الوافية في اصول الفقه ::: 226 ـ 240
(226)
مطلقا ، والمضيق غير المؤقت.
    إذا عرفت هذا ، عرفت أن القول بأن الامر بالشيء يستلزم عدم الامر بضده ـ غير صحيح ، إلا في المضيقين المؤقتين ، وأما فيهما (1) فهو صحيح ، لكن لم يقع من هذا القبيل شيء في الشرع ، ولو وقع يكون محمولا على الوجوب التخييري ، فلا يمكن الاستدلال فيه أيضا على بطلان أحدهما.
    ثم نقول : وهل الامر بالشيء يستلزم عدم طلب ضده على طريق الاستحباب ؟ أو لا ؟ الاظهر عدم الاستلزام فيه أيضا.
    وتظهر الفائدة فيمن صلى نافلة الزوال في وقت الكسوف ، قبل صلاة الكسوف ، بحيث يفوته الفرض ، فإن قلنا بالاستلزام ، تكون النافلة باطلة ، ويحتاج إلى الاعادة ، وإلا فلا.
    والحق الثاني ، إذ لا تناقض في إيجاب عبادة في وقت خاص ، واستحباب اخرى فيه بعينه ، ولا شك في صحة التصريح به ، من غير توهم تناقض ، بأن يقول : أوجبت عليك الفعل الفلاني في الوقت الفلاني ، وندبت عليك الفعل الفلاني في هذا الوقت بعينه ، بحيث لو عصيت وتركت الفعل الذي أوجبته عليك فيه وأتيت بما ندبت عليك فيه ، كنت مذوما لتركك الواجب ، وممدوحا لفعلك المندوب ، ولو كان وجوب الشيء في وقت منافيا لاستحباب آخر فيه ، لكان هذا الكلام مشتملا على التناقض ، مع أنه ليس كذلك ضرورة.
    ولا يجري هذا في الواجبين المؤقتين المضيقين ، لانه لا يمكن للمكلف بهما الخلاص من الاثم على هذا التقدير ، بخلاف ما نحن فيه ، لانه يمكنه ترك النافلة.
    فإن قلت : إذا علم الشارع أن فعل هذا النافلة مما لا ينفك عن
غير فائت له.
1 ـ كذا الظاهر ، وفي النسخ : وفيه.


(227)
العصيان ، يقبح منه طلبها.
    قلت : الموجب للعصيان هو إرادة ترك الواجب ، واستحباب هذه النافلة إنما هو على تقدير تحقق هذه الارادة ، فكأنه قال : إن اخترت إرادة هذا الواجب فلا أطلب منك شيئا غيره ، وإن اخترت عدم فعل هذا الواجب ، فقد عصيت ، ولكن حينئذ أطلب منك هذا المندوب.
    فان قلت : هذا (1) يرفع كون التكليف بهما معا في حال واحدة.
    قلت : نحن ننزل الخطاب الوجوبي والاستحبابي ـ لو وردا ـ على هذا المعنى ، فلا يمكن الاستدلال على بطلان المستحب ، بسبب الخطاب الوجوبي ، على أنه على تقدير إرادة عدم الوجوب يقع التكليف بهما معا ، فتأمل.
    إذا عرفت هذا : فاستحباب شيء في وقت ، يكون بعض ذلك الوقت وقتا لواجب مضيق ، يكون جائزا بالطريق الأولى ، إذ يمكن حينئذ انفكاك الفعل المستحب عن العصيان ، بخلاف الاول ، فإنه لا ينفك عن العصيان ، وإن لم يكن هو الموجب له ، بل الموجب سوء الاختيار.
    واعلم (2) : أن من قال بأن الامر بالشيء يستلزم النهي عن ضده ، إنما يقول به في الواجب المضيق ، كما صرح به جماعة ، إذ لا يقول عاقل بأنه إذا زالت الشمس مثلا ، حرم الاكل والشرب والنوم وغيرها من أضداد الصلاة ، قبل فعل الصلاة.
    ثم اعلم : أنه إيراد مقدمة الواجب والنهي عن الضد في هذا القسم إنما هو إذا لم يكن وجوب المقدمة وتحريم الضد ، على القول به ، من باب دلالة اللفظ ، كما قيل به ، ولكنه بعيد على هذا القول أيضا.
    ولما كانت أدلة اقتضاء الامر بالشيء النهي عن الضد ضعيفة ، فالاولى عدم التعرض ل‍ :
1 ـ كذا في ط ، وفي الاصل وأ وب : فهذا.
2 ـ كلمة ( واعلم ) : ساقطة من الاصل وقد اثبتناها من سائر النسخ.


(228)

    أن النهي عن الشيء هل يقتضي الامر بضده ؟ أو لا ؟ وهل استحباب الشيء يقتضي كراهة ضده وبالعكس ؟ أو لا ؟ والثالث : المنطوق غير الصحيح.
    وهو ما لم يوضع له اللفظ ، بل يكون مما يلزم لما وضع له اللفظ ، وهو أقسام : الاول : ما يتوقف صدق المعنى ، أو صحته عليه ، ويسمى بدلالة الاقتضاء.
    فالصدوق : نحو : « رفع عن امتي : الخطأ ، والنسيان » (1) فإن صدقه يتوقف على تقدير المؤاخذة ، لوقوعهما من (2) غير المعصوم عليه السلام.
    والصحة : نحو ( واسأل القرية ) (3).
    وحجية هذا القسم ظاهرة ، إذا كان الموقوف عليه مقطوعا به.
    الثاني : ما يقترن بحكم على وجه ، يفهم منه أنه علة لذلك الحكم ، فيلزمه (4) جريان هذا الحكم في غير هذا المورد ، مما اقترنت به ، ويسمى بدلالة التنبيه والايماء ، نحو قوله عليه السلام : « أعتق رقبة » حين قال له الاعرابي : واقعت أهلي في شهر رمضان (5) ، فإنه يفهم (6) منه أن علة وجوب العتق هي المواقعة ، فيجب في كل موضع تحققت.
    وهو حجة إذا علم العلية ، وعدم مدخلية خصوئص الواقعة (7) ، فإن مدار
1 ـ الكافي : 2 / 462 ـ كتاب الايمان والكفر / باب ما رفع عن الامة ح 2 ، الفقيه : 1 / 59 ح 132 ( لكن فيهما : وضع. بدل : رفع ) الخصال : 2 / 417 ـ بال التسعة.
2 ـ في أ وط : عن.
3 ـ يوسف / 82.
4 ـ في ط : فيلزم.
5 ـ الفقيه : 2 / 115 ح 1885.
6 ـ في أ وط : يعلم.
7 ـ كذا في أ وب وط ، وفي الاصل : المواقعة.


(229)
الاستدلال في الكتب الفقهية عليه ، وهذا هو مراد المحقق في المعتبر (1) ، حيث حكم بحجية تنقيح المناط القطعي ، كما إذا قيل له عليه السلام : صليت مع النجاسة ؟ فيقول عليه السلام : أعد صلاتك ، فإنه يعلم منه ، أن علة الاعادة هي النجاسة في البدن أو الثوب ، ولا مدخلية لخصوص المصلي ، أو الصلاة.
    الثالث : ما لم يقصد عرفا من الكلام ، ولكن يلزم المقصود ، نحو قوله تعالى : ( وحمله وفصاله ثلاثون شهرا ) (2) مع قوله تعالى : ( وفصاله في عامين ) (3) علم منهما أن أقل مدة الحمل ستة أشهر ، فإن المقصود (4) في الأولى بيان حق الوالدة وتعبها ، وفي الثانية بيان مدة الفصال ، فلزم منهما : العلم بأقل مدة الحمل ، ويسمى بدلالة الاشارة ، وحجيته ظاهرة إذا كان اللازم قطعيا.

    والرابع : المفهوم.
    وينقسم إلى موافقة ومخالفة ، لان حكم غير المذكور : إما موافق لحكم المذكور نفيا وإثباتا ، أو لا ، والاول الاول ، والثاني الثاني.
    والاول : يسمى بفحوى الخطاب ، ولحن الخطاب ، وضرب له أمثلة.
    منها : قوله تعالى : ( فلا تقل لهما أف ، ولا تنهرهما ) (5) فإنه يعلم من حال التأفيف ـ وهو محل النطق ـ حال الضرب ، وهو غير محل النطق ، وهما متفقان في الحرمة.
    ومنها : قوله تعالى : ( فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره ومن يعمل مثقال ذرة شرا يره ) (6).
    ومنها : قوله تعالى : ( ومن أهل الكتاب من إن تأمنه بقنطار يوده إليك
1 ـ نص المحقق الحلّي على هذا في : معارج الاصول : 185.
2 ـ الاحقاف / 15.
3 ـ لقمان / 14.
4 ـ في ب وط : المراد.
5 ـ الاسراء / 23.
6 ـ الزلزلة / 7 ، 8.


(230)
ومنهم من إن تأمنه بدينار لا يؤده إليك
) (1).
    فإنه يعلم منه (2) مجازاة ما فوق الذرة في الاول ، وتأدية ما دون القنطار في الثاني ، وعدم ما فوقه في الثالث ، فهو تنبيه بالادنى ـ أي : الاقل مناسبة ـ على الاعلى ، أي : الاكثر مناسبة.
    وهو حجة إذا كان قطعيا ، أي : كون (3) التعليل بالمعنى المناسب ـ كالاكرام في منع التأفيف ، وعدم تضييع الاحسان ، والاساء‌ة في الجزاء ، والامانة في أداء القنطار ، وعدمها في أداء الدينار ، وكونه أشد مناسبة للفرع ، قطعيين ، كالامثلة المذكورة.
    وأما إذا كانا ظنيين : فهو مما يرجع إلى القياس المنهي عنه (4) ، كما يقال.
    ( يكره جلوس المجبوب الصائم في الماء ، لاجل ثبوت كراهة جلوس المرأة الصائمة في الماء ) ، ويقال : ( إذا كان اليمين غير الغموس توجب الكفارة ، فالغموس أولى ) ، لعدم تيقن كون العلة في الاول جذب الماء بالفرج ، وفي الثاني الزجر.
1 ـ آل عمران / 75.
2 ـ كلمه ( منه ) : ساقطة من الاصل ، وقد اثبتناها من سائر النسخ.
3 ـ كذا الظاهر ، وفي النسخ : يكون.
4 ـ ويدل على بطلان هذا القسم من القياس ما رواه ابن بابويه في الصحيح « عن عبدالرحمن بن الحجاج ، عن أبان بن تغلب ، قال : قلت لأبي عبدالله (ع) : ما تقول في رجل اصبعا من اصابع المرأة ، كم فيها ؟ قال : عشرة من الابل. قلت : قطع اثنتين ؟ قال : عشرون. قلت : قطع ثلاثا ؟ قال ثلاثون. قلت قطع أربعا ؟ قال : عشرون. قلت سبحان الله ! يقطع ثلاثا فيكون عليه ثلاثون ويقطع اربعا فيكون عليه عشرون ! إن هذا كان يبلغنا ونحن بالعراق فنبرأ ممن قاله ، ونقول : الذي قاله شيطان. فقال : مهلا يا أبان ، هكذا حكم رسول الله صلى الله عليه وآله. إن المرأة تعاقل الرجل إلى ثلث الدية ، فاذا بلغت رجعت المرأة إلى النصف ، يا أبان انك أخذتني بالقياس ، والسنة اذا قيست محق الدين ». ( منه رحمه الله ).


(231)
    والثاني أقسام :
    الاول : مفهوم الصفة ، نحو قوله (1) : « في الغنم السائمة زكاة » (2) ومفهومه : نفي الزكاة عن المعلوفة.
    الثاني : مفهوم الشرط ، نحو : « إذا بلغ الماء كرا لم يحمل خبثا » (3) مفهومه : نجاسة الماء القليل.
    الثالث : مفهوم الغاية ، مثل : ( فلا تحل له من بعد حتى تنكح زوجا غيره ) (4) مفهومه : أنها إذا نكحت زوجا غيره تحل.
    الرابع : مفهوم العدد الخاص ، مثل : ( فاجلدوهم ثمانين جلدة ) (5) مفهومه : عدم وجوب الزائد على الثمانين.
    الخامس : مفهوم الحصر ، مثل : ( المنطلق زيد ) مفهومه : نفي الانطلاق عن غيره.
    وعد بعضهم مفهوم الاستثناء ، ومفهوم ( إنما ).
    والحق : أن دلالتهما على ما يفهم منهما ـ من المنطوق ، على تقدير ثبوت أن ( إنما ) بمعنى : ( ما ) و( إلا ).
    وعلى تقدير كونه بمعنى : ( إن ) التأكيدية و( ما ) الزائدة ، فلا مفهوم له أصلا ، وذلك لان المنطوق ما دل عليه اللفظ في محل النطق ، أي : يكون حكما للمذكور ، وحالا من أحواله ، سواء ذكر ذلك الحكم ونطق به أو لا ، والمفهوم بخلافه ، ولا يخفى أنا إذا قلنا : ( ما جاء القوم إلا زيد ) فنفي الجيأة (6) عما عدا
1 ـ كلمة ( قوله ) : اضافة من ب.
2 ـ مثل به السيد في الذريعة : 1 / 399 ، والغزالي في المستصفى : 2 / 191 ، وغيرهما.
3 ـ غوالي اللآلي : 1 / 76 و612.
4 ـ البقرة / 230.
5 ـ النور / 4.
6 ـ في أ وط : المجيأة.


(232)
زيد من القوم ، مما نطق به ، وكذا : ( ما جاء إلا زيد ) ، لان المقدر كالمذكور.
    السادس : مفهوم الزمان والمكان ، مثل : ( أفعله (1) في هذا اليوم ) أو : ( في هذا المكان ) ومفهومه : نفي الفعل في غير ذلك الزمان والمكان.
    وقد وقع الخلاف في حجية المفهوم بأقسامه (2) : فالسيد المرتضى (3) ، وجماعة من العامة أيضا (4) : أنكروا حجية جميع أقسامه.
    والشيخ الطوسي رحمه الله : قال بحجية مفهوم الصفة (5) ، ومال إليه الشهيد (6) ، وبه قال أكثر العامة (7).
    والظاهر : أن قال بمفهومه الصفة ، يعترف بحجية : مفهوم الشرط ، والغاية ، والزمان ، والمكان ، لان الاولين أولى منه ، والاخيرين في معناه.
    ومختار المرتضى رحمه الله قوي.
    ولما كان حجية مفهوم الغاية أقوى من باقي الاقسام ، فنحن نتكلم فيه ويظهر منه حال البواقي ، من غير تأمل ، فنقول :
1 ـ في ب : فعله : وفي ط : افعل.
2 ـ كذا في أ وب ، وفي الاصل وط : باقسام.
3 ـ الذريعة : 1 / 392.
4 ـ فقد انكره ابوحنيفة ، كما في المنخول : 209 ، وهو مذهب الاحناف والقاضي أبي بكر وأبي العباس بن سريج والقفال الشاشي والغزالي ، كما في الابهاج : 1 / 371 ، وقوم من المتكلمين ، كما في التبصرة : 218 ، والآمدي ، كما في التمهيد : 245 ، 253.
5 ـ لم نجد في العدة ما يدل على صحة هذه النسبة ، بل قال الشيخ بعد نقله كلاما مبسوطا للسيد المرتضى في الاستدلال على عدم حجية الوصف ـ قال : ولي في هذه المسألة نظر. عدة الاصول 2 / 25.
6 ـ الاذكرى : 5 / المقدمة / الاشارة السادسة / الاصل الرابع / القسم الثاني / قوله خامسا.
7 ـ فقد ذهب إلى ذلك الشافعي والجمهور ، كما في التمهيد : 245 ، 253 ، وابوالحسن وابو عبيدة معمر بن المثنى ، وجمع كثير من الفقهاء والمتكلمين ، كما في الابهاج 1 / 371 ، والشيرازي في التبصرة : 218.


(233)
    لنا : أن قول القائل : ( صوموا إلى الليل ) لا يدل على نفي وجوب صوم الليل بوجه ، أما المطابقة والتضمن : فظاهر ، وأما الالتزام : فلانه لا ملازمة بين وجوب صوم النهار وعدم وجوب صوم الليل ، وهو ظاهر.
    فإن قلت : نحن ندعي أن مفهوم الغاية وغيره (1) مما يلزم المنطوق لزوما غير بين ، كوجوب مقدمة الواجب ونحوه ، ولهذا أدرجناه في الادلة العقلية.
    قلت : ليس ههنا ما يوجب القول بالمفهوم ، كما ستعرف من ضعف أدلة الخصم.
    احتج الخصم بوجوه ضعيفة ، أقواها : أن التعليق على الغاية والشرط والصفة وغيرها ، يجب أن يكون لفائدة ، والفائدة هي مخالفة حكم المذكور للمسكوت عنه ، لان الاصل عدم غيرها من الفوائد ، وهي أمور : الاول : أن يكون قد خرج مخرج الاغلب ، مثل : ( وربائبكم اللاتي في حجوركم ) (2) ، فإن الغالب كون الربائب في الحجور ، فقيد لذلك ، لا لان حكم اللاتي لسن في الحجور بخلافه.
    الثاني : أن يكون لسؤال سائل عن المذكور ، أو لحادثة مخصوصة به ، مثل أن يسأل : هل في الغنم السائمة زكاة ؟ فيقول : في الغنم السائمة زكاة.
    أو يكون الغرض بيان ذلك لمن له السائمة دون المعلوفة.
    الثالث : أن تكون المصلحة في السكوت عن المسكوت عنه ، وعدم إعلام حاله.
    وغير ذلك من الفوائد المذكورة في المطولات.
    والمخالفة مما لا يحتاج إلى القرينة ، بخلاف الفوائد الاخر ، فإنها محتاجة إلى القرائن الخارجة (3) ، فيصير عند عدم القرينة من قبيل اللفظ المردد بين
1 ـ في ط : ونحوه.
2 ـ النساء / 23.
3 ـ في ط : الخارجية.


(234)
المعنى الحقيقي والمجازي ، فظاهر أنه محمول على المعنى الحقيقي ، عند التجرد عن القرينة.
    والجواب : أن هذه الفوائد كلها متساوية (1) في الاحتياج إلى القرينة وليس للمخالفة المذكورة رجحان على غيرها من الفوائد ، ليحمل عليه عند عدم ظهور القرينة ، بل يمكن أن يقال : إن الفائدة الثالثة ، وهي المصلحة في عدم الاعلام ، راجحة على غيرها ، سيما في كلام الائمة صلوات الله عليهم.
    فظهر بطلان ادعاء اللزوم غير البين بين المفهوم والمنطوق.
    واحتج صاحب المعالم على الدلالة الالتزامية في مفهوم الغاية ب‍ : أن قول القائل : ( صوموا إلى الليل ) معناه : آخر وجوب الصوم مجيء الليل ، فلو فرض ثبوت الوجوب بعد مجيئه ، لم يكن الليل آخرا ، وهو خلاف المنطوق (2) ـ وقريب منه استدلال ابن الحاجب في مختصره (3) ـ وقال بعد ذلك في جواب السيد : اللزوم هنا ظاهر ، إذ لا ينفك تصور الصوم المقيد بكون آخره الليل مثلا ، عن عدمه في الليل (4).
    والجواب : لا نسلم أن معناه ذلك ، بل معناه : أريد منكم الامساك الخاص في زمان أوله طلوع الفجر ، وآخره الليل.
    وظاهر : أن مطلوبية الامساك في القطعة الخاصة من الزمان ، لا تستلزم عدم مطلوبيته فيما بعد تلك القطعة ، بل يجوز أن يكون فيما بعدها أيضا مطلوبا موسعا ، لكن سكت عنه لمصلحة اقتضت ذلك ، فقول القائل : ( صوموا إلى الليل ) يستفاد منه أن الصوم الواجب بذلك الخطاب انتهاؤه الليل ، وهذا لا يجدي الخصم.
    وقوله في بيان اللزوم : « إذ لا ينفك تصور الصوم المقيد بكون آخره الليل
1 ـ كذا في أ وط ، وفي الاصل وب : مساوية.
2 ـ معالم الدين : 81.
3 ـ شرح العضد : 2 / 320 ( لاحظ المتن ).
4 ـ معالم الدين : 82.


(235)
مثلا عن عدمه في الليل » لا يخفى ما فيه ، فإن مدلول قول القائل : ( صوموا إلى الليل ) هو مطلوبية الصوم ـ أي الامساك ـ إلى الليل ، وليس لفظة ( إلى الليل ) صفة للصوم ، حتى يكون المعنى مطلوبية الصوم الموصوف بكونه منتهيا إلى الليل ، مع أنه على تقدير الوصفية أيضا يرجع إلى مفهوم الوصف ، وهو ينكره (1) ، فليس للمفهوم لزوم ذهني مع المنطوق.
    واحتج أيضا على حجية مفهوم الشرط ب‍ : أن قول القائل : ( أعط زيدا درهما إن أكرمك ) يجري في العرف مجرى قولنا : الشرط في إعطائه إكرامك.
    والمتبادر من هذا : انتفاء الاعطاء عند انتفاء الاكرام قطعا ، فيكون الاول أيضا هكذا (2).
    ولا يخفى ما فيه ، إذ لا يلزم أن يكون ما يتبادر من لفظ الشرط متبادرا من ( إن ) المسماة في العرف بحرف الشرط ، بل هو قياس لكلام على كلام آخر من غير بيان الجامع ، مع أن ادعاء التبادر من الثاني أيضا منظور فيه ، فتأمل.
    ثم لا يذهب عليك : أن ثمرة الخلاف إنما تظهر إذا كان المفهوم مخالفا للاصل ، نحو : ( ليس في الغنم المعلوفة زكاة ) أو : ( ليس في الغنم زكاة إذا كانت معلوفة ) أو : ( ليس في الغنم زكاة إلى أن تسوم ) فهل يجوز بمجرد هذا مثلا ، القول بجوب الزكاة في السائمة ؟ أو لا ؟ فأنكره المرتضى (3) ، وقد عرفت حقيقة الحال.
    وأما إذا كان موافقا للاصل : نحو : ( في الغنم السائمة زكاة ) ، فإن نفي الزكاة عن المعلوفة هو المقتضي لبراء‌ة الذمة ، فلا يظهر للخلاف فيه ثمرة يعتد بها.
    وكأن المفهوم في هذا القسم لما كان مركوزا في العقول ، بسبب موافقة
1 ـ أي : عدم الصوم في الليل. ( منه رحمه الله ).
2 ـ معالم الدين : 77 ـ 78.
3 ـ الذريعة : 1 / 394 و406 و407.


(236)
الاصل ، ادعي أنه حجة ، ومتبادر من حكم المنطوق ، ويؤيده : أن الامثلة المذكورة في استدلالهم ، كلها من هذا القبيل.
    واحتج بعضهم على حجية مفهوم الشرط والصفة ، بأن هذا النحو من التعليق يشعر بالعلية ، والعلة منتفية في المفهوم بحسب الفرض ، والاصل عدم علة اخرى ، فينتفي فيه حكم المنطوق (1).
    والجواب : ـ بعد تسليم اعتبار (2) مطلق العلة منصوصة كانت أو مستنبطة ـ أن هذا النحو من الاستدلال صحيح ، لرجوعه إلى أصالة براء‌ة الذمة كما عرفت ، ولا مدخلية للمنطوق فيه ، مثلا : لو لم يكن النص الدال على وجوب الزكاة في السائمة متحققا ، أمكن إجراء هذا الاستدلال على نفي الزكاة في المعلوفة ، بأن يقال : الاصل عدم تحقق علل وجوب الزكاة في المعلوفة ، فينتفي وجوب الزكاة فيها.

    والخامس : القياس.
    وهو : إثبات الحكم في محل ، بعلة ، لثبوته في محل آخر بتلك العلة.
    واختلف في حجيته (3) ، ولا خلاف بين الشيعة في عدم حجيته ، ما لم ينص على العلة (4) ـ مثل أن يقول : ( حرمت الخمر ) ، فلا يجوز بمجرد هذا القول ، الحكم بتحريم غيره من المسكرات ، بسبب ظن أن علة حرمة الخمر هي الاسكار ، وهو متحقق في غيره ـ إلا ما نقل عن ابن الجنيد : أنه كان يقول به (5) ثم رجع (6).
1 ـ المحصول : 1 / 266 ( الثالث ) ، المنتهى : 152. وتقرير الدليل للمصنف.
2 ـ في ب : اختيار.
3 ـ المستصفى : 2 / 234 ، المحصول : 2 / 245 ، المنتهى : 186 ، 188.
4 ـ الذريعة : 2 / 697 ، عدة الاصول : 2 / 90 ، معارج الاصول : 187.
5 ـ الفهرست : 134 ترجمة رقم 590 ، و: رجال النجاشي : 388 ترجمة رقم 1047.
6 ـ لم نجد من نص على ذلك ، حتى نسب في الفوائد المدنية ( ص 135 ) رجوعه عنه إلى القيل.


(237)
    بل إنكار القياس قد صار متواترا عندنا.
    واختلف أصحابنا في حجية القياس المنصوص العلة ، مثل أن يقول : ( حرمت الخمر لاسكاره ) ، فهل يجوز القول بتحريم غيره من المسكرات بمجرد ذلك ؟ أو لا ؟ فأنكره السيد المرتضى (1).
    وقال به العلامة (2) وجماعة (3).
    والحق أن يقال : إذا حصل القطع بأن الامر الفلاني علة لحكم خاص ، من غير مدخلية شيء آخر في العلية ، وعلم وجود تلك العلة في محل آخر ، لا بالظن بل بالعلم ، فإنه حينئذ يلزم القول بذلك الحكم في هذا المحل الآخر ، لان الاصل حينئذ يصير من قبيل النص على حكم كل ما فيه تلك العلة ، فيخرج في الحقيقة عن القياس.
    وهذا مختار المحقق أيضا (4).
    ولكن هذا في الحقيقة قول بنفي حجية القياس المنصوص العلة ، إذ حصول هذين القطعين (5) مما يكاد ينخرط في سلك المحالات ، إلا في تنقيح المناط ، على ما مر.
    واعلم : ان للعلم بالعلة عند القايسين طرقا : منها : النص عليها ، وله مراتب : صريح ، وهو : ما دل وضعا ، مثل : ( لعله كذا ) أو (6) : ( لاجل كذا ) أو : ( كي يكون كذا ) أو : ( إذن يكون كذا ) أو : ( لكذا ) أو : ( بكذا ) إذا كانت
1 ـ الذريعة : 2 / 684.
2 ـ تهذيب الوصول : 84 ـ 85.
3 ـ معالم الدين : 229.
4 ـ معارج الاصول : 185 / المسألة الرابعة.
5 ـ بل الاول. ( منه رحمه الله ).
6 ـ كذا في ب وط ، وفي الاصل وأ : و.


(238)
( الباء ) للسببية (1) ، أو : ( فإنه كذا ).
    وتنبيه وإيماء ، وهو : ما لزم مدلول اللفظ ، وضابطه : كل اقتران بوصف ، لو لم يكن للتعليل لكان بعيدا ، مثل ما مر من قصة الاعرابي (2) ، فكأنه عليه السلام في جوابه قال : واقعت فكفر.
    وهذا القسم قد (3) يصير قطعيا ، فإنه إذا علم عدم مدخلية بعض الاوصاف ، فحذف ، وعلل بالباقي ، سمي تنقيح المناط القطعي ، كما يقال : إن كونه أعرابيا لا مدخل له في العلية ، إذ الهندي والاعرابي حكمهما واحد في الشرع ، وكذا كون المحل أهلا ، فإن الزنا أجدر به ، وعند الحنفية : لا مدخلية لكونه وقاعا ، فيكون الاكل وغيره من مفسدات الصوم كذلك (4).
    وقد يكون ظنيا ، محتملا لعدم قصد الجواب ، كما يقول العبد : ( طلعت الشمس ) فيقول السيد : ( إسقني ماء‌ا ).
    ومن الايماء : ما روي من قوله عليه السلام ، حين قالت له الخثعمية : « إن أبي أدركته الوفاة وعليه فريضة الحج ، فإن حجحت عنه ، أينفعه ذلك ؟ فقال صلى الله عليه وآله : أرأيت لو كان على أبيك دين ، فقضيته ، أكان ينفعه ذلك ؟ قالت : نعم.
    قال : فدين الله أحق أن يقضى » (5).
    ومنه : أن يفرق بين حكمين بوصفين ، مثل : « للراجل سهم ، وللفارس سهمان » (6).
1 ـ وردت هذه الجملة في نسخة أ كما يلي : مثل لعلة كذا ، ولاجل كذا ، وكي يكون كذا ، ولكذا ، او بكذا ، اذا كانت الباء للسببية. وفي ط : مثل للعلة كذا ، أو لاجل كذا ، أو كي يكون كذا ، او اذن يكون كذا ، ولكذا ، وبكذا ، اذا كانت الباء للسببية.
2 ـ انظر ص 228.
3 ـ كلمة ( قد ) : ساقطة من الاصل ، وقد اثبتناها من سائر النسخ.
4 ـ اصول السرخسي : 1 / 244 ـ 245 ، 2 / 153 ـ 154.
5 ـ دعائم الاسلام : 1 / 336.
6 ـ الكافي : 5 / 44 ـ كتاب الجهاد / باب قسمة الغنيمة ح 2.


(239)
    ومنه : تعليق الحكم على الوصف المناسب ، مثل ( أكرم العلماء ).
    ومنها : السبر والتقسيم ، وهو : حصر الاوصاف الموجودة في الاصل ـ الصالحة للتعليل ـ في عدد ، ثم إبطال بعضها ، وهو ما سوى الذي يدعى أنه العلة ، كما يقال في قياس الذرة على البرفي الربوية : إن الاوصاف الصالحة للعلية في البر ليس إلا القوت والطعم والكيل ، لكن القوت والطعم لا يصلح للعلية ، فتعين الكيل.
    ومنها : تخريج المناط ، وهو : تعيين العلة في الاصل بمجرد المناسبة بينها وبين الحكم في الاصل ، لا بالنص ولا بغيره ، كالاسكار للتحريم ، فإن النظر في المسكر وحكمه ووصفه ، يوجب العلم بكون الاسكار مناسبا لشرع التحريم ، وكالقتل العمد العدوان ، فإنه بالنظر إلى ذاته مناسب لشرع القصاص.
    والمناسب ـ اصطلاحا ـ : وصف ظاهر منضبط ، يحصل من ترتب الحكم على (1) ما يصلح أن يكون مقصودا للعقلاء : من حصول مصلحة ، أو دفع مفسدة.
    وفي هذه الطريقة لا يحتاج إلى السبر.
    ويرد على القياس ـ بعد الايرادات المذكورة في المطولات ـ : أنه قد لا تكون علة الحكم في الشيء شيئا من أوصاف ذلك الشيء ، كما يدل عليه قوله تعالى : ( فبظلم من الذين هادوا حرمنا عليهم طيبات احلت لهم ) الآية (2) ، وفي آية اخرى : ( وعلى الذين هادوا حرمنا كل ذي ظفر ومن البقر والغنم حرمنا عليهم شحومهما إلا ما حملت ظهورهما ) الآية (3) ، فإنه يدل على أن علة تحريم هذه الاشياء عصيانهم ، لا أوصاف تلك الاشياء ، فتأمل.
1 ـ كذا الصواب ، وفي النسخ : عليه. بدل : على.
2 ـ النساء / 160.
3 ـ الانعام / 146.


(240)
الوافية في اصول الفقه ::: فهرس