|
|||
(61)
طالب علوم الفقه ، عليه ان يعرف الحد الادنى من مبادئ تشريح جسم الانسان ، ذكراً وانثى ، حتى يستطيع ان يفهم كيفية خلق الجنين وعلاقة ذلك الخلق بالمرأة والخالق والحياة ، ويفهم معاني الطهارة من خلال فهمه لحركة اعضاء الجسم الداخلية والخارجية. واذا كان المكلف امرأة فعليها ان تعرف الحد الادنى من تشريح جسم المرأة وبيولوجية الدورة الشهرية لابتلائها بدماء الحيض والاستحاضة والنفاس. وكل هذه العلوم والمعارف تثري النظام الاجتماعي بثقافة علمية وترفعه الى اعلى المستويات الانسانية. ولذلك ، فان المدرسة العامة ينبغي ان تلتفت الى وضع هذه المواد العلمية في مناهجها العامة خدمة للنظام الاجتماعي من خلال بناء الافراد بناءً علمياً سليماً ، على قاعدة ان العلم بقسميه النظري والعملي يجب ان يصبّ في خدمة النظام الاجتماعي.
ولا ريب ان المدارس تفتح ابواباً للنقاش العلمي والنقد البناء ، فالرد على النظريات الفاسدة والآراء المنحرفة يوفر للطلبة فرصاً ثمينة لممارسة النقد البناء المستند على الاسس العلمية. بل ان المدرسة تستطيع ان تهيئ لطلابها جواً من العمل السياسي والاجتماعي ، حتى تؤهلهم لاحقاً لدخول المعترك الاجتماعي دون عراقيل. واخطر عمل تقوم به المدرسة الاسلامية ، هو تعليم تلاميذها معنى العدالة الاجتماعية. وهذا هو الفرق بين النظام المدرسي في الاسلام ونظيره في الرأسمالية. ففي حين يقوم النظام الرأسمالي بتعليم الطلبة قيم الطبقة العليا ، ويفصل المدارس على اساس اللون ، ويدعي ان نظامه الاجتماعي افضل من كل الانظمة الاجتماعية في العالم ، تقوم المدرسة الاسلامية بتعليم ابنائها قيم (62)
العدالة الانسانية ، والغاء الفوارق الطبقية ، وسواسية الافراد امام الشارع والشريعة. وان كانت افضلية الاسلام كمنهج للحياة تتحدث عن نفسها دون محدث ، الاّ ان هذا الدين يدعو معتنقيه الى دراسة بقية الانظمة الاجتماعية والدينية وفهمها ومقارنتها بالاسلام. على عكس النظام الرأسمالي الذي يدّعي بان الانظمة الاخرى لا سبيل لها في تحقيق السعادة البشرية ، فالسعادة العظمى لا تتحقق الاّ في العيش تحت سقف النظام الاجتماعي الرأسمالي!! ولكنهم ينسون ان سعادة الثري الابيض الكاثوليكي قد جاءت على حساب عذاب الفقير الملون البائس.
ولم يَدْعُ الاسلام الى جعل التعليم مطية رغبات طبقة دون اخرى لتحقيق التسلط على القوة السياسية ، وكسب الثروة ، وتحقيق الرفعة الاجتماعية. بل اراد من التعليم ، فهم الانسان موقعه في الحياة الاجتماعية ، ومعرفة دور الدين في بناء النظام الاجتماعي لتحقيق سعادة الفرد وتثبيت اسس العدالة الاجتماعية. ولما كان العلمُ شريفاً في نفسه ، فان الشارع حث جميع الافراد على تحصيل المقدار المتميز منه ، حتى يمنح الانسان فسحة للتفكير في موقعه الاجتماعي الحياتي وموقعه في الكون ، وما يترتب على ذلك من معارف ربانية توصله الى معرفة خالقه وصانعه. وتعلم الفنون والخبرات بشتى الوانها ينفع النظام الاجتماعي وافراده ، ولا يمنح امتيازاً لفرد دون آخر ، لان عدالة نظام الاجور في الاسلام هي صمام الامان الذي يمنع بموجبه نشوء نظام طبقي مشابه للنظام الطبقي الرأسمالي. ولما كانت الدولة في المجتمع الاسلامي مسؤولة عن رعاية الافراد وحمايتهم والاهتمام بهم ، فان لها الحق في تحديد الاجور وتعيين الحد الادنى والحد الاعلى للمكافآت (63)
الاجتماعية. على عكس النظام الرأسمالي الذي يعين حداً ادنى للاجور ولكنه لا يضع علامة للحد الأعلى مما يفسح المجال لنمو الطبقة الرأسمالية المتحكمة بشؤون المجتمع والسلطة السياسية واستفحالها.
ولما كان زمام السلطة وتنظيم اُمور الناس منوطاً بالامام المعصوم او نائبه في زمن الغيبة ، فان الاسلام ، دفعاً لنشوء طبقة ثرية حاكمة ، ألزم العلماء والفقهاء العدول بالتزام التقوى ومخافة الله والزهد في الحياة الدنيا ، وخير دليل نستدل به في هذا المقام ثلاثة اقوال ، اولياها لرسول الله (ص) والثالث لعلي بن ابي طالب (ع). فقد ورد عن رسول الله (ص) قوله : ( ما اتخذ الله نبياً الاّ زاهداً ) (1) ، وقوله (ص) ايضاً : ( يا علي ان الله تعالى زينك بزينة لم يزين العباد بزينة هي احب اليه منها ، زهّدك فيها ، وبغضّها اليك ، وحبب اليك الفقراء فرضيت بهم اتباعاً ، ورضوا بك اماماً ) (2). وقول الامام اميرالمؤمنين (ع) : ( ان من اعون الاخلاق على الدين الزهد في الدنيا ) (3). وهذا الحث بترك الدنيا وحطامها ، يوجب اقامة نظام سياسي نزيه لا يطمع بمال الناس ولا حقوقهم الشرعية. وهذه الترابية وهذا الزهد الذي اوجبه الاسلام على الرسل والائمة وعدول الفقهاء تمنعهم نظرياً من استئثار ابنائهم وذويهم في التسلط على حقوق الناس واقواتهم ، بل ان مواقع ابناء هؤلاء في النظام الاجتماعي لا تتميز عن مواقع غيرهم من ابناء عامة الناس. واذا كان تدخل الدولة في المجتمع الاسلامي يضمن العدالة ، فان من حق 1 ـ مستدرك الوسائل ج 2 ص 333. 2 ـ البحار ج 40 ص 330. 3 ـ الكافي ج 2 ص 138. (64)
الدولة ان تمنع انشاء المدارس الخاصة ، لانها تساهم تدريجياً بانشاء الطبقة الرأسمالية على مدى الاجيال المتعاقبة. ولا شك ان توحيد النظام التعليمي في الدولة الاسلامية سيساهم في تقليص الفوارق بين الطبقة الاجتماعية حتى يوحدها ضمن طبقة واحدة متفاوتة الدرجات.
ولما كان الاسلام قد اوجب على الاغنياء دفع الحقوق الشرعية من صدقات واخماس وزكوات وكفارات ونحوها ، واوجب ايصالها الى الفقراء ، فان الطلبة الفقراء سيتفرغون للدرس والتحصيل لانتفاء الشاغل المادي والنفسي. وعلى هذا الصعيد فان التنافس بين الطلبة الاغنياء والطلبة الفقراء سيتم على اساس الذكاء والجهد والاجتهاد وليس على اساس المال والثروة كما هو الواقع في النظام التعليمي الرأسمالي. (65)
« المدرسة » في النظام الاجتماعي
واذا كان ايمان الاسلام بحق الفرد في التعليم ايماناً راسخاً ، فان تدخل الدولة في المجتمع الاسلامي بضرورة فرض التعليم الاجباري لحد المرحلة المتوسطة يجب ان يكون حتمياً ، للاسباب الثلاثة التالية : اولاً : لان الفرد يعتبر قاصراً في سن الطفولة ، فعلى وليه الاهتمام بمصلحته العلمية. ثانياً : لما كان ولي امر الاُمة ، الامام او نائب الفقيه الجامع للشرائط في زمن الغيبة مسؤولاً عن بناء الدولة الاسلامية بناءاً محكماً في المجال الاقتصادي و السياسي والعسكري ، وجب عليه تهيئة مقدمات بناء الدولة من خلال بناء الافراد علمياً وثقافياً قبل البلوغ. ثالثاً : ان العلم بكل فروعه والوانه ، يقرّب المكلف من الله عز وجل ، ويجعله اكثر تطبيقاً للاحكام الشرعية ، واكثر فهماً لدور الدين في النظام الاجتماعي. ولا شك ان التمييز بين الافراد في النظام التعليمي الاسلامي يجب ان يمحى اصلاً ، لان دينا كالاسلام يحاول تثبيت اسس العدالة الاجتماعية بقوة القانون ، لا يمكن ابداً ان يحرم الافراد من حقوقهم المشروعة. فالتعليم حق مشروع لكل فرد ، والمساواة في تحصيله اصل من اُصول العدالة الاجتماعية. بل ان المساواة العامة التي يأمر بها الاسلام في امتلاك الثروة واستثمارها في شتى مجالات الحياة العملية ، تعتبر دعماً حقيقياً للمساواة في نظام التعليم العام. على عكس « المساواة » التي يدعيها النظام الرأسمالي فيساوي بين (66)
الافراد البيض من الاصل الاوروبي القوقازي فحسب ، ويحرم الطبقات الاخرى من النعم الاجتماعية. اما الاسلام فانه لا يرفع الأبيض على الاسود ولا الاسود على الابيض ، بل ان الكل متساوون في الحقوق والواجبات. ومدارس القواعد النحوية ، ومدارس الطبقة العليا ، ليس لها وجود في النظام التعليمي الاسلامي ، لان المجتمع القائم على اساس العدل والمساواة لا يَقدِم على حرمان مدرسة ما من حقوقها الاساسية لاختلاف الوان تلاميذها ، ويمنح مدرسة اخرى امتيازات وتخويلات واسعة بسبب موقعها الجغرافي القريب من منازل الاغنياء. فابناء الشرائح المختلفة في النظام الاجتماعي الاسلامي يقفون جنباً الى جنب مع اخوانهم ، تماماً كما يقف الحجيج خلال ممارستهم شعائر الحج جنبا الى جنب في عرفات ، بالرغم من اختلاف الوانهم وثرواتهم وقومياتهم.
ولابد لنا من معرفة حقيقة مهمة وهي ان المدرسة بكل تخصصاتها وفروعها العلمية والانسانية والمهنية ، انما هي ضمان لمستقبل الاسلام ، ونجاح التجربة الاسلامية في تكامل النظام الاجتماعي لقيادة البشريه المعذبة وايصالها الى شاطىء السلام. ولا شك ان المدارس والجامعات الاسلامية ينبغي ان تساهم مساهمة فعالة في حلّ المشاكل العلمية والاجتماعية والاقتصادية التي يبتلى بها النظام الاجتماعي. فما فائدة المدرسة التي لاتساهم في التفاعل الاجتماعي ولاتفهم مشاكل الافراد ولا تحاول حلّها ؟ الم تكن الدراسات النظرية باباً من ابواب الدراسات التطبيقية وفرعاً من فروعها ؟ فما فائدة دراسة تركيب الذرة ما لم تترجم هذه الدراسة الى تصنيع مواد كيميائية عملية تنفعنا في التنظيف والتطبيب والتسميد ؟ وما فائدة (67)
دراسة الظواهر الاجتماعية والانحرافات ما لم يوضع منهج واضح المعالم لترشيد توجهات المجتمع الاسلامي وطموحاته وآلامه ومشاعره ؟
واذا كانت النظرية السياسية الرأسمالية قد نجحت في فصل المدرسة عن الكنيسة في المناهج التعليمية ، وتركت للكنيسة تنصير الافراد وتعليمهم دينهم ، فان النظام التعليمي الاسلامي ينبغي ان يؤسس في كل مدرسة مسجداً للصلاة ، وان تندمج المدرسة بالمسجد ، اندماجاً حقيقياً يؤدي الى تهذيب المدرسة اخلاقياً ، والى رفد المسجد بالطاقات العلمية الشابة المؤهلة لا للعبادة والدعاء والتسبيح فحسب ، بل على اتم الاستعداد للدفاع عن الدين والوطن ، وحماية العقيدة بالعلم والسلاح. وتقع مسؤولية تمويل صرفيات المدارس العامة على الدولة ومؤسساتها المالية ، فلا يحق لافراد المحلة السيطرة على توجيه شؤون المدرسة ، لأن ذلك يسبب تفاوتاً في المستوى التعليمي بين المناطق الغنية والمناطق الفقيرة. ولكن هذا لا يمنع من انشاء مجالس للاباء والاُمهات لتوثيق الصلة بين المدرسة وعوائل الطلبة لتدارس ومناقشة مشاكل التلاميذ والبحث عن افضل الطرق لزيادة التحصيل ، ورفد مستوى التفاعل الاجتماعي في المؤسسات التعليمية. وبطبيعة الحال ، فان الهدف الاعلى من التعليم هو غرس العلم في اذهان البراعم الشابة ، وتدريبها على القراءة والكتابة والتفكير والتحليل ونقد الواقع نقداً موضوعياً بناءاً. اما ( الدرجات ) فليست بحد ذاتها هدفاً بل هي وسيلة رمزية لمعرفة قدرة الطالب على التحصيل. فينبغي ان يكون المدار والاصل في مناهج المدارس العامة ، مستوى المادة الدراسية (68)
والتحصيل النوعي من العلوم المختلفة ، فالكمية ليست ذات مغزى اذا افتقدت العمق والتركيز. واذا كان المدار في الدراسة العامة التحصيل العلمي وليس كسب الدرجات ، فقد نجح النظام التعليمي في بناء الطلبة بناءاً اكاديمياً سليماًً. اولاً : لان هذا النظام يفتح للطالب افاقاً واسعة للتحصيل. ثانياً : يساعد النظام على ازالة الضغط النفسي الذي يواكب كسب الدرجات عادة. ثالثاً : يساهم في محو عملية ارتكاب الغش المنتشرة بين طلبة النظام الرأسمالي من الاساس. وعليه ، يصبح الطالب جزءاً فعالاً من النظام الاجتماعي الذي ساهم في رفد المجتمع بالابداع والانتاج والاستقرار والسعادة.
وليست المدرسة مجرد مؤسسة مهنية تهتم بالكتاب والقلم ، بل هي نظام اجتماعي قائم بذاته ، فلهذه البنية التعليمية قوانينها ، وقيمها ، وتقاليدها ، ومناسباتها ، واحتفالاتها الخاصة بها. فالصف الواحد يمثل تركيبة نموذجية لمختلف الشرائح الاجتماعية ، والطلبة المنتسبون لذلك الصف يعكسون شتى انواع الحرف والمهن والمذاهب والعرقيات ، فابناء العامل والمهندس والطبيب ، والمسلم والنصراني ، والعربي والتركماني والكردي والفارسي يجلسون جنباً لجنب تجمعهم غاية واحدة وهي الحصول على العلم. وعلى هذا الاساس نستطيع اعتبار الصف المدرسي من اكثر اماكن التفاعل الاجتماعي حيوية في المجتمع الانساني. وعلى ضوء ذلك ، فانه لا بد ان يكون للمدرسة تنظيم اداري يدير شؤونها ويحدد ويضبط صلاحيات العاملين فيها ، ويحدد انتساب الطلبة الى صفوفها باعتبار العمر او التخصص او القابلية. (69)
وحتى تستطيع المدرسة تطبيق نظامها وتسيير امورها بدقة لابد لها من انشاء نظام محكم للسيطرة على سلوك الطلبة بالتأديب والتهذيب ، واشاعة اجواء الانسجام والتوافق بين التلاميذ والاساتذة ، والترغيب على التحصيل والاكتساب والتعلم. ولابد ان يكون توجه المدارس الابتدائية والمتوسطة منصبّاً على تعليم التلاميذ الاداب العامة ، والنظام ، والنظافة ، وحب الناس ، والطاعة بطرفيها ابتداءاً من طاعة الوالدين وانتهاءاً بطاعة الله سبحانه وتعالى.
واذا كانت المنافسة فقط ، في النظام التعليمي الرأسمالي ، الاصل في النجاح الاكاديمي ، فان النظام التعليمي الاسلامي يشجع التنافس على اساس العلم ، والتعاون على اساس الاخوة والمحبة والاجتماع. وعلة نجاح التنافس الاسلامي ، في عملية التعليم هو نزعة الانسان نحو تحقيق الكمال ضمن اطار التعاون الاجتماعي ، على عكس التنافس الذي تدعو اليه النظرية الرأسمالية والذي يهدف للحصول على الدرجات دون النظر الى مستوى التحصيل العلمي.وعندها لا تمنح المدرسة الاسلامية العامة الافراد فرصة للتحصيل والاكتساب فحسب ، بل تساعدهم على تقويم سلوكهم وتصحيح دوافعهم عندما يقتحمون ساحة العمل في المجتمع الكبير. ولكن المدرسة وحدها لا تعمل المعجزات ، بل ان العائلة والمسجد يلعبان دوراً اساسياً في اسناد دور المدرسة في خلق جيل مبني على اسس العلم والاخلاق والعقل والفهم الاجتماعي. فيقوم الاب او الولي في العائلة الاسلامية بتهذيب الاولاد على اساس طاعة الكبير والتحنّن على الصغير ، وهو ما يوصل الطالب الى (70)
احترام المدرسة باساتذتها وطلبتها ، مما يؤدي في النهاية الى اطاعة النظام الاجتماعي والمساهمة في بنائه وتنميته. ويقوم المسجد بتربية الافراد ، بضمنهم الطلبة ، على عبودية الخالق عز وجل ومسؤولية الالتزام بالتكاليف الشرعية ، عن علم ووعي ، وهو ما يقضي في النهاية الى تقويم سلوك الافراد ، واندفاعهم نحو انتهال العلم ، لبناء المجتمع الانساني السعيد.
(71)
التعليم والعدالة الاجتماعية في الاسلام
وتنعكس العدالة التي نادى بها الاسلام وحث على تحقيقها بين جميع الافراد ، على النظام التعليمي بالخصوص. فنظرياً يحث الاسلام جميع الافراد القادرين من الناحية العقلية ، على الدخول في المدارس العامة من المرحلة الابتدائية ولحد وصولهم الى المستوى التخصصي المهني او العلمي. وفي المرحلة الاخيرة يلعب الجهد والذكاء دوراً اساسياً في مساعدة الافراد على حجز مقاعدهم الدراسية في الجامعات العلمية والادبية والمعاهد الفنية. فالطلبة المتفوقون في العلوم البايولوجية والكيميائية يدخلون كليات الطب والعلوم المتعلقة بها. والطلبة المتفوقون في الرياضيات والعلوم الهندسية يدخلون كليات الهندسة والعلوم المتعلقة بها. والمتفوقون في الاجتماعيات يدخلون كليات العلوم الاجتماعية ، وهكذا. وهذا المقياس في حجز مقاعد الجامعات ، اعدل من مقياس النظام الرأسمالي الذي يشترط العامل الطبقي ولون البشرة اساساً في دخول الجامعات العريقة. فالنظام التعليمي الاسلامي يشجع الطالب الفقير على شق طريقه بنجاح الى ارقى الجامعات في الدولة بغض النظر عن لونه وطبقته الاجتماعية. بل يستطيع ان يتميز عن اقرانه الاغنياء لان الفقر لا يشغله عن التحصيل ، وهو على اطمئنان بان عائلته يعيلها النظام الاجتماعي او الدولة عن طريق الحقوق الشرعية. فلا يصرفه الفقر عن الدرس ، ولا تجبره حاجة العائلة الاساسية على ترك التحصيل. واذا ظهرت بوادر انحلال النظام الطبقي خلال مراحل التعليم ، اصبحت فرص انتعاش النظام الاجتماعي اوسع ، واصبح المقياس في تسيير (72)
النظام الاجتماعي عن طريق الجهد والذكاء اكثر مما هو عليه الحال في النظام الرأسمالي. ولا يختلف اثنان على ان الذكاء قدرة علمية تحصيلية تتواجد عند الفقراء كما تتواجد عند الاغنياء.
ومع ان الاسلام يقدم نظاماً عادلاً في توفير الفرص التعليمية لكل القادرين على التحصيل ، الا انه لا ينكر وجود التفاوت فى قابليات الفهم والادراك والابداع لدى الافراد. فالافراد عموماً متفاوتون في مستوى فهمهم العلمي وابداعهم وانتاجهم. ولما كانت هذه القابليات متفاوتة ، فان المكافآة على الجهد المبذول يجب ان تتفاوت من فرد الى آخر.ولكن هذا التفاوت في الاجور ينبغي ان لا يخلق طبقات اجتماعية متفاوتة بل طبقة واحدة مختلفة الدرجات. وهذا النظام التعليمي الرائع يضمن قضيتين اساسيتين ، الاولى : تنشيط فرص الابداع لكل فرد ، والثانية : العدالة الاجتماعية لكل الافراد. فلا يستطيع الذكي بكل ما اوتي من قوة عقلية ان ينشئ طبقة متميزة به عن الآخرين ، تماماً كما لا يستطيع الثري مهما اُوتي من قوة مالية انشاء طبقة متميزة به وبأقرانه ، لأن ذلك يدعو الى الظلم الذي يرفضه الاسلام. واذا ثبتت اسس العدالة الاجتماعية بقوة ، كما جاء بها الاسلام ، اصبحت القاعدة التي يتعامل بها النظام التعليمي المرتبط بالنظام الاجتماعي الاسلامي ، مع جميع الطلبة هي قاعدة العدالة والمساواة. فاذا كان من حق كل فرد الحصول على تعليم ذي مستوى معين ، فلا يمكن ان تكون الاجور الجامعية حينئذ عائقاً في دخوله الجامعة المؤهل لها. وحتى اذا كانت للجامعة اجور رمزية ، كان المدار في ذلك قابلية الفقير على تسديدها. واذا تم اشباع (73)
الحاجات الاساسية للعوائل الفقيرة ، فانها ستأمل من شبابها الدخول فى المعاهد العلمية لينفضوا عن اسمالهم غبار الفقر والجهل. وتصبح تلك العوائل حينئذ عوناً على رفع العبء الذي كان يتحمله الشاب الفقير تجاه عائلته المحرومة ، وسنداً لتحفيزه على اكمال دراسته العلمية. واذا كانت بيوت الفقراء لا تهيئ اجواءً دراسية مثالية لشبابها ، تحتم على المدارس العامة والجامعات تهيئة افضل المكتبات وقاعات الدراسة الفردية والجماعية لطلبتها ، وتخطيط نظام متقن للنقل العام من البيوت الى المدارس ، حتى يتضاءل البون الشاسع بين الطلبة الاغنياء والفقراء في خلق الاجواء السليمة للتحصيل والمذاكرة.
واذا كان الاسلام في نظامه القضائي يعاقب المفتري بالتعزير الذي يراه الحاكم الشرعي ، فان تطبيق الحدود سيلغي مشاكل الالصاق التي يستعملها الافراد من الطبقة العليا لوصم الطلبة الفقراء ، بمختلف الاتهامات. وهذا التطبيق سيساهم في فسح المجال للافراد على التركيز على قابلياتهم الذكائية ، واستجماع قواهم الداخلية للفهم والادراك ، وشق طريق التحصيل بكل نجاح ، على عكس النظام الرأسمالي الذي يوصم الفقراء بمحدودية الفهم والتخلف عن ادارك الحقائق والمفاهيم ، مما يؤدي الى تخلفهم من الناحية العلمية عن اقرانهم من افراد الطبقات العليا. واذا كان التغير المستمر في الوضع الاجتماعي الرأسمالي قد ساهم في ارتفاع نسب الطلاق ، والانفصال ، والولادات غير الشرعية فان ذلك المجتمع سيواجه مصيراً قائماً على المستوى التعليمي ، بخصوص انخفاض المستوى العلمي للتلاميذ المتضررين بهذا التغير الاجتماعي. لان العائلة (74)
المستقرة والبيت السليم بوجود الابوين يساعدان على استقرار شخصية الطفل وتهذيبها وتأديبها ، ويساهمان في تقدم الطفل في الميادين العلمية والاجتماعية. ولما كان النظام الرأسمالي لا يميز ، لحد الآن ، بين واجبات البيت وواجبات المدرسة التأديبية ، فكيف نتوقع من الطفل النمو والتطور عقلياً واخلاقياً ، خصوصاً اذا كان البيت لا يقوم بواجباته الاخلاقية ولا تقوم المدرسة بواجباتها التأديبية ؟ وهذا الاحباط في فهم دور البيت والمدرسة يُعدّ من اخطر مساوئ النظام التعليمي في الحضارة الرأسمالية الحديثة.
ولا نشك ان البيت في الاسلام هو مصدر الحب والرحمة والتهذيب والتأديب ، والمدرسة الاسلامية تشارك البيت في كلّ ذلك ، ولكنها اضافة الى ذلك لا تقدم للطالب علماً نظرياً فحسب ، بل تقدم له تفسيراً للمعاني الاخلاقية ، وتحليلاً للنظام الاجتماعي وواجبات الافراد وحقوقهم فيه. واذا كان الاب يقوم بدور المهذب والمؤدب لابنائه وبناته ، فان المعلم يقوم اضافة الى التعليم ، بدور مشابه لدور الاب في تقويم وتهذيب سلوك الطلاب. ولا يقر الاسلام نظام تكافؤ الفرص فحسب ، بل يهيئ الافراد تهيئة شاملة للمنافسة العلمية القائمة على اساس الجهد والذكاء. فيزيل اولاً كل اسباب التعويق الاجتماعي لطلب العلم من فقر وعدم اشباع الحاجات الاساسية ، فيأخذ حقوق الفقراء ويرجعها اليهم ، ويلغي النظام الطبقي العائلي ، ويشبع حاجات الافراد جميعاً ويوفر لهم مستوىً واحداً من التعليم الابتدائي والثانوي لا يختلف فيه الفقير عن الغني. ثم يضع هؤلاء المتسابقين في ميدان العلم على خط البداية ، ويهتف بهم ، تسابقوا على بذل الجهد ، فان (75)
سبق احدكم الآخر فانما يفوز بجهده وقابليته. والاسلام بهذا النظام الرائع لا يثبت عدالته بين الافراد فحسب ، بل يبرز نظامه المنسجم مع طبيعة الحياة الانسانية التي خلقها الباري عز وجل ، ويربطها بالنظام الكوني المبني على اساس الدقة والتنظيم والعدل. على عكس النظام الرأسمالي الذي يزجّ بالمتسابقين في ميدان العلم غاضّاً نظره عن المعوقات الاجتماعية التي وضعها للبعض منذ البداية ، كتراكم الثروة لدى طبقة وحرمان الطبقات الاخرى ، وتسليح الاغنياء بافضل النظم العلمية وحرمان الفقراء منها ، وحصر الجامعات الراقية بالنخبة من افراد الطبقة ا لرأسمالية من خلال رسم مستقبل مشرق لهم وهم في مهد الطفولة.
ويجب ان نلتفت الى مسألتين في خاتمة حديثنا عن النظام التعليمي العام في المجتمع الاسلامي ، وهما : اولاً : الاهتمام بدور المعلم في النظام التعليمي ومكافأته بصورة تتناسب مع ذلك الاهتمام والاكرام. فقد وردت روايات كثيرة عن اهل البيت (ع) في فضل العالم الذي يقوم بدور التعليم. ولا ريب ان اكرام المعلم هو اكرام للعلم والفكر ، ورفع لمستوى التحصيل ، واسناد للنظام الاجتماعي. فدور المعلم كدور العامل في بناء الدار ، فاذا كان البناء سليماً ثبت الدار امام الرياح والعواصف. وكذلك المعلم ، اذا كان مخلصاً صادقاً في تعليم الجيل الناشئ ، فانه يؤسس في عقول تلاميذه اسس الحياة الاجتماعية القائمة على اساس التعاون والتآزر ، ويغرس في نفوسهم التوجه نحو خالق الانسان ومبدع الكون في الشدة والرخاء ويعلمهم حب الدين والوطن والدفاع عن العقيدة والمبدأ. (76)
ثانياً : وضع المناهج التعليمية على اساس الحاجات الاجتماعية. فما فائدة العلم النظري الذي لا يساعد المجتمع الانساني على فهم المشاكل الاجتماعية ؟ فاذا كان النظام الاجتماعي مبتلياً بمشاكل التدخين مثلاً ، فيجب ان تساهم المؤسسات التعليمية بدراسة هذه الظاهرة وتدريس التلاميذ اضرار هذا الامر باستخدام مختلف العلوم التجريبية المبتكرة. واذا كانت البلاد مبتلية بارتفاع حوادث السيارات مثلاً ، فيجب ان تساهم المؤسسات العلمية في دراسة هذه المشكلة دراسة دقيقة ، والخروج بنتائج عملية ، كضرورة تعليم الطلبة في المدارس قيادة السيارات بامان مثلاً ، وتعليمهم نظام عبور المشاة ، وكيفية التوفيق بين الانسان والمكائن الحديثة في عالم اليوم. ومحاولة ربط العلوم الحديثة بالتغير الاجتماعي لها مدلولات ذات اثر عظيم في منفعة النظام الاجتماعي ، وما العلوم النظرية التي تدرس في المدارس الا وسيلة لفهم وتطوير العلوم التجريبية التي تخدم المجتمع. ولا شك ان النظام الاستكباري الرأسمالي لا يروقه تطبيق العلوم النظرية بما يناسب حاجات المجتمع الاسلامي ، لان ذلك التطبيق يساهم في تقديم النظام الاجتماعي والسياسي والاقتصادي للاسلام ، ويُبرزْ تشجيع الاسلام للعلم والنظام باجلى صوره مما يؤدي الى اعجاب الانسانية المعذبة بمضمون الرسالة الاسلامية في ازالة التخلف والتبعية عن نفس الانسان ، وهذا ما يخشاه كل رأسمالي جشع يطمع في زيادة حصته من المال على حساب حصص الفقراء والجياع والبائسين والمحرومين.
|
|||
|