الوضوء على ضوء الكتاب والسنّة ::: 61 ـ 75
(61)
وقول أكثر الأئمّة والتحديد. إذ المسح لم يعهد محدوداً وإنّما جاء التحديد في المغسولات (1).
    أقول : وقد أيّد الغسل في كلامه هذا بالوجوه التالية :
    أ. قراءة النصب. وقد عرفت أنّ قراءة النصب مشترك بين الغسل والمسح فكما يجوز عطفها على الوجوه ( مع الإغماض عمّـا فيه من تخلّل الجملة الأجنبية بين المعطوف والمعطوف عليه ) يجوز عطفها على محل ( برءُوسكم ).
    ب. السنّة الشائعة. وستعرف اختلاف السنّة في مسألة المسح والغسل وترجيح ما يدل على المسح.
    ج. عمل الصحابة. وسيوافيك أنّ عمل الصحابة لم يكن على وتيرة واحدة.
    د. أنّ المسح لم يعهد محدوداً وإنّما جاء التحديد في المغسولات. وقد عرفت ما فيه ، في كلام ابن الجوزي.

    10. اجتهاد العجيلي الشافعي :
    قال الشيخ سليمان بن عمـر العجيلـي الشافعي ( المتوفّى 1206 ه‍ ) في الفتوحات الإلهية :
    أمّا قراءة الجر ففيها تخاريج.
    أ. الخفض على الجوار ثم ردَّ أنّ التخريج عليه ضعيف ، لأنّ الخفض على الجوار إنّما ورد في النعت لا في العطف ، وقد ورد في التوكيد قليلاً في ضرورة الشعر.
1. روح البيان : 2/351.

(62)
    ب. معطوف على رؤوسكم لفظاً ومعنى ثم نسخ ذلك بوجوب الغسل وهو حكم باق.
    ج. جرت للتنبيه على عدم الإسراف في استعمال الماء فيها ، لأنّها مظنّة لصب الماء كثيراً فعطفت على الممسوح والمراد غسلها.
    د. مجرور بفعل محذوف أي « وافعلوا بأرجلكم » غسلاً (1).
    أقول : لقد تكفّل القائل برد الوجه الأوّل ، وأمّا الثاني فيرده أنّ سورة المائدة آخر سورة نزلت على النبي ( صلّى اللّه عليه وآله وسلّم ) ولم يكن بعد نزولها أي نسخ.
    وأمّا الثالث ، فقد عرفت أنّه تفلسف من الزمخشري ، ولا يخطر ببال المخاطبين بالقرآن.
    وأمّا الرابع ، فتقدير الفعل تخريج باطل لا يدل عليه أي قرينة من الآية.
    كل هذه التخاريج دليل على أنّ الجر لا يمكن تفسيره إلاّ بالمسح.
    وهناك تخريج آخر فاته ذكره وهو لما كانت الآية صريحة ـ حسب الذوق العربي ـ في المسح حاول ابن العربي في « القبس » تأويله بأنّه سبحانه أراد المسح على الخفين ، وهذا هو الذي صحّحه ابن حزم في أحكامه (2).
    ولما كان التأويل من الوهن بمكان علّق عليه الشيخ عبد الرحمن الثعالبي في كتابه « الجواهر الحسان » ما هذا نصه :
    وما رجّحه ابن العربي هنا مرجوح بل تكلف وتحميل للنص ما لا يحتمل ، إذ لو كان الخف مقصوداً بالمسح ، لما كان لذكر الكعبين حدّاً للمسح معنى ، إذ ليس
1. الفتوحات الإلهية : 1/199.
2. الأحكام : 2/572.


(63)
للخف كعبان ! فتعيّـن أنّ المسح مسح الرجل لا مسح الخف ـ وما ذهب إليه الإمام ابن جرير الطبري من التخيير بين الغسل أو المسح ، يحدّ من شطط المذهبيين الذين يتركون قطعي الثبوت والدلالة إلى روايات أقصى ما تفيده الظن (1).

    11. اجتهاد الآلوسي :
    وقد أوجب تطبيق الآية على المذهب وقوع الكثير من المفسرين في مأزق عجيب وهو جعل القراءتين المتواترين المتعارضتين كأنّهما آيتان متعارضتان.
    يقول الآلوسي ( المتوفّى 1270 ه‍ ) : إنّ القراءتين متواترتان بإجماع الفريقين بل بإطباق أهل الإسلام كلّهم ، ومن القواعد الأُصولية عند الطائفتين أنّ القراءتين المتواترتين إذا تعارضتا في آية واحدة فلهما حكم آيتين ، فلابدّ لنا أن نسعى ونجتهد في تطبيقهما أوّلاً ، مهما أمكن لأنّ الأصل في الدلائل ، الإعمال دون الإهمال كما تقرر عند أهل الأُصول ، ثم نطلب بعد ذلك الترجيح بينهما ، ثم إذا لم يتيسير لنا الترجيح بينهما نتركهما ونتوجه إلى الدلائل الأُخر من السنّة (2).
    يلاحظ عليه : أنّ من الغرائب أن نجعل القراءتين متعارضتين ثم نسعى في رفع التعارض بأحد الطرق التالية :
    أ. السعي والاجتهاد في التوفيق بينهما بحجة أنّ الأصل في الدلائل الإعمال.
    ب. إذا لم يمكن التطبيق نطلب بعد ذلك الترجيح بينهما.
    ج. إذا لم يتيسر الترجيح بينهما نترك القراءتين ونتوجه إلى الدلائل الأُخر من
1. الجواهر الحسان : 1/417.
2. روح المعاني : 6/74.


(64)
السنّة.
    فإنّ هذه المضاعفات رهن فرض المذهب على القرآن وتطبيقه عليه ، وإلاّ فالقراءتان ليس فيهما أيُّ تعارض وتهافت وكلتاهما تهدفان إلى أمر واحد وهو مسح الرجلين ، لأنّ الرجلين على كلا القراءتين عطف على موضع واحد وهو رؤوسكم إمّا عطفاً على المحل أو عطفاً على الظاهر.
    وبذلك يعلم أنّ ما ذكره الآلوسي في الجمع بين المذهبين ، شيء لا يعتمد عليه ، حيث قال : لو فرض أنّ حكم اللّه تعالى المسح على ما يزعمه الإمامية من الآية ، فالغسل يكفي عنه ، وان كان هو الغسل لا يكفي المسح عنه ، فبالغسل يلزم الخروج عن العهدة بيقين دون المسح ، وذلك لأنّ الغسل محصِّل لمقصود المسح من دون وصول البلل وزيادة (1).
    يلاحظ عليه : أنّ المسح والغسل أمران متضادان ، وقد سمعت عن غير واحد من العلماء التفريق بينهما ، فإنّ المسح عبارة عن إمساس المحل الماء بحيث لا يسيل ، أو هو عبارة عن البلل الذي يبقى من الماء ، والغَسْل إمرار اليد بالماء ، فلو كان المأمور به هو ما جاء في هذين التعريفين وهو الإمساس بلا سيلان أو إمرار اليد بلا جريان فكيف يكفي عنه الغسل ؟!
    وإن شئت قلت : إنّ الغسل مشروط بشرط شيء ( السيلان ) والمسح مشروط بشرط لا ( أي عدم السيلان ) فلا يغني أحدهما عن الآخر ، ولو كان مغنياً لاقتصر سبحانه بلفظ الغسل في الجميع.
    ولعمر القارئ انّ هذه التشبّثات أشبه بتمسك الغريق بالطحلب ، فالمفسّـر الواعي من يتجرّد عن كل رأي مسبق وينظر إلى القرآن نظرة موضوعية كي يأخذ
1. روح المعاني : 6/78.

(65)
مذهبه من القرآن لا أن يفرض مذهبه على القرآن.
    وأعجب من كل ذلك أنّ الآلوسي التزم بأنّه لا مانع من القول بإجمال الآية ، فإنّها لم تنزل لبيان الوضوء وإنّما نزلت لبيان أحكام التيمم ، حيث يقول : ولم تنزل الآية لتعليمهم بل سوقها لإبدال التيمم من الوضوء والغسل ، وذكر الوضوء قبل التيمم للتمهيد (1) انظر كيف أخرج الآية عن هدفها السامي من تعليم وظيفة المصلّـي وضوءاً وتيمّماً.

    12. اجتهاد القاسمي :
    قال جمال الدين القاسمي ( 1283 ـ 1332 ه‍ ) : لا يخفى أنّ ظاهر الآية صريح في أنّ الواجب المسح ، كما قاله ابن عباس وغيره ، وإيثار غسلهما في المأثور عنه ( صلّى اللّه عليه وآله وسلّم ) إنّما هو للتزيد في الفرض والتوسع فيه حسب عادته ( صلّى اللّه عليه وآله وسلّم ) فانّه سنّ في كل فرض سنناً تدعمه وتقويه في الصلاة والزكاة والصوم والحج ، وكذا في الطهارات كما لا يخفى.
    وممّا يدل على أنّ واجبها المسح تشريع المسح على الخفين والجوربين ولا سند له إلاّ هذه الآية ، فإنّ كل سنّة أصلها في كتاب اللّه منطوقاً أو مفهوماً فاعرف ذلك واحتفظ به واللّه الهادي (2).
    أقول : إنّ القائل يعترف بأنّ صريح الآية هو المسح ، أفيصح لنا العدول عن حكم متواتر قطعي بالروايات المتعارضة ؟! فانّه روي عنه ( صلّى اللّه عليه وآله وسلّم ) المسح كما روي عنه الغسل ، فهل هنا ملجأ بعد التعارض إلاّ الذكر الحكيم.
1. روح المعاني : 6/75.
2. محاسن التأويل : 6/112.


(66)
    13. اجتهاد صاحب المنار :
    قال السيد محمد رشيد رضا صاحب المنار ( المتوفّى 1354 ه‍ ) إنّ فقهاء أهل السنّة فسّـروا الكعبين بالعظمين الناتئين من جانبي الساق ، ومن يقول بالمسح يفسّـر الكعب بمفصل الساق والقدم.
    وعلى الأوّل : ففي كل رجل كعبان ، وعلى الثاني : ففي كل رجل كعب واحد كالمرفق ، فلو كان المراد هو الثاني كان اللازم أن يقال إلى الكعاب كقوله إلى المرافق ، وبما انّه قال إلى الكعبين ، يعلم أنّ المراد هو العظمان الناتئان في جانبي القدم (1).
    يلاحظ عليه : أوّلاً : أنّه لا ملازمة بين تفسير الكعبين بالعظمين الناتئين والقول بالغسل ، أو تفسيرهما بمفصل الساق والقدم والقول بالمسح ، إذ من الممكن أن يقول القائل بالمسح بأنّه يجب مسح ظاهر القدم إلى العظمين الناتئين ، كما انّ القائل بالغسل يمكن أن يقول بأنّ الواجب هو غسل الرجل إلى المفصل ، فلا يكون تفسير الكعب بأي معنى قرينة على أحد القولين.
    ومجرّد أنّ القائلين بالغسل يجعلون الغاية العظمين ، والقائلين بالمسح يجعلون الغاية المفصل ، لا يكون دليلاً على الملازمة ، إذ يمكن أن يكون القائل صائباً في تفسير الكعبين وخاطئاً في مسألة المسح والغسل.
    وثانياً : أنّ الظاهر عند أهل اللغة انّ الكعب هو مفصل القدم ، وإطلاقه على الطرفين الناتئين نادر لا يحمل عليه الكتاب ، ولذلك يقول الأصمعي : الطرفان الناتئان يسميان المنجمين لا الكعبين. وإليك نص كلمات أهل اللغة :
1. المنار : 6/234 ، وقد سبقه الرازي في تفسيره ، وابن تيمية أيضاً في التفسير الكبير : 4/48 ـ 50 ، وكان على الأُستاذ التنبيه على ذلك.

(67)
    فهذا ابن منظور يفسّـر الكعب بقوله : كلّ مفصل للعظام ، وبالعظم الناشز فوق قدمه الذي يقال له « مشط القدم وقبتها » ، ثم يقول : وقيل الكعبان في الإنسان العظمان الناشزان من جانبي القدم (1).
    وقال الراغب : كعب الرجل العظم الذي عند ملتقى القدم والساق ، وكل ما بين العقدتين من القصب والرمح يقال له كعب تشبيهاً بالكعب للفصل بين العقدتين ، كمفصل الكعب بين الساق والقدم (2).
    ترى أنّه لم يفسره إلاّ بالمفصل ، ولم يفسره بالمنجمين الناتئين في جانبي الرجل.
    وقال الزبيدي : الكعب العظم لكل ذي أربع ، وهو كل مفصل للعظام ، ومن الانسان ما أشرف فوق رسغه ، عند قدمه ، وكل شيء علا وارتفع فهو كعب (3).
    فالرسغ في قوله « ما أشرف فوق رسغه » عبارة : عن عظم واقع بين مشط القدم والساق ، فما ارتفع عليه هو الكعب ولا يريد المنجمين ، لأنّهما ليسا فوق الرسغ.
    وقال الفيومي : الكعب عند ابن الاعرابي وجماعة هو المفصل بين الساق والقدم.
    نعم نقل عن أبي عمرو بن العلاء والأصمعي : انّه العظم الناشز في جانب (4) القدم عند ملتقى الساق والقدم ، فيكون لكل قدم كعبان عن يمنتها وميسرتها (5).
1. لسان العرب : مادة كعب.
2. الراغب الاصفهاني : المفردات : مادة كعب.
3. الزبيدي : تاج العروس : مادة كعب.
4. الصحيح : « جانبي ».
5. الفيومي : المصباح المنير : مادة كعب.


(68)
    وما نقله يخالف ما نقله الرازي عن الأصمعي ، أَنّه كان يقول : الكعب هو مفصل الساق والقدم ، وهو قول محمد بن الحسن ( ره ) وكان الأصمعي يختار هذا القول ، ويقول : الطرفان الناتئان يسمّيان المنجمين (1).
    وقال الفيروز آبادي : الكعب كل مفصل للعظام ، والعظم الناشز فوق القدم ، والناشزان في جانبيها (2).
    تجد انّه يذكر الأقوال الثلاثة ويذكر المفصل ، وقبة القدم ، قبل الثالث.
    وأمّا الجزري : فقد ذكر كلا القولين : العظمان الناتئان عند مفصل الساق والقدم من الجانبين ، ثم قال : وذهب قوم إلى أنّهما العظمان اللّذان في ظهر القدم (3).
    وقال ابن فارس : كعب الرجل وهو طرف الساق عند ملتقى القدم والساق (4).
    وقال المطرزي : الكعب : العقدة بين الانبوبين في القصب (5).
    وقال النسفي : الكعب : هو العظم المربع الذي عند معقد الشراك. والتكعب : التربع ، وسمّيت الكعبة بها لتربعها (6).
    إلى غير ذلك من كلمات أئمّة اللغة حيث ترى أنّ أكثرهم فسروه بالمفصل أو بقبّة القدم ، وعلى ذلك فليس لنا العدول عمّـا اتفقوا عليه إلى ما اختلفوا فيه.
1. الفخر الرازي : التفسير الكبير : 11/162.
2. الفيروزآبادي : القاموس المحيط : مادة كعب.
3. الجزري : النهاية : 4/178.
4. أحمد بن فارس بن زكريا : مجمل اللغة : 3/787.
5. المطرزي : المغرب في ترتيب المعرب : 2/222.
6. النسفي : طلبة الطلبة : 13.


(69)
    وثالثاً : أنّ تثنية الكعبين لا تدلّ على أنّ المراد هما العظمان في جانبي الساق ، وذلك لأنّه لو كان المراد من الكعب هو المفصل فتكون التثنية باعتبار أَنّ لكل إنسان كعبين ، ففي كلّ رِجْل كعب واحد فيكون فيهما كعبان ، وعند ذلك لا تكون التثنية دليلاً على أنّ المراد هو العظمان في جانبي الساق.
    ثم إنّ القائل لما تخيّل أَنّ المراد من الكعب هو العظم المستدير تحت عظم الساق ، اعترض بأنّ العظم المستدير في المفصل شيء خفيّ لا يعرفه إلاّ المتخصّص بعلم التشريح ، والعظمان الناتئان في طرفي الساق محسوسان معلومان لكلّ واحد ، ومناط التكليف يجب أن يكون أمراً ظاهراً لا أمراً خفياً.
    يلاحظ عليه : أنّ المراد من الكعب هو نفس مفصل الساق أو قبة القدم لا العظم المستدير المستتر تحته ، وهما ظاهران لكلّ إنسان.

    14. اجتهاد ابن عقيل الظاهري :
    ذكر الشيخ أبو عبد الرحمن بن عقيل الظاهري في مجلة « الفيصل » العدد 235 صفحة 48 ، أَنّ عطف الأرجل بالنصب على الأيدي جائز لأُمور :
    أوّلها : أنّ الفصل بين المتعاطفات جاء بجملة معترضة وهي المسح بالرؤوس ، والاعتراض بالجمل جائز.
    ثانيها : أنّ هذا الاعتراض لم يأت عبثاً ، بل اقتضته ضرورة ترتيب العمل في أعضاء الوضوء ومسح الرؤوس قبل غسل الأرجل.
    ثالثها : أنّ الاعتراض بمسح الرؤوس اعتراض يناسب أحكام الأرجل بعض الأحيان ، لأنّها تغسل تارة وتمسح أُخرى ، ويمسح ما عليها ثالثة (1).
1. ستوافيك الأحكام الثلاثة عند نقد هذا الوجه ( الثالث ).

(70)
    رابعها : أنّ قراءة النصب تحتمل العطف على الرؤوس في المسح من ناحية الموضع لا اللفظ ، فلما جاء البيان الشرعي القطعي أَنّ الأرجل تغسل علم يقيناً أَنّ المراد ، العطف على الأيدي والوجوه في الغسل ، فكان هذا بياناً يمنع من اللّبس الذي قد يحدثه الاعتراض بجملة.
    يلاحظ على الأوّل : لو سلم أَنّ الفصل بين المتعاطفات جائز ، فإنّما هو إذا لم يُحدث اللّبس ، خصوصاً أنّ الأقرب ( الرؤوس ) يمنع الأبعد ( الأيدي ) ، وبالأخصّ إذا كان هناك فصل بالفعل ، حيث قال تعالى بعد بيان حكم الغسل : ( وَامْسَحُواْ بِرُءُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْن ) ، إذن لا يشكّ القارئ في أنّها عطف على الأقرب وهي الرؤوس ، فلو كان معطوفاً على الأيدي عادت الآية على وجه يكون الظاهر غير مراد ، والمراد غير ظاهر.
    ويلاحظ على الثاني : أنّه يمكن الجمع بين بيان ترتيب العمل في أعضاء الوضوء وعدم إيقاع المخاطب في اللّبس بتكرار الفعل ، بأن يقول : وامسحوا برؤوسكم واغسلوا أرجلكم إلى الكعبين ، فلو كان المراد هو الغسل ، فلماذا لم يجمع بين وضوح البيان وبيان الترتيب ؟
    ويلاحظ على الثالث : أنّ الكاتب حاول تفسير الآية ، الواضحة الدلالة والناصعة البيان ، بالفتاوى المتضاربة لا لشيء إلاّ لأجل الموقف المسبق له في كيفيّة الوضوء ، وجعل يفسّـرها بالفتاوى المختلفة حول الأرجل ، وهي الغسل تارة ، والمسح أُخرى ، والمسح على الخفين ثالثة ، ومعنى ذلك أنّه تلقّى الآية مجملة ، فعاد يطلب توضيحها بفتاوى أئمّة الفقه ، وهذا بخس لحقّ الآية ، وإليك ملخّص كلامه :
    انّ للأرجل أحكاماً ثلاثة :


(71)
    أ ـ تغسل تارة ولا يجوز غير الغسل.
    ب ـ يجوز الغسل والمسح كما في الوضوء بعد وضوء غسلها فيه ولم ينقض وضوءه الأوّل بناقض.
    ج ـ يمسح ما عليها كالخفين.
    فبما لها من الأحكام الثلاثة المختلفة ، صارت الأرجل موضوعاً متوسطاً بين الوجوه والأيدي التي لا يعدل عن غسلها إلى غيره وبين الرؤوس التي لا يعدل عن مسحها إلى غيره ، فعند ذلك ناسب الاعتراض أي وقوع مسح الرؤوس بينما يتعين غسله كالوجوه والأيدي وما له حالات من الغسل والمسح ومسح ما عليها.
    ولما كان مبنى التيمم على التخفيف فقد بقيت الأعضاء الأبلغ وهي الوجه واليدان يمسح عليها في التيمم ، وسقطت الأعضاء الأخف وهي الرأس والرجلان.
    يلاحظ عليه : أنّه تفسير للآية بالظنون والوجوه الاستحسانية التي كانت مغفولة عنها للمخاطبين عند نزول الآية ، فإنّ هذه الأحكام الثلاثة للأرجل على فرض صحّتها لم تكن معلومة للمخاطبين بهذه الآية وما كانوا يعلمون من أحكام الأرجل إلاّ ما جاء في الآية.
    وأمّا الحكم الثاني والثالث فانّما وردا في كلام الصحابة بعد رحيل رسول اللّه ( صلّى اللّه عليه وآله وسلّم ).
    أمّا المسح في الوضوء بعد وضوء غسلها فيه ولم ينقض وضوءه الأوّل بناقض فقد نقل عن علي ( عليه السّلام ) وغيره كما سيوافيك.
    وأمّا المسح على الخفين فحدّث عنه ولا حرج فقد تضاربت فيه الأقوال :


(72)
    1 ـ جائز على الإطلاق.
    2 ـ يجوز في السفر دون الحضر.
    3 ـ عدم الجواز مطلقاً.
    قال ابن رشد ، بعد نقله هذه الأقوال : والأقاويل الثلاثة مرويّة عن الصدر الأوّل ، وعن مالك ، والسبب في اختلافهم ما يظن من معارضة آية الوضوء الوارد فيها الأمر بغسل الأرجل ، للآثار التي ورد فيها الأمر بالمسح ، مع تأخر آية الوضوء ، وهذا الخلاف كان بين الصحابة في الصدر الأوّل ، فكان منهم من يرى أنّ آية الوضوء ناسخة لتلك الآثار ، وهو مذهب ابن عباس.
    واحتجّ القائلون بجوازه ، بما رواه مسلم ، انّه كان يعجبهم حديث جرير ، وذلك انّه روى أنّه رأى النبي ( صلّى اللّه عليه وآله وسلّم ) يمسح على الخفّين ، فقيل له : إنّما كان ذلك قبل نزول المائدة ، فقال : ما أسلمت إلاّ بعد نزول المائدة (1)
    وقال المتأخرون القائلون بجوازه : ليس بين الآية والآثار تعارض ، لأنّ الأمر بالغسل انّما هو متوجه إلى من لا خفّ له ، والرخصة انّما هي للابس الخف.
    وأمّا من فرّق بين السفر والحضر ، فلأنّ أكثر الآثار الصحاح الواردة في مسحه ( عليه السّلام ) انّما كانت في السفر (2).
    على أنّ الدليل على جواز المسح على الخفين بعد نزول سورة المائدة هو حديث جرير ، وما روي انّه أسلم بعد نزول المائدة متعارض بحضوره حجة الوداع.
1. سيوافيك انّه أسلم قبل نزول سورة المائدة.
2. بداية المجتهد : 1/19.


(73)
    ففي الصحيحين عنه أنّ النبي ( صلّى اللّه عليه وآله وسلّم ) قال له : « استنصت الناس في حجة الوداع » ، وجزم الواقدي بأنّه وفد على النبي ( صلّى اللّه عليه وآله وسلّم ) في شهر رمضان سنة عشر وانّ بعثه إلى ذي الخلصة كان بعد ذلك ، وانّه وافى مع النبي حجة الوداع من عامه.
    ويؤيد ذلك أنّ جريراً روى عن النبي أنّ رسول اللّه قال : إنّ أخاكم النجاشي قد مات ، فهذا يدلّ على أنّ إسلام جرير كان قبل سنة عشر لأنّ النجاشي مات قبل ذلك (1).
    مع أنّ قسماً من آيات المائدة نزلت في حجة الوداع باتفاق العلماء ، أعني : قوله سبحانه : ( اليَوْمَ أكمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وأتْمَمْتُ عَلَيْكُم نِعمَتِي ورَضِيتُ لَكُمُ الإسلامَ دِيناً فَمَنِ اضطُرَّ فِي مَخْمصَةٍ غَيرَ مُتَجَانِفٍ لإثْمٍ فإنّ اللّهَ غَفُورٌ رَحِيم ) ( المائدة ـ 3 ).
    روى الرازي : قال أصحاب الآثار : إنّه لما نزلت هذه الآية على النبي لم يعمّر بعد نزولها إلاّ أحداً وثمانين يوماً أو اثنين وثمانين يوماً ، ولم يحصل في الشريعة بعدها زيادة ولا نسخ ولا تبديل (2).
    فالعقل السليم يدفعنا إلى القول بأنّ الآية واضحة الدلالة لا نحتاج في فهم مدلولها إلى وجوه استحسانية.
    وأمّا الوجه الرابع الذي استند إليه الشيخ عبد الرحمن الظاهري فيرجع لبّه إلى أنّ الآية مجملة محتملة للوجهين حيث يحتمل عطفها على الأيدي والوجوه فلازمه الغسل كما يحتمل أنّه عطف على الرؤوس فلازمه المسح ، فعند ذلك جاء البيان الشرعي القطعي فأثبت الأوّل.
1. الاصابة : 1/233 ـ 234.
2. الرازي : التفسير الكبير : 3/369.


(74)
    يلاحظ عليه : بأنّ معنى ذلك كون الآية من المجملات مع أَنّها من أوضح المحكمات ، وما حكم الكاتب على إجمالها إلاّ لِصيانة مذهبه الفقهي في حكم الأرجل ولولا هذا الأمر لتلقّى الآية واضحة الدلالة ، ناصعة البيان.
( يَا اَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لأ تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللّهِ وَرَسُولِهِ وَاتَّقُوا اللّهَ اِنَّ اللّهَ سَميعٌ عَليمٌ )
( الحجرات ـ 1 )


(75)
    الفصل الرابع :
مسح الأرجل في الأحاديث
    قد عرفت دلالة الكتاب على المسح ، وأَنّ القول بدلالته على الغسل تحريف لظاهره وتفسير للآية بما هو خارج عنها ، مع أنّها من محكمات الآيات ، وقد نزلت لتعليم الوضوء لعامّة الناس ، فيجب أن تكون واضحة الدلالة ، مبيّنة المراد ، غير محتاجة إلى ضمّ ضميمة ، فمن أراد تفسير الآية بالأُمور الخارجة عنها فكأنّه تلقّاها آية مجملة ، أو متشابهة المراد ، أو أنّها نزلت لا لبيان التكليف ؛ ومن حسن الحظّ أَنّ هناك طائفة من الروايات تؤيّد ظاهر الآية ، وهي على قسمين :
    أ ـ ما روي عن النبي ( صلّى اللّه عليه وآله وسلّم ) بأسانيد.
    ب ـ ما حكي عن الصحابة والتابعين حول مسح الأرجل ، وقد جرت سيرتهم على الاقتداء بالنبي ( صلّى اللّه عليه وآله وسلّم ) قولاً وفعلاً وتقريراً ، فلا تقصر حجيّةً عن الأحاديث النبوية ، ومع ذلك فقد أفرزناها عن الأحاديث المروية عن النبي ( صلّى اللّه عليه وآله وسلّم ).

    أ ـ ما روي عن النبي ( صلّى اللّه عليه وآله وسلّم ) حول مسح الرجلين :
    1 ـ في مسنـد أحمـد بن حنبل : حدثنا عبد اللّه ، حدثني أبي ، حدثنـا ابن الأشجعي ، حدثنا أبي ، عن سفيان ، عن سالم أبي النضر ، عن بسر بن سعيد قال :
الوضوء على ضوء الكتاب والسنّة ::: فهرس