الوضوء على ضوء الكتاب والسنّة ::: 46 ـ 60
(46)
    أخرج ابن جرير ، عن أنس ، قال : نزل القرآن بالمسح ، والسنّة بالغسل وقال ابن عباس : أبى الناس إلاّ الغسل ، ولا أجد في كتاب اللّه إلاّ المسح (1).
    ويريد من السنّة عمل النبي ( صلّى اللّه عليه وآله وسلّم ) قبل نزول القرآن ، ومن المعلوم أنّ القرآن حاكم وناسخ.
    وبهذا يمكن الجمع بين عمل النبي ( صلّى اللّه عليه وآله وسلّم ) وبين ظهور الآية في المسح ، وأَنّ الغسل كان قبل نزول الآية.
    ونرى نظير ذلك في المسح على الخفين ، فقد روى حاتم بن إسماعيل ، عن جعفر بن محمد ، عن أبيه ، عن علي أنّه قال : سبق الكتاب الخفين.
    وروى عكرمة عن ابن عباس ، قال : سبق الكتاب الخفين. ومعنى ذلك انّه لو صدر عن النبي في فترة من عمره المسح على الخفين ، فقد جاء الكتاب على خلافه فصار ناسخاً له حيث قال : ( وامسحوا برؤوسكم وأرجلكم ) أي امسحوا على البشرة لا على النعل ولا على الخف ولا الجورب (2).

    القرآن هو المهيمن :
    إنّ القرآن الكريم هو المهيمن على الكتب السماوية وهو ميزان الحق والباطل ، فما ورد في تلك الكتب يؤخذ به إذا وافق القرآن الكريم ولم يخالفه.
    قال سبحانه : ( وَأنزَلْنا إلَيْكَ الكتابَ بالحَقِّ مُصَدِّقاً لِما بَينَ يَدَيهِ مِنَ الكِتابِ ومُهَيمِناً عَلَيهِ فَاحْكُم بَيْنَهُم بِما أنزَلَ اللّهُ ولأتَتَّبِع أهواءَهُمْ عَمَّا جَاءَكَ مِنَ الحَقّ ) ( المائدة ـ 48 ).
1. الدر المنثور : 3/29.
2. عبد اللّه بن أبي شيبة : المصنف : 1/213 ، باب من كان لا يرى المسح ، الباب 217.


(47)
    فإذا كان هذا موقف القرآن الكريم بالنسبة إلى الكتب السماوية ، فأولى به أن يكون كذلك بالنسبة إلى السنن المأثورة عن النبي ( صلّى اللّه عليه وآله وسلّم ) ، فالكتاب مهيمن عليها فيؤخذ بالسنّة ما دامت غير مخالفة للكتاب (1). ولا يعني ذلك الاكتفاء بالكتاب وحذف السنّة من الشريعة فإِنّه من عقائد الزنادقة ، بل السنّة حجة ثانية للمسلمين بعد الكتاب العزيز بشرط أن لا تضادّ السند القطعي عند المسلمين.
    فإذا كان القرآن ناطقاً بالمسح على الأرجل ، فما قيمة السنّة الآمرة بغسلها ، فلو أمكن الجمع بين القرآن والسنّة ـ على ما عرفت من كون القرآن ناسخاً لما كان رائجاً في فترة من الزمن ـ فهو المطلوب ، وإلاّ فتضرب عرض الجدار.

    3. اجتهاد الزمخشري :
    إنّ الزمخشري ( المتوفّى 538 ه‍ ) لما وقف على أَنّ قراءة الأرجل بالجر تدل على المسح بوضوح أراد توجيهها وتأويلها ، فقال : قرأ جماعة وأرجلكم بالنصب فدلّ على أنّ الأرجل مغسولة ، فإن قلت : فما تصنع بقراءة الجر ودخولها في حكم المسح. قلت : الأرجل من بين الأعضاء الثلاثة المغسولة تغسل بصبّ الماء عليها ، فكان مظنّة للإسراف المذموم المنهي عنه ، فعطفت على الثالث الممسوح لا لتمسح ولكن ليُنبّه على وجوب الاقتصاد في صب الماء عليها ، وقيل : إلى الكعبين (2).
    يلاحظ عليه : أوّلاً : أنّ ما ذكره من الوجه إِّنما يصح إذا كانت النكتة مما تعيها عامة المخاطبين من المؤمنين ، وأين هؤلاء من هذه النكتة التي ابتدعها الزمخشري
1. قال النبي الأكرم ( صلّى اللّه عليه وآله وسلّم ) : « إذا روي لكم عنّي حديث فأعرضوه على كتاب اللّه فإن وافقه فاقبلوه وإلاّ فردوه » لاحظ التفسير الكبير : 3/252 ، ط سنة 1308.
2. الكشاف : 1/326.


(48)
توجيهاً لمذهبه ؟!
    وبعبارة أُخرى : إِنّما يصح ما ذكره من النكتة إذا أمن من الالتباس لا في مثل المقام الذي لا يؤمن منه ، وبالتالي يحمل ظاهر اللفظ على وجوب المسح غفلة عن النكتة البديعة للشيخ الزمخشري.
    وثانياً : أنّ الأيدي أيضاً مظنّة للإسراف المذموم مثل الأرجل ، فلماذا لم ينبّه على وجوب الاقتصاد في صبّ الماء فيها أيضاً ؟!
    كلّ ذلك يعرب عن أنّ هذه الوجوه توجيهات للمذهب الذي نشأوا وترعرعوا عليه ، ولولا ذلك لم تدر بخلد أحد منهم واحد من تلك الوجوه.

    4. اجتهاد الرازي :
    إنّ الإمام الرازي ( المتوفّى 606 ه‍ ) لمّا وقف على دلالة الآية على المسح ، أخذ يعتذر بقوله :
    واعلم أنّه لا يمكن الجواب عن هذا إلاّ بوجهين :
    1 ـ انّ الأخبار الكثيرة وردت بإيجاب الغسل ، والغسل مشتمل على المسح ، ولا ينعكس ، فكان الغسل أقرب إلى الاحتياط ، فوجب المصير إليه.
    وعلى هذا الوجه يجب القطع بأنّ غسل الرجل يقوم مقام مسحها.
    2 ـ انّ فرض الرجلين محدود إلى الكعبين ، والتحديد انّما جاء في الغسل دون المسح (1).
    وحاصل ما اعتذر عنه أمران :
    ألف : الغسل يشتمل على المسح دون العكس.
    ب : التحديد انّما جاء في الغسل دون المسح.
1. تفسير الرازي : 11/162.

(49)
    مناقشة اجتهاد الرازي :
    أمّا الأوّل فإنّ من لاحظ الآية يقف على أنّ هناك تكليفين مختلفين لا يتداخلان.
    أحدهما : الغسل لا المسح.
    ثانيهما : المسح لا الغسل.
    وعلى ضوء ذلك يجب على المتوضئ القيام بكلّ واحد منهما ، دون أن يتداخلا. إنّما المهم هو الوقوف على معنى الغسل والمسح.
    زعم الرازي : أنّ الغسل عبارة عن إسالة الماء على العضو ، وأمّا المسح فهو عبارة عن إمرار اليد عليه ، فإذا أسال الماء على العضو باليد فقد قام بكلا الأمرين ، فحينئذٍ يشتمل غسل الأرجل على المسح.
    لكن غاب عنه ، أنّ ما ذكره إنّما يتم لو جاء المسح مجرداً عن ذكر الغسل ، دون ما إذا جاءا متقابلين ، وحكم على بعض الأعضاء بالغسل ، والبعض الآخر بالمسح ، فإنّ مقتضى التقابل بين الغسل والمسح في الآية كونهما أمرين متبائنين لا يتداخلان ، وليس هو إلاّ تفسير الغسل بإسالة الماء على العضو سواء كان باليد ، أو بوضعها تحت المطر أو غيره ؛ وأمّا المسح المتقابل غير المتداخل ، فهو عبارة عن إمرار اليد على العضو بالماء المتبقّي في اليد عن غسل الأيدي ، لا على وجه الإسالة ، بل الامرار بنداوة اليد.
    لا أقول إنّ المسح وضع لإمرار اليد على العضو بالرطوبة المتبقية ، بل هو موضوع لمطلق إمرار اليد ، سواء كانت اليد جافّة أو متبلّلة ، بشهادة قوله سبحانه : ( فَطَفِقَ مَسْحَا بِالسُّوقِ والأعْنَاقِ ) ( ص ـ 33 ) إذ أخذ سليمان يمسح بيده سوق الصافنات الجياد وأعناقهم ، وقال سبحانه : ( فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً طَيِّباً فامْسَحُوا بِوُجُوهِكُم وأيْدِيكُم مِنْه ) ( المائدة ـ 6 ).


(50)
    ولكنه سبحانه إذا خاطب مؤمناً بغسل وجهه ويديه ، ثم بالمسح على الرؤوس والأرجل ، يتبادر منه مسحه بالبلل الموجود في يديه ، لا باليد الجافّة ولا بالماء الخارج عن الوضوء ، فلا يكون الغسل مشتملاً على المسح الوارد في الآية ، وإن كان مشتملاً على المسح المطلق بالمعنى اللغوي العام.
    وإن شئت قلت : إنّ النسبة بين الغسل والمسح عموم وخصوص من وجه ، فالأوّل عبارة عن إسالة الماء على العضو سواء كان بإمرار اليد أم لا ، والثاني عبارة عن إمرار اليد على العضو سواء كان هناك بلل عليها أم لا فيفترقان في موردين :
    أ ـ إسالة الماء على العضو بلا إمرار لليد فيصدق الغسل دون المسح.
    ب ـ إمرار اليد على العضو سواء كان مع بلل أم لا ، فيصدق المسح دون الآخر.
    ويجتمعان فيما إذا كان هناك إسالة مع إمرار.
    هذا إذا جرّد كلّ واحد منهما عن الآخر في مقام الاستعمال وأمّا إذا اجتمعا في كلام واحد ، كما في المقام فلا يتبادر منهما إلاّ إسالة الماء في الأوّل وإمرار اليد بالبلل المتبقي في الثاني.
    والشاهد على أنّ المسح الوارد في الآية يقابل الغسل ويضادّه ولا يجتمع معه ـ مضافاً إلى التقابل الحاكي عن التخالف ـ تصريح عدّة من أعلام اللغة وإليك كلماتهم :

    الغسل والمسح في المصطلح اللّغوي :
    أمّا الغسل فقد عرّفه الراغب بقوله : غسلت الشيء غسلاً : أسلت عليه الماء فأزلت درنه ، والغسل الاسم (1).
    وقال الجزري : وفي الحديث : واغسلني بماء الثلج والبرد أي طهّرني من
1.الراغب : المفردات : 361 ، مادة غسل.

(51)
الذنوب ، والغسل الماء الذي يغتسل به (1).
    وقال الفيومي : غسلته غسلاً من باب ضرب ، والاسم الغُسل بالضم وهو الماء الذي يتطهّر به.
    وقال ابن القوطية : الغسل تمام الطهارة (2).
    وقال الطريحي : غسل الشيء : إزالة الوسخ ونحوه عنه بإجراء الماء عليه (3).
    وقال أبو البقاء : الغسل ـ بالفتح ـ الإسالة (4).
    هذه النصوص وغيرها تدلّ على شرطية إسالة الماء في صدق الغسل ، ولا أقل من وجود مائع يتحقّق به الغسل كماء الورد.
    وأمّا شرطية الدلك في صدق الغسل فليس شرطاً ولم يقل أحد بالشرطية فإنّ مقوم الغسل هو سيلان الماء على الشيء الذي يراد غسله سواء كان هناك دلك أم لا.
    وأمّا المسح فواقعه هو إمرار اليد على الممسوح جافّة كانت أو مبلّلة.
    قال ابن منظور : فلان يتمسّح بثوبه ، أي يمر بثوبه على الأبدان فيتقرّب به إلى اللّه (5).
    وقال الطريحي : المسح إمرار الشيء على الشيء ، يقال : مسح برأسه وتمسّح بالأحجار والأرض (6).
1. الجزري : النهاية : 3/367 ـ 368.
2. الفيومي : المصباح المنير : 2/447 ، مادة غسل.
3. الطريحي : مجمع البحرين : مادة غسل.
4. أبو البقاء : الكليات : 1/311.
5. ابن منظور : لسان العرب : مادة مسح.
6. الطريحي : مجمع البحرين : مادة مسح.


(52)
    وقال الفيروزآبادي : ومنه الحديث : « وتمسّحوا بالأرض فإنّها بكم برّة » ، أراد به التيمّم (1).
    وقال الجزري : وفي حديث ابن عباس : « إذا كان الغلام يتيماً فامسحوا رأسه من أعلاه إلى مقدّمه » (2).
    وقال الجوهري : مسح برأسه وتمسّح بالأرض ، ومسح الأرض مساحة أي ذرعها (3).
    وقال الجرجاني : المسح هو إمرار اليد المبتلّة بلا تسييل (4).
    وقال المطرزي : المسح : إمرار اليد على الشيء. يقال : مسح رأسه بالماء أو بالدهن ( يمسحه مسحاً ) (5).
    وقال ابن جزي في تفسيره : المسح امرار اليدين بالبلل الذي يبقى من الماء والغسل امرار اليد بالماء ، وعند الشافعي امرار الماء وان لم يكن باليد (6).
    وقال القاسمي : المسح احساس المحل الماء بحيث لا يسيل (7).
    نعم ، ربّما يستعمل المسح في مورد الغسل بالقرينة كما إذا أُضيف إليه لفظة الماء ، يقال : مسحت يدي بالماء إذا غسلتها وتمسّحت بالماء إذا اغتسلت ، وأمّا إذا جرّد عن ذلك فيراد منه مجرّد الإمرار ، من غير فرق بين أن تكون يده مبتلّة أو جافّة.
1. الفيروزآبادي : القاموس المحيط : 1/95 ، مادة مسح.
2. الجزري : النهاية : 4/327.
3. الجوهري : الصحاح : 1/404.
4. الجرجاني : التعريفات : 272.
5. المطرزي : المغرب في ترتيب المعرب : 2/266.
6. تفسير ابن جزي : 149.
7. تفسير القاسمي : 6/102.


(53)
    ولكن لما جاء المسح بالرؤوس والأرجل في الآية المباركة بعد غسل الوجه واليدين يكون ذلك قرينة على إمرار اليد عليها بالبلّة الموجودة فيها.
    وبذلك ظهر أنّ الآية المباركة تحتوي على واجبين : أحدهما : الغسل ، والآخر : المسح ، وكلّ يغاير الآخر ، فلا الغسل مشتمل على المسح ولا المسح على الغسل.
    ومن حاول تفسير المسح في الآية بالغسل بحجّة انّ المسح يستعمل في الغسل فقد أخطأ ، فلأنّ المسح انّما يستعمل في الغسل إذا قيّد بلفظة الماء وإلاّ فلا يراد منه سوى الإمرار. وبذلك يظهر الخلط في كلام ابن قتيبة ، قال : كان رسول اللّه يتوضأ بمدّ ، وكان يمسح بالماء يديه ورجليه وحولها غاسل ، قال : ومنه قوله تعالى : ( و امسحوا برؤوسكم وأرجلكم ) والمراد بمسح الأرجل غسلها. ويستدل بمسحه ( صلّى اللّه عليه وآله وسلّم ) برأسه وغسله رجليه ، بأنّ فعله مبيّـن وبأنّ المسح يستعمل في المعنيين المذكورين ، إذ لو لم نقل بذلك لزم القول بأنّ فعله ناسخ للكتاب وهو ممتنع ، وعلى هذا فالمسح مشترك بين معنيين ، فإن جاز إطلاق اللفظة الواحدة وإرادة كلا معنييها كانت مشتركة أو حقيقة في أحدهما ومجازاً في الآخر كما هو قول الشافعي ، فلا كلام. وإن قيل بالمنع فالعامل محذوف ، فالتقدير وامسحوا بأرجلكم مع إرادة الغسل ، وسُوِّغ حذفه لتقدّم لفظه وإرادة التخفيف (1).
    يلاحظ عليه بوجهين :
    الأوّل : أنّ ابن قتيبة أراد تفسير الآية بفعله وعمل رسول اللّه ( صلى الله عليه وآله وسلم ) وبما أنّه كان يغسل رجليه فهو دليل على أنّ المراد من مسح الأرجل هو الغسل ، ولكنه غفل عن أنّ معنى ذلك أنّ الآية مع أنّها بصدد بيان وظيفة المؤمنين بمختلف طبقاتهم ،
1. الفيومي : المصباح المنير : 2/571 ـ 572 ، مادة مسح.

(54)
مجملة مردّدة بين أمرين ، وفعله ( صلّى اللّه عليه وآله وسلّم ) رافع لاجمالها ، ولكن مكانة الآية ترد ذلك الزعم.
    الثاني : أنّ ابن قتيبة تحيّـر بين أمرين ، فمن جانب رأى أنّ الآية ظاهرة في مسح الأرجل ، ومن جانب آخر زعم صحّة الرواية وانّ رسول اللّه غسل رجليه ، فاختار أنّ الأثر مبيّن للآية ، وإلاّ يلزم أن يكون عمله ناسخاً للكتاب ، مع أنّ هناك طريقاً آخر للخلاص من هذا المأزق وهو الأخذ بالكتاب الحجّة القطعيّة من اللّه سبحانه وتأويل الأثر. وسيوافيك أنّ الروايات في فعله متعارضة ، فكما ورد أنّ رسول اللّه ( صلّى اللّه عليه وآله وسلّم ) غسل رجليه ، ورد أيضاً أَنّه ( صلّى اللّه عليه وآله وسلّم ) مسحهما ، فعند ذلك فالكتاب هو المهيمن على تعيين الصحيح من الزائغ ، فيؤخذ بما وافق الكتاب ويضرب بالمخالف عرض الجدار ، لو لم يمكن تأويله.
    وأمّا ما يلوكه بعض المتجرّئين من أنّ السنّة الصحيحة تنسخ الكتاب ، فهو مما لا يمكن المساعدة عليه ، فإنّ الكتاب قطعي السند ، واضح الدلالة ، لا يعادله شيء ، فمن أراد نسخ الكتاب بالسنّة غير المتواترة فقد حطّ من مقامه وأنزله منزلة الأدلّة الظنّية ، مع أنّه المهيمن على الكتب السماوية قاطبة ، فكيف بِهِ على الروايات المروية عبر الزمان ؟!
    وأمّا الأمر الثاني : وهو أَنّ التحديد جاء في الغسل دون المسح ، فهو دليل على أنّ الأرجل بما اشتملت على التحديد إلى الكعبين مورد للغسل.
    وهذا الدليل من الإمام الرازي بعيد جداً ، فإنّ الواجب في الوجه الوارد في الآية هو الغسل مع أنّه فاقد للتحديد ، فليس التحديد دليلاً على الغسل ، ولا عدمه دليلاً على المسح ، وإِنّما الحجة دراسة الآية والأخذ بظهورها.


(55)
    5. اجتهاد ابن قدامة :
    إنّ الإمام موفق الدين ابن قدامـة ( المتوفّى 620 ه‍ ) لمّا سلّم إنّ مقتضى عطف الأرجل على الرؤوس هو المسح ، أخذ يتفلسف ويجتهد أمام الدليل الصارم ، وقال : إنّ هناك فرقاً بين الرأس والرجل ، ولأجله لا يمكن أن يحكم عليها بحكم واحد ، وهذه الوجوه عبارة :
    1 ـ انّ الممسوح في الرأس شعر يشق غسله والرجلان بخلاف ذلك فهما أشبه بالمغسولات.
    2 ـ انّهما محدودان بحد ينتهي إليه فأشبها باليدين.
    3 ـ انّهما معرّضتان للخبث لكونها يُوطّأ بها على الأرض بخلاف الرأس (1).
    يلاحظ عليه : أنّه اجتهاد مقابل النص وتفلسف في الأحكام.
    فأمّا الأوّل : فأي شق في غسل الشعر إذا كان المغسول جزءاً منه فإنّه الواجب في المسح ، فليكن كذلك عند الغسل.
    وأمّا الثاني : فلأنّ التمسك بالشَبه ضعيف جداً ، إذ كم من متشابهين يختلفان في الحكم.
    وأفسد منه هو الوجه الثالث فإنّ كون الرجلين معرّضتين للخبث لا يقتضي تعيّـن الغسل ، فإنّ القائل بالمسح يقول بأنّه يجب أن تكون الرِجل طاهرة من الخبث ثم تمسح.
    ولعمري إنّ هذه الوجوه تلاعب بالآية لغاية دعم المذهب ، والجدير بالفقيه الواعي هو الأخذ بالآية سواء أوافقت مذهب إمامه أم لا. ولصاحب المنار كلمة
1. ابن قدامة : المغني : 1/124.

(56)
قيمة في حق هؤلاء الذين يقدِّمون فتاوى الأئمّة على الكتاب العزيز والسنّة الصحيحة يقول : إنّ العمل عندهم على أقوال كتبهم دون كتاب اللّه وسنة رسوله (1).

    6. اجتهاد الخازن :
    وقال علاء الدين علي بن محمد البغدادي الشهير بالخازن ( المتوفّى 725 ه‍ ) :
    وهل فرض الرجلين المسح أو الغسل ، فروي عن ابن عباس أنّه قال : الوضوء غسلتان ومسحتان؛ ويروى ذلك عن قتادة أيضاً ، ويروى عن أنس ، أنّه قال : نزل القرآن بالمسح والسنّة بالغسل.
    وعن عكرمة ، قال : ليس الغسل في الرجلين ، إنّما نزل فيهما المسح.
    وعن الشعبي أنّه قال : إنّما هو المسح على الرجلين ، ألا ترى أنّ ما كان عليه الغسل جعل عليه التيمّم ، وما كان عليه المسح أهمل.
    إلى أن قال : أما قراءة النصب فالمعنى فيها ظاهر لأنّه عطف على المغسول لوجوب غسل الرجلين على مذهب الجمهور ، ولا يقدح فيه قول من خالف.
    وأمّا قراءة الكسر فقد اختلفوا في معناها والجواب عنها ، ثم ذكر وجهين :
    1. قال أبو حاتم وابن الأنباري : الكسر عطف على الممسوح غير أنّ المراد بالمسح في الأرجل الغسل.
    2. جعل كسر اللام في الأرجل على مجاورة اللفظ دون الحكم ، واستدل
1. محمد رشيد رضا ، المنار : 2/386.

(57)
بقولهم : « جحر ضب خرب » والخرب نعت للجحر لا للضب ، وإنّما أخذ إعراب الضب للمجاورة.
    ثم رد عليه بقوله : لأنّ الكسر على المجاورة إنّما يحمل لأجل الضرورة في الشعر أو يصار إليه حتى يحصل الأمن من الالتباس ، لأنّ الخرب لا يكون نعتاً للضب بل للجحر ، ولأنّ الكسر بالجوار إنّما يجوز بدون حرف العطف وأمّا معها فلم تتكلم به العرب (1). يلاحظ على كلامه بأمرين :
    1. أنّ تفسير قراءة النصب بالعطف على ( وجوهكم ) غير خال من التعسّف ، لاستلزامه الفصل بين المعطوف والمعطوف عليه بجملة أجنبية ، وهو ممنوع ، وكان عليه أن يفسرها بالعطف على محل ( برءُوسكم ).
    2. أنّ تفسير قراءة الخفض ـ مع القول بأنّها معطوفة على ( برءُوسكم ) ـ بأنّ المراد من المسح هو الغسل ، يوجب كون اللفظين مترادفين ، مع أنك عرفت أنّ المسح غير الغسل ويكفي في الأوّل إمرار اليد المغسولة على الممسوح ، وان لم يجرِ الماء بخلاف الثاني فيلزم فيه جريان الماء فكيف يكون المراد من المسح هو الغسل ؟!
    ولعمري إنّ هذا النوع من التفسير لعب بظواهر القرآن ، وتقديم للمذهب على صريحه.
1. تفسير الكشاف : 1/325 ـ 326.

(58)
    7. اجتهاد ابن تيمية :
    لمّا وقف ابن تيمية ( المتوفّى 728 ه‍ ) على أنّ الخفض بالجر يستلزم العطف على الرؤوس فيلزم حينئذٍ مسح الرجلين لا غسلهما ، التجأ إلى تأويل النص ، وقال :
    « ومن قرأ بالخفض فليس معناه وامسحوا أرجلكم كما يظنه بعض الناس لأوجه : أحدها : انّ الذين قرأوا ذلك من السلف ، قالوا : عاد الأمر إلى الغسل » (1).
    يلاحظ عليه : أنّه لو صحّ ما ذكره لزم القول بأنّ السلف تركوا القرآن وراء ظهورهم وأخذوا بما لا يوافق القرآن ولو كان رجوعهم لأجل نسخ الكتاب فقد عرفت أنّ القرآن لا ينسخ بخبر الواحد. ولو سلّمنا جواز النسخ فسورة المائدة لم يُنْسَخْ منها شيءٌ.
    ومن العجب انّ ابن تيميّة ناقض نفسه فقد ذكر في الوجه السابع ما هذا نصه : « إنّ التيمم جُعل بدلاً عن الوضوء عند الحاجة فحذف شطر أعضاء الوضوء وخف الشطر الثاني وذلك فإِنّه حذف ما كان ممسوحاً ومسح ما كان مغسولاً » (2).
    فلو كان التيمّم على أساس حذف ما كان ممسوحاً فقد حذف حكم الأرجل في التيمّم فلازم ذلك أن يكون حكمه هو المسح حتى يصح حذفه فلو كان حكمه هو الغسل لم يحذف.

    8. اجتهاد أبي حيان :
    وقال أبو حيان ( المتوفّى 754 ه‍ ) في تفسيره ( البحر المحيط ) ما هذا
1. ابن تيمية : التفسير الكبير : 4/48.
2. المصدر نفسه : 4/50.


(59)
ملخّصه : ( وأرجلِكُم ) قرأ ابن كثير وأبو عمر وحمزة وأبو بكر بالجرّ ، وهي قراءة أنس وعكرمة والشعبي وأبي جعفر الباقر ، وهو مذهب الإمامية من الشيعة.
    ( ومقتضى تلك القراءة هو مسح الأرجل ) لكن من أوجب الغسل تأوّل أنّ الجرّ هو خفض على الجوار ، وهو تأويل ضعيف جداً ، ولم يرد إلاّ في النعت حيث لا يلبس.
    أو تأوّل على أنّ الأرجل مجرورة بفعل محذوف يتعدّى بالباء أي « وافعلوا بأرجلكم الغسل » وحذف الفعل وحرف الجر. وهذا تأويل في غاية الضعف.
    أو تأوّل على أنّ الأرجل من بين الأعضاء الثلاثة المغسولة مظنّة الإسراف المذموم المنهي عنه فعطف على الرابع الممسوح ، لا لتمسح ولكن لينبَّه على وجوب الاقتصاد في صب الماء عليها (1).
    وقرأ نافع والكسائي وابن عامر وحفص ( وأرجلكم ) بالنصب ، واختلفوا في تخريج هذه القراءة ، فقيل هو معطوف على قوله وأيديكم إلى المرافق وأرجلكم إلى الكعبين ، وفيه الفصل بين المتعاطفين بجملة.
    قال الاستاذ أبو الحسن بن عصفور في الفصل بين المعطوف والمعطوف عليه : و أقبح ما يكون بالجمل ، فدل قوله هذا على أنّه ينزّه كتاب اللّه عن هذا التخريج ، وهذا تخريج من يرى أنّ فرض الرجلين هو الغسل وأمّا من يرى المسح فيجعله معطوفاً على موضع برؤوسكم ويجعل قراءة النصب كقراءة الجر دالة على المسح.
    وقيل : إنّه مفعول لفعل محذوف قدّر في الآية ، أي واغسلوا أرجلكم ، نظير
1. لا يخفى على القارئ الكريم أنّ ما ذكره من الوجه تفلسف لتصحيح مذهبه لا يلتفت إليه جلّ من خوطب بالقرآن الكريم. وقد أخذه من الزمخشري.

(60)
قول الشاعر :
    علفتها تبناً وماءً بارداً (1).
    يلاحظ عليه : أنّه أوَّل الجرّ بالعطف على اللفظ دون المشاركة في الحكم وهو تفلسف لا طائل تحته ، وأمّا تأويل النصب بتقدير الفعل فيرد عليه بوجود الفارق بين الآية والمثال إذ القرينة العقلية دالة على حذف الفعل لأنّ التبن يعلف به دون الماء وإنّما يسقى به ، فكأنّه قال علفتها تبناً وسقيتها ماءً بارداً.
    وأمّا الأرجل فهي قابلة للمسح والغسل ، فلا وجه لتقدير الفعل مع إمكان عطفه على الرؤوس.
    قال السيد المرتضى : إنّ جعل التأثير في الكلام القريب أولى من جعله للبعيد ، فنصب الأرجل عطفاً على الموضع أولى من عطفها على الأيدي والوجوه ، على أنّ الجملة الأُولى المأمور فيها بالغسل قد نقضت وبطل حكمها باستئناف الجملة الثانية ، ولا يجوز بعد انقطاع حكم الجملة الأُولى أن يعطف على ما فيها ، فإنّ ذلك يجري مجرى قولهم : ضربت زيداً وعمراً وأكرمت خالداً وبكراً ، فإنّ رد بكر إلى خالد في الإكرام هو الوجه في الكلام الذي لا يسوغ سواه ولا يجوز رده إلى الضرب الذي قد انقطع حكمه (2).

    9. اجتهاد البروسوي :
    وقال الشيخ إسماعيل حقي البروسوي ( المتوفّى 1137 ه‍ ) : وأرجلكم إلى الكعبين بالنصب عطفاً على وجوهكم ، ويؤيده السنّة الشائعة وعمل الصحابة
1. تفسير البحر المحيط : 3/437 ـ 438.
2. الانتصار : 23.
الوضوء على ضوء الكتاب والسنّة ::: فهرس