الوافية في اصول الفقه ::: 256 ـ 270
(256)
مضيق ، إذ نحن لم ندع أن العمل بمنطوقات الأخبار الصريحة ، يتوقف على العلم بجميع هذا القسم من المسائل الاصولية ، بل نحن ندعي أن العلم بفروعاتها يتوقف عليها.
    نعم من أنكر التجزي ، يلزمه القول بعدم العلم بشيء من الاحكام حينئذ ، بدون العلم بهذه المسائل الاصولية.
    لكن على ما مر من التحقيق : يمكن الاجتهاد والعلم بكثير من الاحكام ، مع الجهل بكثر من مسائل القسم الثاني ، فلا تغفل.
    ولي كلام في قولهم : لا يجوز العمل بالعام قبل فحص المخصص والمعارض ، لعلي أورده في موضعه في هذه الرسالة إن شاء الله تبارك وتعالى.
    والاول من الثالث : العلم بتفسير الآيات المتعلقة بالاحكام ، وبمواقعها من القرآن ، أو من الكتب الاستدلالية ، بحيث يتمكن من الرجوع إليها عند الحاجة.
    والمشهور : أن الآيات المتعلقة بالاحكام نحو من خمسماء‌ة آية ، ولم أطلع على خلاف في ذلك.
    وروى الكليني ، في باب النوادر من كتاب فضل القرآن ، عن الاصبغ ابن نباتة ، قال : « سمعت أمير المؤمنين عليه السلام ، يقول : نزل القرآن أثلاثا : ثلث فينا وفي عدونا ، وثلث سنن وأمثال ، وثلث فرائض وأحكام » (1).
    وفي الصحيح : « عن أبي بصير ، عن أبي جعفر عليه السلام ، قال : نزل القرآن أربعة أرباع : ربع فينا ، وربع في عدونا ، وربع سنن وأمثال ، وربع فرائض وأحكام » (2).
    وفي رواية اخرى : « عن أبي عبدالله عليه السلام ، قال : إن القرآن نزل
1 ـ الكافي : 2 / 627 ـ كتاب القرآن / باب النوادر / ح 2.
2 ـ الكافي : 2 / 627 ح 4 من باب المذكور.


(257)
أربعة أرباع : ربع حلال ، وربع حرام ، وربع سنن وأحكام ، وربع خبر ما كان قبلكم ونبأ ما يكون بعدكم وفصل ما بينكم » (1).
    ووجه الاحتياج إليه : أن استنباطا الاحكام من الآيات الاحكامية ، يتوقف على العلم بها ، وذلك ظاهر.
    فإن قلت : قد ورد الأخبار أن القرآن إنما يعلمه من خوطب به (2) ، وأنه لا يجوز تفسير القرآن بالرأي (3) ، كما (4) رواه الطبرسي (5) وغيره ، ويدل على مضمونه : ما رواه الكليني في باب اختلاف الحديث (6).
    وفي التفسير المنسوب إلى سيدنا ومولانا أبي محمد الحسن بن علي العسكري : « فأما من قال في القرآن برأيه فإن اتفق له مصادفة صواب ، فقد جهل في أخذه عن (7) غير أهله » (8) والحديث طويل.
    وقال في مجمع البيان : « واعلم : أن الخبر قد صح عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم ، وعن الائمة عليهم السلام القائمين مقامه : أن تفسير القرآن لا يجوز إلا بالاثر الصحيح ، والنص الصريح » (9) انتهى.
1 ـ الكافي : 2 / 627 ح 3 من الباب المذكور.
2 ـ ذيل رواية زيد الشحام. الكافي : 8 / 311 ح 485 وبمعناه روايات اخر أوردها في ( باب انه لم يجمع القرآن كله إلا الائمة عليهم السلام وانهم يعلمون علمه كله ) سيما الحديث الثاني والخامس والسادس منه. الكافي : 1 / 228.
3 ـ تفسير العياشي : 1 / 17 ـ 18 ، عيون اخبار الرضا (ع) : 1 / 59 ـ الباب 11 ح 4 ، امالي الصدوق : 155 ح 3 ، التوحيد : 905 ح 5.
4 ـ كلمة ( كما ) : زيادة من ط.
5 ـ مجمع البيان : 1 / 13 ـ الفن الثالث.
6 ـ الكافي : 1 / 62.
7 ـ في أ وب وط : من.
8 ـ التفسير المنسوب إلى الامام العسكري : 14.
9 ـ مجمع البيان : 1 / 13 ـ الفن الثالث.


(258)
    وأيضا : قد روى الكليني (1) ، وعلي بن إبراهيم (2) ، وغيرهما ، روايات كثيرة ، دالة على أن في القرآن تغييرا وتبديلا كثيرا.
    وعلى هذين الاحتمالين ، فلا يصح التمسك بالقرآن في الاحكام الشرعية ما لم يكن هناك نص ، وهو مغن ، فلا يكون العلم بالكتاب مما يتوقف عليه الاجتهاد.
    قلت : الجواب من وجوه : الاول : أن المراد بانحصار علم القرآن وتفسيره ، في الائمة عليهم السلام ، ما كان من حمل الكلام على خلاف المدلولات الظاهرة.
    وأما المدلولات الظاهرة : فلا شك في حصول العلم بها من الكلام ، مثلا : لا شك في حصول العلم بالتوحيد من آية : ( قل هو الله أحد ) (3) ، و( إنما إلهكم إله واحد ) (4) ، وفي حصول العلم بطلب الصلاة من آية : ( واقيموا الصلاة ) (5) وإن كانت الصلاة مما يحتاج إلى البيان ، وفي العلم بأن نصيب الذكر ضعف الانثى في الميراث في شريفة : ( يوصيكم الله في أولادكم للذكر مثل حظ الانثيين ) (6) ، وفي الربع للزوج مع الولد ، والنصف مع عدمه ،
1 ـ الكافي : 8 / 50 ح 11 ، وص 183 ح 208 ، وص 290 ح 437 و438 و439 و440 وص 377 ح 568 ، وص 378 ح 569 و570 و571.
2 ـ تفسير علي بن ابراهيم القمّي / المجلد الثاني : 295 حديث أبي بصير في تفسير الآية 29 / الجاثية ، وكذا في ص 349 حديثا أبي عبدالرحمن السلمي ، وأبي بصير في تفسير الآية 56 / الواقعة ، وكذا في ص 367 حديث ابن أبي يعفور في تفسير الآية : 11 / الجمعة ، وفي ص 451 : « قال رسول الله [ ص ] لو أن الناس قرأوا القرآن كما انزل الله ما اختلف اثنان ». انظر ما اوردناه فيما تقدم في الهامش ( 3 ) من صفحة 147.
3 ـ التوحيد / 1.
4 ـ الكهف / 110 ، والانبياء / 108.
5 ـ البقرة / 43 ، 83 ، 110 ، والنساء / 77 ، والنور / 56 ، والمزمل / 20.
6 ـ النساء / 11.


(259)
إلى غير ذلك ، بحيث لا يعتريه شك ولا يدانيه ريب.
    ويؤيد هذا الوجه :
    ما ذكره الطبرسي : [ من ] « أن التفسير : كشف المراد عن اللفظ المشكل » (1).
    و : أن الفقهاء في جميع الاعصار كانوا يستدلون بالآيات القرآنية ، وكتاب ( من لا يحضره الفقيه ) مملوء منه ، سيما كتاب المواريث وغيره (2) ، واستدلالات الائمة عليهم السلام لاصحابهم الشيعة ولغيرهم بالآيات ، مما لا يعد ولا يحصى.
    وحمل الطبرسي التفسير بالرأي على عدم مراعاة شواهد الالفاظ ، وفيه بعد.
    الثاني : أن المراد انحصار العلم بكل القرآن في الائمة عليهم السلام.
    ويؤيده : ما رواه الكليني ، في كتاب فضل القرآن : أن القرآن اسم للمجموع (3) ، وما رواه في باب الرد إلى الكتاب والسنة ، أو باب آخر قريب منه من أنه : « لا يدعي العلم بجميع القرآن غيرنا إلا كذاب » (4).
    الثالث : أن ههنا أخبارا معارضة للاخبار الاولة ، كحديث عرض الحديث على كتاب الله ، والاخذ بالموافق وطرح المخالف خلف الحائط (5).
    وفي هذا المضمون أخبار كثيرة بالغة حد التواتر ، فلو فرض أن العلم بالقرآن لا يحصل إلا بالحديث ، لم يكن للعرض فائدة.
    وفي هذا الوجه دلالة على صحة الاعتماد على الاصل وظاهر الحال ، من
1 ـ مجمع البيان : 1 / 13 ـ الفن الثالث.
2 ـ يكفي لصدق هذا المقال ملاحظة خطبة كتاب الكافي للكليني ( منه رحمه الله ).
3 ـ الكافي : 2 / 630 ـ كتاب فضل القرآن / باب النوادر ح 11.
4 ـ الكافي : 1 / 228 ـ كتاب الحجة / باب انه لم يجمع القرآن كله إلا الائمة (ع) / ح 1 وغيره.
5 ـ الكافي : 1 / 69 ـ كتاب فضل العلم / باب الاخذ بالسنة وشواهد الكتاب. ذكر بعضها الكليني في خطبة الكافي ( من رحمه الله ) ، مجمع البيان : 1 / 13 ـ المقدمة / الفن الثالث.


(260)
عدم النسخ والتخصيص ، إذ لو كان احتمال النسخ موجبا لعدم صحة الاعتماد على مدلول الآية ، لم يحصل العلم بصحة الحديث بسبب عرضه على القرآن ، سيما عند تعارض الخبرين.
    وعلى هذا ، يسقط ما يتوهم من أنه على تقدير العلم بمضمون الآية ، فالعلم ببقاء التكليف بمضمونه غير حاصل لنا ، لاحتمال النسخ والتخصيص ، وإذا حصل التعارض فيجب ـ على تقدير التكافؤ ـ حمل الأخبار الاولة على المتشابهات ، كما لا يخفى.
    وأما حديث التغيير في القرآن : فهو مما نفاه الاكثر ، وبالغ فيه السيد الاجل المرتضى في جواب المسائل الطرابلسيات ، وقد نقل كلامه الشيخ الطبرسي في أوائل كتاب مجمع البيان (1).
    وعلى تقدير التسليم ، فقد روي أيضا جواز العمل بهذا القرآن الموجود ، حتى يقوم قائم آل محمد عليه وعليهم أفضل الصلاة والسلام (2).
    واعلم : أنه يتصور في حق المتجزي استغناؤه في التفسير ، كما لا يخفى ، فتأمل.
    والثاني من القسم الثالث : العلم بالاحاديث المتعلقة بالاحكام ، بأن يكون عنده من الاصول المصححة ما يجمعها ، ويعرف موقع كل باب ، بحيث يتمكن من الرجوع إليها.
    ويتصور في حق المتجزي الغناء عنها ، ببعض الكتب الاستدلالية ، كما لا يخفى.
    والثالث من الثالث : العلم بأحوال (3) الرواة في الجرح والتعديل ، ولو بالمراجعة إلى كتب الرجال.
1 ـ مجمع البيان : 1 / 15 ـ الفن الخامس.
2 ـ انظر ما تقدم في الهامش ( 2 ) من ص 148.
3 ـ كذا في أ وب وط ، وفي الاصل : حال.


(261)
    ووجه الاحتياج إليه : أن الاجتهاد بدون التمسك بالاحاديث غير متصور ، وليس كل حديث مما يجوز العمل به ، إذ كثير من الرواة نقلوا في حقهم أنهم من الكذابين المشهورين ، فلا شك في وجود رواية الكذب (1) ، وربما لا يمكن التمييز بغير الاطلاع على حال الراوي.
    وهههنا شكوك : الاول : ـ وهو ما ذهب إليه الفاضل مولانا محمد أمين الاسترآبادي ـ أن العلم بأحوال الرواة غير محتاج إليه للعمل بأحاديث الاحكام (2) ، لان أحاديثنا كلها قطعية الصدور عن المعلوم ، وما كان كذلك فلا يحتاج إلى ملاحظة سنده ، أما الكبرى : فظاهرة ، وأما الصغرى : فلان أحاديثنا محفوفة بقرائن مفيدة للقطع بصدورها عن المعصوم عليه السلام.
    « فمن جملة القرائن : أنه كثيرا ما نقطع بالقرائن الحالية أو المقالية ، بأن الراوي كان ثقة في الرواية ، لم يرض بالافتراء ، ولا برواية ما لم يكن بينا واضحا عنده ، وإن كان فاسد المذهب أو فاسق بجوارحه ، وهذا النوع من القرينة وافرة في أحاديث كتب أصحابنا.
    ومنها : تعاضد بعضها ببعض.
    ومنها : نقل الثقة العالم الورع ـ في كتابه الذي ألفه لهداية الناس ، ولان يكون مرجع الشيعة ـ أصل رجال أو روايته ، مع تمكنه من استعلام حال ذلك الاصل ، أو تلك الرواية ، وأخذ الاحكام بطريق القطع عنهم عليهم السلام.
    ومنها : تمسكه بأحاديث ذلك الاصل ، أو بتلك الرواية ، مع تمكنه من أن يتمسك بروايات اخر صحيحة.
    ومنها : أن يكون راويه أحد من الجماعة التي أجمعت العصابة على
1 ـ كذا في النسخ. ولعله تصحيف : الكذاب.
2 ـ الفوائد المدنية : 30 ( في انكاره لما نقله عن العلامة الحلّي ) وانظر أيضا : ص 40 و53 و56


(262)
تصحيح ما يصح عنهم.
    ومنها : أن يكون راويه من الجماعة التي ورد في شأنهم من بعض الائمة عليهم السلام : « أنهم ثقاة مأمونون » أو : « خذوا عنهم (1) معالم دينكم » أو : « هؤلاء أمناء الله في أرضه » ، ونحو ذلك.
    ومنها : وجوده في أحد كتابي الشيخ ، وفي الكافي ، وفي ( من لا يحضره الفقيه ) ، لاجتماع شهاداتهم على صحة أحاديث كتبهم ، أو على أنها مأخوذة من تلك الاصول المجمع على صحتها » انتهى كلامه (2).
    وذكر في بيان شهاداتهم : « أن ابن بابويه رحمه الله ، ذكر في أول كتابه : « إني لا اورد في هذا الكتاب إلا ما افتي به ، وأحكم بصحته ، وهو حجة يبني وبين ربي » (3).
    وقال محمد بن يعقوب في أول الكافي ، مخاطبا لمن سأله تصنيفه : « وقلت : إنك تحب أن يكون عندك كتاب كاف يجمع من جميع فنون علم الدين ، ما يكتفي به المتعلم ، ويرجع إلى المسترشد ، ويأخذ عنه من يريد علم الدين ، والعمل به ، بالآثار الصحيحة عن الصادقين عليهم السلام ، فاعلم يا أخي أرشدك الله تعالى : أنه لا يسع أحدا تمييز شيء مما اختلفت الرواية فيه عن العلماء عليهم السلام برأيه ، إلا ما أطلقه العالم بقوله عليه السلام : « اعرضوها على كتاب الله ، فما وافق كتاب الله فخذوه ، وما خالف كتاب الله فردوه » ، وقوله عليه السلام : « دعوا ما وافق القوم ، فإن الرشد في خلافهم » وقوله عليه السلام : « خذوا بالمجمع عليه ، فإن المجمع عليه لا ريب فيه » ، ونحن لا نعرف من جميع ذلك إلا أقله ، لا نجد شيئا أحوط ولا أوسع من رد علم ذلك كله إلى العالم عليه
1 ـ كلمة ( عنهم ) : ساقطة من الاصل ، واثبتناها من سائر النسخ.
2 ـ الفوائد المدنية : 89 وكرر دعوى اجتماع شهاداتهم على صحة أحاديث كتبهم في ص 176 منه.
3 ـ الفقيه : 1 / 3.


(263)
السلام ، وقبول ما وسع من الامر فيه ، بقوله عليه السلام : « بأيهما (1) أخذتم من باب التسليم وسعكم » وقد يسر الله وله الحمد ، تأليف ما سألت ، وأرجو أن يكون بحيث توخيت فمهما كان فيه من تقصير ، فلم تقصر نيتنا في إهداء النصيحة ، إذ كانت واجبة لاخواننا وأهل ملتنا ، مع ما رجونا أن نكون مشاركين لكل من اقتبس منه وعمل بما فيه في دهرنا هذا وفي غابره إلى انقضاء الدنيا ، إذ الرب عز وجل واحد ، والرسول محمد خاتم النبيين صلوات الله وسلامه عليه واحد ، والشريعة واحدة ، وحلال محمد حلال ، وحرامه حرام ، إلى يوم القيامة » انتهى (2).
    قال : « إن كلامه قدس سره صريح في أنه قصد بذلك التأليف إزالة خيرة السائل ، ومن المعلوم أنه لو لفق كتابه هذا مما ثبت وروده عن أصحاب العصمة صلوات الله عليهم ومما لم يثبت ، لزاد السائل حيرة وإشكالا ، فعلم أن أحاديث كتابه كلها صحيحة » (3).
    وقال الشيخ الطوسي في أول الاستبصار (4) ما حاصله : « إن الحديث على خمسة أقسام ، لانه : إما متواتر ، أو لا.
    والثاني : إما محفوف بالقرائن المفيدة للقطع ، أو لا ، والثاني : إما لا يعارضه خبر آخر ، أو يعارضه.
    والثاني : إما إن لم يتحقق (5) الاجماع على صحة أحد الخبرين ، أو على إبطال الآخر ، أو لم يكن كذلك ».
    وجعل الاقسام كلها قطعية إلا الاخير ، أما الاول ـ وهو المتواتر ـ : فظاهر. وأما المحفوف بالقرائن الموجبة للعلم : فظاهر أيضا ، فإنه صرح بأنه
1 ـ في النسخ والكافي ـ في خطبته ـ : بأيما. وما اثبتناه مطابق لما جاء في ص 66 من المجلد الاول من الكافي.
2 ـ الكافي : 1 / 8 ـ 9 خطبة الكتاب.
3 ـ الفوائد المدنية : 50 و272 / الفائدة الاولى.
4 ـ الاستبصار 1 / 3 ـ 4 ( بتصرف في اللفظ ).
5 ـ كذا في الاصل ، وأ. وفي ب أسقط : إن. وفي ط أسقط : اما. ولعل الصواب : اما أن لا يتحقق.


(264)
يجري مجرى المتواتر. وأما الثالث ـ وهو كل خبر لا يعارضه خبر آخر ـ : فإن ذلك يجب العمل به ، لانه من الباب الذي عليه الاجماع في النقل ، إلا أن تعرف فتاواهم بخلافه ـ ويفهم منه : أن نقل هذا القسم من المعصوم مجمع عليه ، وهذا فوق الشهادة بالصحة ـ وأما الرابع ، فقال فيه : « ولانه إذا ورد الخبران المتعارضان ، وليس بين الطائفة إجماع على صحة أحد الخبرين ، ولا على إبطال الخبر الآخر ، فكأنه إجماع على صحة الخبرين ، وإذا كان إجماعا على صحتهما ، كان العمل بهما ، جائزا سائغا » فادعى الاجماع على صحة هذا القسم ، فعلم منه : أن كل خبر لا يعلم الاجماع على خلافه ، فهو عنده صحيح ، فهذا شهادة منه على صحة جل الأحاديث ، بل كلها ، إذ القسم الخامس مما لا يكاد يوجد.
    وقال أيضا : « وأنت إذا فكرت في هذه الجملة ، وجدت الأخبار كلها لا تخلو من قسم من هذه الاقسام ووجدت أيضا ما عملنا عليه في هذا الكتاب وفي غيره من كتبنا في الفتاوى في الحلال والحرام لا يخلو من واحد من هذه الاقسام ». ويفهم منه أن كل حديث عمل هو به فهو عنده صحيح (1).
    وقال في أول التهذيب : « وأذكر مسألة مسألة ، فأستدل عليها ، إما من ظاهر القرآن ، أو من صريحه ، أو فحواه ، أو دليله ، أو معناه ، وإما من السنة المقطوع بها : من الأخبار المتواترة ، أو الأخبار التي تقترن إليها القرائن التي تدل على صحتها ، وإما من إجماع المسلمين ، إن كان فيها ، أو إجماع الفرقة المحقة ، ثم أذكر بعد ذلك ما ورد من أحاديث أصحابنا المشهور في ذلك ، وأنظر فيما ورد بعد ذلك مما ينافيها ويضادها ، وابين الوجه فيها ، إما بتأويل أجمع بينها وبينها ، أو أذكر وجه الفساد فيها ، إما من ضعف إسنادها ، أو عمل العصابة بخلاف متضمنها » (2).
1 ـ اشار الاسترآبادي إلى ذلك باستشهاده بكلام شيخ الطائفة : الفوائد المدنية : 50 و67.
2 ـ التهذيب : 1 / 3 ـ المقدمة.


(265)
    وهذا الكلام صريح في أن ما لم يتعرض لتأويله أو طرحه ، فهو إما من المتواتر ، أو من المحفوف بالقرائن المفيدة للقطع ، أو من الأحاديث المشهورة عند أرباب الحديث.
    فالاولان : ظاهر أنهما من قبيل القطعي ، وأما الثالث : فهو أيضا كذلك ، إذ شهرة الحديث عند أربابه ، أيضا مما يفيد القطع بصدوره عن المعصوم.
    وبيان شهادة الشيخ الطوسي رحمه الله بهذا الوجه الذي ذكرته في هذه الرسالة ، مما لم أجده في كلام هذا القائل ، بل هو نقل أن الشيخ في كتاب العدة ، ذكر : « أن ما عملت به من الأخبار فهو صحيح » (1) ، ولكني تصفحت العدة ، فما رأيت هذا الكلام فيه.
    وذكر أيضا : « أن الشيخ كغيره ، كان متمكنا من إيراد الأخبار الصحيحة ، من الكتب القطعية الأخبار فلا وجه لتلفيقه الأخبار الصحيحة والضعيفة ، بل هذا مما يقطع العقل بسبب العادة بامتناعه.
    ويمكن أن يكون قوله : « لاجتماع شهاداتهم على صحة أحاديث كتبهم » إشارة إلى كلام الكليني ، وابن بابويه رحمهما الله تعالى.
    وقوله : « أو على أنها مأخوذة من تلك الاصول ، المجمع على صحتها » إشارة إلى كلام الشيخ الطوسي في العدة ، حيث قال : ـ في بيان جواز العمل بخبر الواحد ، الوارد من طريق أصحابنا الامامية ، المروي عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم ، والائمة عليهم السلام ، إذا كان الراوي ممن لا يطعن في روايته ، ويكون سديدا في نقله ـ « والذي يدل على ذلك : إجماع الفرقة المحقة ، فإني
1 ـ فقد قال الاسترآبادي : « إن رئيس الطائفة صرح في كتاب العدة وفي أول الاستبصار بان كل حديث عمل به مأخوذ من الاصول المجمع على صحة نقلها ، ونحن نقطع عادة بانه ما كذب » الفوائد المدنية : 183. وذكر مثل ذلك أو قريبا منه في ص 41 و49 و67 و177 و193 ومواضع اخر من الكتاب المذكور.

(266)
وجدتها مجمعة (1) على العمل بهذه الأخبار ، التي رووها في تصانيفهم ودونوها في اصولهم ، لا يتناكرون ذلك ولا يتدافعونه » (2). انتهى. فإن هذا الكلام يدل على أن الاصول الاربعماء‌ة ، التي كانت للشيعة ، كان العمل بها إجماعيا ، وظاهر : أن كتابي الشيخ ، أخذ أحاديثهما عنها ، بل الكتب الاربعة كلها كذلك.
    والجواب عن هذا الشك : منع كون أخبارنا كلها قطعية ، ليلزم الاستغناء عن النظر في أحوال الرجال ، وما ذكره من القرائن ، لا يدل شيء منها على المدعى.
    أما الاول : فلان العلم بكون الراوي ثقة لا يرضى بالافتراء ... إلى آخره ـ لا يحصل إلا بالنظر في أحوال الرجال ، وهو ظاهر.
    مع : أن حصول هذا العلم مطلقا ممنوع ، وسيما مع العلم بكون الراوي فاسد المذهب ، أو فاسقا بجوارحه ، غايته حصول الظن.
    وأيضا : وفور هذا النوع من القرينة ممنوع ، إذ ظاهر : أن خبرا ، تكون سلسلة سنده كلها ، رجالا يحصل في كل منهم العلم بعدم افترائه وغلطه وسهوه ـ في غاية الندرة.
    وأما الثاني : فلان تعاضد البعض بالبعض ، لا يوجب حصول القطع بالحديث.
    مع : أن الأخبار المتعاضدة ، المتحدة المعاني ، التي لا تكون مشتركة في شيء من رجال السند ـ قليلة الوجود ، فلا توجب الاستغناء المذكور.
    وأما الثالث : فلان نقل الثقة لا يوجب القطع وأيضا : قوله : « مع تمكنه من أخذ الاحكام بطريق القطع » ممنوع ، إذ
1 ـ كذا في أ وب والمصدر. وفي الاصل وط : مجتمعة.
2 ـ عدة الاصول : 1 / 47.


(267)
ظاهر : أن الكليني ، وابن بابويه ، والشيخ ، رحمهم الله ـ لم يكونوا متمكنين من أخذ الاحكام بطريق القطع عنهم عليهم السلام.
    ولو سلم إمكان القطع في بعض الاحكام بالنسبة إليهم ، فهذا لا يوجب اقتصارهم على إيراد القطعيات ، وترك غيرها ، بل عليهم إيراد الجميع ، مع ذكر ما يحصل به التمييز (1) بين المعتمد وغيره ، من ذكر رجال أسانيد الأخبار ، وقد فعلوا ذلك ، وسيجيء بقية الكلام فيه إن شاء الله تعالى.
    وأما الرابع : فلان الجماعة التي نقل الاتفاق على العمل بحديثهم ، في غاية القلة.
    مع : أنه لا يحصل العلم بأنه منهم إلا بمعرفة الرجال.
    وأيضا : هذا الاجماع ظني ، لانه منقول من طريق الآحاد (2) ، فلا يوجب القطع بالحديث ، بل لا يوجبه لو كان متواترا أيضا ، لانه فرع عدم جواز العمل بغير القطعي (3) ، وإلا فيجوز أن يكون عمل العصابة بحديثه ، و(4) وصف حديثه بالصحة ، لكونه ثقة يحصل الظن بحديثه.
    وأيضا : لا يكاد يوجد حديث ، يكون جميع رجال السند ممن أجمعت العصابة على تصحيح حديثه ، وهو في غاية الظهور.
    وأما الخامس : فالكلام فيه كالرابع.
    وأما السادس : فلان شهادة المشايخ الثلاثة ، بل إخبارهم بصحة أخبار (5) كتبهم ، لا يستلزم قطعيتها عندهم ، فضلا عن قطعيتها عندنا ، فإنه كما أن اتصاف الحديث بالصحة عند المتأخرين ، لا يستلزم قطعيته ، فكذا عند
1 ـ كذا في أ وب وط ، وفي الاصل : التمييز.
2 ـ كلمة ( الآحاد ) : ساقطة من الاصل ، وقد اثبتناها من سائر النسخ.
3 ـ في أ ، وط : القطع.
4 ـ الواو : ساقطة من الاصل وب وط ، وقد اثبتناها من نسخة أ.
5 ـ كلمة ( اخبار ) : ساقطة من الاصل وقد اثبتناها من سائر النسخ.


(268)
القدماء ، إذ الصحيح في مصطلحهم يطلق على الحديث ، باعتبار تعاضده بأمور توجب الاعتماد عليه والركون إليه ، وربما لا يصير بمجرد ذلك قطعيا.
    قال الشيخ الفقيه بهاء الملة والدين في فواتح كتاب مشرق الشمسين : « كان المتعارف بين القدماء إطلاق الصحيح على كل حديث اعتضد بما يقتضي اعتمادهم عليه ، أو اقترن بما يوجب الوثوق به والركون إليه ، وذلك بأمور : منها : وجود في كثير من الاصول الاربعماء‌ة ، التي نقلوها عن مشايخهم ، بطرقهم المتصلة بأصحاب العصمة سلام الله عليهم ، وكانت متداولة لديهم في تلك الاعصار ، مشتهرة بينهم اشتهار الشمس في رائعة النهار.
    ومنها : تكرره في أصل واحد ، أو أصلين منها فصاعدا ، بطرق مختلفة وأسانيد عديدة معتبرة.
    ومنها : وجوده في أصل معروف الانتساب إلى أحد الجماعة الذين أجمعوا على تصديقهم ، كزرارة ، ومحمد بن مسلم ، والفضيل (1) بن يسار ، أو على تصحيح ما يصح عنهم ، كصفوان بن يحيى ، ويونس بن عبدالرحمن ، وأحمد بن محمد بن أبي نصر ، أو على العمل بروايتهم ، كعمار الساباطي ، ونظرائه ، ممن عدهم شيخ الطائفة في كتاب العدة ، كما نقله عنه المحقق في بحث التراوح من المعتبر (2).
    ومنها : اندراجه في أحد الكتب ، التي عرضت على أحد الائمة عليهم السلام ، فأثنوا على مؤلفها ، ككتاب عبيد الله بن علي الحلبي ، الذي عرض على الصادق عليه السلام ، وكتابي : يونس بن عبدالرحمن ، والفضل بن شاذان ، المعروضين على العسكري عليه السلام.
    ومنها : أخذه من أحد الكتب التي شاع بين سلفهم الوثوق بها والاعتماد
1 ـ في ط : الفضل.
2 ـ المعتبر : 1 / 60.


(269)
عليها ، سواء كان مؤلفوها من الفرقة الناجية الامامية ، ككتاب الصلاة لحريز ابن عبدالله السجستاني ، وكتب ابني (1) سعيد ، وعلي بن مهزيار ، أو من غير الامامية ، ككتاب حفص بن غياث القاضي ، وكتب الحسين بن عبيد الله السعدي ، وكتاب القبلة لعلي بن الحسن الطاطري.
    وقد جرى ثقة الاسلام ، رئيس المحدثين ، محمد ابن بابوبه ـ قدس الله روحه ـ على متعارف القدماء ، من إطلاق الصحيح على ما يركن إليه ويعتمد عليه ، فحكم بصحة جميع (2) ما أورده من الأحاديث في كتاب من لا يحضره الفقيه ، وذكر أنه استخرجها من كتب مشهورة ، عليها المعول وإليها المرجع » انتهى كلامه أعلى الله مقامه (3).
    وإذا كانت الأحاديث ظنية ، فيجب الفحص عن أحوال أسانيدها ، حتى يعلم أن هذا الظن مما يجوز التعويل عليه (4) : لعموم النهي عن اتباع الظن.
    ولقوله تعالى : ( إن جاء‌كم فاسق بنبأ فتبينوا ) (5) أو فتثبتوا (6).
    فإن قلت : إخبار العدل بصحة خبر الفاسق ، يخرج الخبر عن كونه خبرا للفاسق ، ويدخله في خبر العدل ، فلا دلالة في الآية حينئذ على منع العمل به.
    قلت : لا نسلم ذلك ، بل الجائي بالنبأ إنما هو الفاسق ، وخبر العدل ليس هو الحديث ، بل صحة خبر الفاسق.
1 ـ في ط : أبي ، وفي المصدر المنقول عنه النص : ( بني خ ل ).
2 ـ كلمة ( جميع ) : ساقطة من الاصل ، وقد اثبتناها من سائر النسخ ، وهي مثبتة في المصدر أيضا.
3 ـ مشرق الشمسين : الصفحة الثانية ( المرقمة ب‍ 269 من مجموعة طبعت باسم : رسائل الشيخ بهاء الدين ).
4 ـ كلمة ( عليه ) : ساقطة من الاصل ، وقد اثبتناها من سائر النسخ.
5 ـ الحجرات / 6.
6 ـ اشارة إلى القراء‌ة الاخرى في الآية. لاحظ : مجمع البيان / ذيل الآية المباركة. وفي ط : أي. بدل : أو.


(270)
    ولا أقل : يحصل التعارض ، وإثبات شيء من التكاليف يحتاج إلى دليل ، فتأمل.
    وأيضا : فالظاهر أن إخبار ابن بابويه رحمه الله بصحة أخبار كتابه ، ليس من حيث علمه بصحة خصوصية كل خبر منها ، بل لاجل صحة الكتب التي أخذ الأخبار منها.
    مع : أنه كثيرا ما يرد الأخبار المأخوذة من هذه الكتب بالقدح في أسانيدها ، وكثيرا ما يرد الرواية بأنه تفرد فلان بها ، ويذكر اسم رجل هو ثقة صاحب كتاب معتمد ، كما قال ـ في أول باب وجوب الجمعة وفضلها ، في رواية حريز عن زرارة ـ : « تفرد بهذه الرواية حريز عن زرارة ، والذي أستعمله وافتي به كذا ... » إلى آخره (1).
    فلو كان كتاب زرارة أو حريز عنده قطعيا ، لم يكن تفرد حريز ضارا ، كما لا يخفى ، وقال ـ في كتاب الحج ، في باب إحرام الحائض والمستحاضة ، بعد نقل رواية محمد بن مسلم عن أحدهما ـ : « وبهذا الحديث افتي ، دون الحديث الذي رواه محمد بن مسكان ، عن إبراهيم بن إسحاق ، عمن سأل أبا عبدالله عليه السلام....الحديث ، لان هذا الحديث إسناده منقطع ، والحديث الاول رخصة ورحمة ، وإسناده متصل » (2).
    وأمثال ذلك في هذا الكتاب كثير.
    والحاصل : أن تعرضه لقبول الحديث ولرده (3) بسبب الاسناد كثير ، مع وحدة الكتاب المأخوذ منه ، وهذا ينافي قطعية الكتاب عنده.
    وأيضا : تعرضه لذكر المشيخة على هذا عبث ، بل ينبغي على هذا أن يقول : إني أخذت الأخبار من الكتب القطعية ، والاحاديث قطعية ، لا يحتاج إلى الاطلاع على رواتها ، وعلى طريقي إليهم.
1 ـ الفقيه : 1 / 411 في تعليقه على الحديث 1219.
2 ـ الفقيه : 2 / 383 ح 2766 ، 2767.
3 ـ في ط : وكذا رده.
الوافية في اصول الفقه ::: فهرس