القول الصراح في البخاري وصحيحه الجامع ::: 61 ـ 75
(61)
    والثالث : أن إجماع العترة حجة ، وهؤلاء هم العترة ، فصاروا لذلك لاينظرون إلى دليل ولا تعليل.
    قال : وإن كانت المسألة ممّا انفردوا بها اعتمدوا على الأصول الثلاثة التي فيها من الجهل والضلال ما لا يخفى.
    وكم لهذا الناصب العنيد من نظائر هذا الكلام لعلك ستطلع على بعضها في تضاعيف المباحث.
    والإنصاف أن هذا النصب والعداوة مما توارثوا بينهم ، و ورثه خلفهم عن سلفهم ومتأخرهم عن متقدمهم ، فإنّهم لم يزالوا منحرفين عن العترة الطاهرة ( عليهم السَّلام ) ومتخلّفين عن سفينة نجاة الإمة.
    هذا إمامهم الأعظم ومجتهدهم الأقدم أبو حنيفة مع أنه حكى عنه ملك العلماء في كتاب « هداية السعداء » من شدة اعتقاده بالعترة الطاهرة ( عليهم السَّلام ) وانخفاضه لهم ، قد وقع منه مع أبي عبدالله الصادق صلوات الله عليه ما وقع مما يكشف عن بطلان ما نسبوه إليه من المودّة والموالاة.
    قال في « هداية السعداء » في شرح « ذخائر العقبى » في مناقب أولى القربى ، قال : القاضي عزّالحق والدين الزرندي المدني الحنفي : نقل عن أبي حنيفة الكوفي : أنه مرّ يوماً في سكّة من سكك بغداد فرأى بعض أولاد السادات يلعب بالجوز ، فنزل من بغلته وأمر أصحابه بالنزول ومشي أربعين خطوة ثم ركب وتوجّه إلى أصحابه فقال : من جال في قلبه ، أو من ظهر على لسانه أنه خير من صبي أو من غلام من أهل بيت رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) فهو عندي زنديق.
    وهذه الحكاية المرسلة وإن كانت آثار الوضع عليها لائحة لكنها حجة عليه وعلى أتباعه.


(62)
    ذكر قاضي القضاة أبو المؤيد محمد الخوارزمي في « جامع مسانيد أبي حنيفة » ما هذا لفظه :
    « أبو حنيفة قال : جعفر بن محمد أفقه من رأيت ، ولقد بعث إليّ أبو جعفر المنصور ، أن الناس قد فتنوا بجعفر بن محمد; فهيّأ له مسائل شداداً.
    فلخّصت أربعين مسألة وبعثت بها إلى المنصور بالحيرة ، ثم أبرد إلي فوافيته على سريره وجعفر بن محمد عن يمينه فوجدت من جعفر هيبة لم أجدها من المنصور.
    فاجلسني ثم التفت إلى جعفر قائلاً يا أبا عبدالله هذا أبو حنيفة ، فقال : نعم أعرفه.
    ثم قال المنصور : سله ما بدا لك يا أبا حنيفة ، فجعلت أسأله ويجيب الإجابة الحسنة ، ويفحم حتى أجاب عن أربعين مسألة.
    فرأيته أعلم الناس باختلاف الفقهاء ، فلذلك أحكم أنه أفقه من رأيت ، أخرجه الحافظ طلحة بن محمد في مسنده عن أبي العباس أحمد بن محمد بن سعيد ، عن جعفر بن محمد بن الحسين الحازمي ، عن أبي نجيح ابراهيم بن محمد عن الحسن بن زياد عن أبي حنيفة » (1).
    وأمثال هذا وان كانت كثيرة في كتب الإمامية أيدهم الله وأخبارهم الصحيحة مفصحة عنها ، إلاّ أن العامة يحكمون بوضعها وبطلانها ، وفي هذه الحكاية المسندة المعتبرة وجوه من الدلالة على خبث سريرة الإمام الأعظم.
1. جامع المسانيد للخوارزمي 1 : 222 ـ 223 ، المناقب للموفق بن أحمد : 173 ، سير أعلام النبلاء 6 : 257.

(63)
    ومنها : أنها تدل على أنه قصد بهذا الأمر الشنيع أن ينصرف وجوه الناس عن أبي عبدالله ( عليه السَّلام ) وينفضوا من حوله ويصير ( عليه السَّلام ) خفيفاً في أعينهم منحط الشأن عندهم واضح الجهل لديهم.
    فإن المنصور لما رأى افتنان الناس به وانهماكهم في حسن الإعتقاد به طلب من أبي حنيفة مسائل مشكلة ليصرف قلوب الناس عنه وبعث إليه أن الناس قد فتنوا بجعفر فهيّأ له كذا فلخّص له تلك المسائل وبعث بها إليه ثم شافهه ( عليه السَّلام ) بها.
    وفيه من الوجوه الدلالة على ضلالته وكفره مالا يخفى وقد عرفت سابقاً في الجملة حال اهانة الذرية العلوية بل يكفي في المقام أخبارهم المروية المتضمّنة للذم واللوم على معاداة آحاد الناس وحسدهم وترك النصيحة لهم.
    ومنها : أنها تدل على أنه اعتقد عجز الإمام عليه السلام عن أسئلته ، وأنه يفحم بمسائل أعدّها وهيّأها مع قلة باعه في العلوم وعدم اشتغاله بمقدمات الفقه من العربية والنحو واعراضه عن الحديث ، وغاية بعده عن الروايات وعدم معرفته بما يعرفه أجلاف الأعراب.
    مع أن علومهم لدنيّة ومعارفهم ربّانيّة ، وهذه المعارضة نظير معارضة يحيى بن أكثم المأبون قاضي المأمون غير المأمون الذي هو من أفاضل قضاتهم وأعاظم ثقاتهم وأماثل هداتهم مع العسكري ( عليه السَّلام ) وقصده الزامه وافحامه كما يعلم من المراجعة إلى كتب الخاصة والعامة ، وممن أوردها منهم ابن حجر المكي المتأخر المتعصب الباهت في الصواعق.
    ومنها : أنها تدل على أنه من الصادّين عن سبيل الله ، اذ لا يخلو الأمر في الواقع من أن يكون معتقداً في حق الإمام 7 أنه يدعو الناس والعياذ بالله إلى غير


(64)
دين الله ويرشدهم إلى غير أحكام الله ، فأراد صرف قلوبهم عنه فهو أشدّ ضلالة من النواصب والخوارج.
    ويكفي في شناعة هذا الاعتقاد وضلالته وكفر صاحبه ما ملأت العامة به كتبهم ودساتيرهم وشحنوا به دفاترهم وطواميرهم أو يعتقد أنه يدعوهم إلى الحق المبين ومع ذلك أراد صرفهم عنه فهو من الملحدين بآيات الله والصادّين عن سبيل الله أو يكون شاكاً في ذلك فكذلك وعلى كل حال لا يخرج من كونه صاداً عن دين الله على جميع التقادير الثلاثة ، إذ المدار في الصدّ على نفس الأمر ، دون الاعتقاد فيصير مصداقاً لقوله تعالى ( الذين يستحبون الحياة الدنيا على الآخرة ويصدّون عن سبيل الله ويبغونها عوجاً ) (1).
    ولمثل هذا ولظاهره حكم الإمام ( عليه السَّلام ) بأنه من الصادِّين ، على ما رواه ثقة الإسلام أبو جعفر الكليني في جامعه الكافي عن سدير ، قال : سمعت أبو جعفر ( عليه السَّلام ) وهو داخل ، وأنا خارج وأخذ بيدي ثم استقبل القبلة فقال : يا سدير إنّما أمر الناس أن يأتوا هذه الأحجار ، فيطوفوا بها ثم يأتونا فيعلمونا ولايتهم لنا ، وهو قول الله تعالى ( وإنّي لغفّار لمن تاب وآمن وعمل صالحاً ثم اهتدى ) (2).
    ثم أومئ بيده إلى صدره ، إلى ولايتنا ، ثم قال : يا سدير أفأراك الصادّين عن دين الله ؟ ثم نظر إلى أبي حنيفة وسفيان الثوري في ذلك الزمان ، وهم حلق في المسجد ، هؤلاء الصادّين عن دين الله بلا هدى من الله أو كتاب مبين (3).
    ومما يقضى منه العجب أن بعضهم ذكر أن أبا حنيفة استشهد في طريق
1. ابراهيم : 4.
2. طه : 82.
3. أصول الكافي كتاب الحجة 1 : 392 ـ 393 باب : ان الواجب على الناس بعد ما تفيضون مناسكهم ان يأتوا الامام ، ح 3.


(65)
محبة مولانا الصادق ( عليه السَّلام ) ، قال محمود القادري في كتاب حياة الذاكرين : قيل أن رجلاً أتى أبا حنيفة رحمة الله عليه وقال : أخي توفي وأوصى بثلث ماله لإمام المسلمين ، إلى من أدفع ؟
    فقال له أبو حنيفة : أمرك بهذا السؤال أبو جعفر الدوانيقي وكان يبغض أبا حنيفة كبغض جماعة من أشقياء بلدنا الإمام الشافعي ، فحلف السائل كذباً أنه ما أوفى بهذا السؤال ، فقال : أبو حنيفة : ادفع الثلث إلى جعفر بن محمد الصادق فإنه هو الإمام الحق ، انتهى.
    وذكر صاحب كتاب غرّة الراشدين : أن هذه الفتوى صارت سبباً لحبه ، أقول : ولا أدري كيف جمع أبو حنيفة بين هذا التصديق والاعتراف وذاك التخلف والانحراف وبين هذا الاقرار والإلتزام وذاك الإعراض في جميع العقائد والأحكام وما قصده من الإفحام والإلزام.
    اللهم إلاّ أن يقال : لاغرو ، فقد جمع بين الإذعان بنبوة سيد المرسلين والمخالفة في أربعمائة مسألة من مسائل الدين وقد ثبت بحمدالله زندقته وكفره باعترافه.
    حيث انه اذا كان من جال في قلبه أنه خير من صبي من أهل بيت النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) زنديقاً ، بمقتضى صريح ما حكى من كلامه ، فكيف حال من قصد الالزام والإفحام لأئمة الأعلام من أهل البيت ( عليهم السَّلام ) ، وبالجملة فشنائعه أكثر من أن تسطر وأشهر من أن تذكر ، وقد [ ... ] (1)
    فيها رسالة مفردة حتى أن حجة الإسلام الغزالي مع احترازه عن لعن يزيد
1. بياض في الأصل.

(66)
عليه لعائن الله واحتياطه وتورعه ، حكى في كتاب المنخول (1) : أن أئمة السلف والخلف يلعنون أباحنيفة.
    ولنختم هذا الأمر بكلام للناصب العنيد والمغصب الجحيد ابن روزبهان ، قال في صدر كتابه : ومن الغرائب أن هذا الرجل يعني العلامة وأمثاله ينسبون مذهبهم إلى الأئمة الاثني عشر ( صلوات اللّه عليهم ) أجمعين وهم صدور ايوان الإصطفاء وبدور سماء الأجتباء ، ومفاتيح أبواب الكرم ، ومجاديح هواطل النعم ، ليوث غياض النبالة ، وغيوث رياض الأبالة ، وسباق مضامير السماحة ، وخزان نقود الرماحة ، والأعلام الشوامخ في الإرشاد والهداية ، والجبال الرواسخ في الفهم والدراية ، وهم كما قلت فيهم :
1. المنخول في الأصول : قال السبكي : إنّه ، أي الغزالي ، ألّفه في حياة أستاذه امام الحرمين ، والكتاب ردّ على أبي حنيفة نعمان ، وأول من أشار إلى أن الكتاب لايمكن أن يكون للغزالي هو ابن حجر الهيتمي في كتابه : « الخيرات الحسان في مناقب النعمان » حيث قال :
اعلم ، أن بعض المتعصبين ممّن لم يمنح توفيقاً جاءني بكتاب منسوب للإمام الغزالي ، فيه من التعصب الفظيع والحط الشنيع على امام المسلمين وأوحد الأئمة المجتهدين أبي حنيفة رحمه الله ما تصم عنه الآذان.
وقال عبدالرحمن بدوي في كتابه « مؤلّفات الغزالي » : مخطوط « المنخول » في دار الكتاب المصرية ، برقم 188 ، 600 ، وعلى صفحة العنوان : هذا كتاب المنخول في الأصول ، لحجة الإسلام الغزالي.
وقال في « الجواهر المضيئة في طبقات الحنفية » : رأيت رسالة له ـ للعمادي الكردري صاحب كتاب مناقب النعمان ـ في الردّ على منخول للإمام الغزالي المشتمل على التشنيع القبيح على الإمام أبي حنيفة رضي الله عنه. أنظر : الجواهر المضيئة 2 : 82 ، الخيرات الحسان : 4 ، الفوائد البهية : 16 ، ومؤلفات الغزالي : 7 ـ 16.


(67)
شمّ المعاطس من أولاد فاطمة فاقوا العرانين في نشر الندى كرما تلقاهم في غداة الروع إذ رجفت مثل الليوث إلى الأهوال سارعة بنو علي وصي المصطفى حقاً علوّ رواسي طود الغر والشرف بسمح كفّ خلا من هجنة السرف أكتاف اكفائهم في رحبة التلف حماسة النفس لا ميلا إلى الصلف أخلاف صدق نموا من أشرف السلف
    وقال في موضع آخر عند ذكر العلامة رحمه الله : نبذاً من فضائل أهل البيت من طرق العامة ما هذا لفظه : ماذكر من فضائل آل فاطمة صلوات الله على أبيها وعليها وعلى سائر آل محمد والسلام ، أمر لاينكر فإن الإنكار على البحر برمته ، وعلى البرّ بسعته ، وعلى الشمس بنورها ، وعلى الأنوار بظهورها ، وعلى السحاب بجوده ، وعلى الملك بسجوده انكار لايزيد المنكر إلاّ الاستهزاء به ، ومن هو قادر على أن ينكر على جماعة هم أهل السداد وخزان معدن النبوة وحفاظ آداب الفتوّة صلوات الله وسلامه عليهم ، ثم ذكر قصيدة مشتملة على التسليم على النبي وآله بأسمائهم إلى خاتم الأوصياء صلوات الله عليهم.
    أقول : ومن الغريب استغرابه لانتساب الإمامية إلى الأئمة الإثني عشر ، فإنه لم تكن الإمامية مع افناء أعمارهم في تتبع أحاديث الأئمة


(68)
وأخبارهم ، المنتسبين إليهم ، فهل يجوز لجاهل أن ينسب أبا حنيفة وسفيان الثوري إليهم ؟ أو ينسب مصنّفوا صحاح العامة إليهم مع انحرافهم عنهم ؟
    هذا أجلّهم البخاري ، قالوا في حقّه : أنه استراب في حقّ الإمام الصادق ! فلم يرو له ولم يحتج بخبره ، ولم ير حديثه لائقاً بالإيداع في صحيحه السقيم ، وبالجملة فالفكر فيهم طويل والتعجب منهم غير قليل.


(69)
    في بيان حال القطّان الفتّان الذي تفوّه بذلك الهذيان فتبعه البخاري ، وتوضيح أنه من سادة العامة وكبرائهم وقادتهم وعظمائهم ، وأن أئمتهم إليه ينتسبون وبه ينتمون وينتهون.
    فإذا تبيّن انحرافه عن أهل البيت ( عليهم السَّلام ) ثبت انحراف عظمائهم الأعلام ، فنقول :
    قال النووي في تهذيب الأسماء : يحيى بن سعيد القطّان هو أبو سعيد يحيى بن سعيد بن فروخ التميمي مولاهم البصري القطان ، الإمام من تابعي التابعين ، سمع يحيى بن سعيد الأنصاري ، وحنظلة بن أبي سفيان ، وابن عجلان ، وسيف بن سليمان ، وهشام بن حسان ، وابن جريج ، وسعيد بن أبي عروبة ، وابن أبي ذوئيب ، والثوري ، وابن عيينة ، ومالكاً ، ومسعراً ، وشعبة ، وخلائق وغيرهم.
    وروى عنه الثوري وابن عيينة ، وشعبة ، وابن مهدي ، وعفّان ، وأحمد بن
1. طبقات ابن سعد 7 : 293 ، تاريخ خليفة : 468 ، طبقات خليفة : رقم 1909 ، التاريخ الكبير 8 : 276 ، التاريخ الصغير 2 : 283 ، الجرح والتعديل 9 : 150 ، حلية الأولياء 8 : 380 ، تاريخ بغداد14 : 135 ، تهذيب الأسماء واللغات 2 : 134 ، سير أعلام النبلاء 9 : 175 رقم 53 ، تذكرة الحفاظ 1 : 298 ، الكاشف 3 : 256 ، العبر 1 : 327 ، تهذيب التهذيب 11 : 16 ، طبقات الحفاظ : 125 ، شذرات الذهب 1 : 355.

(70)
حنبل ، ويحيى بن معين ، وعلي بن المديني ، واسحاق بن راهويه ، وأبو عبيد القاسم بن سلاّم ، وأبو خيثمة ، وأبوبكر بن أبي شيبة ، ومسدّد ، وعبيد الله بن عمر القواريري ، وعمرو بن علي ، وابن مثنى ، وابن بشار ، وخلائق من الأئمة وغيرهم.
    واتفقوا على امامته وجلالته ، ووفور حفظه وعلمه وصلاحه ، قال أحمد بن حنبل : ما رأيت مثل يحيى القطّان في كلّ أحواله.
    وقال يحيى بن معين : أقام يحيى القطان عشرين سنة يختم القرآن في كل يوم وليلة ، ولم يفته الزوال في المسجد أربعين سنة ، وما رؤي يطلب جماعة قط نوى ما فاتته فيحتاج إلى طلبها.
    وقال أحمد بن حنبل : يحيى القطان إليه المنتهى في الثبت بالبصرة ، وهو أثبت من وكيع ، وابن مهدي ، وأبي نعيم ، ويزيد بن هارون ، وقد روى عن خمسين شيخاً ممن روى عنهم سفيان ، قال : لم يكن في زمان يحيى مثله.
    وقال أبو زرعة : هو من الثقات الحفاظ.
    وقال يحيى بن معين : قال لي عبد الرحمن بن مهدي : لاترى بعينك مثل يحيى القطان.
    وقال ابن منجويه : كان يحيى القطان من سادات أهل زمانه حفظاً وورعاً ، وفقهاً وفضلاً وديناً وعلماً ، وهو الذي مهّد لأهل العراق رسم الحديث ، وأمعن في البحث عن الثقات ، وترك الضعفاء.
    وقال بندار : كتب عبدالرحمن بن مهدي عن يحيى القطّان ثلاثين ألفاً وحفظها.


(71)
    وقال زهير : رأيت القطّان بعد وفاته وعليه قميص مكتوب بين كتفيه : بسم الله الرحمن الرحيم براءة ليحيى بن سعيد من النار ، وقال ابن سعد : توفي يحيى القطّان في صفر سنة ثمان وتسعين ومائة ، وكان مولده سنة عشرين ومائة ، (1).
    وقال السمعاني في الأنساب : القطّان بفتح القاف وتشديد الطاء المهملة في آخرها نون ، هذه النسبة إلى بيع القطن ، والمشهور بها هو أبو سعيد يحيى بن سعيد بن فرّوخ الأحول القطّان مولى بني تميم من أئمة أهل البصرة.
    يروي عن يحيى بن سعيد الأنصاري ، وهشام بن عروة ، وروى عنه أهل العراق ، مات يوم الأحد سنة 198 هـ وكان اذا قيل له في علته يعافيك الله ، قال : أحبّه اليّ أحبه إلى الله عزّوجلّ ، وسرد جملة من الأكاذيب السابقة ، إلى أن قال : ذكر عمرو بن الفلاس : أن يحيى بن سعيد القطّان كان يختم القرآن في كلّ ليلة ، ولم يفته الزوال في المسجد أربعين سنة (2).
    وذكره الذهبي في الكاشف وأثنى عليه (3) ، وحكى عن بندار : أنه قال : امام أهل زمانه يحيى القطّان (4) ، واختلف اليه عشرين سنة فما أظن أنه عصى الله قط ، وذكره في حاشية الكاشف واثنى عليه ببعض ما تقدم ومثله.
    وذكره محمد بن حبّان في كتاب الثقات ومدحه بأمثال ما تقدم ، قال : وصلّى عليه اسماعيل بن جعفر بن سليمان بن علي بن عبدالله بن عباس وهو أمير البصرة.
1. تهذيب الأسماء واللغات 2 : 154 ـ 155 رقم 243.
2. الأنساب للسمعاني 4 : 519.
3. الكاشف 3 : 256.
4. سير أعلام النبلاء 9 : 177.


(72)
    وذكره اليافعي في مرآة الجنان (1) ، وأثنى عليه ببعض ما ذكر ، وكذا الشيخ عبد الحق في المشكوة وغيرهم ، وقد تقدم في الأمر الثاني كلام الذهبي وثنائه عليه وعرفت في كلامه أن يحيى بن معين وعلي بن المديني ، وأحمد بن حنبل ، وعمرو بن علي الفلاس ، وأبو خيثمة تلامذة القطّان ، وأن أبا زرعة وأبا حاتم والبخاري ومسلماً وأبا اسحاق الجوزجاني تلامذته.
    والغرض من هذا كلّه ضعف ما أجاب به بعض متأخري العامة من أن أهل السنة ليسوا منحصرين في القطّان والبخاري حتى يثبت من انحرافهما انحرافهم ، مع أنهما ليسا بشيء في جنب العلماء الذين اعتمدوا على أقوال الأئمة الطاهرين من أهل السنّة والجماعة.
    ووجوه الضعف والفساد في هذا الكلام أظهر من أن ينبّه عليه ، ولنقصر في الكلام في الوجه الأول من وجوه الطعن في البخاري على هذا المقدار وهو واف في اثبات المرام من ضلالته بانحرافه عن الإمام الصادق ( عليه السَّلام ) وعدم الإحتجاج بأخباره وعدم اخراج رواياته في كتابه ، وعدم اطمينانه بصدق لهجته والعياذ بالله.
    واذ انضاف إلى ذلك ما سيأتي من وجوه القدح من كتابه من احتجاجه بروايات جماعة من الكذابين والوضاعين والخوارج ممن قدح فيهم علماء الرجال من العامة اذ دار الأمر وضوحاً وظهوراً ، وان لم يهتد به من لم يجعل الله له نوراً.
1. مرآة الجنان لليافعي 1 : 459.

(73)
    أنه كان قائلاً بخلق اللفظ بالقرآن وهو ضلال وبدعة عند أكثر العامة ، وكان قائلاً بأن الإيمان مخلوق ، وحال القائل به أيضاً كسابقه بل أفظع ، ولذلك أخرجوه من بخارا ، وخرج من نيسابور وتركه أبو زرعة وأبو حاتم ، وشنعا عليه (1) ، ونهى محمد بن يحيى الذهلي عن الحضور عنده ، وقال : من يحضر عنده فلا يجالسنا ولا يحضر مجلسنا ، فتركه المحدّثون وانقطع عنه المختلفون اليه ، فلمّا بلغه التشنيع الذهلي عليه قال : حمله على ذلك الحسد على ما رزقني الله من العلم ، ومع ذلك روى عن الذهلي في صحيحه ولكن باخفاء وتدليس في اسمه وسيتضح ذلك كلّه.
    فإن قلت : ألستم ، يقولون : أن الرجل إذا كان فاسد العقيدة لكن كان صحيح النقل مثبتاً في خبره بحيث لا يحدّث إلاّ عن ثقة يجوز الاحتجاج بخبره ويصح الاعتماد على روايته ؟
    وذكرتم أن جماعة من أرباب الأصول الأربعمائة وغيرها ينتحلون المذاهب الفاسدة لكن اعتمدنا على روايتهم لأنّهم رووها في حال استقامتهم ، أو لأنّهم كانوا ثقات في النقل.
    واستندتم إلى ما روى في حقّ كتب بني فضّال حيث أنه سئل
1. وقد تركه أبوحاتم وأبو زرعة الرازيين عند قدومه بالري.

(74)
العسكري عليه السلام عن كتبهم ؟ فقال ( عليه السَّلام ) : خذوا ما رووا وذروا ما رأوا.
    فإذن ذهب ما توحشته في اثبات كون البخاري مبدعاً هدراً ، فإنه صحيح النقل وان كان فاسد العقيدة ، على أن ما حكى من القول السابق مما وافق فيه الإمامية ، فلم تنقمونه عليه وتحكمون بفساد اعتقاده ؟
    فإذن ما أديتم في اثبات مدّعاكم إلى ركن شديد ، حيث لم يثبت به فساد في عقيدته ولا خلل في روايته.
    قلت : لسنا نحن الآن بصدد اثبات اختلال أخباره وضعف أحاديثه ايطالاً للأمر على ما سيأتي بل بصدد اثبات فساده في نفسه واختلال عقيدته ولو على مقتضى مذهبهم حيث أن الغرض الزام العامة.
    ولا شبهة في أن اثبات اختلاله على أصولهم وقواعدهم أدخل في هذا المرام مضافاً إلى فوائد أُخر ستعرفها في طي التفصيل.
    منها : ثبوت حسد بعض كبرائهم على بعض وتضليل بعضهم بعضاً وتكفيره ، قبالاً لما أورده الناصب الشقي نصر الله الكابلي في الصواقع : حيث أنه من الوجوه العقلية على فساد مذهب الإمامية وعدم جواز الإعتماد على أخبارهم ، ان بعض قدمائهم وكبرائهم كهشام بن الحكم ضلّل بعض أجلائهم كهشام بن سالم ومؤمن الطاق على ما نسبه إلى النجاشي فلا يثبت بخبرهم حكم.
    ونحن الآن نسرد عليك بعض ما ذكروه ممّا يتعلق بهذه الواقعة ، قال العلامة المحدّث ابن حجر العسقلاني في مقدمة فتح الباري شرح صحيح البخاري ، ما هذا لفظه قال : حاتم بن أحمد بن محمود : سمعت


(75)
مسلم بن الحجاج يقول : لما قدم محمد بن اسماعيل نيسابور ما رأيت عالماً ولا والياً فعل به أهل نيسابور ما فعلوا به فاستقبلوه من مرحلتين من البلد أو ثلاث فقال محمد بن يحيى الذهلي في مجلسه : من أراد أن يستقبل محمد بن اسماعيل غداً فليستقبله فإنّي استقبله ، فاستقبله محمد بن يحيى وعامة علماء نيسابور فدخل البلد فقال : محمد بن يحيى لا تسألوه عن شيء من الكلام ، فإن أجاب بخلاف ما نحن عليه وقع بيننا وبينه وشمتت بنا كلّ اباحتي وجهمي ومرجئي بخراسان.
    فازدحم الناس على محمد بن اسماعيل حتى امتلأت الدار والسطوح فلمّا كان اليوم الثاني أو الثالث من قدومه قام رجل فسأله عن اللفظ بالقرآن ؟ فقال : لفظي بالقرآن مخلوق ؛ وقال بعضهم : لم يقل ، فوقع بينهم في ذلك اختلاف حتى قام بعضهم إلى بعض فاجتمع أهل الدار فاخرجوهم.
    وقال ابن حجر أيضاً : قال الحاكم أبو عبدالله في تاريخه : قدم البخاري بنيسابور سنة خمسين ومائتين ، فأقام بها مدّة يحدّث على الدوام ، قال سمعت محمد بن حازم البزار يقول : سمعت الحسن بن محمد بن جابر يقول : سمعت محمد بن يحيى الذهلي يقول : اذهبوا إلى هذا الرجل الصالح العالم فاسمعوا منه ، قال : فذهب الناس اليه واقبلوا على السماع منه حتى ظهر الخلل في مجلس محمد بن يحيى ، قال : فتكلّم فيه ، وقال أيضاً :
    وقال أبو أحمد بن عدي ذكر لي جماعة من المشايخ أن محمد بن اسماعيل لما ورد نيسابور واجتمع الناس عنده حسده بعض شيوخ الوقت ، فقال : يا أبا عبدالله ما تقول في اللفظ بالقرآن ، مخلوق هو أو غير مخلوق ؟ فأعرض عنه البخاري ولم يجبه ثلاثاً ، فألحّ عليه ، فقال
القول الصراح في البخاري وصحيحه الجامع ::: فهرس