَما اَنزَلَ اللهُ مِنَ السَّماءِ مِن رِزق فَاَحيا بِهِ الاَرضَ بَعدَ مَوتِها وَتَصريفِ الرِّياحِ آياتٌ لِقَوم يَعقِلُونَ ) (2). وقال : ( يُحيي الاَرضَ بَعدَ مَوتِها ، قَد بَيَّنا لَكُم الآياتِ لَعَلَّكُم تَعقِلُونَ ) (3). وقال : ( وَجَنّاتٌ مِن اَعناب وَزَرعٌ ، وَنَخيلٌ ، صِنوانٌ وَغَيرُ صِنوان يُسقى بِماء واحِد وَنُفَضِّلُ بَعضَها عَلى بَعض في الاُكُلِ اِنَّ فِي ذلِكَ لآيات لِقَوم يَعقِلُونَ ) (4). وقال : ( وَمِن آياتِهِ يرُيكُمُ البَرقَ خَوفاً وَطَمَعاً وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّماءِ ماءاً فَيُحيي بِهِ الأرضَ بَعدَ مَوتِها اِنَّ فِي ذلِكَ لآيات لِقَوم يَعقِلُونَ ) (5). وقال : ( قُل تَعالَوا اَتلُ ما حَرّمَ رَبِّكُم عَلَيكُم اَلاّ تُشرِكُوا بِهِ شَيئاً وَبِالوالِدَينِ احساناً وَلا تَقتُلُوا اَولادَكُم مِن اِملاق نَحنُ نَرزُقكُم وَاِيّاهُم وَلا تَقرَبُوا الفَواحِشَ ما ظَهَرَ مِنها وَما بَطَن وَلا تَقتُلُوا النَّفسَ التي حَرَّمَ اللهُ اِلاّ بِالحَقِّ ذلِكُم وَصّاكُم بِهِ لَعَلَّكُم تَعقِلُونَ ) (6). وقال : ( هَل لَكُم مِن ما مَلَكَت اَيمانُكُم مِن شُرَكاءَ فِيما رَزَقناكُم فَاَنتُم فيهِ سَواءُ تَخافُونَهُم كَخِيفَتِكُم اَنفُسَكُم ، كَذلِكَ نُفَصِّلُ الآياتِ لِقَوم يَعقِلُونَ ) (7).
ان العقل مع العلم فقال : ( وَتِلكَ الاَمثالُ نَضرِبُها لِلنّاسِ وَما يَعقِلُها 1 ـ سورة غافر ( المؤمن ) : الآية 67. 2 ـ سورة الجاثية : الآية 4. 3 ـ سورة الحديد : الآية 17. 4 ـ سورة الرعد : الآية 4. 5 ـ سورة الروم : الآية 24. 6 ـ سورة الانعام : الآية 151. 7 ـ سورة الروم : الآية 28. (50)
اِلاّ العالِمُونَ ) (1). ثم ذم الذين لا يعقلون فقال : ( وَاِذا قِيلَ لَهُم اتَّبِعُوا ما اَنزَلَ اللهُ قالُوا بَل نَتَّبِعُ ما اَلفَينا عَلَيهِ آباءَنا اَوَلَو كانَ آباؤُهُم لا يَعقِلُونَ شَيئاً وَلا يَهتَدُونَ ) (2). وقال : ( وَمَثَلُ الَّذينَ كَفَرُوا كَمَثَل الَّذي يَنعَقُ بِما لا يَسمَعُ اِلاّ دُعاءً وَنِداءً صُمٌّ بُكمٌ عُميٌ فَهُم لا يَعقِلُونَ ) (3). وقال : ( وَمِنهُم مَن يَستَمِعُونَ اِلَيكَ اَفَأنتَ تُسمِعُ الصُمَّ وَلَو كانُوا لا يَعقِلُونَ ) (4). وقال : ( اَم تَحسَبُ اَنَّ اَكثَرهُم يَسمَعُونَ اَو يَعقِلُونَ اِن هُم اِلاّ كَالاَنعامِ بَل هُم اَضَلُّ سَبيلا ) (5). وقال : ( لا يُقاتِلُونَكُم جَمِيعاً اِلاّ فِي قُرىً مُحَصَّنَة اَو مِن وَراءِ جُدُر بَأسُهُم بَينَهُم شَديدٌ تَحسَبُهُم جَميعاً وَقُلُوبُهُم شَتّى ذلِكَ بِاَنَّهُم قَومٌ لا يَعقِلُونَ ) (6). وقال : ( وَتَنسَونَ اَنفُسَكُم وَاَنتُم تَتلُونَ الكِتابَ اَفَلا تَعقِلُونَ ) (7).
ثم ذكر اولي الالباب باحسن الذكر ، وحلاّهم باحسن الحلية ، فقال : ( يُؤتي الحِكمَةَ مَن يَشاءُ وَمَن يُؤتَ الحِكمَةَ فَقَد اُوتِيَ خَيراً كَثيراً وَما يَذَّكَّرُ اِلاّ اُولُوا الاَلبابِ ) (8). وقال : ( وَالرّاسِخُونَ فِي العِلمِ يَقُولُونَ آمَنّا بِهِ كُلٌ مِن عِندِ رَبّنا وَما يَذَّكَّرُ اِلاّ اُولُوا الاَلبابِ ) (9). وقال : ( اِنَّ فِي خَلقِ 1 ـ سورة العنكبوت : الآية 43. 2 ـ سورة البقرة : الآية 170. 3 ـ سورة البقرة : الآية 171. 4 ـ سورة يونس : الآية 42. 5 ـ سورة الفرقان : الآية 44. 6 ـ سورة الحشر : الآية 14. 7 ـ سورة البقرة : الآية 44. 8 ـ سورة البقرة : الآية 269. 9 ـ سورة آل عمران : الآية 7. (51)
السَّمواتِ والاَرْضِ واختِلافِ الليلِ والنَّهارِ لآيات لاوُلي الالبابِ ) (1).
وقال : ( اَفَمَنْ يَعلَمُ اَنَّما اُنزِلَ اِلَيكَ مِن رَبِّكَ الحَقُّ كَمَن هُوَ اَعمى اِنَّما يَتَذَكَّرُ اُولُوا الاَلبابِ ) (2). وقال : ( اَمَّن هُوَ قانِتٌ : ناءَ اللَّيلِ ساجِداً وَقائِماً يَحذَرُ الآخِرَةِ وَيَرجُوا رَحمَةَ رَبِّهِ قُل هَل يَستَوي الَّذينَ يَعلَمُونَ وَالَّذينَ لا يَعلَمُونَ اِنَّما يَتَذَكَّرُ اُولُوا الاَلبابِ ) (3). وقال : ( كِتابٌ اَنزَلناهُ اِلَيكَ مُبارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آياتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ اُولُوا الاَلبابِ ) (4). وقال : ( وَلَقَد آتَينا مُوسى الهُدى وَاَورَثنا بَني اِسرائيلَ الكِتابَ هُدىً وَذِكرى لاُولِي الاَلبابِ ) (5). وقال : ( وَذَكِّر فَاِنَّ الذِكرى تَنفَعُ المُؤمِنينَ ) (6). ان الله تعالى يقول في كتابه : ( اِنَّ في ذلِكَ لَذِكرى لِمَن كانَ لَهُ قَلبٌ ) (7) ، يعني : عقل ، وقال : ( وَلَقَد آتَينا لُقمانَ الحِكمَةَ ) (8) ، قال : الفهم والعقل. ان لقمان قال لابنه : « تواضع للحق تكن اعقل الناس ، وان الكيّس لدى الحق يسير ، يا بني ان الدنيا بحر عميق ، وقد غرق فيها عالم كثير فلتكن سفينتك فيها تقوى الله ، وحشوها الايمان وشراعها التوكل ، وقيّمها العقل ، ودليلها العلم ، وسكانها الصبر ». ان لكل شيء دليلاً ودليل العقل التفكر ، ودليل التفكر الصمت. ان 1 ـ سورة آل عمران : الآية 190. 2 ـ سورة الرعد : الآية 19. 3 ـ سورة الزمر : الآية 9. 4 ـ سورة ص : الآية 29. 5 ـ سورة المؤمن : الآية 53ـ 54. 6 ـ سورة الذاريات : الآية 55. 7 ـ سورة ق : الآية 37. 8 ـ سورة لقمان : الآية 12. (52)
للّه على الناس حجتين : حجة ظاهرة وحجة باطنة ، فامّا الظاهرة فالرسل والانبياء والائمة (ع) ، واما الباطنة فالعقول.
كان اميرالمؤمنين (ع) يقول : ما عبد الله بشيء افضل من العقل ، وما تم عقل امرىء حتى يكون فيه خصال شتى : الكفر والشر منه مأمونان ، والرشد والخير فيه مأمولان ، وفضل ماله مبذول ، وفضل قوله مكفوف ، ونصيبه من الدنيا القوت ، لا يشبع من العلم دهره ، الذل احب اليه مع الله من العز مع غيره ) (1). 1 ـ الكافي : ج 1 ص 13 (53)
نظرية التعليم في الاسلام
ويختصر الاسلام نظريته في التعليم باول كلمة وحي من الباري عز وجل نزلت على صدر الرسول العظيم محمد (ص) ، وهي كلمة : ( اقرأ .. ). ومع ان هذه الجملة في الآية الكريمة تفيد خصوص القراءة للرسول (ص) الاّ ان مقتضاها اكبر من ذلك. فتوجيه صيغة الامر بالقراءة يساعد المكلفين على فهم الاحكام الشرعية وتطبيقها ، ويساعدهم ايضاً على قراءة القرآن والتفكر في آياته العظيمة ، وعلى تنشيط عقولهم لتطوير الحياة الانسانية في مختلف مجالاتها الاقتصادية والاجتماعية. وفي الحديث التالي المروي عن الامام علي بن ابي طالب (ع) دلالة على ان طلب العلم والتفقه يشمل المسلمين عموماً ولا يخص فئة دون اخرى ، حيث يقول (ع) : ( ايها الناس اعلموا ان كمال الدين طلب العلم والعمل به ، وان طلب العلم اوجب عليكم من طلب المال. ان المال مقسوم بينكم مضمون لكم ، قد قسّمه عادل بينكم وضمنه ، سيفي لكم به ، والعلم مخزون عليكم عند اهله قد أمرتم بطلبه منهم فاطلبوه ، واعلموا ان كثرة المال مفسدة للدين مقساة للقلوب وان كثرة العلم والعمل به مصلحة للدين سبب الى الجنة ، والنفقات تنقص المال ، والعلم يزكو على انفاقه ) (1). فكمال الدين اذن ، حسب الرواية ، والسمو في فهم الاحكام الشرعية وعللها ، لا يتم الاّ عن طريق طلب العلم والاجتهاد في تحصيله. وبذلك فان الاسلام وضع العلم على سلم الحاجات البشرية 1 ـ الكافي ج 1 ص 35. (54)
التي ينبغي اشباعها.
وليس هناك ادنى شك من أن الاعمال التي يقوم بها الفرد في حياته العملية تحتاج الى كمية من العلوم ، تقدرها المصلحة الاجتماعية. فالطب وتخطيط المدن وجمع الحطب مثلاً تحتاج الى علوم تتناول تلك الاختصاصات. فعلم التشريح والعقاقير والكيمياء يطور علم الطب ، ودراسة القياسات ومعرفة علم المساحة وتربة الارض ومواد البناء يساعد في علم تخطيط المدن ، ودراسة الاشجار واخشابها وطريقة قطعها واسلوب نقلها يساعد الافراد المهتمين بعملية جمع الحطب واستخدامه في عملية توليد الطاقة. وفي كل تلك الامثلة يكون العلم الاختصاصي هو المحور والمدار في تطوير المهنة التي يقوم بها العامل المختص. وبطبيعة الحال ، فان الاختصاص ، ليس القطب الوحيد الذي يعرضه الاسلام ضمن اهتمامه بالعلوم التطبيقية ، بل يطرح فكرة التسخير ايضاً ، باعتبارها منهجاً عملياً للتفاعل الاجتماعي. فجوهر فكرة التسخير يقول بان الافراد مسخرون بالاصل لخدمة بعضهم البعض ، فقد ورد قوله تعالى بهذا الخصوص : ( وَرَفَعنا بَعضَهُم فَوقَ بَعض دَرَجات لِيَتَّخِذَ بَعضُهُم بَعضاً سِخرِيّا ) (1). وهي اشارة الى ان النظام الاجتماعي لا يحيى الاّ عن طريق تسخير جهود الافراد الشخصية لخدمة بعضهم البعض في شتى المجالات الحياتية الضرورية للبقاء البشري على الارض. حيث تقوم العلوم التخصصية في عملية التسخير بدورالعامل المساعد في تطوير تلك العملية وتسهيلها خدمة للنظام الاجتماعي العام وافراده. ولم تتوقف فكرة التسخير على 1 ـ الزخرف : 32. (55)
الاعمال اليدوية والاعمال القائمة على الجهد الانساني العضلي ، بل تتعدى الى الجهد العلمي والفكري الذي يقوم به الانسان. ومن ذلك ، الجهد العلمي الذي يؤديالى الاجتهاد في علوم الدين ، وبالخصوص الفقه والاصول. وعملية الاجتهاد هذه ، تعتبر جزءاً من نظرية التسخير ، فاجتهاد المجتهد وعلمه ينبغي ان يسخر كلياً لخدمة الامة ، بالتوافق مع حاجاتها وبالتناسب مع طموحاتها في انشاء نظام اجتماعي سياسي ديني متكامل.
ولكن الحركة الاجتهادية في الفقه والاصول قاست في العصور الاسلامية الاولى انعزالاً سياسياً ادى الى تحديد الهدف الاجتماعي من التعليم. فبدلاً من تعميم مفهوم التعليم وجعله حقاً لكل فرد سعت السلطات السياسية الحاكمة الى الحفاظ على مستوى من الجهل والتخلف الفكري السائد بين الافراد انذاك ، لان السلطات كانت تشعر ان نشر العلم بين افراد الامة سيؤدي الى هزم الكيان السياسي الظالم وتقويض اركانه. وكان من نتائج هذا الانعزال تقلص النظرية الاجتماعية للفقه الاسلامي ، وظهور الاتجاه الفقهي الذي يهتم بشؤون الفرد اكثر من اهتمامه بشؤون الامة. وانصب اهتمام الفقهاء بالحث على تحصيل العلوم الدينية المتمثلة بالفقه والاصول وعلوم الحديث واللغة والمنطق بالقلة المختارة من الافراد ، بينما اهمل تعليم الافراد عموماً ، بل ان الامة الاسلامية باتت على قسمين ، القسم الاول والاكبر سماهم الفقهاء بـ « العوام من الناس » وهم الذين لا يقرأون ، والثاني : وهم الطلبة والعلماء. وهذه التسمية في حد ذاتها تعطي انطباعاً ظاهرياً بان العلم في الاسلام انما وجد للخاصة فحسب ، وبقية الناس ينطبق عليهم اصطلاح العوام. وكأن التكليف الشرعي لا يحث المكلف على طلب (56)
العلم والتحصيل! ولا نشك ان اللوم في هذا الفكر المتخلف يقع كلياً على السلطات السياسية المنحرفة التي حكمت الامة الاسلامية قروناً عديدة ، فسلبت من ايدي الفقهاء العدول كل ادوات السلطة التنفيذية ، وارادت للامة الاسلامية بجميع افرادها التخلف عن ركب العلم والحضارة ، حتى يتم لتلك الفئة المنحرفة السيطرة على مقدرات النظام الاجتماعي بشكل تام. ولا يحمل اصطلاح الفقهاء هذا غير معنى الاختصاص ، فسُمّي الفقهاء « علماءاً » لاختصاصهم بعلمي الفقه والاصول ، وسمي غيرهم « عواماً » لجهلهم علمي الفقه والاصول. ويكفينا ، لفهم موقف الاسلام من العلم وضرورة التعليم الجماعي للمسلمين ، ان نتذكر ما حصل في معركة بدر المظفرة من امر الرسول (ص) باطلاق سراح اسرى المشركين ، شرط أن يعلّم الاسير الواحد منهم عشرة مسلمين القراءة والكتابة.
ولا ريب ان التأكيد على التعليم الجماعي كان قد ورد في احاديث اهل البيت (ع) في القرن الاول الهجري. فالامام علي بن الحسين في رسالته الحقوقية يدعو بصراحة الى منح الافراد حق التعليم ، ويعلق هذا الحق بواجبات السلطة السياسية التي من مسؤوليتها بناء النظام الاجتماعي ، ويقول (ع) : ( واما حق رعيتك بالعلم ، فان تعلم ان الله قد جعلك لهم قيماً اتاك من العلم وولاك من خزانة الحكمة .. فان احسنت في تعليم الناس ولم تخرق بهم ولم تضجر عليهم زادك الله من فضله ، وان كنت منعت الناس علمك او خرقت بهم عند طلبهم العلم منك كان حقاً على الله عز وجل ان يسلبك العلم وبهاءه ويسقط من القلوب محلك ) (1). ولكن تحديد المسار 1 ـ الخصال : ج 2 ص 567. (57)
التعليمي الذي تنتهجه الدولة لابد وان يكون مرتبطاً بخطة عامة ، يضعها متخصصون بشؤون التعليم ، تستهدف رفع المستوى الثقافي للامة الاسلامية. وهذا لايتم الا بتصميم نظام تعليمي مبني على منهج علمي يساند الدولة الاسلامية في كل توجهاتها الاقتصادية والعسكرية والاجتماعية. على ان يكون هذا النظام المدرسي قاعدة للانطلاق في شتى المجالات الحياتية المفترض ان يكون للمعلم فيها دور بنّاء. وارجو أن لا يختلط اصطلاح ( المدرسة ونظامها ) المستخدم في هذا الكتاب ، بالمدارس الدينية حسب النظام المعمول به في الحوزات العلمية. بل المقصود من المدرسة العامة ، المؤسسة العلمية التي نشأت مع ظهور الدولة الحديثة والتي تتولى تعليم الصغار ، اللغة والعقيدة والفقه والعلوم التجريبية حتى مرحلة البلوغ. والصغار هم كل افراد النظام الاجتماعي ، دون سن البلوغ ، الذين يعيشون في تلك البقعة من الارض ، ويطلق عليهم وعلى من سواهم اسم المجتمع الانساني.
ولا شك ان المدرسة في المجتمع الاسلامي تساهم في تطوير النظام الاجتماعي ، من خلال نقل المعرفة الاسلامية والانسانية الى اذهان الطلبة من الجيل القديم الى الجيل الجديد ، ونشر الفكرالذي يوحد توجهات المجتمع ، وتطوير شخصيات هؤلاء التلاميذ الذين سيحملون مشعل المسؤولية مستقبلاً ، وتأهيلهم لتحمّل التكليف الشرعي ، وتمرينهم على الاعمال التخصصية ، وتعليمهم قواعد النظام الاجتماعي التي تربط الاسرة وافرادها ، بالمسجد والمدرسة والحكومة وساحة العمل المهني. فعلى نطاق نقل المعرفة ، فان عملية التعليم لابد لها من الاستمرار (58)
عبر الاجيال المتعاقبة ، وهذا ما يميز المجتمعات الانسانية عن غيرها من التجمعات الحيوانية. ففي كل حقبة زمنية تتراكم كمية هائلة من المعلومات الاجتماعية والتجريبية ، لابد وان تنقلها ايادي الجيل القديم الى نظائرهم من الجيل الجديد. وهذا الانتقال لايساهم في بقاء الحياة الانسانية في تطور مستمر فحسب ، بل يساهم في بقاء القيم الاخلاقية حية في الضمائر مهما طال زمن انتشارها. ولا يمكن نقل هذه المعارف والافكار الانسانية الاّ عن طريق المدرسة والنظام التعليمي المعترف به اجتماعياً.
ولما كانت ارض الاسلام تجمع الاقليات العرقية المتعددة ، يصبح للمدرسة دور اعظم في توحيد توجهات افراد المجتمع وتهذيب تطلعاتهم وآمالهم في حياة اسلامية رغيدة. فلابد ان تكون اللغة العربية الفصحى ، باعتبارها لغة القرآن ، اللغة الاساسية لجميع افراد الاُمة ، كما ورد في الرواية السابقة المنقولة عن الامام الصادق (ع) ، واللغات المحلية الاُخرى لغات ثانوية تدرس جنباً الى جنب مع اللغة العربية الأم. وكل ما يدرس في المدرسة العامة في النظام الاسلامي من علوم وتاريخ ودين يساهم في توحيد الدولة من الناحية الثقافية والسياسية والاجتماعية. لان عملية انصهار هذه العلوم في اذهان التلاميذ ستخلق افراداً يملكون كل المؤهلات في بناء دولة علمية ، موحدة ، متطورة ، قائمة على اساس نظام اخلاقي وديني عظيم. واذا كان الفرد محط اهتمام الدراسات الفقهية بجانبيها العبادي والاجتماعي ، فالمدرسة العامة لا تقل شأناً من ناحية اهتمامها بالفرد منذ الطفولة ، بل ان الفقه يهتم بالمكلف فحسب ، اما المدرسة فتهتم بالطفولة وما (59)
بعد البلوغ. ولو طلب منا وضع تصور عام للنظام التعليمي في دولة اسلامية ، فان النظام التالي سيكون اقرب الافتراضات الى الواقع العملي. فالمرحلة الابتدائية والمتوسطة ، وهي دراسة تسع سنوات من السن السادسة وحتى الخامسة عشرة من العمر ، ضرورية للغاية لكل فرد من افراد المجتمع الاسلامي. ولما كانت الدولة تحاول ضمان رفاهية الافراد ، وتؤكد على حسن سلوكهم ، فانها تستطيع ان تتدخل بشكل مباشر لتطبيق برنامج التعليم الاجباري بسن القوانين المناسبة. وهذه المرحلة الابتدائية اساسية في تعليم الفرد القراءة والكتابة ومبادئ العقائد والعبادات والحساب والعلوم الحديثة والفنون. واذا ما تمت هذه المرحلة فان الطلبة سيختارون احدى ثلاث مدارس تحدد مستقبلهم وهم على ابواب البلوغ وهي المدارس الدينية ( الحوزات العلمية ) ، والمدارس المهنية ، والمدارس النظرية. فالمدارس النظرية تؤهل الطلبة دخول الجامعات العلمية ودراسة علوم الكيمياء والفيزياء والرياضيات والطب والهندسة وعلوم الاجتماع والاداب بكافة اقسامها. والمدارس المهنية تؤهل طلبتها لدخول عالم العمل المستند على الاحتراف والعلم ، فاذا كانت المدرسة المهنية اعدادية زراعية مثلاً فانها تؤهل الطالب للانطلاق في عالم الزراعة عارفاً اهمية زيادة الانتاج وطرقه ، عالماً بنوعية التربة وضرورة استخدام المواد المصنّعة في تخصيبها. واذا كانت المدرسة المهنية اعدادية صناعية مثلاً فانها تؤهل الطالب للعمل الفني باتقان وابداع. وهذه المدارس المهنية تساهم في تنمية الثروة وزيادة الانتاج ، وتكشف عن قابلية الفرد في العمل الانتاجي ، والابداع في ميادين الاختصاص ، وتقلل من نسبة البطالة بين الافراد. اما المدارس الدينية فانها
(60)
ستستقبل الطلبة الوافدين اليها على أتم وجه. فدراسة تسع سنوات في اللغة وعلومها ، والعقائد والعبادات ، والكيمياء والفيزياء والحساب ستفتح بالتأكيد ذهنية الطالب وآفاقه في التفكير ، فيدخل الطالب اليافع ، الحوزة العلمية وهو على استعداد لهضم المواد الفقهية والاصولية هضماً يساعده على ربط المسائل النظرية بالواقع العملي. فدراسة مبادئ الكيمياء والفيزياء والفلك وعلم التربة لها علاقة مباشرة بالمسائل الفقهية. فنستفيد من علم الكيمياء في مسائل طهارة الماء ، وحلية الشحوم ومواد الغسيل وتركيب الادوية ، والمواد الكيميائية الحديثة المستخدمة في صناعة الاطعمة المعلبة والمجففة. ونستفيد من علوم الطب في تشريح الجهاز البولي والتناسلي للذكر والانثى لننتفع بها في مسائل الحيض والاستحاضة والنفاس والجنابة ، وعلامات الموت عن طريق انقطاع نشاط القلب او الدماغ. ونستفيد من علم التربة وعلم النبات في معرفة الارض والنباتات التي يجوز السجود عليها مثلاً. ومن علم البيولوجي نستفيد في معرفة انواع الحيوانات المأكولة والاسماك بانواعها. وارتباط الطالب الحوزوي بالنظام الاجتماعي وافراده يمنحه قدرة على فهم المجتمع ومشاكله. وما دور الفقه الا بناء النظام الاجتماعي وبيان تكاليف الافراد ، حتى يتوجه الجميع نحو عبادة الخالق عز وجل عن طريق العلم والمعرفة.
ولا شك ان دور المدرسة العامة في المجتمع الاسلامي لا يتوقف عند معرفة اللغة وفهم العلوم التي تتعلق بها ، بل ان دروها يتعدى الى فهم دور الانسان في الحياة الاجتماعية ، وفهم علاقته بالكون والخالق ، وفهم الانسان لذاته من خلال العلوم الفلسفية والتطبيقية. والمكلف ، اضافة الى الفقيه او |
|||
|