الوضوء على ضوء الكتاب والسنّة ::: 16 ـ 30
(16)
من أعلى إلى أسفل ، فمثلاً إذا قال الطبيب للمريض : اغسل رجلك بالماء الفاتر إلى الركبة ، يتبع المريض ما هو المتداول في غسل الرجل عند العرف ، وهو الغسل من أعلى إلى أسفل. أو إذا قال صاحب الدار للصبّاغ ، أصبغ جدران هذه الغرفة إلى السقف ، فيتبع الصبّاغ ما هو المألوف في صبغ الجدران من الأعلى إلى الأسفل ولا يدور بخلده ، أو بخلد المريض من أنّ مالك الدار أو الطبيب استخدم لفظة « إلى » لبيان انتهاء غاية الصبغ والغسل عند السقف والرجل بل لتحديد المقدار اللازم لهما.
    وأمّا كيفية الغسل فمتروك إلى ما هو المتّبع والمتداول في العرف ، وهو ـ بلا ريب ـ يتبع الأسهل فالأسهل ، وهو الابتداء من فوق إلى تحت ، وما هذا إلاّ لأنّ المتكلّم بصدد تحديد العضو المغسول ، وهو اليد مع قطع النظر عن كيفية الغسل من حيث الابتداء والانتهاء ، فإذا كان هذا هو المفهوم ، فليكن الأمر كذلك في الآية المذكورة من دون أن نتكلّف بشيء من الوجوه التي يذكرها المفسرون في تأييد أحد المذهبين.
    نعم ، إنّ أساس الاختلاف في الابتداء بالمرفقين إلى أُصول الأصابع أو بالعكس عندهم إنّما هو في تعيين متعلّق « إلى » في الآية الكريمة ، فهل هو قيد « للأيدي » أي المغسول ، أو قيد للفعل أعني : « واغسلوا » ؟
    فعلى الأوّل تكون الآية بمنزلة قولنا : « الأيدي إلى المرافق » يجب غسلها ، وإنّما جاء بالقيد لأنّ اليد مشترك تطلق على أُصول الأصابع والزند والمرفق إلى المنكب ، ولما كان المغسول محدداً إلى المرافق قُيّدت اليد بقوله « إلى المرافق » ، ليفهم أنّ المغسول هو هذا المقدار المحدد من اليد ولولا اشتراك اليد بين المراتب المختلفة


(17)
وانّ المغسول بعض المراتب لما جاءت بلفظة « إلى » فالإتيان بها لأجل تحديد المقدار المغسول من اليد.
    وعلى الثاني ، أي إذا قلنا بكونه قيداً للأمر بالاغتسال ، فربّما يوحي إلى ضرورة الابتداء من أُصول الأصابع إلى المرفقين ، فكأنّه سبحانه قال : « الأيدي » اغسلوها إلى المرافق.
    ولكن لا يخفى ما في هذا الإيحاء من غموض ، لما عرفت من أنّ المتّبع في نظائر هذه الأمثلة ما هو المتعارف وهو الابتداء من الأعلى إلى الأسفل.
    أضف إلى ذلك : أنّه لو سلمنا أن حرف الجر قيد للفعل ، لا نسلم أنّه بمعنى « إلى » الذي هو لانتهاء الغاية ، بل يحتمل أن يكون بمعنى « مع » أي الأيدي اغسلوها مع المرافق ، وليس هذا بعزيز في القرآن والأدب العربي.
    يقول سبحانه : ( ولا تأكُلوا أَمْوالَهُمْ إلى أَمْوالِكُمْ ) ( النساء ـ 2 ).
    وقال سبحانه ـ حاكياً عن المسيح ـ : ( فَلَمّا أَحَسَّ عِيسى مِنْهُم الكُفْرَ قالَ مَنْ أَنْصَاري إلى اللّهِ ) ( آل عمران ـ 52 ) أي مع اللّه.
    وقوله سبحانه : ( وَيَزِدْكُمْ قُوَّةً إلى قُوَّتِكُمْ ) ( هود ـ 52 ) أي مع قوتكم.
    ويقال في العرف : ولى فلان الكوفة إلى البصرة ، أي مع البصرة ، وليس في هذه الموارد من الغاية أثر.
    وقال النابغة الذبياني :
ولا تتركني بالوعيد كأنني إلى الناس مطليّ به القار أجرب
    أراد مع الناس أو عند الناس.


(18)
    وقال ذو الرمة :
بها كل خوار إلى كل صولة ورفعي المدا عار الترائب
    وقال امروَ القيس :
له كفل كالدعص لبّده الندى إلى حارك مثل الغبيط المذأبِّ
    أراد مع حارك (1).
    وعلى ضوء ذلك فليست « إلى » لبيان الغاية ، بل لبيان الجزء الواجب من المغسول سواء أكان الغسل من الأعلى أو من الأسفل.
    هذا والدليل القاطع على لزوم الابتداء من الأعلى إلى الأسفل هو لزوم اتّباع ما هو المألوف في أمثال المورد كما سلف.
    وقد نقل أئمّة أهل البيت ( عليهم السلام ) وضوء رسول اللّه ( صلى الله عليه وآله وسلم ) بالنحو التالي :
    أخرج الشيخ الطوسي بسنده عن بكير وزرارة بن أعين ، أنّهما سألا أبا جعفر عن وضوء رسول اللّه ( صلّى اللّه عليه وآله وسلّم ) فدعا بطست أو بتَوْر (2) فيه ماء ، فغسل كفّيه ، ثمّ غمس كفّه اليمنى في التور فغسل وجهه بها ، واستعان بيده اليسرى بكفه على غسل وجهه ، ثم غمس كفّه اليسرى في الماء فاغترف بها من الماء فغسل يده اليمنى من المرفق إلى الأصابع لا يردّ الماء إلى المرفقين ، ثم غمس كفَّه اليمنى في الماء فاغترف بها من الماء فأفرغه على يده اليسرى من المرفق إلى الكفِّ لا يردُّ الماء إلى المرفق كما صنع باليمنى ، ثمَّ مسح رأسه وقدميه إلى الكعبين بفضل كفّيه ولم يجدد ماء (3).
1. رسائل الشريف المرتضى : الرسالة الموصلية الثالثة : 213 ـ 214.
2. التَوْر : اناء صغير.
3. تهذيب الأحكام : 1/59 برقم 158.


(19)
    الفصل الثاني :
آية الوضوء وحكم الأرجل
    إنّ الآية الكريمة لو عُرضت على عربيّ بعيد عن الأجواء الفقهيّة ، وعن اختلاف المسلمين في كيفيّة الوضوء وطُلِب منه تبيين ما فهمه لقال بوضوح : إنّ الوضوء : غسلتان ومسحتان ، دون أن يتردّد في أنّ الأرجل هل هي معطوفة على الرؤوس أو معطوفة على الوجوه ، فهو يدرك بأنّها تتضمّن جملتين صُرِّحَ فيهما بحكمين :
    بُدئ في الجملة الأُولى : ( فاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وأيْدِيَكُمْ إلى المَرافِق ) بغسل الوجوه ، ثم عطفت الأيدي عليها ، فوجب لها من الحكم مثل حكم الوجوه لأجل العطف.
    ثم بُدئ في الجملة الثانية : ( وامْسَحُوا بِرُءُوسِكُم وأرْجُلَكُم إلى الكَعْبَيْنِ ) بمسح الرؤوس ، ثم عطفت الأرجل عليها ، فوجب أن يكون لها من الحكم مثل حكم الرؤوس لأجل العطف ، والواو تدل على مشاركة ما بعدها لما قبلها في الحكم.
    والتفكيك بين حكم الرؤوس وحكم الأرجل ، لا يحتمله عربي صميم بل يراه مخالفاً لظهور الآية.


(20)
    فلو سئل عن كيفية الوضوء الواردة في الآية لصرّح أنّ هناك أعضاء يجب غسلها وهي : الوجوه والأيدي ، وأعضاءً يجب مسحها وهي : الرؤوس والأرجل ، ولو أُلفت نظره إلى القواعد العربيّة تجده لا يتردّد في أنّ الأرجل معطوفة على الرؤوس ، ولو سُئل عن عطفه إلى الأبعد ـ أي الوجوه ـ لاستغرب وتعجّب.
    فإن كنت في شك ممّا ذكرناه ، فاعرض الآية على عربيّ أو خبير بالقواعد العربيّة ، فستجده يذهب إلى ما ذكرنا ولا حاجة بعد ذلك إلى استعراض أدلّة الطرفين في مسح الرجلين أو غسلهما ، وإلاّ فالحلّ الوحيد هو دراسة الآية على ضوء القواعد والذوق السليم والسنّة الصحيحة.
    إنّ القول بمسح الرجلين أو غسلهما يرجع إلى تعيين ما هو العامل فيهما ، فإنّ في الآية عاملين ، وإن شئت قلت : فعلين كلّ يصلح في بدء النظر لأن يكون عاملاً فيهما ، إِنّمـا الكلام في تعيين ما هو العامل حسب ما يستسيغه الذوق العربي.
    والعاملان هما :
    فاغسلوا :
    وامسحوا :
    فلو قلنا : إنّ العامل هو الأوّل يجب غسلهما ، كما لو قلنا بأنّ العامل هو الثاني يجب مسحهما.
    فملاك القولين عبارة عن كون المعطوف عليه هو الوجوه أو الرؤوس ، فعلى الأوّل : حكمهما الغسل ، وعلى الثاني : المسح.
    ولا شك أَنّ الإمعان في الآية ـ مع قطع النظر عن كلّ رأي مسبق وفعل رائج بين المسلمين ـ يثبت أَنّ العامل هو الفعل الثاني ، أي : ( فامسحوا ) دون


(21)
الأوّل البعيد.
    وإن شئت قلت : إنّه معطوف على القريب أي الرؤوس لا على البعيد ، أعني : « وجوهكم » أو « أيديكم » ، فاستوضح ذلك بالمثال التالي :
    لو سمعنا قائلاً يقول : أحبّ زيداً وعمراً ومررت بخالد وبكر من دون أن يُعْربَ « بكر » بالنصب والجر نحكم بأنّ « بكر » معطوف على « خالد » والعامل فيه الفعل الثاني وليس معطوفاً على « عمرو » حتى يكون العامل فيه هو الفعل الأوّل.
    وقد ذكر علماء العربيّة أنّ العطف من حقّه أن يكون على الأقرب دون الأبعد ، وهذا هو الأصل ، والعدول عنه يحتاج إلى قرينة موجودة في الكلام ، وإلاّ ربّما يوجب اللّبس وصرف اللفظ عن المراد ، فلنفرض أنّ رئيساً قال لخادمه : أكرم زيداً وعمراً واضرب بكراً وخالداً ، فهو يميز بين الجملتين ويرى أنّ « عمراً » عطف على « زيداً » ، و « خالداً » عطف على « بكراً » ولا يدور بخلده خلاف ذلك.
    فإذا كانت الحال كذلك ولم يجز الخروج عن القواعد في الأمثلة العرفيّة ، فأولى أن يكون كلام ربّ العزة على ذلك النمط.
    فلماذا نتردّد في تعيين العامل ، أو تعيين المعطوف عليه ، أو نقضي على الخلاف بإخراجه من تحت العامل الثاني وإدخاله تحت العامل الأوّل ، أو عطفه على الأيدي دون الرؤوس.
    وليس المثال منحصراً بما ذكرنا بل بإمكانك الإدلاء بأمثلة مختلفة شريطة أن تكون مشابهة لما في الآية.
    وان أردتَ توضيح الكلام ، نقول : إنّ في لفظ : ( أرجلكم ) قراءتين :
    قراءة بالخفض ، وقراءة بالنصب ، وعلى كلا التقديرين يجب المسح دون الغسل.


(22)
    أمّا الأوّل ، فقد قرأ بها : ابن كثير ، وأبو عمرو ، وحمزة ، وأبو بكر ، عن عاصم ، وقرأ الباقون بالنصب.
    فالقائل بالمسح ، يفسّـر كلتا القراءتين على ضوء القواعد العربيّة بلا شذوذ ، ويقول : إنّ أرجلكم معطوفة على الرؤوس ، فجرّها لعطفها على ظاهر الرؤوس ، ونصبها لعطفها على محلّ الرؤوس ، لأنّها مفعول لقوله : ( وامسحوا ) فكما أَنّ العطف على اللفظ جائز ، فكذا على المحلّ ، قال سبحانه : ( أنَّ اللّهَ بريءٌ من المشركينَ ورسولُهُ ) ( التوبة ـ 3 ) فإنّ قوله : ( ورسوله ) بالضم عطف على محل اسم انّ ، أعني : لفظ الجلالة ، لكونه مبتدأ ، وقد ملأت مسألة العطف على المحل كتب الأعاريب. (1) نظير قول القائل :
معاوي إنّنا بشر فاسجـح فلسنا بالجبـال ولا الحديدا
    وأمّا القائل بالغسل ، فلا يستطيع أن يفسّـر الآية على ضوء القواعد ، لأنّه يفسّـر قراءة النصب بأنّها معطوفة على الوجوه ، في الجملة المتقدمة ، ويفسر قراءة الخفض بالجر بالجوار. وكلا الوجهين غير صحيحين.
    أمّا الأوّل : فلأنّه يستلزم الفصل بين المعطوف والمعطوف عليه بجملة أجنبية ، وهي : ( وامسحوا برءُوسكم ) مع أنّه لا يفصل بين المعطوف والمعطوف عليه بمفرد ، فضلاً عن جملة أجنبية. ولم يسمع في كلام العرب الفصيح قائلاً يقول : ضربت زيداً ومررت ببكر وعمراً بعطف « عمراً » على « زيداً ».
    وأمّا الثاني : فهو يقول : بأنّه مجرور لأجل الجوار ، أي لوقوعه في جنب الرؤوس المجرورة ، نظير قول القائل : « جحر ضب خرب » فان « خرب » خبر « لجحر »
1. ابن هشام : مغني اللبيب : الباب الرابع مبحث العطف ، قال : الثاني : العطف على المحل ... ثم ذكر شروطه.

(23)
فيجب أن يكون مرفوعاً لكنّه صار مجروراً لأجل الجوار.
    لكنّه غير صحيح لاتّفاق أهل العربية على أنّ الإعراب بالمجاوَرة شاذّ نادر ، وما هذا سبيله لا يجوز حمل القرآن عليه من غير ضرورة يلجأ إليها.
    قال الزجّاج : أمّا الخفض على الجوار فلا يكون في كلمات اللّه. (1) أضف إلى ذلك ، أَنّه لو صحّ الجر بالمجاورة ، فإِنّما يصح إذا لم يكن معها حرف عطف كما في الكلام السابق ، دون المقام ، فقد تصدّر قوله ( أرجلكم ) بحرف العطف.
    وممّن نصّ على ذلك من أعلام السنّة « علاء الدين علي بن محمّد البغدادي » في تفسيره المسمّى ب‍ « الخازن » قال : وأمّا من جعل كسر اللام في ( الأرجل ) على مجاورة اللفظ دون الحكم. واستدل بقولهم : « جحر ضب خرب » ، وقال : الخرب نعت للجحر لا للضب ، وانّما أخذ إعراب الضب للمجاورة فليس بجيد [ لوجهين ] :
    1 ـ لأنّ الكسر على المجاورة إنّما يحمل لأجل الضرورة في الشعر ، أو يصار إليه حيث يحصل الأمن من الالتباس ، لأنّ الخرب لا يكون نعتاً للضب ، بل للجحر.
    2 ـ ولأنّ الكسر بالجـوار انّما يكون بدون حرف العطـف ، أمّا مـع حرف العطف فلم تتكلّم به العرب. (2) وحاصل الوجه الأوّل : انّه لو صحّ تفسير العطف بالجوار ، فإِنّما يصح إذا لم يولّد الشبهة ، ولا يوجب اللبس ، كما في قوله : « جحر ضب خرب » إذ من المعلوم أنّ خرباً صفة للجحر ، دون الضّبّ ، بخلاف المقام ، فإنّ قراءة الأرجل بالجر ،
1. معاني القرآن وإعرابه : 2/153.
2. تفسير الخازن : 2/16.


(24)
توجب كونه ممسوحاً لا مغسولاً ، إذ المتبادر منه أنّه معطوف على الرؤوس دون غيره ، مع أنّ المقصود حسب فرض الفارض غيره.
    وأمّا الوجه الثاني فظاهر غنيّ عن البيان.
    وقد خرجنا بهذه النتيجة : أَنّ كلتا القراءتين منطبقتان على القول بالمسح ، وغير منطبقتين على القول بالغسل.
    فالكتاب العزيز يدعم ـ بلا مرية ـ القول بالمسح ، ومن أراد إخضاع الكتاب للقول بالغسل ، فقد فسّـره برأيه ، وجعل مذهبه دليلاً على تفسير الآية ، وحملها على أمرين غير صحيحين :
    أ ـ الفصـل بين المعطوف والمعطـوف عليه بجملة أجنبية ، وهو موجب للالتباس إذا قرئ بالنصب.
    ب ـ الجر بالجوار ، ولكنه لا يليق بكلام رب العزة إذا قرئ بالخفض.
    وبما أنّ أكثر القائلين بالغسل اعتمدوا في تفسير قراءة الخفض على العطف بالجوار خصصنا البحث التالي له.

    بحث حول الخفض بالجوار :
    إنّ الخفض بالجوار أمر اختلفت فيه كلمة النحاة ، فمنهم من أنكره مطلقاً ، أو في خصوص القرآن الكريم ، قال الزجّاج : وقال بعض أهل اللغة : إنّ قوله : ( وأرجلكم ) جر على الجوار فأ ضاف ، أمّا الخفض بالجوار فلا يكون في كلمات اللّه. (1)
    استدلّ القائلون بجواز الجر بالجوار بقول العرب : « جحر ضب خرب ».
1. معاني القرآن وإعرابه : 2/153.

(25)
    فظاهر الكلام أنّ « خرب » صفة « ضب » ، ومن المعلوم أنّه صفة « جحر » ولكنّه تبع في الإعراب جاره أعني « ضبٍّ ».
    ثم إنّـهم استشهدوا بأبيات للشعراء منها :
    قول أمرئ القيس :
كأنّ ثبيراً في عرانـين وَبْلِه كبير أُناس في بجاد مزمل
    فإنّ مقتضى القياس رفع « مزمل » لأنّه وصف « كبير أُناس » وإنّما انخفض لأجل الجوار.
    أقول : أمّا المثل فلأنّه لم يثبت متواتراً أنّ العرب تخفض « خرب » وان اشتهر في الألسن ولعلهم يقرأونه بالرفع خبراً ل‍ « جحر ».
    و لو ثبتت قراءة الجرّ لكن لا يمكن تفسير القرآن الكريم بهذا المثل الذي لم تثبت كيفية جرّه بنقل متواتر.
    قال ابن هشام : أنكر السيرافي وابن جنّي الخفض على الجوار وتأوّلا قولهم « خَرِبٍ » بالجر على أنّه صفة لضب.
    ثم قال السيرافي : الأصل خربٍ الجُحْر منه ، بتنوين خربٍ ورفع الجحر ، ثم حذف الضمير للعلم به ، وحُوِّل الاسنادُ إلى ضمير الضب ، وخفض الجحرُ ـ كما تقول « مررت برجلٍ حسنِ الوجه » بالإضافة ، والأصلُ حسنٍ الوجهُ منه ـ ثم أُتى بضمير الجُحر مكانه لتقدم ذكره فاستتر.
    وقال ابن جنّي : الأصل خربٍ جحره ، ثم أنيب المضاف إليه عن المضاف فارتفع واستتر. (1)
1. مغني اللبيب : 896 ، الباب الثامن ، القاعدة الثانية.

(26)
    وأمّا الثاني : فلأنّ جر قوله « مزملاً » للإطلاق ، فإنّ القافية ـ في قصيدة امرئ القيس اللامية المعروفة بالجلجلية في جميع الأبيات ـ مجرورة فلم يكن له بد من الجر حفظاً للروي ، وهذا مطلع قصيدته المعروفة حيث يقول :
قفا نبك من ذكرى حبيبٍ ومنزلِ بسقط اللوى بين الدخول فحوملِ
    إلى أن يقول :
وتيماء لم يترك بها جذع نخلة كأنّ ثبيراً في عرانين وبله ولا أطماً إلاّ مشيداً بجندل ...........................
    ثم إنّ الذين حاولوا إخضاع القرآن لمذهبهم ، استدلّوا على الخفض بالجوار ببعض الأبيات إلاّ أنّ تلك المحاولة تبدو عقيمة لأنّه لم تثبت القراءة فيها حسب ما يدَّعون ، وعلى فرض الثبوت لم يدل دليل على أنّ الخفض للجوار أو للضرورة ، وعلى فرض القبول لم يثبت إلاّ في الوصف والبدل لا في المعطوف كما في الآية وسيوافيك تفصيله ، فالأولى الإعراض عنها وصب الاهتمام على ما استشهدوا به من الآيات.

    استشهادات أُخرى على الجر بالجوار :
    واستشهد القائلون بالغسل للجر بالجوار بآيات :
    1. قوله سبحانه : ( عذاب يوم محيط ) ( هود ـ 84 ).
    بخفض محيط مع أنّه نعت للعذاب.


(27)
    2. وقوله تعالى : ( عذاب يوم أليم ) ( هود ـ 26 ).
    أنّ الأليم صفة للعذاب وقد خفض للمجاورة.
    3. وقوله تعالى : ( بل هو قـرآن مجيـد في لوح محفـوظ ) ( الـبــروج : 21 ـ 22 ).
    على قراءة من قرأ بخفض محفوظ فقد جُرّ لأجل المجاورة.
    يلاحظ عليه : أنّ لفظة ( محيط ) صفة ليوم لا لعذاب ، فإنّ قوله ( محيط ) ؛ كقوله : ( عظيم ) وصفان ليوم ، بشهادة قوله سبحانه : ( فويل للذين كفروا من مشهد يوم عظيم ) ( مريم ـ 37 ) وقوله سبحانه : ( إلا يظن هؤلاء أنّهم مبعوثون ليوم عظيم ) ( المطففين : 4 ـ 5 ).
    وبذلك يظهر أنّ لفظة ( محيط ) في الآية ونظائرها وصف ليوم لا لعذاب.
    وأمّا الآية الثانية فلا دليل على أنّ ( أليم ) صفة ( لعذاب ) ، بل لقوله ( يوم ) ، نظير قولك : نهارك صائم وجدّه جده ، كما ذكره الزمخشري في الكشاف.
    وأمّا الآية الثالثة فقد قرأ نافع بالرفع وصفاً لقرآن ، والباقون بالجر ، ولكن الجر لا للجوار بل لأجل كونه وصفاً للوح ، وقد كثر على ألسنتهم اللوح المحفوظ.
    فالقرآن محفوظ واللوح الذي فيه القرآن أيضاً محفوظ ، فلا دليل على أنّ اللفظ ( محفوظ ) وصف للقرآن بل وصف للّوح الذي هو وعاء القرآن.


(28)
    شرط الجر بالجوار :
    لو افترضنا صحة الجر بالجوار فليست الصحّة على إطلاقها ، وإنّما هي مشروطة بشرطين :
    الشرط الأوّل : انّ الجر بالجوار إنّما يصح إذا لم يكن موجباً للّبس وكان المتكلم والمخاطب في أمن من الالتباس ، كما في المثل : « جحر ضب خرب » إذ من الواضح أنّ « خرب » صفة « جحر » لا « ضب ».
    وكما في شعر أمرئ القيس الماضي ، فإنّ « مزمل » بمعنى الملفف بالثياب صفة « كبير أُناس » وليس صفة « بجاد » وهو كساء ، والجمع البجد ، كأنّه قال : كبير أُناس مزمل في كساء مخطط ، بخلاف الآية فإنّ جرها بالجوار يورث الالتباس لأنّ الأرجل كما يمكن أن تكون مغسولة يمكن أن تكون ممسوحة ، فجرها بالجوار يجعلها في ذهن المخاطب ممسوحة وليست هناك أي قرينة على أنّها مغسولة.
    وهناك من يدّعي وجود قرينة على رفع اللبس ، وهو أنّ التحديد إلى الكعبين علامة الغسل وقد اعتمد على هذا الوجه كثير من المفسرين.
    قال ابن الجوزي في وجه غسل الرجلين : إنّ حد الكعبين دليل على أنّ الغسل ينتهي إليهما ويدل على وجوب الغسل التحديد بالكعبين كما جاء في تحديد اليد ( إلى المرفقين ) ولم يجئ في شيء من المسح تحديد (1).
    يلاحظ عليه : أنّ كلاً من المغسول والممسوح جاء في الآية محدّداً وغير محدّد ، فالوجوه في الآية تغسل ولم تحدّد ، والأيدي تغسل وقد حدّدت إلى المرافق ، فيعلم من ذلك أنّ الغسل تارة يكون محدّداً وأُخرى غير محدّد فلا التحديد دليل على
1. ابن الجوزي : زاد المسير في علم التفسير : 2/178.

(29)
وجوب الغسل ولا عدم التحديد دليل على وجوب المسح.
    وهكذا الحال في الممسوح فيمكن أن يكون محدّداً إلى الكعبين وغير محدّد كما في الرأس ، فجعل التحديد علامة للغسل أشبه بجعل الأعم دليلاً على الأخص. وما ذكره من « أنّه لم يجئ في شيء من المسح تحديد » أوّل الكلام وهو من قبيل أخذ المدعى في الدليل.
    ولو قلنا بهذه الاستحسانات ، فالذوق الأدبي يقتضي أن تكون الأرجل ممسوحة لا مغسولة ، قال المرتضى : إنّ الآية تضمّنت ذكر عضو مغسول غير محدود وهو الوجه وعطف عليه مغسول محدود وهما اليدان ، ثم استُوَنف ذكر عضو ممسوح غير محدود وهو الرأس فيجب أن تكون الأرجل ممسوحة وهي محدودة ومعطوفة عليه دون غيره لتتقابل الجملتان في عطف مغسول محدود على مغسول غير محدود ، وفي عطف ممسوح محدود على ممسوح غير محدود (1).
    الشرط الثاني : أن يكون خالياً من حرف العطف ، فإنّ من جوز ذلك فإنّما يجوز مع هذا الشرط وكل ما استشهد به على الإعراب بالمجاورة فلا حرف فيه حائل بين هذا وذاك.
    قال ابن هشام ـ بعد ما نقل الجر بالجوار في الآية ـ : والذي عليه المحقّقون أنّ خفض الجوار يكون في النعت قليلاً كما في قول الشاعر :
كأنّ ثَبيراً في عرانين وَبْلِــه كَبيرُ أُنـاسٍ في بِجادٍ مُزَمَّلِ
    فإنّ « مزمل » وصف لقوله كبير أُناس.
1. الانتصار : 24.

(30)
    وفي التوكيد نادراً كقوله :
يا صاح بلغ ذوي الزوجات كُلّهمُ ان ليس وصل إذا انحلت عرى الذنب
    قال الفراء : أنشدنيه أبو الجراح بخفض « كلهم » مع أنّه تأكيد لذوي.
    ولا يكون في النسق لأن العاطف يمنع من التجاور (1).
    نعم حاول بعض أن يثبت خلاف ذلك وانّ العطف بالجار يجوز مع حرف العطف أيضاً ، واستشهد على ذلك بقراءة أبي جعفر وحمزة والكسائي ، في الآية التالية : ( يطوف عليهم ولدان مخلدون * بأكوابٍ وأباريق وكأس من معين * لا يصدعون عنها ولا ينزفون * وفاكهة مما يتخيرون * ولحم طير مما يشتهون * وحور عين * كأمثال اللؤلؤ المكنون * جزاءً بما كانوا يعملون ) ( الواقعة : 17 ـ 24 ).
    فالقراءة المعروفة المتواترة التي عليها عامة المسلمين في جميع الأجيال هي قراءة ( وحور عين ) بالرفع عطفاً على قوله : ( ولدان مخلدون ) والمعنى : يطوف عليهم ولدان مخلدون وحور عين.
    لكن في قراءة من ذكرنا أسماءهم هما مجروران ، قالوا وليس الجر إلاّ لأجل الجوار أي كونهما مجاورين لقوله : ( بأكوابٍ وأباريق ).
    وهذا الاستدلال لا يصمد أمام النقاش إذ هناك احتمالات أُخرى تحول دون الأخذ ببناء قراءتهم على الخفض بالجوار.
    أ. أنّه معطوف على جنات في الآية المتقدمة ، أي في جنات النعيم ، وفي معاشرة ومصاحبة حور عين.
1. مغني اللبيب : 895 ، الباب الثامن ، القاعدة الثانية.
الوضوء على ضوء الكتاب والسنّة ::: فهرس