الغيبة الصغرى والسفراء الأربعة ::: 16 ـ 30
(16)
الرؤية ، نحن لا نتكلّم عن أن هنالك أشخاصاً قد يدّعون كذباً أو زوراً الرؤية ، هذا عالم آخر ، إنّما نتكلم عن أصل المبدأ من حيث المبدأ ( امكان رؤيته ( عليه السلام ) .
    الامام باعتبار أنّ غيابه غياب هويّة لا غياب شخصيّة ، فشخصه صلوات الله عليه يمكن أن يفوز بلقائه الاوحدي من الناس ، ولكن من هو الاوحدي من الناس ؟ ذاك علمه عند ربي ، « ولا يعلم بمكانه إلاّ مواليه في دينه ويقال فيها : هلك في أي واد سلك » في هذه الغيبة الكبرى.

    وفي بعض الالفاظ قال : « يظهر فيها » ، ويظهر بقرينة الفقرات السابقة يقصد به أنّ الظهور المكتوب له سلام الله عليه حيث يملا الله تعالى به الارض قسطاً وعدلاً بعد أن تُملا ظلماً وجوراً ، إنمّا يكون في آخر المطاف وفي آخر هذه الغيبة الكبرى ، فالامام سلام الله عليه قيّد هذه الغيبة الكبرى بأنّ الظهور فيها ، بينما الغيبة الصغرى لم يذكر فيها ظهور ، وهذا يؤيّد ما ذكرناه قبل قليل بأنّ الفاصل بين الغيبتين الصغرى والكبرى ليس قضية الظهور ـ أنّه ظهر بعد سبعين سنة مثلاً للعيان ثم غاب فرآه الناس ثم غاب ثم يظهر ليراه الناس ـ لا ، بل إنّ له ( عليه السلام ) بعد غيبته الاولى ظهوراً عاماً علنياً واحداً ، وهو حيث يأذن الله تعالى له بالفرج ، فيقوم بأمر الله تبارك وتعالى ويملا الله به الارض قسطاً وعدلاً.
    ويدلّ على ذلك أيضاً ما رواه الشيخ ـ شيخ الطائفة أعلى الله مقامه ـ في غيبته عن جماعة من الشيعة منهم الحسن بن أيوب بن نوح :


(17)
أنه اجتمع أربعون رجلاً من أصحاب الامام العسكري ( عليه السلام ) عنده يسألونه عن الحجة بعده ، وإذا غلام كأنّه قطعة قمر أشبه الناس بأبي محمد ( عليه السلام ) ، فقال : « هذا إمامكم من بعدي وخليفتي عليكم أطيعوه ولا تتفرقوا من بعدي فتهلكوا في أديانكم ، ألا وإنّكم لا ترونه من بعد يومكم هذا حتى يتم له عمر ... » الى آخر الحديث (1) ، يختمه صلوات الله عليه بالتنويه بظهوره بعد الغيبة الكبرى ، يعني بظهوره لاقامة الدولة الاسلاميّة العالميّة.
    فإذن من هذا يظهر أيضاً التأكيد لما قدّمناه سابقاً من أنّه الفاصل بين الغيبتين ليست قضية الظهور للعيان ثم الغياب ، وإنّما التعبير بالصغرى والكبرى للنقطة التي بيّناها قبل قليل ، لانّه طريقة التماس للقواعد الشعبية في الغيبة الصغرى كان هو عبارة عن السفارة والسفراء ، بينما في الغيبة الكبرى كان عبارة عن طريق الفقهاء.
    وبعد هذا البيان الذي استعرضنا من خلاله جملة من النقاط على ضوء هذا الحديث الشريف ، هذه النقاط التي بحثت بعنوان دراية هذا الحديث بنحو اجمالي ، ندخل في صلب البحث.
1 ـ الغيبة للطوسي : 357 ح 319 ، كمال الدين للصدوق : 435 ح 2.

(18)

(19)
    أما نفس جدول البحث وخطة البحث :
    أوّل ما يواجهنا في قضيّة الغيبة الصغرى : أنّه ما هو مفهوم الغيبة ، أو ما هو مدلول الغيبة ؟ وهذا لعلّه تبين في أثناء البحث أن المقصود بغيبته سلام الله عليه هو عبارة عن غياب هويّة لا غياب شخصيّة.
    وفي نفس الوقت هنالك أبحاث تسبق هذا البحث لا نطرقها ، باعتبار أنّ حديثنا جزء أو حلقة من سلسلة أبحاث قدّم جملة من هذه الحلقات عدد من العلماء والفضلاء ، وهذه الحلقة هي بواقع الامر جزء متمّم في هذه السلسلة.
    هنالك أبحاث سابقة على هذا البحث : من قبيل مسألة ولادته ( عليه السلام ) ، والمفروض أن الحديث عن غيبته بعد أن تحرز ولادته سلام الله عليه وأن يُحرز وجوده ( عليه السلام ) ، هاتان نقطتان مهمتان يحرز أنّه ولد ويحرز أنّه غائب وليس بميّت ، هذه نقطة ثانية.
    والنقطة الثالثة هو إحراز أنّ له سلام الله عليه سفراء في هذه الغيبة.
    وهنالك أسئلة أخرى ترتبط في موضوع أصل الغيبة وفي أصل إمامته سلام الله عليه أنّه كيف يتولّى الامامة في سن مبكر ، هذه المسألة ،


(20)
أيضاً تكفّلت بها بحسب الفرض أبحاث سابقة هي خارجة عن محلّ بحثنا.
    وفي مسألة أصل إمامته سلام الله عليه ، يعني بكونه الامام الثاني عشر من آل محمد ( صلى الله عليه وآله وسلم ) من أهل البيت صلوات الله عليهم بدءاً بأمير المؤمنين ( عليه السلام ) وختماً بصاحب الامر ( عليه السلام ) بحث.
    في أصل كونه الامام الثاني عشر بحث.
    في تولّيه الامامة في سنّ مبكر بحث.
    في مسألة ولادته بحث.
    في مسألة استمرار وجوده حتى يغيب لا أنّه مات بحث.
    في مسألة أنّه غاب واستسفر سفراء أربعة في طي غيبته ( عليه السلام ) بحث.
    الابحاث السابقة فيما يتعلّق بإمامته ، بمبكّريّة إمامته ، بولادته ، بوجوده ( عليه السلام ) واستمراره رابعاً ، وقضيّة طول عمره أيضاً بحث خامس.
    أنّه كيف يعمّر هذه الفترة الطويلة هذا أيضاً بحث آخر.
    كل هذه الابحاث كما لا يخفى تفترض في حديثنا الان ، تفترض بعنوان أصول موضوعيّة مسلّمة ، لا نتكلم عنها ونفترضها أمور مسلّمة ، فمحط ركابنا في واقع الامر هو عبارة عن نفس الغيبة الصغرى في مفهومها ، وكذلك في سفراء الامام سلام الله عليه في هذه الغيبة ، وطريقة تماس الامام سلام الله عليه بقواعده الشعبية.
    كما تعلمون أنّ هنالك بحثاً آخر ، هذا البحث ربما لا يتسع له المجال :
    أنّ الامام سلام الله عليه في هذه الفترة الطويلة كيف تستفيد الامّة من


(21)
وجوده ( عليه السلام ) ، وهذا البحث باعتبار أنّه غير مختص بالغيبة الصغرى ، إنّما هو وارد على التقديرين ، على تقدير الغيبة الكبرى وتقدير الغيبة الصغرى.
    هذه جملة مباحث لها مجالات أخرى ، إنّما الكلام في أصل الغيبة الصغرى.


(22)

(23)
    من خلال ما تقدّم عرفنا أنّ الائمة صلوات الله عليهم هيأوا الاذهان ، أذهان الامة لتقبل قضيّة غيبة الامام سلام الله عليه ، أنّكم يا معشر الناس ستواجهون إماماً يغيب عن أنظاركم ، يعني أنّكم من عهد أمير المؤمنين صلوات الله وسلامه عليه إلى عهد الامام العسكري سلام الله عليه إمامكم بين ظهرانيكم وعلى رؤوسكم بمرأى ومسمع منكم ، أما أنّكم ستواجهون إماماً هو الامام الثاني عشر سلام لله عليه ، وهو إمام مغيّب عن الانظار ، باعتبار أنّ هذه التجربة تجربة جديدة ، فاجتمعت في الامام المهدي سلام الله عليه عدّة خصوصيات في واقع الامر ، وخصوصيات في غاية الخطر ، يعني فضلاً عن كونه الامام الثاني عشر.
    المسألة الاولى :
    مسألة مبكرية إمامته ( عليه السلام ) ، وقد يقال إنّها ليست بالتجربة الجديدة ، لان المبكرية في الامامة سبقه فيها جدّاه الجواد والهادي سلام لله عليهما ، الامام الجواد تولّى الامامة وسنّه قرابة ثمان سنوات أو سبع سنوات ، والامام الهادي أيضاً كذلك تولّى الامامة وسنّه


(24)
قرابة ست سنوات ، فربما يقال إنّ هذه المسألة أصبحت مأنوسة ومألوفة للامة ، وكأن العناية الالهية درّبت الامة على قبول الامامة المبكّرة تدريجياً ، فبدأت بامامة الجواد ( عليه السلام ) في ما يقارب ثماني سنوات ، ثم الهادي ( عليه السلام ) في قرابة الست سنوات ، ثم الامام المهدي ( عليه السلام ) في الخمس سنوات.
    المسألة الثانية :
    مسألة غيبته ( عليه السلام ) ، إمام غائب بأي معنى ؟ وكيف ؟ ولماذا ؟.
    والمسألة الثالثة :
    التي هي في غاية الخطر أيضاً : مسألة ظهوره صلوات الله وسلامه عليه ، وإقامة الدولة الاسلامية العالمية التي يملا الله به الارض قسطاً وعدلاً بعد أن تُملا ظلماً وجوراً.
    هذه ملامح ثلاثة في غاية الخطر في شخصية صاحب الامر صلوات الله عليه ، ومن جملة هذه الملامح نفس موضوع الغيبة :
    الغيبة تجربة جديدة للامّة ، ربما الامة جرّبت غيبة قصيرة تمتد مثلاً أيام أو شهر لبعض السابقين صلوات الله عليهم ، ولكن غيبة في تمام فترة الامام إلى أن يأذن الله في الفرج بهذا الطول وبهذا الشكل ، هكذا تجربة لم تمرّ بها الامة الاسلاميّة سابقاً ، فالامّة بحاجة إلى أن تألف هذه التجربة ، بحاجة إلى أن تقنع بهذه التجربة ، بحاجة إلى أن تسمع بها وتكون مأنوسة لها حتى لا تفاجأ بقضيّة غيبته ، فلهذا كان الائمة الاطهار سلام الله عليهم (1) ، بل حتى في أحاديث رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) في ما يرويه علماء
1 ـ راجع كتاب الامام المهدي ( عليه السلام ) للسيد صدر الدين الصدر.

(25)
الفريقين (1) في قضية صاحب الامر ( عليه السلام ) ، هنالك لمحات كثيرة في قضية غيبته ( عليه السلام ).
    الهدف من كل هذا الحشد من أحاديث الاشارة إلى غيبته هو تعبئة النفسية العامة أو الذهنية العامة لتقبل فكرة الامام الغائب سلام الله عليه ، وأنّه حقيقة ستقع ، لا أنّها مسألة في عالم الافتراض فقط.
    ثم الائمة سلام الله عليهم في نفس الوقت أيضاً أشاروا إلى بعض خصوصيات هذه الغيبة ، مثلاً الامام العسكري سلام الله عليه في حديث من الاحاديث يقول : « عثمان بن سعيد العمري ـ يخاطب رجلاً ـ وكيلي وأنّ ابنه محمداً وكيل ابني مهديّكم » (2) ، حتى قضية السفير الثاني للامام المهدي سلام الله عليه كان أيضاً يتحدث عنه الامام العسكري ( عليه السلام ) ، فلا يسعنا المجال الان للافاضة في هذه الجزئيات والخصوصيات ، لكن من حيث المبدأ الائمة ( عليهم السلام ) كانوا يتدخلون في هذه المسألة ويخططون لها ويحاولون تحضير الذهنية العامة لفكرة الغيبة الصغرى ، وحتى فكرة الغيبة الكبرى ، لئلاّ تفاجأ الامّة.
    كما أنّ الغيبة الصغرى في نفسها عمليّة تهيئة وإعداد للامّة الاسلامية للتفاعل والاندماج مع الغيبة الكبرى ، يعني كما أنّ الائمة هيأوا الناس لغيبة صغرى ، كذلك هيأوهم للغيبة الكبرى ، والغيبة الصغرى هي في
1 ـ راجع كتاب الامام المهدي ( عليه السلام ) في كتب اهل السنة.
2 ـ الغيبة للطوسي : 356 ح 317.


(26)
نفسها وضعيّاً تهيّء الامة للغيبة الكبرى ، ولهذا بدأت العملية بالتدريج.
    لاحظوا أن الامة لم تبدأ فيها بالغيبة الكبرى ، إنّما بدأت بالغيبة الصغرى ، يعني ما بدأ الامام يغيب عن الناس بلا سفراء ، إنّما بدأ غيبته مع السفراء ، لانّ الغيبة مع السفراء لا شك أنّها أقرب إلى أذهان الناس وأشدّ أُنساً لاذهان الناس ، لا سيما مع ما سيأتي من أنّ هؤلاء السفراء أوّلهم نصّ عليه الامام الحاضر سابقاً ، وهو الامام العسكري سلام الله عليه ، وفي نفس الوقت هذا السفير نصّ على من بعده.
    فالامام العسكري ( عليه السلام ) نص على سفارة عثمان بن سعيد ، وحضر مَن حضر من شيعة الامام من علماء الامة الاسلامية وشهدوا هذا النص من الامام سلام الله عليه ، ثم الخواص الذين حضروا وشهدوا ، سمعوا الامام المهدي صلوات الله عليه يقرّ نيابة وسفارة عثمان بن سعيد ، فحصل اطمئنان حسّي بسفارة عثمان بن سعيد ، ثم عثمان بن سعيد الذي قيل في حقه ، « اسمعوا له وأطيعوا » ومما يسمع له ويطاع فيه هو نصه على من بعده ، وممّا قال في مَنْ بعده أيضاً : اسمعوا له وأطيعوا ، وهو ابنه محمد بن عثمان ، ومحمد بن عثمان أيضاً قال : اسمعوا له وأطيعوا لمن يليه وهو الحسين بن روح ، والحسين بن روح كذلك.
    فاذن هنالك نص بهذه الطريقة بمحضر من علماء الامة.
    فالقضية كانت قضية حسّية ، الذين شهدوا الامام سلام الله عليه افرض أنّهم الخواص ، وكذلك مسألة النص على السفير ، وأنّ السفير ـ


(27)
هذه نقطة أخرى ـ حينما كان يواجه الامة كان يواجه الامة بتوقيعات الامام سلام الله عليه ، وما كان يأتي بشيء من عند نفسه أو من اجتهاداته الشخصية مثلاً ، إنّما كان يأتي للامة بكلام الامام سلام الله عليه ، بمكتوبات الامام سلام الله عليه ، بتوقيعاته.


(28)

(29)
    اصطلاح التوقيع كما تعلمون من جملة اصطلاحات هذا العالم ، عالم الغيبة ، المقصود بالتوقيع في هذا المقام يعني الكتاب الموقع يعبر عنه بأنه توقيع ، من باب تسمية الكتاب بأهم ما فيه أو أبرز ما فيه أو ما يختم به وهو التوقيع تسمية الشيء بخاتمته ، فيعبّر عنه بأنّه توقيع ، والمقصود ليس خصوص الامضاء للامام سلام الله عليه ، إنّما المقصود هو الكتاب.
    الكتب الصادرة والرسائل الصادرة من الامام سلام الله عليه كان يعبر عنها بأنّها توقيعات الناحية المقدسة ، والناحية المقدسة أيضاً فيه إشارة أو قولوا اصطلاح يراد به خصوص الحضرة المقدسة لصاحب الامر صلوات الله وسلامه عليه باعتبار ظروف التقية.
    وهذا باب من الابواب الملفتة للنظر : أنّ الامام سلام الله عليه نادراً ما كان يسمّى باسمه ، بل ورد النهي عن التسمية وأنّه إذا سمي عرف وإذا عرف مثلاً دلّ على مكانه إلى آخره ، ففي هذا المورد هنالك تكتّم باعتبار ظروف التقية ، فلهذا الامام كان يعبّر عنه بالناحية المقدسة ويعبّر عنه بالسيد ، قال لي السيد وكتبتُ للسيد ، ويعبّر عنه بالعالم ، ولفظة العالم


(30)
أطلقت على بعض الائمة سلام الله عليهم السابقين أيضاً كموسى بن جعفر ( عليه السلام ) ، ولكن أيضاً ورد إطلاقها على الامام المهدي سلام الله عليه.
    فالسيد ، والعالم ، والناحية المقدسة ، والغريم أيضاً مما كان يعبّر عنه ( عليه السلام ).
    وعبّر عنه ( عليه السلام ) بالصاحب وصاحب الدار وصاحب العصر وولي العصر وولي الامر.
    فالناحية المقدسة المقصود بها الامام سلام الله عليه ، والتوقيعات يعني الرسائل والكتب الصادرة من الامام ( عليه السلام ).
    وهذه الكتب الصادرة كانت بخطّه ( عليه السلام ) ، لم تكن بخط غيره ، ولم تكن مطبوعة مثلاً حسب الفرض ، وفي ذلك الزمن لم تكن هنالك أدوات طبع بالنحو الموجود اليوم ، المهم أنه لم تكن بخط غيره ، إنّما كانت بخط نفسه ( عليه السلام ) وموقعة بتوقيعه.
    وهذا الموضوع في غاية الاهمية في العملية التوثيقية ، لانّ هذا الخط خط مشهود لخواص الاعلام والعلماء الذين عاصروا الامام العسكري سلام الله عليه والذين تعرفوا على الامام المهدي ( عليه السلام ) ، لانه سيأتينا إن شاء الله أن الامام المنتظر عجل الله تعالى فرجه لم يكتم ولم يحجب عن تمام الناس ، إنّما حرص الامام العسكري سلام الله عليه على عرض ولده الامام المهدي ( عليه السلام ) على أعداد كبيرة من الناس من جهة ، وإعلام أعداد أخرى وإن لم يروه ، وهاتان نقطتان في غاية الاهمية.
الغيبة الصغرى والسفراء الأربعة ::: فهرس