الوافية في اصول الفقه ::: 76 ـ 90
(76)
    وأيضا : لو دلت على التكرار لعمت الاوقات ، لعدم الاولوية (1) ، وهو باطل (2) للاجماع على خلافه.
    وما قيل : بأنها لو لم تكن للتكرار لما تكرر الصوم والصلاة وغيرهما ، ولما كانت مماثلة لصيغة النهي ، حيث اقتضت التكرار ، ولاستلزامها إياها بالنظر إلى الضد ، وتكرار اللازم يستدعي تكرار (3) الملزوم.
    فهو باطل ، لان تكرر (4) ما يتكرر من العبادات ، إنما هو لدليل آخر ، كتعليقه على موجب يتكرر.
    وأيضا : التكرار على هذا النحو مما لا يتصور أن يكون مفهوما من مجرد صيغة الامر.
    وأيضا : ينتقض بما لا يتكرر كالحج ونحوه.
    والثاني : قياس ، وفي اللغة (5) ، ومع الفارق ، إذ النهي يقتضي انتفاء الحقيقة ، والامر اثباتها.
    والثالث : باطل ، لما سيجيء من عدم الاستلزام.
    وبعد التسليم : فالنهي هنا تابع للامر في التكرار وعدمه ، لترتبه عليه ، والقائل بالمرة يتمسك هنا بتحقق الامتثال بالمرة (6) ، ولا يخفى أنه لا ينافي كونها لمجرد الطلب ، لاصالة براء‌ة الذمة.
1 ـ كذا في أ وب وط ، وفي الاصل : لعدم الاولية.
2 ـ المحصول : 1 / 239 ، معارج الاصول : 66.
3 ـ كذا في أ. وفي سائر النسخ : تكرار.
4 ـ كذا في ط. وفي الاصل وب : تكرير. وفي أ : تكرر.
5 ـ في ط : قياس في اللغة.
6 ـ عدة الاصول : 1 / 74.


(77)
    تذنيب (1) :
    الحق أن الامر المعلق على شرط أو صفة ، لا يتكرر بتكررهما (2) إلا اذا كانت الشرطية قضية كلية ، مثل : ( كلما جاء‌ك زيد فأكرمه ) ، أو كان الشرط أو الصفة علة موجبة (3) ، مثل : ( وإن كنتم جنبا فاطهروا ) (4) ، ( والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما ) (5).
    ووجه الثاني ظاهر.
    ولنا على الاول : أن السيد إذا قال لعبده : ( إن دخلت السوق ، أو إذا دخلت السوق ، فاشتر لحما ) (6) فترك الشراء في المعاودة لا يوجب الذم ، وهو ظاهر (7).
    ولكن أكثر الاوامر المعلقة الواقعة في الاحكام مما يتكرر بتكرر الشرط لفهم العلية غالبا ، ولذا توهم البعض أن ( إذا ) تفيد العموم عرفا ، وإن لم تفده لغة.

    البحث الثالث :
    اختلفوا في دلالة صيغة الامر على الفور أو التراخي ، على أقوال (8) :
1 ـ في أ وط : تذييل.
2 ـ عدة الاصول : 1 / 76 ، المحصول : 1 / 243.
3 ـ المحصول : 1 / 246 ، تهذيب الاصول : 22.
4 ـ المائدة / 6.
5 ـ المائدة / 38.
6 ـ في ط : فاشتر لنا لحما.
7 ـ الذريعة : 1 / 115 ، المحصول : 1 / 243 ، معارج الاصول : 67.
8 ـ فقد ذهب السيد المرتضى إلى أن الامر المطلق مشترك بينهما : الذريعة : 1 / 132. وذهب الشيخ الطوسى إلى انه يقتضي الفور : العدة : 1 / 85 ، وبه قالت الحنفية ، كما في المحصول : 1 / 247 ، المنتهى : 94 ، والحنابلة ، كما في المنتهى : 94.


(78)
    ثالثها : أنها لا تدل على شيء منهما (1) وهو الحق ، إلا أن الاقوى وجوب التعجيل في الامر المجرد عن القرائن ، فههنا أيضا مقامان :
    الاول : عدم الدلالة على الفور ولا على التراخي.
    ولنا فيه : أن المتبادر من الامر ليس إلا طلب الفعل من غير فهم شيء من الاوقات والازمان منه ، وهو ظاهر (2).
    الثاني : وجوب المبادرة إلى امتثال الفعل المأمور به ، وليس المراد بالفور ـ في المقام الثاني ـ المبادرة بالفعل في أول أوقات الامكان ، بل ما يعد به المكلف الفاعل عرفا مبادرا ومعجلا ، وغير متهاون ومتكاسل (3) ، وهذا أمر يختلف بحسب اختلاف الآمر والمأمور والفعل المأمور به ، مثلا : إذا أمر المولى عبده بسقي الماء ، فبتأخيره ساعة تفوت الفورية ، ويعد العبد متهاونا.
    وإذا أمره بالخروج إلى مصر (4) بعيد الغاية ـ كالهند ـ فبتأخر اسبوع بل شهر لا تفوت الفورية ، ولا يعد متهاونا.
    والدليل عليه من وجوه : الاول : أن جواز التأخير على تقديره ليس إلى (5) غاية معلومة ، إذ لا دلالة للصيغة على غاية معلومة ، ولو استفيدت (6) الغاية من أمر خارج ، يخرج عن محل
1 ـ ذهب اليه الشافعي ، كما في : المنتهى : 94 ، واختاره الفخر الرازي : المحصول : 1 / 247 ، والمحقق الحلّي : معارج الاصول : 65 ، وابن الحاجب : المنتهى : 94 ، والعلامة الحلّي : تهذيب الوصول : 22 : والمحقق الشيخ حسن : معالم الدين : 56.
2 ـ انظر مصادر البحث السابق.
3 ـ كذا الظاهر ، وفي النسخ : متكاهل.
4 ـ كذا في ب ، وفي سائر النسخ : سفر.
5 ـ في ط : ليس له.
6 ـ كذا في ط ، وفي الاصل وأ : استفاد ، وفي ب : استفادة.


(79)
النزاع ، لانه يصير من قبيل المؤقت ، والكلام في غيره (1).
    وما يقال من أن كل أمر ـ على هذا ـ يكون مؤقتا ، فلا يجب الفور في شيء أصلا ، لان الغاية هي ظن الموت ، فإذا حصل ذلك الظن ، تصير العبادة مضيقة.
    فهو باطل :
    لان (2) ظن الموت قلما يحصل.
    وعلى تقديره : لا دليل على اعتبار هذا الظن شرعا حتى يمكن الحكم به بتضييق عبادة ثبت من الشرع توسعتها.
    وعلى تقدير التسليم : فبعد حصول هذا الظن ، قلما يتمكن المكلف من الامتثال ، إذ حصول هذا الظن في صحة من الجسم وكمال من العقل ، من خوارق العادة ، بل هو على تقديره إنما يكون عند شدة المرض ، وحينئذ لا يتمكن الانسان من فعل ما يحتاج إلى زيادة إتعاب النفس ، كالحج والصوم والجهاد ، ونحوها ، بل الصلاة أيضا إذا كانت كثيرة ، فنقول في الاستدلال : إن جواز التأخير لا إلى غاية ، يفضي إلى خروج الواجب عن الوجوب فيكون منتفيا (3) فيكون الفور واجبا. والمقدمتان في غاية الظهور.
    وما يقال من : أن الواجب ما لا يجوز تركه على وجه ما ، فلا يخرج شيء من الوجوب ، إذ يصدق على كل واجب أنه بحيث لو حصل ظن المكلف بفوته ، وتمكن من الفعل ، فهو غير جائز الترك حينئذ.
    فهو من المزخرفات ، لان تحديد الوجه في هذا التعريف ، بحيث يسلم طرده من الندب بل من المباح ، مما لا يكاد يمكن إلا بالتكلفات الباردة البعيدة
1 ـ الذريعة : 1 / 133 ، المحصول : 1 / 250.
2 ـ في ط : لا أن.
3 ـ في ط : منفيا.


(80)
جدا.
    وأيضا : قد عرفت ما في غائية الظن بالموت (1).
    وأيضا : كيف يتصور وصف العبادة بالوجوب باعتبار وصف نادر التحقق فيها ؟! وكذا ما يقال من « أن الواجب ما لا يجوز تركه لا إلى بدل » والعزم هنا واجب ، لان بدلية العزم على الاطلاق توجب إخراج الواجب عن الحتمي.
    وأيضا : لا دليل على وجوب العزم ، ولا على بدليته ، على تقدير الوجوب.
    فإن قلت : هذا الدليل ينتقض بما لو صرح بجواز التأخير ، ولا نزاع في إمكانه.
    قلت : جواز التأخير ـ في جميع أزمنة صحة الجسم والتمكن من الفعل ـ لا نسلم أنه يمكن تصريح الحكيم (2) به ، لانه سفه ومناف لغرضه.
    نعم ، صراحة جواز التأخير على الاطلاق ، توجب أن يدخل في زمن جواز التأخير بعض الازمنة ، التي يعد التارك فيها متهاونا مضيعا ، لولاها.
    الثاني : أن التأخير بما ينافي الفورية المذكورة ، يعد في العرف تهاونا ومعصية (3) ، فيكون حراما ، فيكون الفور واجبا ، إذا كان الآمر ممن ثبت وجوب امتثاله.
    ولا يتوهم من هذا : صيرورة الفورية مدلولا لصيغة الامر ، فينافي ما في المقام الاول.
    لان قضاء العرف بذلك ، لا يلزم أن يكون لاجل وضع اللفظ له ، ولا يلزم أن يكون جميع صفات الشيء وآثاره وأحكامه ، من مدلولات لفظه.
1 ـ في ب : غايته ، وفي ط : غائته بالموت.
2 ـ في أ وط : الحكم.
3 ـ الذريعة : 1 / 132 ، المحصول : 1 / 251.


(81)
    الثالث : إدعاء (1) السيد الاجل المرتضى ، الاجماع على أن الامر المطلق يحمل على الفور ، حيث قال في الذريعة ، في بحث أن الامر للوجوب ، أولا ؟ : « ونحن ، وإن ذهبنا إلى أن هذه اللفظة مشتركة في اللغة بين الايجاب والندب ، فنحن نذهب إلى أن العرف الشرعي المتفق المستمر قد أوجب أن يحمل مطلق هذه اللفظة ـ إذا وردت عن الله تعالى أو عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ـ على الوجوب دون الندب ، وعلى الفور دون التراخي ، وعلى الاجزاء » (2) ، واحتج عليه ب‍ « أن الصحابة والتابعين ، وتابعي التابعين ، حملوا كل أمر ورد في الكتاب والسنة مجردا ، على الفور ، والوجوب ، والاجزاء ، ولم ينكر أحد ذلك ، وإذا احتج واحد بأمر عليه ، لم ينكر خصمه ، بل يسلم منه ذلك » (3) ثم قال : « وأما أصحابنا معشر الامامية فلا يختلفون في هذا الحكم الذي ذكرناه ، وقد مر غير مرة : أن إجماعهم حجة » (4) انتهى.
    فان قلت : الاجماع المنقول بخبر الواحد لا يفيد إلا الظن ، والمسألة من المطالب الكلية ، التي يجب تحصيل العلم بها.
    قلت : إفادة الظن من الخبر الواحد أكثري ، وقد يفيد القطع اذا احتف بالقرائن ، والظاهر كون هذا الخبر كذلك.
    ولو سلم ، فلا نسلم كون المسألة من المطالب العلمية ، بل هي من المطالب المتعلقة بمقتضيات الالفاظ ، وقد صرحوا بالاكتفاء بالظن فيها ، لعدم إمكان تحصيل القطع فيها.
    ولو سلم كونها من غير تلك المطالب ، فلا نسلم وجوب تحصيل القطع في غير المعارف الالهية.
1 ـ في ط : ادعى.
2 ـ الذريعة : 1 / 53.
3 ـ هذا تلخيض لكلام السيد في الذريعة : 1 / 54.
4 ـ الذريعة : 1 / 55.


(82)
    ولو سلم ، فلا نسلم وجوب تحصيل القطع فيما لا يمكن فيه ذلك ، لانه تكليف بالمحال ، والمسألة كذلك ، إذ كل من القول بالفور والتراخي والاشتراك وطلب الماهية والتوقف ، مبني على الادلة الظنية ، كما لا يخفى.
    وأيضا : اشتراط القطع في الاصول مطلقا ، وسيما في اصول الفقه ـ كعدمه ـ مبني (1) على الادلة الظنية ، كالآيات القرآنية ونحوها ، والاصل ونحوه.
    فإن قلت : كلام المرتضى ـ كما فهمه بعض الاصحاب (2) ـ دال على أن الوجوب والفور والاجزاء ، من مدلولات الامر في الشرع ، فليس الاجماع واردا على المدعى.
    قلت : لا ظهور لكلام السيد في ذلك ، إذ هو ما زاد على القول بوجوب حمل الامر عليه ، ولم يذكر بأنه مما وضع له اللفظ في العرف الشرعي ، فتأمل.
    الرابع : قوله تعالى : ( فاستبقوا الخيرات ) (3) ، ولا شك أن فعل المأمور به من الخيرات.
    وقوله تعالى : ( وسارعوا إلى مغفرة من ربكم وجنة عرضها السموات والارض ) (4) ، حيث إن مسارعة العبد إلى المغفرة غير متصورة ، لانها من فعل الله تعالى ، فالمراد ـ والله أعلم ـ سببها ، وفعل المأمور به سببها ، كما قال تعالى : ( إن الحسنات يذهبن السيئات ) (5).
    وإضمار سبب خاص ـ كالتوبة ـ ترجيح بلا مرجح ، لا دليل عليه.
    وأيضا : حذف المفعول هنا ، إنما هو ليذهب ذهن السامع كل مذهب ،
1 ـ زاد في ط : أيضا.
2 ـ الظاهر انه صاحب المعالم كما يظهر ذلك مما ذكره في الرد على استدلال السيد المرتضى : معالم الدين : 58.
3 ـ المائدة / 48.
4 ـ آل عمران / 133.
5 ـ هود / 114.


(83)
وكل سبب للمغفرة (1).
    وما قيل : (2) : « بأن ذلك محمول على أفضلية المسارعة والاستباق ، لا على وجوبهما ، وإلا لوجب الفور ، فلا تتحقق المسارعة والاستباق ، لانهما إنما يتصوران في الموسع دون المضيق ، ألا ترى أنه لا يقال لمن قيل له : ( صم غدا ) فصام ـ : إنه سارع إليه واستبق ، والحاصل أن العرف قاض بأن الاتيان بالمأمور به ، في الوقت الذي لا يجوز تأخيره عنه ، لا يسمى مسارعة واستباقا ، فلابد من حمل الامر في الآيتين على الندب ، وإلا لكان مفاد الصيغة فيهما منافيا لما تقتضيه المادة ، وذلك ليس بجائز ، فتأمل » (3) انتهى كلامه بعبارته.
    فوهنه وضعفه ظاهر ، لانه مبني على اشتباه المؤقت بغيره ، فإنه توهم أن الواجب الفوري يصير مؤقتا مضيقا كالصوم ، وليس كذلك ، إذ المؤقت ـ موسعا كان أو مضيقا ـ يصير قضاء‌ا بخروج وقته ، وقد يسقط به كصلاة العيد ، بخلاف غير المؤقت كإزالة النجاسة من المسجد ، وقضاء الصلوات اليومية على المشهور ، والحج ، ونحوها ، فإن فيه وإن حصل الاثم بالتأخير ، إلا أنه أداء لازم الفعل في كل وقت ، فالاستباق والمسارعة يتصوران في المضيق غير الموقت ، وقضاء العرف بما ادعاه فيه ظاهر البطلان.
    وما توهم من منافاة مادة الامر فيها لصيغته حينئذ ـ بناء‌ا على أن المادة تقتضي إمكان التأخير ، وصورته تقتضي المنع من التأخير ـ فهو باطل ، إذ المادة لا تقتضي إلا كون الفعل أداء‌ا ، وصحيحا على تقدير التأخير ، ولا تقتضي جواز التأخير ومشروعيته (4).
    وهو في غاية الظهور ، ولا يبعد كون أمره بالتأمل ، إشارة إلى ما ذكرناه.
1 ـ الذريعة : 1 / 134 ، المحصول : 1 / 249.
2 ـ والقائل هو صاحب المعالم تبعا لغيره. ( منه ).
3 ـ معالم الدين : 57 ـ 58.
4 ـ في أ : وصورته تقتضي المنع من التأخير ومشروعيته. بدل قوله : ولا تقتضي إلى آخره.


(84)
    واحتج من قال بالدلالة على الفور ، بأدلة : بعضها غير مناف لما مر ، وبعضها غير صحيح ، كالقياس على النهي ، وعلى الايقاعات ، ولزوم ثبوت بدل ـ هو العزم ـ على تقدير التراخي ، من غير دليل ، ونحو ذلك (1).
    واحتج من قال بالتراخي ـ بمعنى جواز التأخير لا وجوبه ، إذ لم يذهب اليه أحد على الظاهر ـ بأن الامر المطلق لا توقيت فيه ، فلو أراد وقتا معينا لبينه ، فإذا فقدنا البيان ، علمنا أن الاوقات متساوية في إيقاعه (2).
    والجواب :
    بالوفاق ، إن أراد نفي الدلالة على الفور.
    وإن أراد نفيه مطلقا ، فنقول : البيان بعدم تساوي الاوقات ، موجود في العقل والنقل كما مر.

    البحث الرابع :
    في أن الامر بفعل في وقت معين ، هل يقتضي فعله فيما بعد ذلك الوقت ـ على تقدير فوات ذلك الفعل في وقته ـ أو لا ؟.
    فيه مذهبان : الاقتضاء (3) ، وعدمه.
    وقوي الاكثر الثاني (4) ، قائلين بأن القضاء لا يجب إلا بأمر مجدد ، نحو :
1 ـ تجدها في : الذريعة : 1 / 132 ـ 134 ، المحصول 1 / 249 ـ 251 ، معالم الدين : 56 ـ 58 ، وقد استدل الشيخ الطوسي بالاخير منها : العدة : 1 / 86.
2 ـ حكاه في : الذريعة : 1 / 141.
3 ـ ذهب اليه الحنابلة وبعض الفقهاء. كما في : المنتهى : 98.
4 ـ الذريعة : 1 / 116 ، العدة : 1 / 77 ، المستصفى : 2 / 11 ، المحصول : 1 / 324 ، المعارج : 75 ، تهذيب الوصول : 30.


(85)
( من نام عن صلاة (1) أو نسيها ، فليصلها إذا ذكرها ) (2).
    لنا : أن الامر بصوم يوم الخميس ، لا إشعار فيه بوجوب صوم غير يوم الخميس ، ولا يقتضيه معنى (3) لاختلاف الاوقات ـ كالكيفيات ـ في المصلحة ، فقد تكون العبادة في وقت خاص لمصلحة (4) ، دون غيره من الاوقات (5).
    احتجوا :
    [ أ ] بأن هناك مطلوبين : أحدهما الصوم ، والآخر إيقاعه في يوم الخميس ، فبفوت الثاني لا يسقط الاول ، إذ (6) لا يسقط الميسور بالمعسور (7).
    والجواب : لا نسلم تعدد المطلوب ، بل هو الصوم المقيد بيوم الخميس ، فلا يمكن إيقاع هذا المطلوب في غيره.
    [ ب ] وبأن الدين المؤجل يسقط بالتأخير ، فكذا المأمور به (8).
    والجواب : أن ضرب الاجل في الدين إنما هو لرفع الوجوب قبله ، لا لرفعه بعده ، وهو معلوم عادة ، والعقل يحكم بأن الغرض (9) في الدين متعلق بإحقاق الحق ، ولا مدخلية للاجل إلا لرفع تقاضي صاحب الحق قبله ، بخلاف المأمور به.
    على أنه قياس ، لا نقول به.
1 ـ في ط : من نام في وقت صلاة.
2 ـ المستصفى : 2 / 11 ، غوالي اللآلي : 1 / 201 / الفصل التاسع ح 17.
3 ـ المنتهى : 98.
4 ـ كذا في ط ، وفي سائر النسخ : مصلحة.
5 ـ الذريعة : 1 / 117 ، العدة : 1 / 77.
6 ـ كذا في ط : وفي سائر النسخ : ( و) بدل ( اذ ).
7 ـ روى ابن أبي جمهور عن النبي صلى الله عليه وآله مرسلا : « لا يترك الميسور بالمعسور » غوالي اللآلي : 4 / 58 ح 205.
8 ـ المستصفى : 2 / 11.
9 ـ في ط : الفرض.


(86)
    هذا ، و(1) لكن التتبع يورث الظن بثبوت القضاء في كل مؤقت ، إذا كان واجبا لا مندوبا ، إذ لا يكاد يوجد في الاحكام ما تعلق به الامر في وقت إلا وثبت الامر بقضائه على تقدير فوته (2) ، غير صلاة العيدين والجمعة ونحوهما (3).
    فالظن يحكم بأن منشأ تعلق الامر المجدد ، هو الامر الاول.
    وأيضا : إلحاق الفرد المجهول بالاعم الاغلب يوجبه.
    ولكن الحكم بمدركية هذا الظن للاحكام الشرعية مشكل ، والله أعلم.

    على ما اخترناه ـ من أن الامر للفور ـ لو أخر المكلف المأمور به عن الوقت الذي يتحقق فيه الفور ، فهل يجب عليه الاتيان به فيما بعد ذلك الوقت ؟ مع عدم القرينة على الاعتداد به فيه ، ولا على عدمه ؟
    فيه مذهبان (4) ، والاقوى وجوب الاتيان به فيما بعد.
    لنا : أنا لو خلينا وظاهر الاوامر المطلقة ، نحكم بجواز الاتيان بالمأمور به في كل وقت أداء‌ا (5) ، من دون ترتب الاثم على الاتيان به في وقت ما ، والادلة الدالة على الفور لا تقتضي إلا ترتب الاثم على التأخير ، وهو لا يوجب سقوط الفعل فيما بعد.
    والحاصل : أن الامر المطلق يقتضي بظاهره شيئين : الاول : أدائية (6)
1 ـ الواو زيادة من أ.
2 ـ في أ وط : فواته.
3 ـ كذا في أ ، وفي سائر النسخ : ونحوها.
4 ـ الذريعة : 1 / 131 ، معالم الدين : 59.
5 ـ زاد في ب في هذا الموضع كلمة : وقضاء‌ا.
6 ـ في أ : دائمية.


(87)
الفعل المأمور به في كل وقت ، والثاني : رفع (1) الاثم والحرج بالاتيان به في أي وقت من الاوقات ، وأدلة الفور إنما تقتضي صرفه عن ظاهره في الشيء الثاني دون الاول ، إذ لا منافاة بين الاعتداد بالفعل المأمور به في أي وقت أتى به ، وبين ترتب الاثم على التأخير به ، فلا يجوز صرف الامر عن ظاهره في كلا الشيئين من دون موجب.
    ولا يتوهم جريان الدليل في المؤقت ، لانه لا يقتضي الشيء الاول ، بل ولا الاعتداد بالمأمور به في كل وقت.
    نعم ، يبقى الاشكال في الامر المطلق ، إذا علم توقيته بوقت محدود (2) من خطاب آخر ، إذ لا يبعد (3) أن يقال : إن التوقيت مطلقا ظاهر في نفي الادائية والاعتداد به فيما بعد.
    والفرق بين الفورية والتوقيت : أن الوقت ـ في التوقيت ـ لابد أن يكون منشأ لمصلحة الفعل ، بخلاف الفورية ، فإن الوقت فيها (4) لا ارتباط له بالفعل ، إلا لاجل أن الفعل الزماني لابد وأن يكون في زمان ، حتى لو أمكن إيقاع الفعل لا في زمان ، لحصل (5) الامتثال.
    وكذا يبقى (6) الاشكال فيما يفيد الفور بالامر الاول ، كأن يقول : ( إفعل معجلا ، أو بسرعة ) ، فهل يجب الاتيان به فيما بعد وقت الفور حينئذ ، أو لا ؟.
    أو يقول : ( إفعل ) بناء‌ا على أن الامر بنفسه يفيد الفور.
    والاقرب الثاني ، لما مر في المؤقت ، إلا أنه لا يكاد يوجب في الاحكام
1 ـ في أ : دفع.
2 ـ في ب : معلوم.
3 ـ في ط : ولا يبعد.
4 ـ كذا الظاهر ، وفي النسخ : فيه.
5 ـ كذا في ط ، وفي سائر النسخ : يحصل.
6 ـ في ب : لا يبقى.


(88)
الشرعية أمر فوري ، إلا وهناك قرينة على عدم السقوط فيما بعد.
    هذا ، وقد يورد في بعض كتب الاصول في بحث الامر مباحث اخرى ، رأينا عدم إيرادها هنا أولى : إما لان البعض سيجيء ذكره في مباحث الادلة العقلية ، مثل : بحث مقدمة الواجب ، واستلزام الامر بالشيء النهي عن الضد ، وبحث المفاهيم.
    وإما لكونه من المسائل الكلامية التي لا تليق بهذه الرسالة ، وإن كانت من المبادئ الفقهية ، مثل : صحة التكليف بفعل علم الآمر انتفاء شرطه ، مع جهل المأمور أو علمه أيضا ، ووجود الواجب الموسع والكفائي ، وامتناع تكليف ما لا يطاق ، وتعلق الامر بالمعدوم ، وتكليف الغافل والمكره ، ونحو ذلك مما يتعلق بمباحث العدل من علم الكلام.
    وإما لقلة فائدته ، مثل بحث الواجب التخييري ، وبقاء الجواز بعد نسخ الوجوب ، وغير ذلك.


(89)
    البحث الاول :
    اختلفوا في مدلول صيغة النهي حقيقة ، على نحو اختلافهم في الامر (1).
    والحق ههنا ـ أيضا ـ نظير ما مر (2) في الامر ، من أنها حقيقة في طلب الترك.
    ولكن تحمل نواهي الشرع على التحريم :
    لما مر في الامر.
    ولقوله تعالى : ( وما نهاكم عنه فانتهوا ) (3) ، وقد مر أن أوامر الشرع
1 ـ قال الغزالي : « اعلم أن ما ذكرنا من مسائل الاوامر تتضح به أحكام النواهي إذ لكل مسألة وزان من النهي عن العكس ». المستصفى : 2 / 24 والنظر : الذريعة : 1 / 174 ، المحصول : 1 / 338 ، المنتهى : 100 ، المعارج : 76 ، المعالم : 90.
2 ـ في ب : يظهر مما مر.
3 ـ الحشر / 7.


(90)
محمولة على الوجوب.
    وقوله تعالى في مقام الذم والوعيد : ( ألم تر إلى الذين نهوا عن النجوى ثم يعودون لما نهوا عنه ) (1) الآية.
    وغير ذلك ، نحو قوله تعالى في مقام الذم : ( ولو ردوا لعادوا لما نهوا عنه ) (2).
    وقوله تعالى : ( فلما عتوا عما نهوا عنه قلنا لهم كونوا قردة خاسئين ) (3).

    البحث الثاني :
    الحق أن النهي الشرعي المجرد عن القرائن يجب حمله على الدوام : (4) لان حمل النهي المطلق على حصة معينة من الاوقات ، محدودة الاول والآخر ، من دون مرجح ، غير معقول.
    ولان العلماء لم يزالوا يستدلون على عموم التحريم بمطلق النهي.

    البحث الثالث :
    هل يجوز تعلق الامر والنهي بشيء واحد ، أو لا ؟ (5).
1 ـ المجادلة / 8.
2 ـ الانعام / 28.
3 ـ الاعراف / 166.
4 ـ الذريعة : 1 / 176 ، معالم الدين : 92 ، ونقله الفخر الرازي عن المشهور ، لكنه خالف فيه : المحصول : 1 / 338 ، ونسبه ابن الحاجب إلى المحققين : المنتهى : 101 ، كما خالف في ذلك العلامة في تهذيب الوصول : 33 ، وإن وافقهم على ذلك في كتابه نهاية الوصول على ما حكاه عنه المحقق الشيخ حسن : معالم الدين : 92.
5 ـ المحصول : 1 / 340.
الوافية في اصول الفقه ::: فهرس