الوافية في اصول الفقه ::: 91 ـ 105
(91)
    والحق عدم الجواز (1).
    واعلم أن للمسألة صورا :
    الاولى : أن يتعلق الامر الايجابي العيني ، والنهي التحريمي العيني ، بأمر واحد شخصي.
    ولا شك ولا نزاع لاحد في امتناعه ، بناء‌ا على امتناع التكليف بما لا يطاق (2) ، سواء كان منشأ تعلق الحكمين ذات ذلك الشيء أو وصفين لازمين له.
    أما لو أمكن اتصافه بعرضين مفارقين ، مع بقاء وحدته في الحالين ، فيجوز تعلق الامر باعتبار أحد الوصفين ، والنهي باعتبار الآخر ، فيجب حينئذ إيقاعه على الوصف الاول ، ويحرم إيقاعه موصوفا بالوصف الثاني ، كلطم اليتيم تأديبا ، وظلما ، والسجود لله ، ولغيره ، فإنه يختلف بالقصد والنية.
    الثانية : أن يتعلق الامر الايجابي التخييري ، والنهي التحريمي العيني بأمر شخصي ، بحيث يكون منشأ الوجوب والحرمة واحدا ، أو أمرين متلازمين.
    والحق امتناعه ، والظاهر أنه لا نزاع فيه أيضا ، وسيجيء ما يحققه.
    الثالثة : أن يتعلق الامر الحتمي ، والنهي كذلك ، كل واحد بكلي ، ولكن يكون بين الكليين العموم من وجه ، فيختار المكلف ما يندرج في كل منهما ، فهل يحصل الامتثال باعتبار الامر ، أو لا ؟.
    فيه خلاف ، وقد مثل بالصلاة في الدار المغصوبة ، فإن الصلاة مأمور بها ، والغصب منهي عنه ، والصلاة في الدار المغصوبة فرد لكل منهما ، أما بالنسبة إلى الصلاة فباعتبار نفسها ، وأما بالنسبة إلى الغصب فباعتبار جزئها ، لان القيام على أرض الغير ، والسجود عليها ، مع عدم رضائه أو بدون إذنه ،
1 ـ المحصول : 1 / 340.
2 ـ المحصول : 1 / 341.


(92)
تصرف متصف بالغصب ، بل هو نفس الغصب ، وكذا الحركات والسكنات ، إذ الكون ـ وهو شغل الحيز ـ جنس للحركة والسكون ، وجزئيتهما للصلاة تستلزم جزئيته.
    وقد وقع النزاع في صحة هذه الصلاة وبطلانها ، بناء‌ا على أنه هل تعدى الامر المتعلق (1) بمطلق الصلاة إلى هذا الفرد المتعلق (2) للنهي ؟ أو لا ؟ (3).
    وهذه الصورة في الحقيقة ترجع إلى الصورة الثانية ، لان النهي عن الكلي نهي عن جميع جزئياته ، والامر به أمر بواحد من جزئياته ، فكل واحد (4) من جزئياته يصير واجبا تخييريا.
    والحق : امتناع تعلق الامر ـ العام (5) لجميع (6) الجزئيات المحصي لها (7) ـ بما هو فرد للمنهي عنه ، وأن الدعوى بينة ، غنية عن الدليل ، إذ امتناع كون الشيء الواحد مرادا ـ ولو على جهة التخيير ـ وغير مراد ـ بل مبغوضا ـ لشخص واحد ، في غاية الظهور.
    وتعلق الوجوب التخييري به ، يوجب الرخصة من الحكيم باختياره ، مع استلزامه حينئذ (8) امتناع الاطاعة في طرف النهي.
    وأيضا : هذا ينافي اللطف ، إذ المكلف حينئذ مقرب للمكلف إلى معصيته (9) ، كما لا يخفى.
1 ـ كذا في أ وب وط ، وفي الاصل : المطلق.
2 ـ في ط : المعين. بدل : المتعلق.
3 ـ المحصول : 1 / 343 ، وقد ذهب الشيخ الطوسي إلى الاول : عدة الاصول : 1 / 100.
4 ـ كلمة ( واحد ) : زيادة من ب.
5 ـ كذا في ب ، وفي سائر النسخ : امر العالم.
6 ـ كذا في أ ، وفي سائر النسخ : بجميع.
7 ـ كذا في الاصل وب ، وفي أ وط : بها.
8 ـ ( حينئذ ) : زيادة من أ وط.
9 ـ كذا في أ وب ، وفي الاصل : لا معصيته ، وفي ط : معصية.


(93)
    واختلاف الجهة غير مجد مع اتحاد المتعلق.
    احتج المخالف بوجهين (1) :
    الاول : أن السيد إذا أمر عبده بخياطة ثوب ، ونهاه عن الكون في مكان مخصوص ، ثم خاطه في ذلك المكان ، فإنا نقطع بأنه مطيع عاص ، لجهتي الامر والنهي.
    الثاني : أنه لو امتنع الجمع ، لكان باعتبار اتحاد متعلق الامر والنهي ـ إذ لا مانع سواه اتفاقا ـ واللازم باطل ، إذ لا اتحاد في المتعلقين (2) ، فإن متعلق الامر الصلاة ، ومتعلق النهي الغصب ، وكل منهما يتعقل انفكاكه عن الآخر ، وقد اختار المكلف جمعهما ، مع إمكان عدمه ، وذلك لا يخرجهما عن حقيقتيهما اللتين هما متعلقا الامر والنهي (3) حتى لا تبقيا مختلفتين.
    والجواب عن الاول :
    أولا : بمنع حصول الاطاعة على التقدير المذكور ، والسر في توهم هذا الحصول : أن غرض الآمر وفائدة الخياطة حاصلة على أي حال اتفقت الخياطة ، فيشتبه (4) حصول الغرض بحصول الاطاعة.
    وثانيا : بأن المتعلق في المثال المذكور مختلف ، فإن الكون ليس جزء‌ا من الخياطة ، بخلاف الصلاة ، وتحقيقه : أن الخياطة أمر حاصل من الحركات ، فهي بمنزلة المعدات له.
    ولا يمكن أن يقال : إن الصلاة ـ أيضا ـ أمر حاصل من الحركات
1 ـ حكاهما المحقق الشيخ حسن : معالم الدين : 94 ـ 95.
2 ـ في ط : للمتعلقين.
3 ـ عبارة ( اللتين هما متعلقا الامر والنهي ) : زيادة من ب ، وهي مثبتة في المصدر أيضا : المعالم 95.
4 ـ في ب وط : فيشبه.


(94)
والسكنات ، فهي الاذكار (1) الواقعة على الانحاء الخاصة.
    للاجماع على أن القيام ، ورفع الرأس من الركوع ، والسجود ، وملاصقة الجبهة بالارض ـ من أجزاء الصلاة وأركانها.
    لا يقال : اختلاف المتعلق غير مجد مع التلازم ، إذ تعلق النهي باللازم ، والامر بالملزوم ـ غير جائز ، ومطلق الكون من لواز مطلق الخياطة ، والكون في المكان المغصوب من لوازم الخياطة فيه ، كالكون مع الصلاة في الجزئية.
    لانا نقول ـ بعد تسليم أن الكون من لوازم الخياطة لا من لوازم الخياط ـ : إنا لا نسلم أن الكون في المكان المغصوب من لوازم الخياطة فيه ، بل الكون المطلق لازم لها ، وليس للكون الخاص مدخلية في تشخص الخياطة ، بل شخص الخياطة في المكان المغصوب يمكن حصوله في غير ذلك المكان ، بخلاف الصلاة ، فإن أشخاصها تتبدل بتبدل الاكوان في الاماكن المختلفة.
    وعن الثاني : أن اتحاد المتعلق لازم ، بملاحظة أن التكاليف المتعلقة بالماهيات ، متعلقة في الحقيقة بجزئياتها.
    الرابعة (2) : أن يتعلق الامر الايجابي الحتمي والنهي التنزيهي ، بأمر واحد شخصي ، وهذا ـ أيضا ـ غير جائز ، لما مر.
    الخامسة : أن يتعلق الامر الايجابي التخييري ، والنهي التنزيهي ، بأمر واحد شخصي ، كالصلاة في الحمام ، ونحوه من الاماكن المكروهة (3) ، وهذا أيضا ممتنع ، إذا كان المكروه بمعناه المعروف ، وهو راجحية (4) الترك ، فما تعلق به هذا النهي من العبادات ، فالظاهر بطلانه ما لم يدل دليل على صحته ، وما
1 ـ زاد في ط في هذا الموضع كلمة : الخاصة.
2 ـ أي : من الصور المذكورة لاجتماع الامر والنهي.
3 ـ الفقيه : 1 / 241 ح 725 ، الكافي : 3 / 390 باب الصلاة في الكعبة ... ح 12 ، المحاسن للبرقي : 365 ح 110.
4 ـ في ب : ارجحية.


(95)
دل الدليل على صحته ، يجب حمل النهي (1) فيه على غير معناه الحقيقي ، ولهذا اشتهر أن متعلق الكراهة ليس نفس العبادة ، بل أمر آخر ، كالتعرض للنجاسة ، أو لكشف العورة ، ونحو ذلك ، في كراهة الصلاة في الحمام ، فاختلف المتعلق.
    ويقولون : إن الحرمة غالبا تتعلق بالذات ، والكراهة (2) بالوصف.
    وهذا خلاف ظواهر النصوص ، الدالة على تعلق الكراهة بنفس الفعل ، مثل : ( لا تصل في الحمام ) ونحوه.
    والحق : هو ما اشتهر من أن الكراهة في العبادات ، بمعنى كونها (3) أقل ثوابا بنسبة خاصة.
    وتحقيقه : أن العبادة قد تكون بحيث لم يتعلق بها نهى ولا أمر ـ غير الامر الذي تعلق بأصلها ـ كالصلاة اليومية في البيت للبعيد عن المسجد ، أو عند المطر (4) ، نحو ذلك.
    وهذه ربما تتصف بالاباحة ، بمعنى عدم مرجوحية أوصافها وأجزائها (5) ، وعدم راجحيتها أيضا ـ غير الراجحية الناشئة من راجحية أصلها ـ فيقال : الصلاة اليومية في البيت مثلا مباحة.
    وقد تكون بحيث تعلق بها أمر آخر ، باعتبار اشتمالها أو اتصافها على أمر راجح أو به.
    وهذا الرجحان : قد ينتهي إلى حد الوجوب ، كالصلاة في المسجد مع نذر إيقاعها فيه ، فيجتمع حينئذ وجوبان ، وقد لا ينتهي إليه ، كالصلاة اليومية
1 ـ كذا في ط ، وفي سائر النسخ : الكراهة.
2 ـ في ط : الكراهية.
3 ـ في ط : أنها.
4 ـ الفقيه : 1 / 377 ح 1099.
5 ـ كذا في أ وط ، وفي الاصل وأ : أو أجزائها.


(96)
في المسجد لا مع النذر ولا مع عذر مسقط للندب ، فيجتمع (1) حينئذ الوجوب مع الندب.
    وقد تكون بحيث يتعلق بها نهي بالاعتبار المذكور.
    وهذه المرجوحية : قد تنتهي إلى حد التحريم ، كصلاة الحائض ، والصلاة في الدار المغصوبة ، وغير ذلك ، وقد مر أنها تستلزم الابطال ، وقد لا تنتهي إليه ، وهذه أيضا تستلزم الابطال ، إن كان النهي باعتبار جزء ، أو وصف لازم ، لما مر في النهي التحريمي.
    فلا بد من حمل الكراهة على أقلية الثواب ، بمعنى كون العبادة ـ باعتبار الاشتمال أو الاتصاف المذكور ـ أقل ثوابا منها نفسها لو لم تكن كذلك ، بل كانت متصفة بالاباحة المذكورة ، فالصلاة في الحمام مكروهة ، بمعنى أنها أقل ثوابها منها في البيت ، لا في المسجد.
    وعلى هذا التحقيق لا يرد ما يقال : إن الكراهة بمعنى أقلية الثواب ، توجب كون الصلاة في جميع المساجد والمواضع ـ مكروهة ، غير المسجد الحرام ، لانها أقل ثوابا منها فيه.
    وقد علم مما مر صورة اجتماع الامر الايجابي معه ، ومع الندب ، ومع الاباحة ، بل صورة اجتماع الامر الندبي مع الايجاب ، والندب ، والاباحة ، والكراهة ، والتحريم ، فهذه ثلاث عشر صورة.
تتميم :
    فإن قلت : كيف حكمت ببطلان العبادة ، عند فرديتها للمأمور به والمنهي عنه ؟ وحكمت باستثنائها عن بقية أفراد المأمور به في تعلق الامر ، ولم لا
1 ـ في ط : فيجمع.

(97)
يجوز دخولها في المأمور به ، وخروجها عن المنهي عنه ؟ مثلا : الصلاة في الدار المغصوبة ، تكون صحيحة ، ويكون كل غصب منهيا عنه إلا الصلاة إذا كانت غصبا ، وأي فرق بين قولك : ( كل صلاة مأمور بها إلا اذا كانت غصبا ) ، وبين قولنا : ( كل غصب منهي عنه إلا اذا كان صلاة ) ؟! قلت : هذا الاحتمال (1) لا يخلو عن قرب ، سيما (2) مع ضميمة ما دل على صحة الصلاة المذكورة ، مثل قوله تعالى : ( إن الارض لله ) (3) ، وما ورد من أن الارض مهر لفاطمة الزهراء عليها السلام (4) إلا أن أصحابنا لم ينقلوا خلافا في بطلان الصلاة المذكورة.
    ولعل الوجه فيه : أن تعلق الامر بمثل العبادة المذكورة ، بطريق التخيير ، على ما مر ، وتعلق النهي بها ، بطريق الحتم والعين ، فيكون استثناؤها من الامر أولى من استثنائها من النهي ، إذ ظاهر (5) : أن الاهتمام بفعل فرد خاص من الواجب التخييري ، ليس مثل الاهتمام بترك الحرام العيني.
    أو الوجه فيه : أن العبادة اذا صارت محتملة لكل من الوجوب والتحريم ، رجح جانب التحريم ، لا لما قيل واشتهر من : أن دفع المفسدة أهم من جلب المنفعة ـ إذ هذا إنما يتم مع تعارض الندب والتحريم ، لا الواجب معه ، لان ترك الواجب أيضا كفعل الحرام مفسدة ـ بل لما ورد من التوقف عند تعارض الامر والنهي ، ومصداقه الكف.
    وأيضا : من تتبع ظهر عليه أن كل أمر مردد (6) بين الوجوب والتحريم ،
1 ـ كذا في أ وب وط ، وفي الاصل : احتمال.
2 ـ في ب : لا سيما.
3 ـ الاعراف / 128.
4 ـ كشف الغمة : 1 / 472 ، المحتضر : 133.
5 ـ في ط : الظاهر.
6 ـ كذا في أ. وفي الاصل : أن كل مردد. وفي ط : ان كل أمر تردد. وفي ب : ان كل امر ورد.


(98)
رجح الشرع جانب الكف عنه ، كصلاة الحائض في أيام الاستظهار ، وكف الوضوء عن الاناء‌ين (1) المشتبهين عند نجاسة أحدهما ، وغير ذلك.
    وقال السيد في الذريعة : « وقد يصح أن تقبح من المكلف جميع أفعاله على وجه ، وتحسن على وجه آخر ، وعلى هذا الوجه يصح القول : بأن من دخل زرع غيره على سبيل الغصب ـ أن له الخروج عنه بنية التخلص ، وليس له التصرف بنية الفساد ، وكذلك من قعد على صدر حي ، إذا كان انفصاله منه يؤلم ذلك الحي كقعوده ، وكذلك المجامع زانيا ، له الحركة بنية التخلص ، وليس له الحركة على وجه آخر » (2).
    وقال في موضع آخر ، بعد الاستدلال على بطلان الصلاة في الدار المغصوبة : « وقد قيل في التمييز (3) بين الصلاة وغيرها ، في هذا الحكم : إن كل عبادة ليس من شرطها أن يتولى الفعل بنفسه ، بل ينوب فعل الغير مناب فعله ، أو ليس من شرطها أن تقع منه بنية الوجوب ، أو ليس من شرطها النية اصلا ، لم يمتنع في المعصية منها أن تقوم مقام الطاعة ، وهذا قريب » (4) انتهى.
    ثم قال : « وأما الضيعة المغصوبة ، فالصلاة فيها مجزية ، لان العادة جرت بأن صاحبها لا يحظر على أحد الصلاة فيها ، والتعارف يجري مجرى الاذن ، فيجب الرجوع إليه ».
    وقال : « فأما من دخل وليس بغاصب ، لكنه داخل الدار المغصوبة مختارا (5) ، فيجب أن لا تفسد صلاته ، لان المتعارف بين الناس أنهم يسوغون
1 ـ كف صاحبه عن مجاوزته إلى غيره : منعه ، وهو أصل المعنى. انظر : معجم الافعال المتعدية بحرف : 315. هذا ، والمناسب أن تكون العبارة كما يلي : والوضوء بالاناء‌ين إلى آخره ، عطفا على المثال الاول.
2 ـ الذريعة : 1 / 178.
3 ـ كذا في أ وط ، وفي الاصل وب : التميز.
4 ـ الذريعة : 1 / 193.
5 ـ كذا في النسخ ، ولكن في المصدر : مجتازا.


(99)
ذلك لغير الغاصب ، ويمنعونه في الغاصب » (1) انتهى.
    ويفهم من كلامه الاول : أن الفعل الواحد يمكن أن يتصف بالوجوب والحرمة ، سيما في مثاله بالقعود على صدر الحي.
    وكلامه الثاني ظاهر في صحة الوجوب الكفائي في المكان المغصوب.
    واعلم أن الشهيد رحمه الله ، نقل في قواعده (2) ، عن السيد المرتضى : صحة الصلاة الواقعة على جهة الرياء ، وعدم ترتب الثواب عليها ، لكن تسقط المؤاخذة بفعلها (3) ، وهو يؤذن بتجويزه تعلق الامر والنهي بشيء واحد من جهتين ، إلا أن يقول : إن الرياء أمر غير الصلاة ، وفيه تأمل.
    ونقل الكليني في كتاب الطلاق ، عن الفضل بن شاذان : التصريح بصحة الصلاة في الدار المغصوبة ، حيث قال : « وإنما قياس الخروج والاخراج [ للمعتدة الرجعية من بيتها ] (4) كرجل داخل دار قوم بغير إذنهم ، فصلى فيها ، فهو عاص في دخوله الدار ، وصلاته جائزة ، لان ذلك ليس من شرائط الصلاة ، لانه منهي عن ذلك ، صلى أو لم يصل » (5) انتهى كلامه.
    وغرضه : أن ما كانت الصلاة سببا للنهي عنه (6) ، فاقترانه للصلاة مفسد لها ، كالصلاة في الثوب النجس ، وما كان النهي فيه عاما غير مختص بالصلاة ، فاقترانه غير مفسد ، كالصلاة في الثوب المغصوب ، وذكر أمثلة اخرى غيرها.
    ثم اعلم : أن هذه المسألة من المسائل العدلية من علم الكلام ، أوردتها هنا لنفعها في بعض مسائل هذا العلم ، فهي من المبادئ التصديقية ، وإيرادها
1 ـ الذريعة : 1 / 194.
2 ـ القواعد والفوائد : 1 / 79 ـ الفائدة الثالثة.
3 ـ الانتصار : 17.
4 ـ ما بين المعقوفين غير مثبت في نسخة ط ، كما ان المصدر الكافي خال منه.
5 ـ الكافي : 6 / 94 / كتاب الطلاق / باب الفرق بين من طلق على غير السنة .....
6 ـ كلمة ( عنه ) : زيادة من أ.


(100)
في الادلة العقلية أيضا غير بعيد ، إلا أنها لا يستدل بها إلا على نفي الحكم الشرعي ، كأصالة براء‌ة الذمة.

    البحث الرابع :
    اختلفوا في دلالة النهي على فساد المنهي عنه ، على أقوال :
    عدم الدلالة مطلقا ، نقله في المحصول عن أكثر الفقهاء (1) ، والآمدي عن أكثر المحققين (2)
    والدلالة مطلقا (3) ، واختاره ابن الحاجب من العامة (4) ، والسيد المرتضى منا لكن قال : إن دلالته على الفساد شرعا لا لغة (5) ، واختاره الشهيد في قواعده (6) ، والمحقق الشيخ علي في شرح القواعد (7) ، بشرط عدم رجوع النهي إلى وصف غير لازم.
    « واختاره بهذا الشرط الفخر الرازي في المعالم ، ونقله في الوجيز ، عن الشافعي ، ونقله الآمدي عن أكثر أصحاب الشافعي ، واختاره هو » (8).
1 ـ المحصول : 1 / 344.
2 ـ الاحكام : 2 / 407 ، التمهيد : 292.
3 ـ العدة : 1 / 101 ـ 102.
4 ـ كذا حكى الإسنوي في التمهيد : 292 ، ولكن ابن الحاجب قد فصل بين النهي عن الشيء لعينه فيدل على الفساد شرعا لا لغة ، وبين النهي عن الشيء لوصفه. وحكم في هذه الصورة بالفساد مطلقا : المنتهى : 100 ـ 101 ، وشرح العضد على المختصر : 1 / 209 ( المتن ).
5 ـ الذريعة : 1 / 180.
6 ـ القواعد والفوائد : 1 / 99 قاعدة 57.
7 ـ المسمى ب‍ : جامع المقاصد : 2 / 116.
8 ـ ما بين القوسين نص عبارة الإسنوي في التمهيد : 293.


(101)
    والقول الثالث : التفصيل ، وهو الدلالة (1) في العبادات ، لا في المعاملات ، وهو مختار المحصول منهم (2) ، والعلامة (3) ، والمحقق (4) ، وكثير من المتأخرين منا (5).
    والحق : أن النهي يقتضي فساد المنهي عنه مطلقا ، فههنا مققامان : الاول : أن النهي يقتضي فساد ما تعلق به من العبادات.
    والدليل عليه : أن المنهي عنه لا يكون مرادا ومطلوبا للمكلف ، والعبادة الصحيحة ـ واجبة أو مندوبة ـ تكون مرادة ومطلوبة للمكلف ، فلا يكون المنهي عنه عبادة صحيحة ، وهو ظاهر.
    واعلم أن النهي : قد يرجع إلى نفس العبادة ، كالنهي عن صلاة الحائض.
    وقد يرجع إلى جزئها ، كالنهي عن قراء‌ة العزائم في اليومية ، بناء‌ا على جزئية السورة.
    وقد يرجع إلى وصف لازم ، كالنهي عن الجهر في الفرائض النهارية.
    وقد يرجع إلى (6) أمر مقارن غير لازم ، كالنهي عن قول ( آمين ) بعد الحمد ، وعن التكفير ـ وهو وضع اليمين على الشمال في الصلاة ـ ونحو ذلك.
    واقتضاء النهي الفساد في الثلاثة الاول ظاهر ، إذ صحة الكل والملزوم ، مع فساد الجزء واللازم (7) ، ظاهر الفساد.
    وأما القسم الاخير : فقد وقع الخلاف فيه بين فقهائنا :
1 ـ زاد في ط كلمة ( مطلقا ) في هذا الموضع.
2 ـ المحصول : 1 / 344.
3 ـ تهذيب الوصول : 33.
4 ـ معارج الاصول : 77.
5 ـ معالم الدين : 96.
6 ـ زاد في ب في هذا الموضع كلمة : وصف.
7 ـ حرف العطف ساقط من أ وب.


(102)
    فبعضهم يقول : إن النهي عن مثل (1) هذه الامور ، لا يوجب فساد العبادة الواقعة هي فيها ، أو المتصفة بها ، إذ هذه امور خارجة (2) ومغايرة للعبادة ، ولا دليل على استلزام فسادها لفساد العبادة ، والامر يقتضي الاجزاء إجماعا ممن يعتد به.
    وبعضهم يقول بفساد العبادة بفسادها ، وكأن الوجه فيه : أنه يفهم من النهي أن عدم المنهي عنه من شرائط تحقق العبادة الشرعية ، ووجوده مانع منه ، فلا يمكن تحقق العبادة مع وجوده.
    والحق أن يقال : إن العبادة إذا كانت بحيث قد علم من دليل شرعي جميع أجزائها وشرائطها وموانعها ، ولا يكون هذا المنهي عنه شيئا منها ، فالنهي حينئذ لا يقتضي فساد العبادة المقارنة للمنهي عنه ، لما مر ، وأما مع عدم ذلك فالظاهر أن المنهي عنه من موانع حقيقة العبادة شرعا ، إذ جميع أجزاء العبادة وشرائطها وموانعها ، إنما يعلم من الاوامر والنواهي ، فليس لاحد أن يقول : إن النهي إنما يدل على حرمة المنهي عنه ، وهو لا يستلزم فساد العبادة.
    كما أنه ليس له أن يقول : إن الامر إنما يدل على وجوب المأمور به في العبادة (3) ، ولا دلالة له (4) على جزئيته للعبادة ، أو شرطيته.
    ولو صح هذا القول ، لانسد طريق الاستدلال على بطلان الصلاة والصوم وغيرهما ، بترك جل أجزائها وشرائطها كما لا يكاد (5) يخفى.
    ثم لا يخفى عليك : أن مانعية المنهي عنه ، إنما هو على تقدير اختصاص النهي بالعبادة ، فلو علم أن النهي عن الشيء في عبادة إنما هو لاجل حرمة ذلك
1 ـ كذا في أ وب ، وفي الاصل وط : ان نهي مثل.
2 ـ كذا في أ وط ، وفي الاصل وب : خارجية.
3 ـ في الاصل : والعبادة. وما اثبتناه مطابق لسائر النسخ.
4 ـ كلمة ( له ) زيادة من أ.
5 ـ كلمة ( يكاد ) : زيادة من ط.


(103)
الشئ مطلقا ، كالنهي عن النظر إلى الاجنبية في الصلاة ، فهو لا يقتضي فساد العبادة ، إذ حينئذ معلوم أن المنهي عنه لا ارتباط له بالعبادة في المانعية.
    المقام الثاني : أن النهي يقتضي فساد ما تعلق به من المعاملات ، كأقسام البيوع والانكحة والطلاق وغيرها ، سواء كان النهي يرجع إلى نفس الصيغة ، كلفظ التحليل في النكاح ، والكنايات في الطلاق ، ونحو ذلك ، أو إلى أحد العوضين ، كبيع الميتة والخمر ونكاح المحرمات ، أو إلى وصف لازم ، كبيع الملامسة والمنابذة والربا ونكاح الشغار ونحو ذلك ، ويمكن إدخال كثير من هذه في الاولين.
    والدليل على اقتضاء النهي الفساد في هذا القسم ـ من وجهين : الاول : استدلال العلماء : فإن علماء الامصار في الاعصار ، لم يزالوا يستدلون على الفساد بالنهي ، في أبواب الربا ، والانكحة والبيوع وغيرها (1).
    وليس الفساد مدلولا للفظ النهي (2) ، إذ لا يفهم سلب (3) الاحكام من النهي المتعلق بشيء ، ولا تلازم بين التحريم وسلب الاحكام ، إذ لا بعد (4) في أن تكون المصلحة في عدم شيء ، ولكن بعد وجوده تكون المصلحة في ترتب آثاره عليه (5) ، ولهذاحكم شرعا بالتطهير إذا وقعت إزالة النجاسة بالماء المغصوب ، ويترتب على الوطئ في الحيض آثاره من لحوق الولد ، ووجوب المهر ، والتحليل للزوج الاول ، ونحو ذلك.
1 ـ في ب : ونحوها.
2 ـ هذا تعريض بالمحقق الحلّي ، والعلامة الحلّي ، والشيخ حسن حيث استدلوا على عدم دلالة النهي على الفساد في هذا القسم بعدم الدلالة اللفظية عليه : معارج الاصول : 77 ، تهذيب الوصول : 34 ، معالم الدين : 96 ـ 97.
3 ـ في أ : سبب.
4 ـ في أ : يبعد.
5 ـ هذا رد على دعوى المحقق الشيخ حسن : معالم الدين : 97.


(104)
    بل الفساد مما يحكم به العقل في المعاملات من ظاهر حال الناهي.
    وقد وقع في الروايات ما يدل على اقتضاء النهي الفساد : روى الشيخ في التهذيب ، في الصحيح : « عن محمد بن مسلم ، عن أحدهما عليهما السلام ، أنه قال : لو لم يحرم على الناس أزواج النبي صلى الله عليه وآله وسلم ، لقول الله عزوجل ( وما كان لكم أن تؤذوا رسول الله ولا أن تنكحوا أزواجه من بعده أبدا ) (1) ـ حرم على الحسن والحسين عليهما السلام ، لقوله عزوجل : ( ولا تنكحوا ما نكح آباؤكم من النساء ) (2).
    وروى في الموثق : « عن الحسن بن الجهم ، قال : قال أبوالحسن الرضا عليه السلام : يا أبا محمد ، ما تقول في رجل تزوج بنصرانية على مسلمة ؟ قلت : جعلت فداك ، وما قولي بين يديك ؟!
    قال : لتقولن ، فإن ذلك يعلم (3) به قولي.
    قلت : لا يجوز تزويج النصرانية على المسلمة ، ولا على غير مسلمة.
    قال : لم ؟ قلت : لقول الله عزوجل : ( ولا تنكحوا المشركات حتى يؤمن ) (3).
    قال : فما تقول في هذه الآية : ( والمحصنات من الذين اوتوا الكتاب من قبلكم ) (5) ؟ فقلت : قوله تعالى : ( ولا تنكحوا المشركات حتى يؤمن ) (6) نسخت هذه الآية ، فتبسم ثم سكت » (7).
1 ـ الاحزاب / 53.
2 ـ النساء / 22 ، والحديث في : التهذيب : 7 / 281 ح 1190.
3 ـ كذا في المصدر ، وفي النسخ : تعلم.
4 ـ البقرة / 221.
5 ـ المائدة / 5.
6 ـ البقرة / 221.
7 ـ التهذيب : 7 / 297 ح 1243.


(105)
    وروى : « عن زرارة بن أعين ، عن أبي جعفر عليه السلام ، قال : لا ينبغي نكاح أهل الكتاب.
    قلت : جعلت فداك ، وأين تحريمه ؟ قال : قوله ( ولا تمسكوا بعصم الكوافر ) (1).
    وفي الحسن ـ بإبراهيم بن هاشم ـ : « عن زرارة بن أعين ، قال : سألت أبا جعفر عليه السلام عن قول اللهه عزوجل : ( والمحصنات من الذين اوتوا الكتاب من قبلكم ) (2) ؟ فقال : هي منسوخة بقوله : ( ولا تمسكوا بعصم الكوافر ) » (3).
    فإن الامام عليه السلام استدل بالنهي عن التحريم ، ومعلوم أن المراد من التحريم في هذه الصور بطلان النكاح ، كما في قوله تعالى : ( حرمت عليكم امهاتكم وبناتكم وأخواتكم .. ) (4) الآية.
    وروى في الحسن ـ به ـ : « عن زرارة ، عن أبي جعفر عليه السلام ، قال : سألته عن مملوك تزوج بغير إذن سيده ؟ فقال : إن ذلك إلى سيده ، إن شاء أجازه ، وإن شاء فرق بينهما.
    فقلت : أصلحك الله ، إن الحكم بن عتيبة (5) ، وإبراهيم النخعي ، وأصحابهما ، يقولون : إن أصل النكاح باطل ، فلا تحل إجازة السيد له.
    فقال أبوجعفر عليه السلام : إنه لم يعص الله ، إنما عصى سيده ، فإذا أجازه فهو له جائز » (6).
1 ـ الممتحنة / 10 ، والحديث في : التهذيب : 7 / 197 ح 1244.
2 ـ المائدة / 5.
3 ـ التهذيب : 7 / 298 ح 1245.
4 ـ النساء / 23.
5 ـ في أ : عيينة. وهو تصحيف.
6 ـ التهذيب : 7 / 351 ح 1432.
الوافية في اصول الفقه ::: فهرس