الوضوء على ضوء الكتاب والسنّة ::: 31 ـ 45
(31)
    ب. انّه مفعول لفعل محذوف أي جزيناهم بحور عين كأمثال اللؤلؤ المكنون جزاء بما كانوا يعملون ، فحذف الفعل والجار لأجل الاستغناء عنه بما بعده أي جزاء بما كانوا يفعلون.
    ج. أنّه إذا قرئ بالرفع فهو مبتدأ لخبر محذوف أي فيها حور عين ، ولو قرئ بالجر فقد حذف مضافه بمعنى ونساء حور عين فحذف الموصوف اختصاراً ، وأُقيمت الصفة مقامه : فإنّ عين صفة لحور.
    قال ابن هشام : وقيل العطف على « جنات » ، وكأنّه قيل : المقربون في جنات وفاكهة ولحم طير وحورٍ (1)
    فهذه هي الوجوه التي يمكن أن تذكر لهذه القراءة فإذا وجدنا أنّها لا تتلاءم مع الذوق السليم فنستكشف أنّ القراءة مختلقة وإنّ الرسول لم يقرأ إلاّ بقراءة واحدة وهي قراءة الرفع.
    د. انّ الجر بالجوار كما يحكي عنه لفظ « الجوار » إنّما يتصور فيما إذا كانت الكلمتان متجاورتين فربّما يستحسن الذوق الوحدة في الإعراب ، كما في قول الشاعر :
لم يبق إلاّ أسير غير منفلت وموثق في عقال الأسر مكبول
    حيث خفض « موثق » بالمجاورة للمنفلت وحقه الرفع عطفاً على « أسير » ، وكما في قول الآخر :
فهل أنت ـ إن ماتت أتانك ـ راحل إلى آل بسطام بن قيس فخاطب

1. مغني اللبيب : 895 ، الباب الثامن ، القاعدة الثانية.

(32)
    فجر « فخاطب » للمجاورة وهو « قيس » وحقه الرفع عطفاً على « راحل ».
    فلو صلح العطف بالجوار في هذين البيتين واعتمدنا على النقل ، فإنّما هو في إطار خاص وهو المجاورة ، وأين هو من قوله سبحانه : ( وحور عين ) ، بالنسبة إلى قوله : ( بأكواب وأباريق ) حيث وقع الفصل بين المعطوف والمعطوف عليه بثلاث آيات.
    ومهما يكن من أمر فإنّ العطف بالجوار إمّا لضرورة في الشعر ، أو لأجل استحسان الطبع المماثلة بين اللفظين المتجاورين المتقاربين وكل من الوجهين غير موجود في الآية.
    وخلاصة القول : أوّلاً : لم يثبت الخفض بالجوار في الكلام الفصيح.
    ثانياً : الخفض بالجوار ـ على فرض ثبوته ـ إنّما يتم في النعت والتوكيد لا في العطف.
    ثالثاً : وعلى فرض ثبوته في العطف ، فإنّما هو فيما إذا كان اللفظان متجاورين لا متباعدين كما في الآية.

    كلمات أعلام السنّة حول الآية :
    إنّ لفيفاً من علماء أهل السنّة فسّـروا الآية بما ذكرناه ، وأثبتوا أنّ ظاهر الآية يدلّ على المسح دون الغسل ، وإنّما رجعوا إلى الغسل ترجيحاً للسنّة على ظاهر الكتاب ونصّه. وسيوافيك أنّ الرواية إذا كانت معارضة للقرآن الكريم يضرب بها عرض الجدار ، إذ نستكشف أنّها موضوعة ، أو مدسوسة ، أو مؤوّلة فضلاً عمّـا إذا كانت نفس السنّة متضادّة كما في المقام ؛ فإنّ السنّة وإن وردت في الغسل ، لكنّها وردت في المسح أيضاً. وإليك عباراتهم :


(33)
    1. كلمة لابن حزم ( المتوفّى 456 ه‍ ) :
    قال ابن حزم حول مسح الرجلين : « وأمّا قولنا في الرجلين فإنّ القرآن نزل بالمسح ، قال اللّه تعالى : ( وامسحوا برؤوسكم وأرجلكم ) وسواء قرئ بخفض اللام أو بفتحها ، هي على كل حال عطف على الرؤوس ، إمّا على اللفظ ، وإمّا على الموضع ، لا يجوز غير ذلك ، لأنّه لا يجوز أن يحال بين المعطوف والمعطوف عليه بقضية مبتدأة. وهكذا جاء عن ابن عباس : نزل القرآن بالمسح ، يعني في الرجلين في الوضوء » (1).
    2. كلمة للإمام البغوي ( المتوفّى 516 ه‍ ) :
    قال الإمام أبو محمد الحسين بن مسعود البغوي : ومن قرأ بالخفض فقد ذهب قليل من أهل العلم إلى أنّه يمسح على الرجلين ، وروي عن ابن عباس أنّه قال : الوضوء غسلتان ومسحتان ، ويروى ذلك عن عكرمة وقتادة.
    وقال الشعبي : نزل جبرئيل بالمسح ، وقال : ألا ترى : المتيمّم يمسح ما كان غسلاً ويلغي ما كان مسحاً (2).
    3. كلمة للرازي ( المتوفّى 606 ه‍ ) :
    قال الرازي : « اختلف الناس في مسح الرجلين ، وفي غسلهما ، فنقل القفال في تفسيره ، عن ابن عباس وأنس بن مالك وعكرمة والشعبي وأبي جعفر محمد بن علي الباقر : أنّ الواجب فيهما المسح ، وهو مذهب الإمامية من الشيعة ، وقال جمهور الفقهاء ، والمفسرين : فرضهما الغسل. وقال داود الاصفهاني : يجب الجمع بينهما.
1. المحلى : 2/56 برقم 200.
2. تفسير البغوي : 2/16.


(34)
وهو قول الناصر للحق ، من أئمّة الزيدية. وقال الحسن البصري ، ومحمد بن جرير الطبري : المكلف مخيّـر بين المسح والغسل.
    حجّة من قال بوجوب المسح مبني على القراءتين ، المشهورتين في قوله : ( وأرجلكم ) فقرأ ابن كثير وحمزة وأبو عمرو وعاصم في رواية أبي بكر عنه « بالجر » ، وقرأ نافع وابن عامر وعاصم في رواية حفص عنه « بالنصب » ، فنقول :
    أمّا القراءة بالجر فهي تقتضي كون الأرجل معطوفة على الرؤوس ، فكما وجب المسح في الرأس فكذلك في الأرجل.
    فإن قيل : لم لا يجوز أن يقال : هذا كسر على الجوار كما في قوله : « جحر ضب خرب ». وقوله : « كبير أناس في بجاد مزمل » ؟
    قلنا : هذا باطل من وجوه :
    الأوّل : أنّ الكسر على الجوار معدود من اللّحن الذي قد يتحمل لأجل الضرورة في الشعر ، وكلام اللّه يجب تنزيهه عنه.
    وثانيها : أنّ الكسر إِنّما يصار إليه حيث يحصل الأمن من الالتباس ، كما في قوله : « جحر ضب خرب » ، فإنّ من المعلوم بالضرورة أَنّ « الخرب » لا يكون نعتاً « للضبّ » بل للجحر ، وفي هذه الآية الأمن من الالتباس غير حاصل.
    وثالثها : أنّ الكسر بالجوار إِنّما يكون بدون حرف العطف ، وأمّا مع حرف العطف فلم تتكلم به العرب.
    وأمّا القراءة بالنصب فقالوا ـ أيضاً ـ : إنّها توجب المسح. وذلك لأنّ قوله : ( وامسحوا برءُوسكم ) فرؤوسكم في محل النصب ، ولكنّها مجرورة بالباء ، فإذا عطف الأرجل على الرؤوس ، جاز في الأرجل ، النصب عطفاً على محل الرؤوس ، والجر عطفاً على الظاهر ، وهذا مذهب مشهور النحاة.


(35)
    إذا ثبت هذا فنقول : ظهر أنّه يجوز أن يكون عامل النصب في قوله : ( وأرجلكم ) هو قوله : ( وامسحوا ) ويجوز أن يكون هو قوله : ( فاغسلوا ) لكنّ العاملين إذا اجتمعا على معمول واحد كان إعمال الأقرب أولى ، فوجب أن يكون عامل النصب في قوله : ( وأرجلكم ) هو قوله : ( وامسحوا ) فثبت أنّ قراءة ( وأرجلكم ) بنصب اللام توجب المسح أيضاً ، فهذا وجه الاستدلال بهذه الآية على وجوب المسح ، ثم قالوا : ولا يجوز دفع ذلك بالأخبار ، لأنّها بأسرها من باب الآحاد ، ونسخ القرآن بخبر الواحد لا يجوز » (1).
    4. كلمة للقرطبي ( المتوفّى 671 ه‍ ) :
    وروي أنّ الحجاج خطب بالأهواز فذكر الوضوء ، فقال : اغسلوا وجوهكم وأيديكم وامسحوا برؤوسكم وأرجلكم ، فإنّه ليس من ابن آدم أقرب من خبثه من قدميه ، فاغسلوا بطونهما وظهورهما وعراقيبهما.
    فسمع ذلك أنس بن مالك ، فقال : صدق اللّه وكذب الحجاج ، قال اللّه تعالى : ( وامسحوا برءُوسكم وأرجلكم ) قال : وكان إذا مسح رجليه بلّهما ، وروي عن أنس أيضاً أنّه قال : نزل القرآن بالمسح ، والسنّة بالغسل ، وكان عكرمة يمسح رجليه ، وقال : ليس في الرجلين غسل إنّما نزل فيهما المسح.
    وقال عامر الشعبي : نزل جبرئيل بالمسح ألا ترى أنّ التيمم يمسح فيه ما كان غسلاً ويُلغى ما كان مسحاً.
    وقال قتادة : افترض اللّه غسلتين ومسحتين. (2)
1. التفسير الكبير : 11/161.
2. الجامع لأحكام القرآن : 6/92.


(36)
    5. كلمة لأبي حيان الأندلسي ( المتوفّى 754 ه‍ ) :
    قال أبو حيان الأندلسي : ومن ذهب إلى قراءة النصب في ( وأرجلكم ) عطف على قوله فاغسلوا وجوهكم وأيديكم ، وفصل بينهما بهذه الجملة التي هي قوله : ( امسحوا برءُوسكم ) فقوله بعيد لأنّ فيه الفصل بين المتعاطفين بجملة انشائية ، وقراءة ( وأرجلكم ) بالجر تأبى ذلك (1).
    6. كلمة للشيخ الحلبي ( المتوفّى 956 ه‍ ) :
    قال الشيخ إبراهيم الحلبي عند تفسير الآية : « قرئ في السبعة بالنصب والجر ، والمشهور انّ النصب بالعطف على وجوهكم ، والجر على الجوار ؛ والصحيح أنّ الأرجل معطوفة على الرؤوس في القراءتين ، ونصبها على المحل ، وجرّها على اللفظ ، وذلك لامتناع العطف على وجوهكم ، للفصل بين المعطوف والمعطوف عليه بجملة أجنبية ، هي ( وامسحوا برءُوسكم ) والأصل أن لا يفصل بينهما بمفرد ، فضلاً عن الجملة ، ولم يسمع في الفصيح نحو « ضربت زيداً ومررت ببكر وعمراً » بعطف « عمراً » على « زيداً » وأمّا الجر على الجوار ، فإنّما يكون على قلّة في النعت ، كقول بعضهم : « هذا جحر ضب خرب » ، أو في التأكيد ، كقول الشاعر :
يا صاح بلغ ذوي الزوجات كلّهم أن ليس وصل إذا انحلت عرى الذنب
    بجر كلهم ، على ما حكاه الفرّاء.
    وأمّا في عطف النسق فلا يكون ، لأنّ العاطف يمنع المجاورة » (2).
1. تفسير النهر الماد : 1/558.
2. غنية المتملّـي في شرح منية المصلي ، المعروف بحلبي كبير : 16.


(37)
    7. كلمة للشيخ علي بن برهان الدين الحلبي ( 975 ـ 1044 ه‍ ) :
    ينقل علي بن برهان الدين الحلبي ، أنّ جبرئيل عندما علّم الرسول الوضوء أمره بالمسح ، يقول : إنّ جبرئيل أوّل ما جاء النبي بالوحي ، توضّأ فغسل وجهه ويديه إلى المرفقين ومسح رأسه ورجليه إلى الكعبين ، وسجد سجدتين ، ففعل النبي ( صلّى اللّه عليه وآله وسلّم ) كما يرى جبرئيل يفعله. وقال : وفي كلام الشيخ محيي الدين مسح الرجلين في الوضوء بظاهر الكتاب ، وغسلهما بالسنّة المبينة للكتاب (1).
    وما ذكره أخيراً من كون السنّة مبيّنة للكتاب ، لا يعوّل عليه ، إذ ليس الكتاب مجملاً مبهماً ، حتى يحتاج إلى التوضيح من جانب المسح.
    8. كلمة للشيخ السندي الحنفي ( المتوفّى 1138 ه‍ ) :
    وقال أبو الحسن الإمام محمد بن عبد الهادي المعروف بالسندي الحنفي في حاشيته على سنن ابن ماجة ( بعد أن جزم بأنّ ظاهر القرآن هو المسح ) ما هذا لفظه : « وإِنّما كان المسح هو ظاهر الكتاب ، لأنّ قراءة الجرّ ظاهرة فيه ، وحمل قراءة النصب عليها ، بجعل العطف على المحل ، أقرب من حمل قراءة الجر على قراءة النصب ، كما صرّح به النحاة ( قال ) لشذوذ الجوار واطراد العطف على المحل ( قال ) وأيضاً فيه خلوص عن الفصل بالأجنبي بين المعطوف والمعطوف عليه ، فصار ظاهر القرآن هو المسح » (2).
    9. كلمة للإمام محمد عبده ( 1266 ـ 1323 ه‍ ) :
    وقال الإمام عبده : « قال تعالى : ( وأرجلكم إلى الكعبين ) قرأ نافع وابن
1. السيرة الحلبية : 1/28.
2. في تعليقته على ما جاء في غسل القدمين : 88 من الجزء الأوّل من شرح سنن ابن ماجة.


(38)
عامر وحفص والكسائي ويعقوب ( وأرجلكم ) بالفتح ، أي واغسلوا أرجلكم إلى الكعبين ، وهما العظمان الناتئان عند مفصل الساق من الجانبين؛ وقرأها الباقون ـ ابن كثير وحمزة وابن عمرو وعاصم ـ بالجرّ؛ والظاهر أنّه عطف على الرأس ، أي وامسحوا بأرجلكم إلى الكعبين. ومن هنا اختلف المسلمون في غسل الرجلين ومسحهما؛ فالجماهير على أنّ الواجب هو الغسل وحده. والشيعة الإمامية أنّه المسح. وقال داود بن علي والناصر للحق من الزيدية : يجب الجمع بينهما. ونقل عن الحسن البصري ومحمد بن جرير الطبري : أنّ المكلّف مخيّـر بينهما. وستعلم أنّ مذهب ابن جرير الجمع.
    أمّا القائلون بالجمع ، فأرادوا العمل بالقراءتين معاً ، للاحتياط ، ولأنّه المقدّم في التعارض إذا أمكن. وأمّا القائلون بالتخيير ، فأجازوا الأخذ بكلّ منهما على حدته. وأمّا القائلون بالمسح ، فقد أخذوا بقراءة الجر ، وأرجعوا قراءة النصب إليها. وذكر الرازي ، عن القفال : أنّ هذا قول ابن عباس وأنس بن مالك وعكرمة والشعبي وأبي جعفر محمد بن علي الباقر » (1).
( إنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآناً عَرَبيّاً لَعَلّكُمْ تَعْقِلُونَ )
( الزخرف : 3 )

1. تفسير المنار : 6/228.

(39)
    الفصل الثالث :
اجتهادات تجاه النص
    إنّ آفة الفقه هو التمسّك بالاعتباريات والوجوه الاستحسانية أمام النصّ ، فإنّه يضاد مذهب التعبدية ، فالمسلم يتعبّد بالنص وإن بلغ ما بلغ ولا يُقدِّم رأيه عليه وهو آية الاستسلام أمام اللّه ورسوله وكتابه وسنته. قال سبحانه : ( يَا أَيُّها الَّذِينَ آمَنُوا لا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللّهِ وَرَسُولِهِ واتَّقُواْ اللّهَ إنَّ اللّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ ) ( الحجرات ـ 1 ).
    فإنّ تقديم الوجوه الاستحسانية على النص تقدم على اللّه ورسوله ولهذا فقد نهت عنه الآية المباركة.
    وقد وقف غير واحد من أئمّة التفسير ، وغيرهم ، على أنّ ظاهر الآية يدلّ على مسح الرجلين لا غسلهما ، فافتعلوا أعذاراً لتثبيت رأيهم المسبق. وإنّما التجأوا إلى هذه الاجتهادات ، لأنّهم تبعوا أئمّتهم ، بدل اتباعهم للقرآن الكريم ، ولولا أنّهم نشأوا على هذه الفكرة منذ نعومة أظفارهم لما اختاروا هذه الاجتهادات حجّة بينهم وبين ربّهم ، أمام الكتاب العزيز الحاكم على خلافها. وإليك بيانها :

    1. اجتهاد الجصاص :
    زعم أبو بكر الجصاص ( المتوفّى 370 ه‍ ) انّ آية الوضوء مجملة فلابد من العمل بالاحتياط ، وهو الغسل المشتمل على المسح أيضاً ، بخلاف المسح فإنّه


(40)
خالٍ من الغسل.
    قال : لا يختلف أهل اللغة أنّ كل واحدة من القراءتين محتملة للمسح بعطفها على الرأس ويحتمل أن يراد بها الغسل بعطفها على المغسول من الأعضاء.
    لأنّ قوله : ( وأرجلكم ) بالنصب يجوز أن يكون مراده ( فاغسلوا أرجلكم ) ويحتمل أن يكون معطوفاً على الرأس فيراد بها المسح ، وإن كانت منصوبة فيكون معطوفاً على المعنى لا على اللفظ لأنّ الممسوح به ( برءُوسكم ) مفعول به ، كقول الشاعر :
معاوي اننا بشر فاسجــح فلسنا بالجبال ولا الحديدا
    فَنُصِب الحديد وهو معطوف على الجبال بالمعنى.
    ويحتمل قراءة الخفض أن تكون معطوفة على الرأس ، فيراد به المسح ويحتمل عطفه على الغسل ( وجوهكم ) ويكون مخفوضاً بالمجاورة.
    فثبت بما وصفنا احتمال كل واحدة من القراءتين للمسح والغسل ، فلا يخلو حينئذ القول من أحد معان ثلاثة :
    1. أمّا أن يقال أنّ المراد هما جميعاً مجموعان فيكون عليه أن يمسح ويغسل فيجمعهما.
    2. أو أن يكون أحدهما على وجه التخيير يفعل المتوضّئ أيّـهما شاء ويكون ما يفعله هو المفروض.
    3. أو يكون المراد أحدهما بعينه لا على وجه التخيير.
    وغير جائز أن يكونا هما جميعاً على وجه الجمع لاتفاق الجميع على خلافه ،


(41)
ولا جائز أيضاً أن يكون المراد أحدهما على وجه التخيير إذ ليس في الآية ذكر التخيير ولا دلالة عليه وإذا انتفى التخيير والجمع لم يبق إلاّ أن يكون أحدهما لا على وجه التخيير فاحتجنا إلى طلب الدليل على المراد منهما ، فالدليل على أنّ المراد الغسل دون المسح ، اتفاق الجميع على أنّه إذا غسل فقد أدّى فرضه وأتى بالمراد وأنّه غير ملوم على ترك المسح فثبت أنّ المراد الغسل (1).
    يلاحظ عليه : أوّلاً : أنّه سبحانه في هذه الآية بصدد بيان ما هو الواجب على المصلّـي عند القيام إلى الصلاة ، فمقتضى المقام أن تكون الآية واضحة المعالم ، مبينّة المراد ، غير محتملة إلاّ لمعنى واحد والحكم على الآية بالإجمال أمر لا يحتمله المقام وإنّما حداه إلى القول بالإجمال إخضاع الآية لمذهبه وهو غسل الأرجل ، ولو نظر إلى الآية نظرة مجرّدة عن كل فكر مسبق لوقف على أنّها غير مجملة لا تحتمل إلاّ معنى واحداً.
    وثانياً : أنّ تفسير قراءة النصب بالعطف على المحل أمر رائج ، وقد استشهد بالشعر وكان عليه أن يستشهد قبله بالقرآن الكريم ( التوبة ـ 3 ) كما سيأتي ، ولكن تفسير النصب بالعطف على وجوهكم تفسير خاطئ إذ لازمه الفصل بين المتعاطفين بجملة أجنبية ، وأين العطف على المحل من هذا الإشكال.
    والعجب من أبي البقاء ( المتوفّى 616 ه‍ ) حيث ادّعى جواز الفصل بين المعطوف والمعطوف عليه بجملة أجنبية ، وقال : وذلك جائز في العربية بلا خلاف. (2) وما أبعد بينه وبين ما نقله أبو حيان في ذلك المجال كما سيوافيك.
1. أحكام القرآن : 2/346.
2. التبيان في إعراب القرآن : 1/422.


(42)
    ولم يذكر أي شاهد على قوله ، وما اضطره إلى ذلك سوى محاولة فرض مذهبه على القرآن.
    ولو سلّم جواز الفصل فهو يختص فيما إذا كان هناك أمن من الالتباس.
    وثالثاً : أنّ تفسير قراءة الجر بالعطف على ظاهر ( برءُوسكم ) أمر لا سترة فيه ، وأمّا تفسير قراءة الجر عن طريق العطف بالجوار أمر غير مقبول ، لأنّ العطف بالجوار أمر شاذ ، ولو صح فإنّما هو فيما إذا لم يورث التباساً ، والقول به في الآية يوجب الالتباس. والشاهد هو كلام الجصاص حيث تحيّـر في فهم ما هو المراد من الآية وما هذا إلاّ لأجل تفسير الخفض بالجوار ، فلم يجد بدّاً من اللجوء الى الاحتياط والقول : بأنّ الغسل يشمل المسح أيضاً.

    2. اجتهاد ابن حزم :
    قال ابن حزم ( المتوفّى 456 ه‍ ) : وممّا نسخت فيه السنّةُ القرآنَ ، قوله عزّ وجلّ : ( وامسحوا برءُوسكم وأرجلكم إلى الكعبين ) فإنّ القراءة بخفض أرجلكم وفتحها كليهما لا يجوز إلاّ أن يكون معطوفاً على الرؤوس في المسح ولابد ، لأنّه لا يجوز البتة أن يحال بين المعطوف والمعطوف عليه بخبر غير الخبر عن المعطوف عليه ، لأنّه إشكال وتلبيس وإضلال لا بيان ، لا تقول : ضربت محمداً وزيداً ، ومررت بخالد وعمراً ، وأنت تريد أنّك ضربت عمراً أصلاً ، فلمّا جاءت السنّة بغسل الرجلين صح أنّ المسح منسوخ عنهما.
    وهكذا عمل الصحابة ( رض ) فانّهم كانوا يمسحون على أرجلهم حتى قال ( عليه السّلام ) : ويل للأعقاب والعراقيب من النار وكذلك قال ابن عباس : نزل القرآن بالمسح (1).
1. ابن حزم الأندلسي : الأحكام : 1/510.

(43)
    يلاحظ عليه أوّلاً : أنّ العمل بالسنّة تجاه القرآن الكريم وإن كان بزعم النسخ على خلاف ما أوصى به بعض الصحابة كعمر بن الخطاب حيث كتب إلى شريح بتقديم الكتاب ثم السنّة ، وإليك نص كلامه :
    « ان اقض بما في كتاب اللّه ، فإن لم يكن في كتاب اللّه ، فبما في سنّة رسول اللّه ، فإن لم يكن في سنّة رسول اللّه ، فبما قضى به الصالحون » (1).
    فقد أمر بتقديم الحكم بالكتاب على كلّ ما سواه ، فإن لم يوجد في الكتاب ووجد في السنّة لم يلتفت إلى غيرها ، وكلامه وإن كان وارداً في مورد القضاء ، لكن المورد غير مخصص ، بل المراد أَنّ مكانة القرآن أعلى من أن يعادلها شيء ويقدم عليها.
    ثانياً : لو افترضنا صحّة نسخ الكتاب بالسنّة ، فإنّما هو بالسنّة القطعية التي هي وحي في المعنى وإن لم يكن وحياً في اللفظ فانّها واجبة الاتباع كالقرآن الكريم : ( وما أتاكُمُ الرسُولُ فَخُذُوهُ وما نَهاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُوا ) ( الحشر ـ 7 ).
    قال الغزالي : يجوز نسخ القرآن بالسنّة والسنّة بالقرآن ، لأنّ الكل من عند اللّه عزّ وجلّ ، فما المانع منه ، ولم يعتبر التجانس مع أنّ العقل لا يمليه (2).
    وكلامه هذا كما يعبر عنه قوله : لأنّ الكل من عند اللّه عزّ وجلّ ، انّما هو في السنّة القطعية التي لا غبار عليها ، لا في مثل المقام الذي تضاربت فيه الروايات واختلفت الأُمّة على قولين ، ففي مثل ذلك تكون السنّة مظنونة الصدق محتملة الكذب على لسان رسول اللّه ، فكيف يمكن أن تقدَّم على الدليل القطعي مثل القرآن الكريم ؟!
1. ابن القيم : أعلام الموقعين عن رب العالمين : 2/227.
2. الغزالي : المستصفى : 1/124.


(44)
    ثالثاً : اتفقت الأُمّة على أنّ سورة المائدة آخر ما نزلت على النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) وانّها لم تنسَخْ آية منها ، وستوافيك كلمات العلماء في ذلك المضمار ، فكيف تكون آية الوضوء التي نزلت في أواخر عمره ( صلّى اللّه عليه وآله وسلّم ) منسوخة ؟!
    رابعاً : انّ ما زعمه ناسخاً من حديث « ويل للأعقاب من النار » انّما ورد في غزوة من غزوات النبي ( صلّى اللّه عليه وآله وسلّم ) كما نقله ابن حيان الأندلسي في تفسيره (1).
    ومن المعلوم أنّ النبي ( صلّى اللّه عليه وآله وسلّم ) لم يغز بعد تبوك التي غزاها في العام التاسع من الهجرة ، وقد نزلت سورة المائدة في أواخر العام العاشر أو أوائل العام الحادي عشر ، فكيف ينسخ القرآن المتأخر بالسنّة التي حدّث عنها النبي قبل نزول الآية.
    فقد أخرج الطبراني في الأوسط ، عن ابن عباس أَنّه قال : ذكر المسح على القدمين عند عمر وسعد وعبد اللّه بن عمر ، فقال عمر : سعد أفقه منك. فقال عمر : يا سعد إنّا لا ننكر أنّ رسول اللّه مسح ( أي على القدمين ) ولكن هل مسح منذ أُنزلت سورة المائدة فإنّها أحكمت كل شيء وكانت آخر سورة نزلت من القرآن إلاّ براءة (2).
    فيظهر من هذا الخبر أنّ النبي ( صلّى اللّه عليه وآله وسلّم ) كان يمسح على القدمين باعتراف عمر ، ويظهر أيضاً أنّ سورة المائدة آخر السور نزولاً ، وانّها محكمة لم تنسخ آياتها ، وقد ذكرنا بأنّ الآية على قراءة الجر والنصب تدل على لزوم المسح للرجلين كالرأس.

    دراسة مكانة سورة المائدة من بين السور :
    إنّ سورة المائدة هي آخر سورة نزلت على النبي ( صلّى اللّه عليه وآله وسلّم ) ، فقد أخرج أحمد وأبو
1. تفسير البحر المحيط : 3/434.
2. الدر المنثور : 3/29.


(45)
عبيد في فضائله ، والنحاس في ناسخه ، والنسائي وابن المنذر والحاكم وابن مردويه ، والبيهقي في سننه عن جبير بن نفير ، قال : حججت ، فدخلت على عائشة ، فقالت لي : يا جبير تقرأ المائدة ؟ قلت : نعم ، فقالت : أما أنّها آخر سورة نزلت ، فما وجدتم فيها من حلال فاستحلّوه ، وما وجدتم فيها من حرام فحرّموه.
    وأخرج أبو عبيد ، عن ضمرة بن حبيب وعطية بن قيس ، قالا : قال رسول اللّه ( صلّى اللّه عليه وآله وسلّم ) المائدة من آخر القرآن تنزيلاً ، فأحلّوا حلالها وحرّموا حرامها.
    وأخرج الفريابي وأبو عبيد وعبد بن حميد وابن المنذر وأبو الشيخ عن أبي ميسرة ، قال : في المائدة ثماني عشرة فريضة ليس في سورة من القرآن غيرها ، وليس فيها منسوخ ، وعدّ منها قوله : ( وإذا قمتم إلى الصلاة فاغسلوا ).
    وأخرج أبو داود والنحاس كلاهما في الناسخ ، عن أبي ميسرة عمرو بن شرحبيل ، قال : لم ينسخ من المائدة شيء.
    وأخرج عبد بن حميد قال : قلت للحسن : نسخ من المائدة شيء ؟ قال : لا (1).
    كلّ ذلك يدل على أنّ سورة المائدة آخر سورة نزلت على النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) ، فيجب العمل على وفقها وليس فيها أيّ نسخ.
    وما ربّما يتصور أنّ عمل النبي ( صلّى اللّه عليه وآله وسلّم ) ناسخ ، لمفاد الآية ، خطأ واضح تردّه هذه النصوص ، ولو ثبت أنّ النبي ( صلّى اللّه عليه وآله وسلّم ) غسل رجليه في فترة من الزمن ، فالآية ناسخة له ؛ ولعلّ الاختلاف بين المسلمين في حكم الأرجل نشأ نتيجة ذلك ، فكان النبي ( صلّى اللّه عليه وآله وسلّم ) ـ حسب هذا الاختلاف ـ يغسل رجليه ، ورآه بعض الصحابة وحسبه حكماً ثابتاً وأصرّ عليه بعد نزول الآية الناسخة لما هو المفهوم من عمله.
1. السيوطي ، الدر المنثور : 3/3 ـ 4.
الوضوء على ضوء الكتاب والسنّة ::: فهرس