الوافية في اصول الفقه ::: 241 ـ 255
(241)
    الباب الخامس
في الاجتهاد والتقليد
وفيه مباحث


(242)

(243)
    الاول :
    الاجتهاد في اللغة : تحمل الجهد ، وهو : المشقة (1).
    وفي الاصطلاح :
    المشهور : أنه استفراغ الوسع من الفقيه ، في تحصيل الظن بحكم شرعي (2).
    وعندي أن الأولى في تعريفه : أنه صرف العالم بالمدارك وأحكامها نظره في ترجيح (3) الاحكام الشرعية الفرعية.
    فدخل القطعيات النظرية.
    وخرج الشرعية الاصلية.
    ولم يستعمل فيه ( الفقيه ) مع خفاء معناه ههنا (4).
1 ـ المصباح المنير / مادة : جهد.
2 ـ المنتهى : 209 ، معالم الدين : 238.
3 ـ لفظة ( ترجيح ) ساقطة من ب.
4 ـ لاحظ تفصيل هذه الدعوى في : الفوائد المدنية : 93 / الوجه الثامن.


(244)
    المدارك : قد علم كميتها وحقيقتها سابقا.
    والمراد ب‍ ( أحكامها ) : أحوال التعادل والترجيح وسيجيء إن شاء الله تعالى.
    وسيجيء تحقيق ما يحصل بسببه العلم بالمدارك.

    البحث الثاني :
    في أن الاجتهاد هل يقبل التجزية ؟ أو لا ؟ بمعنى : جريانه في بعض المسائل دون بعض ، وذلك بأن يحصل للعالم ما هو مناط الاجتهاد في بعض المسائل ، دون بعض آخر ، وقد اختلف فيه ، فالاكثر على أن يقبل التجزية ، وقيل بعدمه.
    والحق الاول لوجوه :
    الاول : أنه إذا اطلع على دليل مسألة بالاستقصاء ، فقد ساوى المجتهد المطلق في تلك المسألة ، وعدم علمه بأدلة غيرها لا مدخل له فيها.
    فإن قلت : لا يمكن العلم بعدم المعارض (1) والمخصص بدون الاحاطة بجميع مدارك الاحكام ، فبطل التساوي.
    قلت : إنكار حصول الظن بعدم المعارض مكابرة ، بل قد يحصل العلم من العادة بالعدم ، فإن المسائل التي وقع فيها الخلاف ، وأوردها جمع كثير من الفقهاء في كتبهم الاستدلالية ، واستدلوا عليها نفيا وإثباتا ، مما تحكم العادة بأن ليس لها مدارك غير ما ذكروه ، ولا أقل من حصول ظن قوي متاخم من العلم.
    فإن قلت : التمسك في جواز اعتماد المتجزي على استنباطه ، بمساواته للمجتهد المطلق ، قياس غير معلوم العلة ، فيكون باطلا.
1 ـ كذا في أ وب وط ، وفي الاصل : المعارضة.

(245)
    مع أنه : يمكن أن تكون العلة في المجتهد المطلق ، هي : قدرته على استنباط المسائل كلها ، فإن القوة الكاملة أبعد عن احتمال الخطأ من الناقصة.
    قلت : البديهة تحكم بالمساواة حينئذ ، بمعنى : أن كل ما دل على جواز اعتماد المجتهد المطلق على ظنه ، دل على الجواز في المتجزي أيضا ، كما سيجيء في آخر هذا البحث.
    وقوله بأن قوة الاول كاملة دون الثاني : إن أراد ب‍ ( الكمال ) الشمول والعموم ، فالعقل يحكم بأنه لا يصلح للعلية ، إذ العلة يجب أن تكون مناسبة ، وظاهر أن الظن بأن المتعة (1) مثلا ترث أو لا ترث ؟ أو الرضاع الناشر للحرمة خمس عشرة أو عشر ؟ ـ لا دخل له في جواز الاعتماد على الظن بوجوب السورة مثلا في الصلاة ، والمنكر مكابر مقتضى عقله.
    وإن أراد أن ظن العالم بالكل بوجوب السورة مثلا ، يكون أقوى من ظن المتجزي بوجوب السورة ، وإن اطلع على جميع أدلة وجوب السورة ـ فهذا مجرد دعوى يحكم أول النظر ببطلانها.
    الثاني : أن التقليد مذموم ، وخلاف الاصل أيضا ، فإن الاصل عدم وجوب اتباع غير المعصوم ، خرج عنه العامي الصرف ، لدليل على وجوب التقليد في حقه ، فيبقى المتجزي والمطلق ، لعدم المخرج في حقهما.
    فإن قلت : نحن نقلب هذا الدليل في المتجزي ، فنقول : اتباع الظن مذموم ، بل وخلاف الاصل أيضا ، إذ الاصل عدم وجوب اتباع غير القطع ، خرج عنه المجتهد المطلق ، لدليل أخرجه ، فبقي المتجزي ، لعدم المخرج فيه.
    قلت : المخرج فيه متحقق ، فإنه ليس له بد من اتباع الظن : إما الظن
1 ـ أي : المتمتع بها ، وهي المنكوحة بالعقد المنقطع. و: المتعة : اسم التمتع ـ كما في المصباح ـ فاطلاقه على المتمتع بها مسامحة منه.

(246)
الحاصل من التقليد ، أو الظن الحاصل من الاجتهاد ، فكيف يكون هو منهيا عن اتباع الظن على الاطلاق بخلاف التقليد ؟!
    وتقريره الدليل بعبارة اخرى : جواز التقليد مشروط بعدم جواز العمل بالدليل ـ أي : الاجتهاد ـ فما لم يحصل القطع بعدم جواز الاجتهاد ، لم يحصل القطع بجواز التقليد ـ وكذا الظن على تقدير الاكتفاء به في الاصول ـ ولا دليل على عدم جواز عمل (1) المتجزي بالادلة الشرعية ، حتى يحصل القطع أو الظن بالشرط ، فينتفي العلم أو الظن (2) بجواز تقليد المتجزي ، وإذا كان هناك أمران ، أحدهما مرتب (3) على الآخر ، فلا يعدل من الاصل إلى الفرع إلا مع القطع أو الظن بوجوب العدول.
    والثالث : أن أوامر وجوب العمل بأوامر الرسول ونواهيه ـ وكذا خلفاؤه ـ عام ، خرج عنه العامي الصرف إجماعا ، لعدم إمكان العمل في حقه ، فيبقى المتجزي.
    والوجهان متقاربا المأخذ.
    قال في الذكرى : وعليه ـ أي على صحة التجزي ـ نبه في مشهور أبي خديجة ، عن الصادق عليه السلام : « انظروا إلى رجل منكم ، يعلم شيئا من قضايانا ، فاجعلوه بينكم قاضيا ، فإني قد جعلته قاضيا عليكم » (4).
    قال في المعالم ـ بعد إيراد تحقيق له قد ظهر مما مر جوابه ـ : « لكن التعويل في اعتماد ظن المجتهد المطلق ، إنما هو على دليل قطعي وهو إجماع الامه عليه ، وقضاء الضرورة به ، وأقصى ما يتصور في موضع النزاع أن يحصل دليل ظني يدل على مساواة التجزي للاجتهاد المطلق ، واعتماد المتجزي عليه يفضي إلى
1 ـ كلمة ( عمل ) : ساقطة من الاصل وقد اثبتناها من سائر النسخ.
2 ـ كذا في أ وط ، وفي الاصل وب : والظن.
3 ـ في ط : مترتب.
4 ـ الذكرى : 3 / المقدمة / الاشار الثالثة / ذيل الامر الثالث عشر.


(247)
الدور ، لانه تجز في مسألة التجزي ، وتعلق بالظن في العمل بالظن.
    ورجوعه في ذلك إلى فتوى المجتهد المطلق ، وإن كان ممكنا ، لكنه خلاف المراد ، إذ الفرض إلحاقه إبتداء‌ا بالمجتهد ، وهذا إلحاق له بالمقلد بحسب الذات ، وإن كان بالعرض إلحاقا بالاجتهاد ، ومع ذلك فالحكم في نفسه مستبعد ، لاقتضائه (1) ثبوت الواسطة بين أخذ الحكم بالاستنباط والرجوع فيه إلى التقليد ، وإن شئت قلت : تركب التقليد والاجتهاد ، وهو غير معروف » انتهى (2).
    وفيه بحث من وجوه : الاول : أن قوله : « التعويل في اعتماد ظن المجتهد المطلق ، إنما هو على دليل قطعي ، وهو إجماع الامة ، وقضاء الضرورة به » ـ غير صحيح ، إذ ظاهر : أن هذه المسألة مما لم يسأل عنها الامام عليه السلام ، وظاهر : أن العمل بالروايات في عصر الائمة عليهم السلام ، للرواة ، بل وغيرهم ، لم يكن موقوفا على إحاطتهم بمدارك كل الاحكام ، والقوة القوية على الاستنباط ، بل يظهر بطلانه بأدنى اطلاع على حقيقة أحوال (3) قدماء الاصحاب.
    والحاصل : أن العلم بالاجماع الذي يقطع بدخول المعصوم عليه السلام في هذه المسألة ، بل وفي غيرها من المسائل التي لم يوجد فيها نص شرعي ـ مما لا يكاد يمكن.
    وقوله : « وقضاء الضرورة به » : إن أراد : حكم بديهة العقل به من غير ملاحظة أمر خارج ، فظاهر البطلان ، إذ العمل بالظن ونحو ذلك ، ليس من البديهيات الصرفة.
    وإن أراد : حكم العقل به ، بسبب أنه إذا احتاج المكلف إلى العمل ، وانحصر طريقه في الاجتهاد والتقليد ، فالبديهة تحكم بتقديم العمل بالحجة
1 ـ كذا في أ وب وط والمصدر ، وفي الاصل : لافضائه.
2 ـ معالم الدين : 239.
3 ـ في ط : طريقة. بدل : حقيقة احوال.


(248)
الشرعية على التقليد ـ فهو صحيح ، لكنه مشترك بين المجتهد المطلق والمتجزي.
    والحاصل : أن دليل عمل المجتهد المطلق بالادلة الشرعية ، هو ما ذكرنا ، لا ما ذكره من الاجماع ، إذ انتفاء الاجماع القطعي هنا من أجلى الامور.
    الثاني : أن قوله : « وأقصى ما يتصور » إلخ ـ أيضا غير صحيح ، لان الادلة التي ذكرناها ، توجب القطع بجواز عمل المتجزي بالادلة الشرعية.
    الثالث : أن قوله : « واعتماد المتجزي عليه يفضي إلى الدور » ـ أيضا غير صحيح ، لانه على تقدير جواز الاعتماد في الاصول على الظن ، لا يختص ذلك بالمجتهد ، فمن حصل له الظن من دليل أو أمارة بشيء من المطالب الاصولية يجوز الاعتماد عليه على ذلك التقدير ، مجتهدا كان أو مقلدا ، وعلى تقدير عدم جواز الاعتماد على الظن في الاصول ، فهذه المسألة لابد فيها من الاعتماد على الظن ، بناء‌ا على عدم تحقق دليل قطعي على جواز التجزي ، إذ عدم تحقق دليل قطعي دال على جواز التقليد لذلك الشخص أظهر (1).
1 ـ استدل في حواشي العدة على تعذر المجتهد المطلق بادلة ، ثانيها : انه لو امكن تحقق المجتهد المطلق فعلمه أو ظنه بامارة بانه مجتهد مطلق غير ممكن عادة ، فان المجتهدين كانوا لا يدرون الجواب في كثير من المسائل وليس لهم طريق إلى أن يعلموا أو يظنوا بامارة انهم قادرون بعد الفكر والمراجعة على الاجتهاد فيه ، فيلزم أنه لا يجوز لاحد العمل باجتهاده. وثالثها : أنه لا يمكن للمقلد العامي أو المتجزي أن يعلم أو يظن بامارة اجتهاد غيره بالاجتهاد المطلق بطريق اولى ، فيلزم ان لا يجوز للعامي أو المتجزي الرجوع إلى المجتهد. ورابعها : أنه لو لم يجز للمتجزي العمل بظنه لم يمكن له العلم بجواز عمله ، لان استدلال المتجزي على وجوب الاستفتاء من المجتهد المطلق بظاهر قوله ( فاسألوا أهل الذكر ) غير ممكن ، لانه لو علم المتجزي جواز عمله بالظاهر في مسائل الاصول فعلمه بجواز في الفروع اولى ، ويناقض هذا توقفه في التجزي أو نفيه له. ولو ادعي الاجماع على وجوب عمل المتجزي بهذا الظاهر ، وهذا الظن دون الظواهر والظنون الاخرى في الاصول أو الاجماع على رجوع المتجزي إلى المجتهد المطلق توجه المنع ، وكذا لو ادعي رجوع المتجزي في مسألة جواز عمله بظنه إلى المجتهد المطلق كما احتمله صاحب المعالم. كيف وهي مسألة اصلية ولا يجري هنا التقليد للمجتهد وبعد

(249)
    فان قلت : يجوز أن يقلد في جواز التقليد.
    قلت : الادلة الدالة على ذم التقليد مطلقا ، وفي الاصول خاصة ـ لكثرتها ـ غير قابلة للتأويل ، فإذا كان صحة تقليده مبنيا على صحة التقليد في الاصول كاد أن يحصل القطع ببطلانه ، وعلى تقدير التسليم ، والقول بصحة تقليده في الاصول ، فيجوز حينئذ (1) له العمل بظنه في الفروع ، بعد اعتقاده الحاصل من التقليد في جواز اعتماده على ظنه.
    وقوله : « إنه خلاف الفرض (2) ومستبعد ، للزوم الواسطة » ـ لا يخفى ما فيه ، فإنه على تقدير جواز التقليد في الاصول ، لا يتصور ههنا مانع للعمل بظنه ، بعد تقليده في مسألة التجزي والله يعلم.
    ثم لا يخفى : أن حصول ملكة العلم بكل الاحكام الواقعية للمجتهد ممتنع عندنا ، لان الائمة عليهم السلام لم يتمكنوا من إظهار كل الاحكام ، نعم يمكن العلم بالاحكام الظاهرية المتعلقة بعمله في نفسه.
    بل الظاهر : أن القول بنفي التجزي إنما هو على طريقة جمع من العامة القائلين بأن النبي صلى الله عليه وآله أظهر جميع الاحكام بين يدي أصحابه ، وتوفر الدواعي على نقله ، فما لم يوجد فيه مدرك ، فعدم المدرك فيه ، مدرك لعدم الحكم فيه في الواقع ، فحكمه التخيير ، وقد عرفت بطلانه عندنا ، فإن الائمة عليهم السلام ، كثيرا ما يتقون على أنفسهم وعلى أصحابهم في بيان الاحكام ، بل ربما يحكمون على شخص معين بحكم معين ، لمدخلية بعض خصوصيات ذلك الشخص في ذلك الحكم كما روى ابن بابويه في الفقيه ، في أواخر باب ( ما يجوز للمحرم إتيانه وما لا يجوز ) عن خالد بياع القلانس ، أنه قال : « سألت أبا
التسليم يجوز فرض الكلام في المتجزي الذي لم يطلع على هذا الاجماع ، فيلزم أنه يكون اسوء حالا من العامي. انتهت عبارته. ( منه رحمه الله ).
1 ـ كلمة ( حينئذ ) : زيادة من أ وب وط.
2 ـ كذا في ط ، وفي سائر النسخ : الغرض.


(250)
عبدالله عليه السلام ، عن رجل أتى أهله وعليه طواف النساء ؟ قال عليه السلام : عليه بدنة.
    ثم جاء‌ه آخر ، فسأله عنها ؟ فقال عليه السلام : عليه بقرة.
    ثم جاء‌ه آخر فسأله عنها ؟ فقال عليه السلام : عليه شاة.
    فقلت ـ بعد ما قاموا ـ : أصلحك الله ، كيف قلت : عليه بدنه ؟! فقال : أنت موسر ، وعليك بدنة ، وعلى الوسط بقرة ، وعلى الفقير شاة » (1) فبين عليه السلام بعد السؤال ، أن الاول موسر ، والثاني متوسط ، والثالث فقير ، من غير إشعار في كلامه عليه السلام بمدخلية الاحوال الثلاث ، وهذا مما يقدح أيضا في حصول العلم بنتقيح المناط (2) ، فتأمل.

    البحث الثالث :
    فيما يحتاج إليه المجتهد من العلوم ، وهو تسعة ، ثلاثة من العلوم الأدبية ، وثلاثة من المعقولات ، وثلاثة من المنقولات.
    فالاول من الاول : علم اللغة.
    والاحتياج إليه : ظاهر ، إذ الكتاب والسنة عربيان ، ومعاني مفردات اللغة إنما تبين (3) في علم اللغة.
    والثاني : علم الصرف.
    والاحتياج إليه : لان تغير المعاني بتصريف المصدر ـ المبين معناه في علم اللغة ـ إلى الماضي والمضارع والامر والنهي ونحوها ، إنما يعلم في الصرف.
    والثالث : علم النحو.
    والاحتياج إليه : أظهر ، لان معاني المركبات من الكلام إنما يعلم به.
1 ـ الفقيه : 2 / 363 ح 2716.
2 ـ حيث أن العلم بعدم المزية شرط في تعدية الحكم إلى المساوي ، فان احتمل وجودها لم تجز التعدية ، كما صرح به المحقق في معارج الاصول : 85 / المسألة الرابعة.
3 ـ كذا في ط وب ، وفي الاصل : يبين ، وفي أ : يتبين.


(251)
    والاحتياج إلى هذه العلوم الثلاثة إنما هو لمن لم يكن مطلعا على عرف النبي صلى الله عليه وآله وسلم والائمة عليهم السلام ، كالعجم مطلقا ، والعرب أيضا في هذه الازمنة ، لا مثل الرواة ، ومن قرب زمانه منهم ، على أن الاحتياج في هذه الازمنة أيضا ، متفاوت بالنسبة إلى الاصناف كالعرب والعجم.
    والاول من الثاني : علم الاصول.
    والاحتياج إليه : لان المطالب الاصولية مما يتوقف عليه استنباط الاحكام ، مثلا : كثير من المسائل يتوقف على ثبوت الحقيقة الشرعية ونفيها ، وتحقيقها إنما هو في الاصول ، وكذا على كون الامر للوجوب أو لا ؟ وكذا الوحدة والتكرار ؟ والفور والتراخي ؟ وأن الامر بالشيء هل يقتضي النهي عن ضده الخاص أو لا ؟ وكذا وجوب مقدمة الواجب ، وظاهر أنها لا تعلم من اللغة وغيرها ، وليس أحد الشقين في هذه المذكورات بديهيا حتى يستغنى عن تدوينها وعن النظر فيها ، وكذا ليست هذه المذكورات مما لا يتوقف عليه العمل ، وكذا الحال في مباحث النواهي ، وحكم ورود العام والخاص ، والمطلق والمقيد ، والمجمل والمبين ، والقياس مطلقا ، أو منصوص العلة ، ووجوب العمل بخبر الواحد وعدمه ، وإن أمكن ادعاء ثبوت وجوب العمل بالمتواتر ، من علم الكلام ، وهكذا بقية المطالب.
    والثاني : علم الكلام.
    ووجه الاحتياج إليه : أن العلم بالاحكام يتوقف على أن الله تعالى لا يخاطب بما لا يفهم معناه ، ولا بما يريد خلاف ظاهره ، من غير بيان ، وهذا إنما يتم إن لو عرف (1) أنه تعالى حكيم مستغن عن القبيح ، وكذا يتوقف على العلم بصدوق الرسول والائمة عليهم السلام.
1 ـ كذا في النسخ ، والظاهر زيادة أحد حرفي الشرط ، أو ان تكون العبارة بالنحو التالي : وهذان انما يتمان لو عرف.

(252)
    والحق : أن الاحتياج إليه ، إنما هو لتصحيح الاعتقاد ، لا للاحكام بخصوصها.
    والثالث : علم المنطق.
    والاحتياج إليه : إنما هو لتصحيح المسائل الخلافية وغيرها ، من العلوم المذكورة ، إذ لا يكفي التقليد سيما في الخلافيات ، مع إمكان الترجيح ، وكذا لرد الفروع الغريبة إلى اصولها ، لانه محتاج إلى إقامة الدليل ، وتصحيح الدليل لا يتم بدون المنطق إلا للنفوس القدسية.
    واعلم : أن العلوم المذكورة ، ليس جميع مسائلها المدونة ، مما يتوقف عليه الاجتهاد ، بل ولا أكثرها على الظاهر ، والقدر المحتاج إليه ، مما لا يمكن تعيينه إلا بعد ملاحظة جميع الاحكام ، ويكفي لصاحب الملكة (1) الرجوع إلى ما يحتاج إليه عند الاحتياج ، كما لا يخفى.
    الظاهر الاستغناء عن المنطق في العمل بالمنطوقات ، وكذا المفهومات الظاهرة.
    فإن قلت : لا حاجة إلى علم الاصول ، لوجهين : الاول : أن علم الاصول قد حدث تدوينه بعد عصر الائمة عليهم السلام ، وأنا نقطع بأن قدماء‌نا ، ورواة أحاديثنا ، ومن يليهم ـ لم يكونوا عالمين بعلم الاصول ، مع أنهم كانوا عاملين بهذه الأحاديث الموجودة ، ولم ينقل عن أحد من الائمة عليهم السلام إنكارهم ، بل المعلوم تقريرهم لهم ، وكان ذلك الطريق مستمرا عند الشيعة إلى زمان القديمين : الحسن بن أبي عقيل ، وأبي علي أحمد بن الجنيد ، ثم حدث تدوين الاصول بين الشيعة أيضا (2) ، فلا يكون العمل بهذه الأحاديث موقوفا على العلم بمسائل علم الاصول.
1 ـ أي : في العلوم المذكورة ( منه رحمه الله ).
2 ـ كلمة ( أيضا ) : ساقطة من ط.


(253)
    الثاني : أن البديهة حاكمة بوجوب العمل (1) بأوامر الشرع ونواهيه ، ومن علم العلوم الثلاثة الاول : فهو ممن يفهم الاوامر والنواهي ، فالحكم عليه بوجوب التقليد المنهي عنه ، بمجرد جهله بمسائل الاصول ، مما لا دليل عليه ، بل لا عذر له في التقليد ، وليس مثله مع التقليد إلا مثل شخص حكمه ملك على ناحية ، وعهد إليه : أنه متى أخبره ثقة بأن الملك أمرك بكذا ، أو نهاك عن كذا ، فعليك بالطاعة والعمل بالامر والنهي ، وبين له المخلص عند تعارض الأخبار ، فهو يترك العمل بما سمع من الاوامر والنواهي من الثقاة ، معللا بجهله بمسائل الاصول أو المنطق ، فإن استحقاقه للذم حينئذ مما لا ريب فيه.
    قلت : اعلم أولا : أن مباحث علم الاصول قسمان : الاول : ما يتعلق بتحقيق معاني الالفاظ ، مثل : أن الحقيقة الشرعية ثابتة أو لا ؟ وأن الامر للوجوب ؟ والمرة ؟ والفور ؟ أو لا ؟ وكذا النهي ؟ وأن المفرد المعرف باللام ، والجمع المنكر ، للعموم ؟ أو لا ؟ والمخصص المتعقب للجمل المتعاطفة ـ كالاستثناء ، والشرط ، ونحوهما ـ يرجع إلى الجملة الاخيرة فقط ؟ أو إلى الجميع ؟ إلى غير ذلك من المسائل المودعة في مواضعها.
    والثاني : ما ليس كذلك ، مثل : أن الامر بالشيء هل يقتضي وجوب مقدمته ؟ وتحريم ضده الخاص ؟ أو لا ؟ وهل يجوز تعلق الامر والنهي بشيء واحد ؟ أو لا ؟ وهل يجوز التكليف بالشيء مع علم الآمر بانتفاء شرطه ؟ أو لا ؟ وهل العام المخصص حجة في الباقي ؟ أو لا ؟ وهل العمل بالعام مشروط باستقصاء البحث عن المخصص ؟ أو لا ؟ وهل المفهومات حجة ؟ أو لا ؟ وخبر الواحد هل هو حجة ؟ أو لا ؟ إلى غير ذلك من المسائل.
    إذا عرفت هذا ، فنقول : ما كان من القسم الاول ، فهو لم يكن في عصر الائمة عليهم السلام وما شابهه محتاجا إليه ، لان معاني الالفاظ وحقائقها كانت
1 ـ في ط : العلم.

(254)
معلومة لهم ، لعدم تغير العرف في زمانهم ، ولما خفي هذا ـ بسبب تغير العرف ـ احتيج إلى تحقيق هذه المسائل ، فدون لها علم على حدة ، ولا يلزم من استغنائهم استغناؤنا ، فإنه لما اشتبه علينا أن الامر للوجوب ؟ أو لا ؟ لا يمكننا الحكم بوجوب شيء وبعدم جواز تركه ، بمجرد ورود الامر به ، إلا بعد النظر في الادلة الدالة على أن الامر للوجوب ، وكذا الحال في بقية المسائل ، فكيف يتصور القول باستغنائنا عنها في العلم أو الظن بالاحكام ؟! بل هل هذا إلا جهل أو تجاهل ؟! فإن قلت : يمكن العلم بهذه المطالب الاصولية من علم العربية.
    قلت : ليس شيء من هذه المباحث مبينا ـ بحيث يشفي العليل ويروي الغليل ـ في غير الاصول ، كما هو ظاهر للمتتبع.
    وبعد التسليم ، فهي محتاج إليها ، وليس الغرض إلا هذا.
    وقد ظهر الجواب بما مر عن كلا الوجهين في هذا القسم ، أما الاول : فظاهر ، وأما الثاني : فلانا لا نسلم حصول الفهم بدون العلم بهذا القسم من المطالب.
    وأما القسم الثاني : فلا شك في الاحتياج إليه للعلم بالفروع المتفرعة عليه ، مثلا : إذا اريد العلم بحال الصلاة في الدار المغصوبة ، هل هي صحيحة ؟ أو باطلة ؟ فلابد من تحقيق حال ( تعلق الامر والنهي بشيء واحد ) هل هو جائز؟ أو لا ؟ إذ ليس لهذه المسألة مدرك غير هذه المسألة الاصولية ، على ما هو الظاهر من الكتب الاستدلالية ، وكذا العلم بحال الصلاة في أول الوقت مع شغل الذمة بحق مضيق ؟ أو جواز السفر بعد الصبح من يوم الجمعة قبل صلاة الجمعة إذا وجبت ؟ أو صحة الصلاة في موضع يخاف في الوقوف فيه هلاك النفس ؟ أو صحة النافلة في وقت الفريضة ، أو صحة استيجار العبادة لمن في ذمته مثلها من عبادة نفسه ؟ أو لمن يقلد الميت ؟ على المشهور ؟ أو لمن استأجر نفسه قبل ذلك بمثلها ، مع الاطلاق في عقدي الاجارة ؟ أو


(255)
التعيين في أحدهما والاطلاق في الآخر ، على تقدير تقارب زمانهما ، بحيث لم تحصل البراء‌ة من الاول ؟ وكأنه لا خلاف في عدم صحة إجارة الحج لمن عليه حج واجب من نفسه ، أو لاجارة سابقة من القدرة ، ولم يظهر له مدرك غير المسألة الاصولية.
    وكذا الحال في بقية المسائل ، سيما حجية خبر الواحد ، والاحتياج إلى العلم بمثل هذه الفروع المذكورة مما لا يعتريه شك.
    القائل بالاستغناء عن علم الاصول يلزمه : إما القول ببداهة أحد طرفي هذه المسائل ، أو : بعدم الاحتياج إلى العلم بهذه المسائل ، وكلاهما بديهي البطلان.
    والسر في عدم احتياج القدماء إلى تحقيق هذا القسم ـ على تقديره ـ : أن بعض هذا القسم كان لهم غنى عن تحقيق حاله ، مثل حجية خبر الواحد وما يتعلق به ، فإن حصول العلم لهم ـ بسبب المشافهة من المعصوم عليه السلام ، وبالتواتر (1) ، وبالقرائن المفيدة للعلم ، بسبب قرب زمانهم ـ أغناهم عن النظر في خبر الواحد وما يتعلق به ، ولهذا ترى أكثر القدماء ينكرون خبر الواحد ، كابن بابويه في أول كتاب الغيبة ، والسيد المرتضى ، وابن زهرة ، وابن ادريس ، بل الشيخ الطوسي ، كما لا يخفى على المتأمل ، وغيرهم (2).
    وبعض آخر منه : من عاداتهم وعرفهم يعلمونه ، كالقسم الاول ، مثل : مقدمة الواجب ، والمفهومات ، والعام المخصص ، ونحوها ، بل يمكن إدراجها في القسم الاول أيضا.
    وبعض آخر : مما لم يخطر في بالهم ، ولو خطر ببالهم لسألوا عنه إمام زمانهم عليه السلام ، مثل : احتمال بطلان الصلوة مع سعة الوقت ، لمن عليه حق
1 ـ كذا في أ وط ، وفي ب : أو بالتواتر ، وفي الاصل ، أسقط حرف العطف.
2 ـ راجع ذلك فيما أوردناه في هوامش ص 158.
الوافية في اصول الفقه ::: فهرس