القول الصراح في البخاري وصحيحه الجامع ::: 1 ـ 19

القول الصراح
في
البخاري وصحيحه الجامع
دراسة فقهية ، وأُصولية في الحديث والرجال
وعقائد أهل السنّة حول البخاري وكتابه الصحيح
فقيه الطائفة
شيخ الشريعة الاصبهاني
( 1266 ـ 1339 هـ )
قدم له
آية الله جعفر السبحاني
تحقيق
الشيخ حسين الهرساوي


(4)
بسم الله الرحمن الرحيم
    ( إِنَّ الَّذينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلْنَـا مِنَ البَيـِّنـَاتِ وَالهُدى مِنْ بَعدِ مَا بَيَّنَّاهُ للنّاسِ فِي الكِتَابِ أُولَئكَ يَلْعَنُهُمُ اللهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللاَّعِنُونَ )
البقرة : 159


(5)
    تقديم : آية الله جعفر السبحاني
بسم الله الرحمن الرحيم
مع الإمام البخاري في صحيحه
    صحيح البخاري أحد الصحاح الّذي حاز على منزلة كبيرة لدى أهل السنّة ، وقد نقلوا عن البخاري انّه قال : لم أخرج في هذا الكتاب إلاّ صحيحاً وما تركت من الصحيح أكثر. (1)
    وقال ابن حجر الهيتمي بأنّ صحيح البخاري وصحيح مسلم هما أصحّ الكتب بعد كتاب الله وإجماع من يعتد به. (2)
    إلى غير ذلك من كلمات الإطراء المبثوثة في المعاجم وكتب التراجم ، ولسنا الآن في مقام البحث والنقاش في مدى صحّة هذه الكلمات ، وكفانا في ذلك الكتاب الماثل بين يديك الّذي يوقفك على حقيقة الأمر ، غير انّ ثمة أُموراً نقف عندها قليلاً :
    الأوّل : يوجد في صحيح البخاري روايات التجسيم والتشبيه بوفرة وإن حاول شُرّاح الصحيح تأويلها غير انّها فشلت جميعاً ، لأنّ ظهورها بمكان يحد من تأويلها والتلاعب بها ، والسبب وراء هذه الكثرة من روايات التجسيم يعود
1. ابن حجر العسقلاني : هدى الساري : ص 7 ؛ مقدمة صحيح البخاري : 1 / 10.
2. الصواعق المحرقة : 18.


(6)
إلى أنّ البخاري عاش في عصر المتوكل العباسي الّذي استخدم طبقة من المحدّثين ومنحهم الجوائز في نقل الأحاديث الّتي تؤيد موقف المحدّثين أمام أهل التنزيه من العدلية والمعتزلة.
    يقول الذهبي : إنّ المتوكّل أشخص الفقهاء والمحدّثين ؛ وكان فيهم : مصعب الزبيري ، وإسحاق بن أبي إسرائيل ، وإبراهيم بن عبد الله الهروي ، وعبد الله وعثمان ابني محمد بن أبي شيبة ؛ فقسّمت بينهم الجوائز ، وأُجريت عليهم الأرزاق ، وأمرهم المتوكل أن يجلسوا للناس ويُحدِّثوا بالأحاديث الّتي فيها الرد على المعتزلة والجهمية ، وأن يحدّثوا بالأحاديث في الرؤية.
    فجلس عثمان بن محمد بن أبي شيبة في مدينة أبي جعفر المنصور ، ووُضِع له منبر واجتمع عليه نحو من ثلاثين ألف من الناس ؛ وجلس أبو بكر بن أبي شيبة في مسجد الرصافة ، وكان أشدّ تقدّماً من أخيه عثمان ، واجتمع عليه نحو من ثلاثين ألف. (1)
    ولذلك فلا تعجب من كثرة روايات التجسيم والتشبيه في الصحيح ، لأنّ بعض هؤلاء من رجال صحيح البخاري.
    الثاني : انّ البخاري وإن ذكر شيئاً من فضائل علي وأهل بيته إلاّ أنّ قلمه يرتعش عندما يصل إلى فضائلهم فيعبث بالحديث مهما أمكن ، وإليك نموذجاً.
    إنّ حديث الولاية يعني قول النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) في حقّ علي ( عليه السَّلام ) : « علي منّي وأنا من علي ، وهو وليّكم من بعدي » من الأحاديث المتضافرة الّذي أخرجه غير واحد من أئمّة الصحاح والسنن وحفّاظ الحديث ، وقد نقله جمّ غفير من كبار
1. تاريخ الإسلام ، وفيات عام 230 ـ 240 ؛ تاريخ بغداد : 10 / 66.

(7)
أئمّة الحديث في كتبهم ، ربما يبلغ عددهم حسب ما استخرجه المحقّق المتتبع السيد حامد حسين اللكهنوي ( المتوفّى 1306 هـ ) في كتابه « عبقات الأنوار » إلى 65 ، وعلى رأسهم :
    1. سليمان بن داود الطيالسي ( المتوفّى 204 هـ ).
    2. أبو بكر عبد الله بن محمد بن أبي شيبة ( المتوفّى 239 هـ ).
    3. أحمد بن حنبل ( المتوفّى 241 هـ ).
    4. محمد بن عيسى الترمذي ( المتوفّى 279 هـ ).
    5. أحمد بن شعيب النسائي ( المتوفّى 303 هـ ).
    إلى غير ذلك من أئمّة الحفّاظ والمحدّثين (1) ، وإليك نصّ الحديث :
    1. أخرج النسائي في سننه قائلاً : حدثنا واصل بن عبد الأعلى ، عن ابن فضيل ، عن الأعرج ، عن عبد الله بن بريدة ، عن أبيه ، قال : بعثنا رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) إلى اليمن مع خالد بن الوليد وبعث علياً على آخر ، وقال : إن التقيتما فعليٌّ على الناس ، وإن تفرّقتما فكلّ واحد منكما على جنده ، فلقينا بني زبيد من أهل اليمن ، وظفر المسلمون على المشركين ، فقاتلنا المقاتلة وسبينا الذرية ، فاصطفى علي جاريةً لنفسه من السبي ، فكتب بذلك خالد بن الوليد إلى النبيّ ( صلى الله عليه وآله وسلم ) وأمرني أن أنال منه. قال : فدفعت الكتاب إليه ونلت من عليّ ، فتغيّر وجه رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) فقلت : هذا مكان العائذ ، بعثتني مع رجل وألزمتني بطاعته فبلّغت ما أُرسلت به. فقال رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) لي : « لا تقعنَّ يا بريدة في عليّ ، فإنّ عليّاً منّي وأنا منه وهو وليّكم بعدي ». (2)
1. لاحظ نفحات الأزهار في خلاصة عبقات الأنوار : 15 / 51 ـ 54.
2. خصائص علي بن أبي طالب : 75.


(8)
    2. وأخرج أحمد في مسنده عن ابن عباس ، عن بريدة ، قال : غزوت مع عليّ اليمن فرأيت منه جفوة ، فلمّا قدمتُ على رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) ذكرت عليّاً فتنقصته فرأيت وجه رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) يتغيّر ، فقال : « يا بريدة ألست أولى بالمؤمنين من أنفسهم » ، قلت : بلى يا رسول الله ، قال : « من كنت مولاه فعليّ مولاه ». (1)
    وما جاء في الحديث الّذي أخرجه النسائي من قوله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) : « عليّ منّي وأنا من علي وهو وليكم بعدي » لا ينافي المنقول في مسند أحمد ولعلّ الرسول جمع بين الكلمتين ، أو انّ الراوي نقل بالمعنى فقال : من كنت مولاه فهذا علي مولاه.
    وعلى كلّ حال فالحديث كان مذيّلاً بما يدلّ على ولايته بعد رحيل الرسول ( صلى الله عليه وآله وسلم ).
    ويؤيد ذلك انّ الإمام أحمد أخرج الحديث عن عمران بن حصين بالشكل التالي :
    3. قال : بعث رسول الله سرية وأمّر عليهم علي بن أبي طالب ( رضي الله عنه ) فتعاقد أربعة من أصحاب محمد أن يذكروا أمره لرسول الله ، قال عمران : وكنّا إذا قدمنا من سفرنا بدأنا برسول الله ، فسلّمنا عليه ، قال : فدخلوا عليه ، فقام رجل منهم ، فقال يا رسول الله : إنّ عليّاً فعل كذا وكذا فأعرض عنه.
    ثمّ نقل قيام الثلاثة الباقين وتكرارهم ذلك القول وإعراض الرسول عنهم ، حتّى انتهى إلى قوله : فأقبل رسول الله على الرابع وقد تغيّر وجهه ، فقال : « دعوا
1. مسند أحمد بن حنبل : 5 / 347.

(9)
عليّاً ، إنّ عليّاً مني وأنا منه ، وهو وليّ كلّ مؤمن بعدي ». (1)
    4. وأخرج الترمذي عن عمران بن حصين ونقل الحديث مثل ما نقل أحمد ابن حنبل إلى أن قال : فقام الرابع ، فقال مثل ما قالوا ، فأقبل إليه رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) ـ والغضب يُعرف في وجهه ـ فقال : « ما تريدون من عليّ ! ما تريدون من عليّ ! ما تريدون من عليّ ! إنّ عليّاً مني وأنا منه وهو ولي كلّ مؤمن بعدي ». (2)
    ترى أنّ الرواية تنص على الولاية الدالّة على أنّه الإمام بعد رحيل الرسول لكن البخاري كعادته أخرج الحديث عن بريدة ، فذكر شيئاً من الحديث وحذف بيت القصيد منه ، فأخرج الحديث عن عبد الله بن بريدة عن أبيه بالنحو التالي :
    قال : بعث النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) عليّاً إلى خالد ليقبض الخمس وكنت أبغض علياً ، وقد اغتسل ، فقلت لخالد : ألا ترى إلى هذا ، فلما قدمنا على النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) ذكرت ذلك له.
    فقال : يا بريدة أتبغض عليّاً ، فقلت : نعم ، قال : « لا تبغضه فإنّ له في الخمس أكثر من ذلك ». (3)
    ترى أنّه حذف الفقرة الأخيرة من الحديث الّتي هي بمنزلة بيت القصيد منه وهي : « انّ علياً منّي وأنا منه ، وهو وليّكم بعدي ».
    هذان الأمران اللّذين نوّهنا إليهما يعربان عن موقف البخاري حيال
1. مسند أحمد : 4 / 438.
2. سنن الترمذي : 5 / 632.
3. صحيح البخاري : 5 / 163 ، باب بعث علي بن أبي طالب وخالد بن الوليد إلى اليمن قبل حجة الوداع.


(10)
روايات التجسيم والتشبيه ، كما يعربان عن مدى بخسه لأحاديث أهل البيت ( عليهم السَّلام ) وفضائلهم. كيف لا وهو لم يرو حديث الغدير بتاتاً ، كما لم يرو عن الإمام الصادق ( عليه السَّلام ) حديثاً واحداً مع أنّه نقل عن الخوارج والمجبّرة والمشبّهة؟!!
    فهذا الكتاب الّذي يعد أصحّ الكتب عند أهل السنّة بعد كتاب الله بحاجة إلى تنقيب وبحث ودراسة رجاله ودراسة مضمون الأحاديث الواردة فيه. وقد قام بهذا الأمر المهم غير واحد من أعلام الفريقين.
    فمن أهل السنّة الحافظ ابن الجوزي ( 510 ـ 597 هـ ) حيث ألّف كتاباً باسم « مشكل الحديثين أو مشكل الصحاح » ولم يزل مخطوطاً في أربعة أجزاء.
    وأمّا من الشيعة ، فقد قام فقيه الطائفة والمتتبع المتضلّع الشيخ فتح الله النمازي الاصفهاني المشهور بـ « شيخ الشريعة » ( 1266 ـ 1339 هـ ) بدراسة صحيح البخاري في كتاب هو ماثل بين يديك وقد ألفه ( قدس سره ) ولم يسمّه باسم ، غير انّ تلميذه المتتبّع الشيخ آقا بزرك الطهراني ( 1293 ـ 1389 هـ ) استكتبه لنفسه وأسماه بـ « القول الصراح في نقد الصحاح » ، وقد كانت النسخة منحصرة بما استكتب ، فاستدعيت من صديقنا العزيز المجاهد في سبيل الله آية الله الشهيد ميرزا علي الغروي ( قدس سره ) مؤلف الموسوعة الفقهية باسم « التنقيح في شرح العروة الوثقى » أن يرسل لي صورة من نسخة الشيخ آقا بزرك الطهراني المتوفرة في مكتبته ، وقد لبّى ( قدس سره ) طلبي هذا.
    وقد قام بتحقيق الكتاب والتعليق عليه وإخراج مصادره الباحث المحقّق الشيخ حسين غيب غلامي الهرساوي ، فعلّق عليه تعاليق ثمينة ، شكر الله
مساعيه الجميلة ، وهو ممّن قد خاض في عبارات هذه المباحث في غير واحد من تآليفه.


(11)
    ولعلّ هناك من يعيب على هذا النوع من التأليف بأنّه يثير حفيظة البعض ، لأنّ كثيراً من أهل السنّة تلقّوا صحيح البخاري كتاباً صحيحاً برمّته يسمو عن البحث والنقد ، ولكن الحقّ انّ كل كتاب غير كتاب الله خاضع للبحث والنقاش.
    إنّ السنّة النبوية تراث خالد للأُمّة الإسلامية تعد المصدر الثاني للشريعة الإسلامية بعد القرآن الكريم في مجالي العقيدة والشريعة.
    فالسنّة المحكية ـ أي قول النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) وفعله وتقريره ـ من الحجج القطعية الّتي لا تخضع للتمحيص ، كيف لا وهو كلام النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) ؟!
    وإنّما الخاضع للتحقيق والتنقيب هو السنّة الحاكية عن رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) ، فلا عتب على باحث أن يقوم بدراسة الحديث دراسة موضوعية قائمة على أُسس علمية وبلغة هادئة.
    فهذا النمط من البحث لجدير بالاهتمام والعناية من قبل الباحثين والمحقّقين لما فيه من تقرير للسنّة النبوية ، وتمحيصها عمّا ليس منها.
    وها نحن بحمد الله لم نختلف فيما جاء به النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) ، ولو كان هناك اختلاف فإنّما هو في ما روي عنه ، وهذا هو الّذي أرشدنا إليه الإمام أمير المؤمنين علي ( عليه السَّلام ) ، عندما قال له بعض اليهود :
    ما دفنتم نبيكم حتّى اختلفتم فيه !!
    فقال ( عليه السَّلام ) له : « إنّما اختلفنا عنه ، لا فيه ، ولكنّكم ما جفّت أرجلكم من البحر حتّى قلتم لنبيّكم : « اجعل لنا إلهاً كما لهم آلهة ، فقال : إنّكم قوم تجهلون ». (1)
1. نهج البلاغة ، قصار الكلمات ، برقم 317.

(12)
    شيخ الشريعة الإِصبهاني : من كبار المجتهدين والزعماء ، الفقيه الأُصولي الماهر ، الميرزا فتح الله بن محمد جواد الإصبهاني ، ولد بإصبهان في الثاني عشر من ربيع الأوّل سنة 1266 هـ وتوفي عام 1339 هـ.
    قال السيد الأمين : كان أحد أعلام علماء هذا العصر ، أصله من مدينة شيراز ، من أُسرة كريمة تعرف بالنمازية نسبة إلى جدهم المعروف باسم الحاج محمد علي النمازي الذي كان معروفاً بالورع والصلاح ، ولكثرة مداومته على النوافل والصلوات عرف بالنمازي (2).
    تلقى الشيخ مبادئ العلوم باصبهان فحضر دروس المولى حيدر الإصبهاني ، والمولى عبد الجواد الخراساني ، من أعلام تلامذة الشيخ
1. أُنظر ترجمته : الأعلام للزركلي 5 : 135 ، معجم المؤلفين 8 : 52 ـ 53 ، أعيان الشيعة 8 : 391 ـ 392 ، أحسن الوديعة 1 : 171 ، مصفى المقال : 193 ، علماء معاصر : 122 ، مكارم الآثار 5 : 1816 ، الذريعة 22 : 283 رقم 7112 ، ريحانة الأدب 3 : 206 ، معجم ما كتب عن الرسول وأهل بيته 9 : 266 رقم 23180 ، معجم رجال الفكر في النجف خلال ألف عام 2 : 767 ، مقدمة نخبة الأزهار في أحكام الخيار : 6 ـ 12 ، والكتب التاريخية التي ألّفت في تاريخ العراق وثورة العشرين.
2. أعيان الشيعة 8 : 391.


(13)
محمد تقي الإصبهاني صاحب الحاشية ، ودروس المولى أحمد السبزواري ، والمولى محمد صادق التنكابني ، والمولى محمد تقي الهروي ، وعند الشيخ محمد باقر بن الشيخ محمد تقي الإصبهاني في كثير من المباحث الفكرية والأُصولية ، وسمع عليه افاداته في حجية الظنون.
    سافر إلى مشهد الرضا ( عليه السَّلام ) زائراً وأقام بها مدة قليلة ، جرت بينه وبين علمائها مباحث ، فظهر فضله في العلوم المتداولة ، ثم عاد إلى إصبهان واشتغل بالتدريس.
    ثم هاجر إلى النجف الأشرف في سنة 1295 هـ فاجتمع حوله طلاب العلم وتصدى للتدريس والبحث ، وفي أثناء ذلك حضر على الميرزا الرشتي وعلى الشيخ محمد حسين الكاظمي ، وكان يمتاز بمشاركته في فنون الفلسفة القديمة والحكمة الإلهية فضلاً عن العلوم الدينية والكلام ، والحديث ، والرجال ، وخلافيات الفرق والمقالات ، وما لها وما عليها من الحجج والأدلّة ، وكان يحضر مجالس محاضراته وإفاداته العلماء وتلمذ عليه المئات من فضلاء العرب والفرس ، وقد كان جمع كثير من الناس يرجعون إلى فتاواه ويقلدونه في أحكام مسائلهم ، وبعد السيد اليزدي أقبل إليه الجمهور ، وبعد وفاة الميرزا الشيرازي أصبح المرجع الوحيد للشيعة في أغلب الأقطار وهذا قلّما يصادف مثله (1).
    وقد تصدّى بجدّ لمواجهة الصراع الفكري فعقد المناظرات العميقة مع محمود شكري الآلوسي ببغداد في إثبات الحجة ووجود المهدي ( عليه السَّلام ) وإمامته في
1. أعيان الشيعة 8 : 391 ـ 392.

(14)
ثلاث رسائل : صغير ، ووسيط ، وكبير (1) ، وأخرى عند ما نظر إلى الكتب المشتهرة بالصحاح والسنن لأهل السنة ولاسيّما الصحيح لمحمد بن اسماعيل البخاري ، الذي يعتمد في كثير من رواياته على النواصب وأهل البدع وعلى الضعفاء ، مع أنّه لم يروي عن الإمام جعفر الصادق ( عليه السَّلام ) ابن الإمام محمد بن علي الملقب على لسان رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) بباقر العلوم ( عليه السَّلام ) ! وأهمل الرواية عن أهل البيت ، لتأثره بأمثال يحيى بن سعيد الناصبي.
    ذكر في مقدمة نخبة الأزهار : يمتاز الشيخ على كثير من الفقهاء المعاصرين له بالموسوعية والمطالعة الطويلة في العلوم التي لاتدخل في نطاق الفقه من قريب ، فقد كان كما ينقل قوي الحافظة ، مرهف الشعور ، سريع الإنتقال ، كثير القرائة ، ومداوم النظر في الكتب المتفرقة ، وتجمع هذه الصفات فيه خلقت منه عالماً يلم بفروع العلوم المتداولة في بيئته وغير المتداولة.
    ففي الفقه وأُصوله كان بارعاً لم يشق له غبار ، وأذعن بتفوّقه فيهما من أتى بعده من شيوخ العلم في حوزة النجف وغيرها (2).
    وقال أيضاً : كان الشيخ أيام دراسته باصبهان يمارس التدريس لحلقة من الطلاب ، ولما عاد من مشهد انقطع إلى التدريس كما ذكرنا ، وعندما هاجر إلى
1. قال الشيخ آغا بزرك الطهراني في الذريعة : المناظرات مع ابن الآلوسي ، في اثبات وجود الحجة وامامته لشيخنا الحاج ميرزا فتح الله المشتهر بشيخ الشريعة بن الحاج ميرزا محمد جواد ، وهي ثلاث رسائل ، صغير ، ووسيط ، وكبير ، ومجموعها 3700 بيت في تحقيقات وتدقيقات رشيقة وجوابات كافية وافية ، استنسخه صدر الإسلام الخوئي. الذريعة إلى تصانيف الشيعة 22 : 383 رقم 7112.
2. نخبة الأزهار في أحكام الخيار : 8 ، تقرير لأبحاث الشيخ صاحب الترجمة ( رحمه الله ) ألّفها العالم الرباني آية الله الشيخ محمد حسين السبحاني ( قدس سره ).


(15)
النجف زاول التدريس أيضاً ضمن تتلمذه على أساتذتها حتى سنة 1313 هـ ، حيث رجع من الحج ، وفيها استقل بإلقاء محاضراته العالية في الفقه والأُصول وغيرهما ، معنياً بتربية رجال العلم ومنصرفاً إلى تنشئة العلماء والأفاضل ، ويتفق مترجموه على أنه ربّى مئات من أهل العلم في حوزة اصبهان والنجف ، وكانت حلقة درسه مرغوباً فيها ، يتوافد عليها الطلاب والراغبون في الدرسات العالية (1).
    قال الزركلي في الأعلام : شيخ الشريعة فقيه إمامي من كبار المشاركين في ثورة العراق الأول على الإنكليز أصله من شيراز من أسرة تعرف بالنمازية ، ومنشأه باصبهان ، تفقه وقرأ علوم العربية وانتقل إلى النجف فانتهت إليه رياسة علمائها (2).
    وفي معجم المؤلفين : فتح الله بن محمد جواد النمازي الشيرازي الإصبهاني الغروي الملقب بشريعة مدار ، فقيه أصولي شارك في بعض العلوم ، أصله من مدينة شيراز ، وولد باصبهان في 12 ربيع الأول ، وساهم في ثورة العراق أيام الاحتلال البريطاني سنة 1339 هـ ، ودعاه الحاكم المدني البريطاني للتفاوض لوقف الثورة ، فكتب المترجم إليه مشترطاً : « منح العراق استقلاله التام » (3).
    وقد استمر الجهاد حتى دخل الجيش البريطاني النجف فعند ذلك تفرق الناس ، ولبث الشيخ في بيته (4) ، وحاولو بينه وبين من يريد اصلاح مجتمعه
1. نفس المصدر السابق.
2. الأعلام : 5 / 135.
3. معجم المؤلفين : 8 / 52 ـ 53.
4. معجم رجال الفكر : 2 / 767.


(16)
وأمته ، وقد نصبوا عليه العيون والمراصد على الداخل والخارج من بيته حتى خادمه وبعض حفدته (1).
    فأصيب الشيخ على أثر جهاده بمرض عضال في صدره ، فكان طريح الفراش ، واشتدّت عليه الآلام إلى أن اختار الله تعالى له الدار الآخرة ، فتوفي في النجف الأشرف ليلة الأحد من شهر ربيع الثاني سنة 1339 هـ ودفن في الصحن الغروي الشريف في أحد الغرف الشرقية.

    شيخ الشريعة وثورة العشرين
    عند ما يذكر تاريخ العراق المعاصر والحوادث الّتي جرت فيه منذ احتلال الانكليز للعراق ، وحتى اندلاع ثورة العشرين يبرز هذا الاسم الكريم في حركة الجهاد الإسلامي وقيادة الثورة بعد غياب الإمام محمد تقي الشيرازي.
    تولّى شيخ الشريعة في غمرة تلك الظروف العاصفة المرجعية الدينية وقيادة الثورة العراقية الكبرى وقد تمّ تشكيل قيادة عليا للثورة تضم رموزاً من زعماء العشائر العراقية.
    وعندما عرض الانكليز فكرة التفاوض وحدث الانقسام بين قادة الثورة كان شيخ الشريعة زعيماً للخط الذي رفض الفكرة وأصدر بيانه الشهير :
    « لا مفاوضة قبل الجلاء » وانه سيستخدم المگوار (2) إذا أعوزهم السلاح (3).
1. معارف الرجال : 2 / 154 رقم 281.
2. المگوار : عصا غليظة ينتهي أحد طرفيها بكتلة من القار الصلد ، وهو معروف جداً في جنوب العراق.
3. أنظر : تاريخ الحركة الإسلامية في العراق الجذور الفكرية والواقع التاريخي ، لعبدالحليم الرهيمي.


(17)
    قال الزركلي في الأعلام : برز اسمه في ثورة العراق أيام الإحتلال البريطاني سنة 1920 م ، وتناقل الناس ما أصدره من الفتاوى فيها ، وكان في بدئها عوناً لآية الله محمد تقي الشيرازي سنة 1338 هـ انتقلت إليه الزعامة وانتقل مركز القيادة من كربلاء إلى النجف (1).

    شيخ الشريعة وكتبه العلمية
    ومن بين نشاطات الشيخ العلمية يبرز عدد من الكتب القيمة التي تتسم بالعمق في الموضوع وأحياناً الإبتكار ، وإليك أسماء ما وقفنا عليه من تلكم الدرر الغالية :
    1 ـ ابانة المختار في ارث الزوجة من ثمن العقار ، ( مطبوع ).
    2 ـ ابرام القضاء في وسع القضاء.
    3 ـ افاضة القدير في أحكام العصير ، ( مطبوع ).
    4 ـ انارة الحالك في قراءة « مَلِك » و « مالِك ».
    5 ـ رسالة في علم الباري.
    6 ـ رسالة في التفصيل بين جلود السباع وغيرها.
    7 ـ رسالة في المتمم كرّاً.
    8 ـ رسالة في العصير العنبي.
    9 ـ تعاليق على الفصول في الأصول.
    10 ـ صيانة الإبانة عن وصمة الرطانة.
1. الأعلام 5 : 135.

(18)
    11 ـ قاعدة لا ضرر ، ( مطبوع ).
    12 ـ قاعدة الواحد البسيط.
    13 ـ قاعدة الطهارة.
    14 ـ القول الصراح في نقد الصحاح ، ( وهي هذه الرسالة القيّمة بين يديك ).
    15 ـ المناظرات مع الآلوسي ، وهي ثلاث رسائل ، الصغير ، والوسيط ، والكبير.
    هذا ما عدا حواشيه على كثير من الكتب الدراسية ورسائله العملية الفتوائية لعمل مقلديه ، وغيرها (1).
    وقد ذكر المحقق منهجه في التحقيق وهو كما يلي :

    كلمة المحقق
    اعتمدنا في تحقيق هذا الأثر النفيس على النسخة التي كانت في مكتبة مؤسسة الأمام الصادق ( عليه السَّلام ) المعمورة بإشراف صاحب السماحة العلامة آية الله الأُستاذ الشيخ جعفر السبحاني دام ظله ، فإنه منّ عليّ بمخطوطها.
    والنسخة كانت بخط نستعليق جيد ولكن فيها أخطاء كثيرة.
    ويظهر منها أيضاً ؛ كما أشار إليها الشيخ صاحب الذريعة ، أنّها كانت سقيمة ، فقد كتب على ظهر النسخة بخطه : « استكتبته عن نسخة بخط المؤلف وهي ناقصة الآخر ولم يسمّها طاب ثراه باسم ولكن اخترت له هذا الاسم
1. مقدمة نخبة الأزهار : 10 و 11.

(19)
الكاشف عن معناه ، وكانت النسخة كراريس ، ضاعت منها صفحات أردت إحياءها ولم تحصل لي فرصة المقابلة والتصحيح الكامل وعملت له فهرس مطالبه تسهيلاً للتناول ».
    ونحن بحمد الله وجدنا في أثناء التحقيق أكثر الموارد المفقودة التي أشار إليها الشيخ صاحب الذريعة من المصادر المأخوذة المشار إليها في المتن ، وأدرجناها بين [ ].
    وأما الصفحات الضائعة المتعلقة بآخر الكتاب فإنه قد ألحقنا تتمة ما في ترجمة سبط ابن الجوزي ، وأضفنا عليه مابعدها تحت عنوان « التكملة » في تراجم بعض رجال الحديث لكي يكمل المقصود ويحصل المطلوب.
    وأما المصادر والمآخذ المذكورة في الكتاب فكثيرة جداً ، فما وصلنا إليها أدرجناه في التخريجات ، وما لم نصل ، وكذا ما لم يكن له أهمية في التخريج سكتنا عنه ».
    هذا نص شيخنا المحقق ونحن بدورنا نتقدم بالشكر والثناء له ونرجو منه سبحانه أن يوفقّه لإخراج ما لعلمائنا من التراث الثمين.
    وآخر دعوانا ان الحمد لله رب العالمين.
جعفر السبحاني
مؤسسة الإمام الصادق ( عليه السَّلام )
22 رجب المرجب 1421 هـ
القول الصراح في البخاري وصحيحه الجامع ::: فهرس