التوحيد ::: 106 ـ 120
(106)
ابن هاشم عن محمد بن عيسى ، عن يونس بن عبد الرحمن ، عن أبي المغرا (1) ، رفعه عن أبي جعفر عليه السلام قال : قال : إن الله تبارك وتعالى خلو من خلقه ، وخلقه خلو منه وكل ما وقع عليه اسم شيء فهو مخلوق ما خلا الله عزوجل.
    6 ـ حدثنا محمد بن الحسن بن أحمد بن الوليد رضي الله عنه قال : حدثنا محمد ابن الحسن الصفار ، عن محمد بن عيسى بن عبيد ، عن عبد الرحمن بن أبي نجران قال : سألت أبا جعفر الثاني عليه السلام عن التوحيد ، فقلت : أتوهم شيئا (2) فقال : نعم غير معقول ولا محدود ، فما وقع وهمك عليه من شيء فهو خلافه ، لا يشبهه شيء ، ولا تدركه الأوهام كيف تدركه الأوهام وهو خلاف ما يعقل وخلاف ما يتصور في الأوهام ، إنما يتوهم شيء غير معقول ولا محدود (3).
1 ـ أبو المغرا بالغين المعجمة والراء المهملة مقصورا وقد يمد. وهو حميد بن المثنى العجلي الكوفي ، ثقة.
2 ـ الهمزة للاستفهام والفعل مجهول من باب التفعل يرجع ضميره إلى الله و ( شيئا ) منصوب على التميز ، أو الكلام إخبار والفعل بصيغة المتكلم و ( شيئا ) مفعوله.
3 ـ كلمة ( إن ) من الحروف الستة و ( ما ) موصولة مبتدء صلته ( يتوهم ) على بناء المجهول وخبره ( شيء ) أي إن الذي يتوهم شيء غير محدود وغير معقول ، وأما كون ( شيء ) نائب الفاعل ليتوهم و ( إنما ) للحصر فمحتمل على أشكال وإن كان كتبه في النسخ متصلا ، ولب المراد في هذا الباب أن ذاته تعالى حقيقة محض الحقيقة والوجود فلا يكون هالكا منفيا ولا مخلوقا ولا شبيها به ولا جسما ولا صورة ولا حالا في شيء ولا حالا فيه شيء ولا محدودا ولا مدركا بالحواس والأوهام والعقول ، بل الذي يقع في أوهامنا وأذهاننا منه تعالى هو عنوان الشيء والموجود بما هو هو من دون تقيد بهذه الخصوصيات وغيرها التي تخرج الشيء عن الصرافة ، وهكذا جميع صفاته الذاتية ، ثم إنا لو لم نتصوره أيضا بعنوان الشيء والموجود والعالم والقادر و غيرها مجردا عن الخصوصيات الامكانية مع عدم إمكان تصور ذاته وصفاته الذاتية بحقيقتها لكان التوحيد والمعرفة عنا مرتفعا كما قال الإمام عليه السلام في الحديث الأول من الباب السادس والثلاثين.


(107)
    7 ـ حدثنا علي بن أحمد بن محمد بن عمران الدقاق رحمه الله ، قال : حدثنا محمد بن أبي عبد الله الكوفي ، عن محمد بن إسماعيل البرمكي ، عن الحسين بن الحسن عن بكر بن صالح ، عن الحسين بن سعيد ، قال : سئل أبو جعفر الثاني عليه السلام يجوز أن يقال لله : إنه شيء ؟ فقال : نعم ، يخرجه من الحدين حد التعطيل وحد التشبيه.
    8 ـ حدثنا جعفر بن محمد بن مسرور رحمه الله ، قال : حدثنا محمد بن جعفر بن بطة ، قال : حدثني عدة من أصحابنا ، عن محمد بن عيسى بن عبيد ، قال : قال لي أبو الحسن عليه السلام : ما تقول إذا قيل لك : أخبرني عن الله عزوجل شيء هو أم لا ؟ قال فقلت له : قد أثبت الله عزوجل نفسه شيئا حيث يقول : ( قل أي شيء أكبر شهادة قل الله شهيد بيني وبينكم ) (1) فأقول : إنه شيء لا كالأشياء ، إذ في نفي الشيئية عنه إبطاله ونفيه ، قال لي : صدقت وأصبت ، ثم قال لي الرضا عليه السلام : للناس في التوحيد ثلاثة مذاهب : نفي ، وتشبيه ، وإثبات بغير تشبيه ، فمذهب النفي لا يجوز ، ومذهب التشبيه لا يجوز لأن الله تبارك وتعالى لا يشبهه شيء ، والسبيل في الطريقة الثالثة إثبات بلا تشبيه.

    1 ـ حدثنا محمد بن موسى بن المتوكل رحمه الله ، قال : حدثنا علي بن إبراهيم ابن هاشم ، عن أبيه ، عن النوفلي ، عن السكوني ، عن أبي عبد الله ، عن آبائه عليهم السلام قال : مر النبي صلى الله عليه وآله وسلم على رجل وهو رافع بصره إلى السماء يدعو ، فقال له رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : غض بصرك فإنك لن تراه. وقال : ومر النبي صلى الله عليه وآله وسلم على رجل رافع يديه إلى السماء وهو يدعو ، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : اقصر من يديك فإنك لن تناله (2).
1 ـ الأنعام : 19.
2 ـ إنه صلى الله عليه وآله علم أنهما يتوقعان رؤيته تعالى هناك فزجرهما وإلا فرفع اليد والبصر وتقلب الوجه إلى السماء مما أمر به كما ذكر في الحديث الأول من الباب السادس والثلاثين.


(108)
    2 ـ حدثنا علي بن أحمد بن محمد بن عمران الدقاق رحمه الله ، قال :
    حدثنا محمد بن أبي عبد الله الكوفي ، عن علي بن أبي القاسم ، عن يعقوب بن إسحاق قال : كتبت إلى أبي محمد عليه السلام أسأله كيف يعبد العبد ربه وهو لا يراه ؟! فوقع عليه السلام يا أبا يوسف جل سيدي ومولاي والمنعم علي وعلى آبائي أن يرى. قال :
    وسألته هل رأى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ربه ؟ فوقع عليه السلام إن الله تبارك وتعالى أرى رسوله بقلبه من نور عظمته ما أحب.
    3 ـ حدثنا الحسين بن أحمد بن إدريس رحمه الله ، عن أبيه ، عن محمد بن عبد الجبار ، عن صفوان بن يحيى ، عن عاصم بن حميد ، قال : ذا كرت أبا عبد الله عليه السلام فيما يروون من الرؤية ، فقال : الشمس جزء من سبعين جزءا من نور الكرسي ، والكرسي جزء من سبعين جزءا من نور العرش ، والعرش جزء من سبعين جزءا من نور الحجاب ، والحجاب جزء من سبعين جزءا من نور الستر ، فإن كانوا صادقين فليملؤوا أعينهم من الشمس ليس دونها سحاب (1).
    4 ـ أبي رحمه الله قال : حدثنا محمد بن يحيى العطار ، عن أحمد بن محمد بن عيسى ، قال : حدثنا ابن أبي نصر ، عن أبي الحسن الرضا عليه السلام قال : قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : لما أسري بي إلى السماء بلغ بي جبرئيل مكانا لم يطأه جبرئيل قط ، فكشف لي فأراني الله عزوجل من نور عظمته ما أحب.
    5 ـ أبي رحمه الله قال : حدثنا علي بن إبراهيم بن هاشم ، عن أبيه ، عن علي بن معبد ، عن عبد الله بن سنان ، عن أبيه ، قال : حضرت أبا جعفر عليه السلام فدخل عليه رجل من الخوارج فقال له : يا أبا جعفر أي شيء تعبد ؟ قال : الله ، قال :
    رأيته ؟ قال : لم تره العيون بمشاهدة العيان ، ولكن رأته القلوب بحقائق الإيمان لا يعرف بالقياس ، ولا يدرك بالحواس ، ولا يشبه بالناس ، موصوف بالآيات ، معروف بالعلامات ، لا يجور في حكمه ، ذلك الله لا إله إلا هو.
    قال : فخرج الرجل وهو يقول : الله أعلم حيث يجعل رسالته.
1 ـ في نسخة ( د ) و ( ج ) وحاشية نسخة ( ب ) ( ليس دونها حجاب ).

(109)
    6 ـ أبي رحمه الله ، قال : حدثنا سعد بن عبد الله ، قال : حدثنا أحمد بن محمد بن أبي نصر ، عن أبي الحسن الموصلي ، عن أبي عبد الله عليه السلام قال : جاء حبر إلى أمير المؤمنين عليه السلام فقال : يا أمير المؤمنين هل رأيت ربك حين عبدته ؟ فقال : ويلك ما كنت أعبد ربا لم أره ، قال : وكيف رأيته ؟ قال : ويلك لا تدركه العيون في مشاهدة الأبصار ولكن رأته القلوب بحقائق الإيمان.
    7 ـ حدثنا الحسين بن أحمد بن إدريس رحمه الله ، عن أبيه ، عن أحمد بن إسحاق ، قال : كتبت إلى أبي الحسن الثالث عليه السلام أسأله عن الرؤية وما فيه الناس فكتب عليه السلام لا يجوز الرؤية ما لم يكن بين والمرئي هواء ينفذه البصر ، فإذا انقطع الهواء وعدم الضياء بين الرائي والمرئي لم تصح الرؤية وكان في ذلك الاشتباه (1) لأن الرائي متى ساوى المرئي في السبب الموجب بينهما في الرؤية وجب الاشتباه وكان في ذلك التشبيه ، لأن الأسباب لا بد من اتصالها بالمسببات (2).
    8 ـ حدثنا علي بن أحمد بن محمد بن عمران الدقاق رحمه الله ، قال : حدثنا محمد بن يعقوب ، قال : حدثنا أحمد بن إدريس ، عن أحمد بن محمد بن عيسى ، عن علي ابن سيف ، عن محمد بن عبيدة ، قال : كتبت إلى أبي الحسن الرضا عليه السلام أسأله عن الرؤية وما ترويه العامة والخاصة ، وسألته أن يشرح لي ذلك ، فكتب عليه السلام بخطه
1 ـ ( عدم ) فعل ماضي على بناء المجهول ، وفي البحار ( عن الرائي والمرئي ) ، وفي نسخة ( ج ) و ( د ) و ( و ) ( فإذا انقطع الهواء عن الرائي والمرئي ـ الخ ).
2 ـ حاصل كلامه عليه السلام قياس استثنائي لإثبات امتناع رؤيته تعالى وهو أنه تعالى لو كان مرئيا لكان بينه وبين الرائي هواء وضياء لأنهما من شرائط الرؤية فلا تصح بدونهما كسائر شرائطهما ، والتالي باطل لأن في ذلك له الاشتباه أي التشابه مع الرائي في كون كل منهما مرئيا لأنهما متساويان متشاركان في السبب الموجب للرؤية الذي هو كون كل منهما في جهة وحيز ، بينهما هواء وضياء ، وكان في ذلك تشبيهه تعالى بالرائي في الجسمية والاحتياج إلى الحيز سبحانه وتعالى عن ذلك ، ولا يمكن أن يقال : هو تعالى مرئي من دون هذا السبب لأن السبب لا بد من اتصاله بالمسبب إذ يمتنع وجود المسبب بدونه.


(110)
اتفق الجميع لا تمانع بينهم أن المعرفة من جهة الرؤية ضرورة ، فإذا جاز أن يرى الله عزوجل بالعين وقعت المعرفة ضرورة ، ثم لم تخل تلك المعرفة من أن تكون إيمانا أو ليست بإيمان ، فإن كانت تلك المعرفة من جهة الرؤية إيمانا فالمعرفة التي في دار الدنيا من جهة الاكتساب ليست بإيمان لأنها ضده فلا يكون في الدنيا أحد مؤمنا لأنهم لم يروا الله عز ذكره ، وإن لم تكن تلك المعرفة التي من جهة الرؤية إيمانا لم تخل هذه المعرفة التي هي من جهة الاكتساب أن تزول أو لا تزول في المعاد ، فهذا دليل على أن الله عز ذكره لا يرى بالعين ، إذ العين تؤدي إلى ما وصفنا (1).
    9 ـ حدثنا علي بن أحمد بن محمد بن عمران الدقاق رحمه الله ، قال : حدثنا محمد بن يعقوب الكليني ، عن أحمد بن إدريس ، عن محمد بن عبد الجبار ، عن صفوان بن
1 ـ إن كلامه عليه السلام رد على الذين يدعون جواز رؤيته تعالى في الآخرة فقط لا مطلقا ، فإن القائلين على فرقتين فيرد قول المجوزين مطلقا بطريق أولى ، وتوضيحه أن الرؤية تستلزم المعرفة ضرورة وقطعا ، والمعرفة التي حصلت من جهة الرؤية هي العلم بكونه تعالى في جهة وحيز ، متكمما بكميات ، متكيفا بكيفيات ، حاضرا في مكان ، غائبا عن آخر ، واقعا في شيء ، محمولا على شيء ، مركبا ، مبعضا ، محدودا ، فلو جاز أن يرى الله تعالى بالعين لكانت معرفتنا به هكذا ، ولكن التالي باطل فالمقدم مثله ، والملازمة ظاهرة ، وأما بيان بطلان التالي فإن المعرفة هكذا إما إيمان أو ليست بإيمان ، فإن كانت إيمانا فالمعرفة التي حصلت من جهة الاكتساب بالبرهان في الدنيا ليست بإيمان لأنها العلم بكونه تعالى على نقائض هذه الأوصاف فلزم أن يكون أحد في الدنيا ممن قبل الأنبياء عليهم السلام إيمانهم مؤمنا ، لأن معرفة الناس إنما هي بالاكتساب لا بالرؤية ، وهذا لا ينكره عاقل ، وإن لم تكن تلك المعرفة التي من جهة الرؤية في الآخرة إيمانا فأما أن تزول في الآخرة المعرفة الاكتسابية بالبرهان التي هي نقيضها فلزم عدم الإيمان بالله تعالى في الآخرة أصلا ، وهذا أمر باطل منكر بالعقل والنقل ، وأما أن لا تزول فلزم اجتماع النقيضين أي الإيمان واللا إيمان لأن المفروض أن المعرفة من جهة الرؤية لا إيمان والمعرفة الاكتسابية إيمان.

(111)
يحيى ، قال : سألني أبو قرة المحدث أن أدخله على أبي الحسن الرضا عليه السلام فاستأذنته في ذلك فأذن لي ، فدخل عليه فسأله عن الحلال والحرام والأحكام حتى بلغ سؤاله التوحيد ، فقال أبو قرة : إنا روينا أن الله عزوجل قسم الرؤية والكلام بين اثنين ، فقسم لموسى عليه السلام الكلام ولمحمد صلى الله عليه وآله وسلم الرؤية ، فقال أبو الحسن عليه السلام فمن المبلغ عن عزوجل إلى الثقلين الجن والإنس ( لا تدركه الأبصار وهو يدرك الأبصار ) (1) ( ويحيطون به علما ) (2) ( وليس كمثله شيء ) (3) أليس محمدا صلى الله عليه وآله وسلم قال : بلى ؟ قال : فكيف يجئ رجل إلى الخلق جميعا فيخبرهم أنه جاء من عند الله وأنه يدعوهم إلى الله بأمر الله ويقول : ( لا تدركه الأبصار وهو يدرك الأبصار ) ( ولا يحيطون به علما ) ( وليس كمثله شيء ) ثم يقول : أنا رأيته بعيني ، وأحطت به علما وهو على صورة البشر ، أما تستحيون ؟ ما قدرت الزنادقة أن ترميه بهذا أن يكون يأتي عن الله بشيء ، ثم يأتي بخلافه من وجه آخر! (4).
    قال أبو قرة : فإنه يقول : ( ولقد رآه نزلة أخرى ) (5) فقال أبو الحسن عليه السلام :
    إن بعد هذه الآية ما يدل على ما رأى ، حيث قال : ( ما كذب الفؤاد ما رأى ) يقول : ما كذب فؤاد محمد صلى الله عليه وآله وسلم ما رأت عيناه ، ثم أخبر بما رأى فقال : لقد رأى من آيات ربه الكبرى ، فآيات الله عزوجل غير الله : وقد قال : ( ولا يحيطون به علما ) فإذا رأته الأبصار فقد أحاطت به العلم (6) ووقعت المعرفة ، فقال أبو قرة فتكذب بالروايات فقال أبو الحسن عليه السلام : إذا كانت الروايات مخالفة للقرآن كذبت
1 ـ الأنعام : 103.
2 ـ طه : 110.
3 ـ الشورى : 11.
4 ـ قوله : ( ما قدرت الزنادقة ـ الخ ) استفهام تقرير ، أي ألم تقدر الزنادقة أن ترميه بهذا القبيح ، وقوله : ( أن يكون يأتي ـ الخ ) عطف بيان لهذا.
5 ـ النجم : 13.
6 ـ أي فقد أحاطت به الأبصار علما فإن التميز قد يأتي معرفة ، والنسخ متفقة في هذه العبارة حتى الكافي والبحار.


(112)
بها (1) وما أجمع المسلمون عليه أنه لا يحاط به علم (2) ولا تدركه الأبصار ، وليس كمثله شيء.
    10 ـ أبي رحمه الله ، قال : حدثنا محمد بن يحيى العطار ، عن أحمد بن محمد بن عيسى ، عن ابن أبي نجران ، عن عبد الله بن سنان ، عن أبي عبد الله عليه السلام في قوله عزوجل : ( لا تدركه الأبصار وهو يدرك الأبصار ) قال : إحاطة الوهم ، ألا ترى إلى قوله : ( قد جاءكم بصائر من ربكم ) (3) ليس بمعنى بصر العيون ( فمن أبصر فلنفسه ) ليس يعني من البصر بعينه ( ومن عمي فعليها ) لم يعن عمي العيون ، إنما عنى إحاطة الوهم كما يقال : فلان بصير بالشعر ، وفلان بصير بالفقه ، وفلان بصير بالدراهم وفلان بصير بالثياب ، الله أعظم من أن يرى بالعين (4).
    11 ـ حدثنا محمد بن الحسن بن أحمد بن الوليد رضي الله عنه قال : حدثنا محمد بن الحسن الصفار ، قال : حدثنا أحمد بن محمد ، عن أبي هاشم الجعفري ، عن أبي الحسن الرضا عليه السلام قال : سألته عن الله عزوجل هل يوصف ؟ فقال : أما تقرء القرآن ؟!
    قلت : بلى ، قال : أما تقرء قوله عزوجل : ( لا تدركه الأبصار وهو يدرك الأبصار ) قلت : بلي ، قال : فتعرفون الأبصار ؟ قلت : بلى ، قال : وما هي ؟ قلت : أبصار العيون
1 ـ أي كذبت بها بالمعني الذي تزعمونه ، وإلا فأحاديث الرؤية واللقاء والنظر كالآيات كثيرة متواترة كما أشار إلى كثرتها المصنف في هذا الباب ، فتؤول إلى المعنى الصحيح اللائق بجناب قدسه تعالى.
2 ـ هكذا في النسخ والظاهر أنه اشتباه من النساخ ، والصواب ( لا يحاط بعلم ).
    وفي البحار باب نفي الرؤية : ( أنه لا يحيط به علم ) كما مر في ص 104 وفي الكافي باب إبطال الرؤية ( ولا يحاط به علما ).
3 ـ الأنعام : 104 والآية بعد آية ( لا تدركه الأبصار ).
4 ـ أي الله أعظم من أن يرى بالعين بالبديهة فلا حاجة إلى نفي إدراك العيون عنه ، بل المنفي إدراك الأوهام التي تدرك المعاني.


(113)
فقال : إن أوهام القلوب أكثر من أبصار العيون (1) فهو لا تدركه الأوهام وهو يدرك الأوهام.
    12 ـ حدثنا علي بن أحمد بن محمد بن عمران الدقاق رحمه الله قال : حدثنا محمد بن أبي عبد الله الكوفي ، عمن ذكره ، عن محمد بن عيسى ، عن داود بن القاسم عن أبي هاشم الجعفري ، قال : قلت لأبي جعفر ابن الرضا عليهما السلام ( لا تدركه الأبصار و هو يدرك الأبصار ) ؟ فقال : يا أبا هاشم أوهام القلوب أدق من أبصار العيون ، أنت قد تدرك بوهمك السند والهند والبلدان التي لم تدخلها ولا تدركها ببصرك ، فأوهام القلوب لا تدركه فكيف أبصار العيون.
    13 ـ حدثنا علي بن أحمد بن محمد بن عمران الدقاق رضي الله عنه ، قال :
    حدثنا محمد بن أبي عبد الله الكوفي ، عن محمد بن إسماعيل البرمكي ، عن الحسين ابن الحسن ، عن بكر بن صالح ، عن الحسين بن سعيد (2) عن إبراهيم بن محمد الخزاز ، ومحمد بن الحسين ، قالا : دخلنا على أبي الحسن الرضا عليه السلام فحكينا له ما روي أن محمدا صلى الله عليه وآله رأى ربه في هيئة الشاب الموفق في سن أبناء ثلاثين سنة رجلاه في خضرة (3) وقلت : إن هشام بن سالم وصاحب الطاق والميثمي يقولون :
1 ـ في نسخة ( ب ) و ( و ) و ( د ) ( أكبر من إبصار العيون ).
2 ـ الحسن والحسين ابنا سعيد بن حماد الأهوازي كانا من أصحاب الرضا والجواد عليهما السلام ، موثقان عند الأصحاب ، وكثيرا ما يذكر أحدهما مكان الآخر في إسناد الأحاديث ولا بأس به لما قال الشيخ رحمه الله في الفهرست : الحسن بن سعيد بن حماد بن سعيد بن مهران الأهوازي من موالي علي بن الحسين عليهما السلام أخو الحسين بن سعيد ثقة ، روى جميع ما صنفه أخوه عن جميع شيوخه ، وزاد عليه بروايته عن زرعة عن سماعة فإنه يختص به الحسن ، والحسين إنما يرويه عن أخيه عن زرعة ، والباقي هما متساويان فيه وسنذكر كتب أخيه إذا ذكرناه ، والطريق إلى روايتهما واحد ـ انتهى.
3 ـ قد مر تفسير الموفق في الحديث الأول من الباب السادس.


(114)
إنه أجوف إلى السرة والباقي صمد ، فخر ساجدا ، ثم قال : سبحانك ما عرفوك ولا وحدوك فمن أجل ذلك وصفوك ، سبحانك لو عرفوك لوصفوك بما وصفت به نفسك ، سبحانك كيف طاوعتهم أنفسهم أن شبهوك بغيرك ، إلهي لا أصفك إلا بما وصفت به نفسك ، ولا أشبهك بخلقك ، أنت أهل لكل خير فلا تجعلني من القوم الظالمين ) ثم التفت إلينا ، فقال : ما توهمتم من شيء فتوهموا الله غيره ، ثم قال : نحن آل محمد النمط الأوسط (1) الذي لا يدركنا الغالي ولا يسبقنا التالي ، يا محمد إن رسول الله صلى الله عليه وآله حين نظر إلى عظمة ربه كان في هيئة الشاب الموفق وسن أبناء ثلاثين سنة يا محمد عظم ربي وجل أن يكون في صفة المخلوقين ، قال : قلت : جعلت فداك من كانت رجلاه في خضرة ؟ قال : ذاك محمد صلى الله عليه وآله كان إذا نظر إلى ربه بقلبه جعله في نور مثل نور الحجب حتى يستبين له ما في الحجب ، إن نور الله منه اخضر ما ـ اخضر ، ومنه احمر ما احمر ، ومنه ابيض ما ابيض ، ومنه غير ذلك (2) يا محمد
1 ـ في أكثر النسخ النمط الوسطي بمعنى الطريقة صح تأنيثه باعتبارها ، ويأتي بمعان أخر.
2 ـ النور تجلى الشيء وظهوره فكل موجود إذا تجلى لموجود كان هذا في نور الموجود المتجلى وعارفا به بقدر نورانية نفسه وذاك مستبينا له ، وكلما كان النورانية أشد كان التجلي أكثر ، فالعرفان أتم ، فالنبي صلى الله عليه وآله تجلى له كل شيء بكماله لأنه أشد نورا من كل شيء إلا الله تعالى فإنه تعالى تجلى له على قدره لا على قدره لأنه لا يتناهى فقال صلى الله عليه وآله : ( ما عرفناك حق معرفتك ) وقال : ( لا أثنى ثناء عليك أنت كما أثنيت على نفسك ) ووصف النور بهذه الألوان إشارة إلى مراتب أنوار الأشياء التي كلها من نور الله تعالى. والنور التام فوق التمام هو نور الله وأضعف الأنوار نور عالمنا الجسماني الذي يكاد أن يكون ظلمه ، والمتتبع الناظر في مواضع ذكر النور في الكتاب والسنة يظهر له أحكامه ، وفي الكافي باب النهي عن الصفة : ( إن نور الله منه أخضر ومنه أحمر ومنه أبيض ومنه غير ذلك ) وفي حديث العرش في الباب الخمسين من هذا الكتاب : ( فمن ذلك النور نور أخضر اخضرت منه الخضرة الخ ـ ).


(115)
ما شهد به الكتاب والسنة فنحن القائلون به.
    14 ـ حدثنا محمد بن محمد بن عصام الكليني رضي الله عنه ، قال : حدثنا محمد بن يعقوب الكليني ، عن علي بن محمد ، عن سهل بن زياد وغيره ، عن محمد بن سليمان عن علي بن إبراهيم الجعفري ، عن عبد الله بن سنان ، عن أبي عبد الله عليه السلام قال :
    قال : إن الله عظيم ، رفيع ، لا يقدر العباد على صفته ، ولا يبلغون كنه عظمته ، ولا تدركه الأبصار وهو يدرك الأبصار وهو اللطيف الخبير ، ولا يوصف بكيف ولا أين ولا حيث (1) فكيف أصفه بكيف وهو الذي كيف الكيف حتى صار كيفا ، فعرفت الكيف بما كيف لنا من الكيف ، أم كيف أصفه بأين وهو الذي أين الأين حتى صار أينا ، فعرفت الأين بما أين لنا من الأين ، أم كيف أصفه بحيث وهو الذي حيث الحيث حتى صار حيثا ، فعرفت الحيث بما حيث لنا من الحيث ، فالله تبارك وتعالى داخل في كل مكان ، وخارج من كل شيء ، لا تدركه الأبصار ، وهو يدرك الأبصار ، لا إله إلا هو العلي العظيم ، وهو اللطيف الخبير.
    15 ـ أبي رحمه الله ، قال : حدثنا سعد بن عبد الله ، عن إبراهيم بن هاشم ، عن ابن أبي نجران ، عن محمد بن سنان ، عن إبراهيم والفضل ابني محمد الأشعريين عن عبيد بن زرارة ، عن أبيه ، قال : قلت لأبي عبد الله عليه السلام : جعلت فداك الغشية التي كانت تصيب رسول الله صلى الله عليه وآله إذا أنزل عليه الوحي ؟ فقال : ذاك إذا لم يكن بينه وبين الله أحد ، ذاك إذا تجلى الله له ، قال : ثم قال : تلك النبوة يا زرارة ، و اقبل متخشع (2).
1 ـ المراد به الزمان على ما قيل : أنه يأتي له قليلا ، أو المراد به اختلاف الجهات والحيثيات في ذات الشيء الموجب للتكثر.
2 ـ يحتمل أن يكون ( أقبل ) فعل ماض من الاقبال وضميره يرجع إلى الإمام عليه السلام أي وأقبل عليه السلام إلى الله تعالى حين التكلم بهذا الكلام بحالة التخشع والخضوع ، وفي نسخة ( د ) و ( ب ) و ( و ) ( يتخشع ) على صيغة المضارع. ويحتمل أن يكون فعل أمر من القبول خطابا لزرارة أي واقبل ما قلت بقلبك بتخشع وخضوع. إلا أنه لا يناسب نسخة ( يتخشع ) ، وفي نسخة ( ج ) وحاشية نسخة ( و ) ( وقال يتخشع ) أي وقال زرارة : يتخشع الإمام عليه السلام حين التكلم بهذا الكلام.


(116)
    حدثنا محمد بن الحسن بن أحمد بن الوليد رضي الله عنه ، قال : حدثنا إبراهيم بن هاشم ، عن ابن أبي عمير ، عن مرازم ، عن أبي عبد الله عليه السلام قال : سمعته يقول : رأى رسول الله صلى الله عليه وآله ربه عزوجل يعني بقلبه (1). وتصديق ذلك :
    17 ـ ما حدثنا به محمد بن الحسن بن أحمد بن الوليد رحمه الله قال : حدثنا محمد بن الحسن الصفار ، عن محمد بن الحسين بن أبي الخطاب ، عن محمد بن الفضيل قال : سألت أبا الحسن عليه السلام هل رأى رسول الله صلى الله عليه وآله ربه عزوجل ؟ فقال : نعم بقلبه رآه ، أما سمعت الله عزوجل يقول : ( ما كذب الفؤاد ما رأى ) أي لم يره بالبصرة ، لكن رآه بالفؤاد.
    18 ـ أبي رحمه الله ، قال : حدثنا سعد بن عبد الله ، عن القاسم بن محمد الإصفهاني عن سليمان بن داود المنقري ، عن حفص بن غياث أو غيره ، قال : سألت أبا عبد الله عليه السلام عن قول الله عزوجل : ( لقد رأى من آيات ربه الكبرى ) (2) قال : رأى جبرئيل على ساقه الدر مثل القطر على البقل ، له ستمائة جناح قد ملأ ما بين السماء إلى الأرض.
    19 ـ حدثنا علي بن أحمد بن محمد بن عمران الدقاق رحمه الله قال : حدثنا محمد بن هارون الصوفي ، قال : حدثنا عبيد الله بن موسى الروياني ، قال : حدثنا عبد العظيم بن عبد الله بن علي بن الحسن بن زيد بن الحسن بن علي بن أبي طالب عليهما السلام ، عن إبراهيم بن أبي محمود ، قال : قال علي بن موسى الرضا عليهما السلام في قول الله عزوجل : ( وجوه يومئذ ناضرة إلى ربها ناظرة ) (3) يعني مشرقة تنتظر ثواب ربها.
1 ـ كلام المؤلف رحمه الله.
2 ـ النجم : 18.
3 ـ القيامة : 23.


(117)
    20 ـ حدثنا علي بن أحمد بن محمد بن عمران الدقاق رحمه الله ، قال : حدثنا محمد بن أبي عبد الله الكوفي ، قال : حدثنا موسى بن عمران النخعي ، عن الحسين بن يزيد النوفلي ، عن علي بن أبي حمزة ، عن أبي بصير ، عن أبي عبد الله عليه السلام ، قال :
    قلت له : أخبرني عن الله عزوجل هل يراه المؤمنون يوم القيامة ؟ قال : نعم ، وقد رأوه قبل يوم القيامة ، فقلت : متى ؟ قال : حين قال لهم : ( ألست بربكم قالوا بلى ) ثم سكت ساعة ، ثم قال : وإن المؤمنين ليرونه في الدنيا قبل يوم القيامة ، ألست تراه في وقتك هذا ؟ قال أبو بصير : فقلت له : جعلت فداك فأحدث بهذا عنك ؟ فقال لا ، فإنك إذا حدثت به فأنكر منكر جاهل بمعنى ما تقوله ثم قدر أن ذلك تشبيه كفر (1) وليست الرؤية بالقلب كالرؤية بالعين ، تعالى الله عما يصفه المشبهون والملحدون.
    21 ـ حدثنا أحمد بن زياد بن جعفر الهمداني رحمه الله ، قال : حدثنا علي ابن إبراهيم ، عن أبيه إبراهيم بن هاشم ، عن عبد السلام بن صالح الهروي ، قال :
    قلت لعلي بن موسى الرضا عليهما السلام ، : يا ابن رسول الله ما تقول في الحديث الذي يرويه أهل الحديث أن المؤمنين يزورون ربهم من منازلهم في الجنة ؟ فقال عليه السلام :
    يا أبا الصلت إن الله تبارك وتعالى فضل نبيه محمد صلى الله عليه وآله وسلم على جميع خلقه من النبيين والملائكة ، وجعل طاعته طاعته ومتابعته متابعته وزيارته في الدنيا والآخرة زيارته فقال عزوجل : ( من يطع الرسول فقد أطاع الله ) ، وقال : ( إن الذين يبايعونك إنما يبايعون الله يد الله فوق أيديهم ) وقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم : ( من زارني في حياتي أو بعد موتي فقد زار الله ) درجة النبي صلى الله عليه وآله وسلم في الجنة أرفع الدرجات ، فمن زاره إلى درجته في الجنة من منزله فقد زار الله تبارك وتعالى.
    قال : فقلت له : يا ابن رسول الله فما معنى الخبر الذي رووه أن ثواب لا إله إلا الله النظر إلى وجه الله ؟ فقال عليه السلام : يا أبا الصلت من وصف الله بوجه كالوجوه فقد كفر ولكن وجه الله أنبياؤه ورسله وحججه صلوات الله عليهم ، هم الذين بهم
1 ـ ( كفر ) فعل ماض جواب إذا.

(118)
يتوجه إلى الله وإلى دينه ومعرفته ، وقال الله عزوجل : ( كل من عليها فان و يبقى وجه ربك ) (1) وقال عزوجل : ( كل شيء هالك إلا وجهه ) (2) فالنظر إلى أنبياء الله ورسله وحججه عليهم السلام في درجاتهم ثواب عظيم للمؤمنين يوم القيامة ، وقد قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم : ( من أبغض أهل بيتي وعترتي لم يرني ولم أره يوم القيامة ) وقال عليه السلام : ( إن فيكم من لا يراني بعد أن يفارقني ) يا أبا الصلت إن الله تبارك و تعالى لا يوصف بمكان ، ولا تدركه الأبصار والأوهام.
    فقال : قلت له : يا ابن رسول الله فأخبرني عن الجنة والنار أهما اليوم مخلوقتان ؟ فقال : نعم ، وأن رسول الله صلى الله عليه وآله قد دخل الجنة ورأى النار لما عرج به إلى السماء ، قال : فقلت له : إن قوما يقولون : إنهما اليوم مقدرتان غير مخلوقتين ، فقال عليه السلام : ما أولئك منا ولا نحن منهم ، من أنكر خلق الجنة والنار فقد كذب النبي صلى الله عليه وآله وكذبنا ، ولا من ولايتنا على شيء ، ويخلد في نار جهنم ، قال الله عزوجل : ( هذه جهنم التي يكذب بها ، المجرمون يطوفون بينها وبين حميم آن ) (3) وقال النبي صلى الله عليه وآله : ( لما عرج بي إلى السماء أخذ بيدي جبرئيل فأدخلني الجنة فناولني من رطبها فأكلته فتحول ذلك نطفة في صلبي ، فلما أهبطت إلى الأرض واقعت خديجة فحملت بفاطمة عليها السلام ، ففاطمة حوراء إنسية ، وكلما اشتقت إلى رائحة الجنة شممت رائحة ابنتي فاطمة عليها السلام.
    22 ـ حدثنا محمد بن موسى بن المتوكل رحمه الله قال : حدثنا علي بن الحسين السعدآبادي ، عن أحمد بن أبي عبد الله البرقي ، عن أبيه محمد بن خالد ، عن أحمد ابن النضر ، عن محمد بن مروان ، عن محمد بن السائب ، عن أبي الصالح ، عن عبد الله بن عباس في قوله عزوجل : ( فلما أفق قال سبحانك تبت إليك وأنا أول المؤمنين ) (4) قال : يقول : سبحانك تبت إليك من أن أسألك الرؤية وأنا أول المؤمنين بأنك لا ترى.
1 ـ الرحمن : 27.
2 ـ القصص : 88.
3 ـ الرحمن : 44.
4 ـ الأعراف : 143.


(119)
    قال محمد بن علي بن الحسين مصنف هذا الكتاب رضي الله عنه : إن موسى عليه السلام علم أن الله عزوجل لا يجوز عليه الرؤية ، وإنما سأل الله عزوجل أن يريه ينظر إليه عن قومه حين ألحوا عليه في ذلك ، فسأل موسى ربه ذلك من غير أن يستأذنه ، فقال : رب أرني أنظر إليك ، قال : لن تراني ولكن انظر إلى الجبل فإن استقر مكانه في حال تزلزله فسوف تراني ، ومعناه أنك لا تراني أبدا لأن الجبل لا يكون ساكنا متحركا في حال أبدا ، وهذا مثل قوله عزوجل : ( ولا يدخلون الجنة حتى يلج الجمل في سم الخياط ) (1) ومعناه أنهم لا يدخلون الجنة أبدا كما لا يلج الجمل في سم الخياط أبدا ، فلما تجلى ربه للجبل أي ظهر للجبل بآية من آياته وتلك الآية نور من الأنوار التي خلقها ألقى منها على ذلك الجبل جعله دكا وخر موسى صعقا من هول تزلزل ذلك الجبل على عظمه وكبره (2) فلما أفاق قال : سبحانك إني تبت إليك أي رجعت إلى معرفتي بك عادلا عما حملني عليه قومي من سؤالك الرؤية ، ولم تكن هذه التوبة من ذنب لأن الأنبياء لا يذنبون ذنبا صغيرا ولا كبيرا ، ولم يكن الاستيذان قبل السؤال بواجب عليه ، لكنه كان أدبا يستعمله ويأخذ به نفسه متى أراد أن يسأله ، على أنه قد روي قوم أنه قد استأذن في ذلك فأذن له ليعلم قومه بذلك أن الرؤية لا تجوز على الله عزوجل وقوله : وأنا أول المؤمنين يقول : وأنا أول المؤمنين من القوم الذين كانوا معه وسألوه أن يسأل ربه أن يريه ينظر إليه بأنك لا ترى.
    والأخبار التي رويت في هذا المعنى وأخرجها مشايخنا رضي الله عنهم في مصنفاتهم عندي صحيحة ، وإنما تركت إيرادها في هذا الباب خشية أن يقرأها جاهل بمعانيها فيكذب بها فيكفر بالله عزوجل وهو لا يعلم.
    والأخبار التي ذكرها أحمد بن محمد بن عيسى في نوادره والتي أوردها محمد بن
1 ـ الأعراف : 40.
2 ـ في نسخة ( و ) و ( ج ) ( تدكدكه وتدكدك ذلك الجبل ) مكان ( تزلزله وتزلزل ذلك الجبل ) في الموضعين.


(120)
أحمد بن يحيى في جامعه في معنى الرؤية صحيحة لا يردها إلا مكذب بالحق أو جاهل به وألفاظها ألفاظ القرآن ، ولكل خبر منها معنى ينفي التشبيه والتعطيل ويثبت التوحيد ، وقد أمرنا الأئمة صلوات الله عليهم أن لا نكلم الناس إلا على قدر عقولهم.
    ومعنى الرؤية الواردة في الأخبار العلم ، وذلك أن الدنيا دار شكوك و ارتياب وخطرات ، فإذا كان يوم القيامة كشف للعباد من آيات الله وأموره في ثوابه وعقابه ما يزول به الشكوك ويعلم حقيقة قدرة الله عزوجل ، وتصديق ذلك في كتاب الله عزوجل ( لقد كنت في غفلة من هذا فكشفنا عنك غطاءك فبصرك اليوم حديد ) (1) فمعنى ما روي في الحديث أنه عزوجل يرى أي يعلم علما يقينا ، كقوله عزوجل : ( ألم تر إلى ربك كيف مد الظل ) (2) وقوله : ( ألم تر إلى الذي حاج إبراهيم في ربه ) (3) وقوله : ( ألم تر إلى الذين خرجوا من ديارهم وهم ألوف حذر الموت ) (4) وقوله : ( ألم تر كيف فعل ربك بأصحاب الفيل ) (5) وأشباه ذلك من رؤية القلب وليست من رؤية العين ، وأما قول الله عزوجل : ( فلما تجلى ربه للجبل ) فمعناه لما ظهر عزوجل للجبل بآية من آيات الآخرة التي يكون بها الجبال سرابا والتي ينسف بها الجبال نسفا تدكدك الجبل فصار ترابا لأنه لم يطق حمل تلك الآية ، وقد قيل : إنه بدا له من نور العرش.
    23 ـ حدثنا أبي رضي الله عنه قال : حدثنا سعد بن عبد الله عن القاسم بن محمد الإصفهاني ، عن سليمان بن داود المنقري ، عن حفص بن غياث النخعي القاضي ، قال : سألت أبا عبد الله عليه السلام ، عن قول الله عزوجل : ( فلما تجلى ربه للجبل جعله دكا ) قال : ساخ الجبل في البحر فهو يهوي حتى الساعة (6).
1 ـ ق : 22.
2 ـ الفرقان : 45.
3 ـ البقرة : 258.
4 ـ البقرة : 243.
5 ـ الفيل : 1.
6 ـ لا بعد في ذلك فإن الأرض كروية يهوى فيها دورا ، ولو كان هوية بالاستقامة لكان في غاية البطء ، ولا ظاهر من العبارة أنه يهوى في البحر خاصة دون أعماق الأرض بعد الوصول إلى قعر البحر ، وحكمه الهوى خافية علينا ، وحفص بن غياث عامي المذهب ، كان قاضيا من قبل هارون ، وهذا الحديث معترض بين ما ذكره وبين تصديق ما ذكره.
التوحيد ::: فهرس