فهذا التنزيه إن صح هو الذي ينقم عليه به لأنه تكفير مسلم يبوء به أحدهما من غير دليل ، وكيف وما سلم من هذا التكفير أم المؤمنين عائشة الصديقة رضي الله عنها ومن وافقها من الصحابة والتابعين في نفي الرؤية ـ ولكن المحدّثين لم يعرفوا مقدار الخطأ في الكلام ، لأنه غير صنعتهم ـ وكل صاحب سلعة لا يعرض إلا سلعته ، فنقر عن هذا المعنى وخذ في كل فن عن أئمته ، وإياك والدخيل فيه ـ وتراهم يكررونه فمن أرادوا تنزيهه ، أومدحه قالوا :
من قال : القرآن مخلوق فهو كافر ـ ذكروا هذا في جماعة ، منهم ابن لهيعة وغيره بل قالوا : ترك المحاسبي ميراث أبيه وقال :
أهل ملتين لا يتوارث (1) لأن أباه كان واقفيّاً .
وقال يحيى بن معين أمير الجرح والتعديل :
كان عمرو بن عبيد دهرياً ! قيل : وما الدهري ؟ قال : يقول : لا شيء ... وما كان عمرو هكذا (2) .
فلو طلبت أعظم المتكلين ، بل القصاص المجازفين لا تكاد تجد من يتجاسر هذا التجاسر على رجل علمه ، وزهده ، وتألهه ، مثل الشمس في الضحى ، وقد تبعه شطر هذه البسيطة .
وقال يحيى بن معين في عنبسة بن سعيد بن العاص بن أمية ثقة ـ وهو جليس الحجاج بن يوسف ، وكذا قال النسائي ، وأبو داود ، والدارقطني ، بل روى له البخاري ومسلم ، وروى البخاري لمروان بن الحكم الذي رمى طلحة وهو في جيشه والمتسبب في خروجه على عليّ ، وفعل كل طامّة .

____________
(1) و (2) راجع تعريفهم للصحابي الذي مرّ تحت عنوان : من هو الصحابي .

( 116 )

وقال ابن حجر العسقلاني وهو إمام المتأخرين ( كامل ) في ترجمة مروان :
إذا ثبتت صحبته لم يؤثر الطعن فيه !!
كأن الصحبته نبوّة ، أو أن الصحابي معصوم (1) ! وهو تقليد في التحقيق بعد أن صارت عدالة الصحابة مسلّم بها عند الجمهور .
والحق أن المراد بذلك ( الغلبة ) فقط ، فإن الثناء من الله تعالى ورسوله ـ وهو الدليل على عدالتهم ـ لم يتناول الأفراد بالنصوصية إنّما غايته عموم ، مع أن دليل شمول الصحبة لمطلق الرأي (2) ونحوه ركيك جداُ ، وليت شعري من المخاطب الموصي ؟ وهل هو عين الموصى به في نحو قوله صلى الله عليه وسلم لا تسبوا أصحابي فلو أنفق أحدكم مثل أُحد ذهباً لم يبلغ مد أحدهم ولا نصيفه .
فانظر أسباب تلك الأحاديث (3) وهو وقوع شيء من متأخري الإسلام في حق بعض السابقين ، كما قال لعمار رضي الله عنه أيسبني هذا العبد ! .
وإذا أردت تعميم اسم الصحبة من الطرف الأعلى إلى الأدنى ، أعني من السابقين إلى من ثبت له مطلق الرؤية ، فانظر مواقع الممادح التي كانت في الكتاب والسنة وأفرق بين ما يقضي بالدرجة المنيفة التي أقل أحوالها العدالة وما يقضي بنوع شرف ، مع أنّه ربّما جاء تفريق النبوي صريحاً كقوله صلّى الله عليه وسلم في بعض فقراء الصحابة :
« هو خير من ملء الأرض مثل هذا » .

____________
(1ـ2) راجع تعريفهم للصحابي الذي مرّ تحت عنوان : من هو الصحابي .
(3) قيل هذا الحديث عندما تقاول عبد الرحمن بن عوف ، وخالد بن الوليد في بعض الغزوات فأغلظ له خالد في المقال ، ولمّا بلغ ذلك رسول الله قال : لا تسبوا أصحابي الحديث ـ فهو إذاً في مناسبة خاصة والحديث رواه مسلم .

( 117 )

يعني بعض الرؤساء من متأخري الإسلام .
وعلى الجملة فمن تتبع تلك الموارد ، وسوى بين الصحابة فهو أعمى ، أو متعام .
فمنهم من علمنا عدالتهم ضرورة وهو الكثير الطبيب ، ولذا قلنا ( إنها غالبية فيهم ) بحيث يسوغ ترك البحث في أحوالهم .
ومن الصحابة نوادر ظهر منهم ما يخرج عن العدالة فيجب إخراجه ( كالشارب ) (1) من العدالة لا من الصحبة .
ومنهم من أسلم خوف السيف كالطلقاء (2) وغيرهم .
فمن ظهر حسن حاله فذاك . وإلاّ بقي أمره في حيز المجهول وهم في حيّز الندور ، ومع هذا فالعدالة غير العصمة ، وقد غلا الناس فيمن نبتت صحبته في التعنت في إثبات العدالة .
فلو سلّمنا شمول الصحبة ، ثم العدالة لم يبلغ الأمر إلى الحدّ الّذي عليه غلاة الرواة .
ولو نفعت الصحبة نحو بشر بن مروان على نحو الثبوت ، أو الوليد لتبين لنا ، أن الصحبة لا يضر معها عمل غير الكفر فتكون الصحبة أعظم من الإيمان ، ويكون هذا أخص من مذهب مقاتل ، وأتباعه من المرجئة . ثم أين أحاديث ( لا تدري ما أحدثوا بعدك ) وهي متواترة المعنى ، بل لو أدعي في بعضها تواتر اللفظ لساغ ذلك ، والمدّعون للسنة أدعوا الصحبة او ثبوتها لمن لم يقض له بها دليل ، وفرعوا عليها ما ترى . ثم بنوا الدين على ذلك ألم يقل الله ( إن جاءكم فاسق بنبأ فتبينوا ) في رجل متبين صحبته (3) ولم تزل حاله مكشوفة مع الصحبة .

____________
(1) أي شارب الخمر .
(2) كابي سفيان ومعاوية . ومن معهما .
(3)اي إنه من الصحابة وهو الواليد بن عقبة .

( 118 )

ومنهم من شرب الخمر (1) ، وما لا يحصى مما سكت عنه رعاية لحق النبي صلّى الله عليه وسلّم ما لم يلجىء إليه ملجأ ديني فيجب ذكره .
ومن أعظم الملجئات ترتب شيء من الدين على رواية مروان ، والواليد بن عقبة(2) وغيرهما ، فإنها أعظم خيانة لدين الله ، ومخالفة لصريح الآية الكريمة ، والنقم بذلك لا يعود على جملة الصحابة بالنقص ، بل هو تزكية لهم فإيّاك والاغترار .
ولا شك أن البخاري من سادات المحدثين الرفعاء ـ فما ظنّك بمن دونه ومع هذا تجنب ( البخاري ) مالا يحصى من الحفاظ العباد كما يخبرك عنه كتب الجرح والتعديل ، وعلي بن المديني تجنبه مسلم .
وقال العجلي في عمر بن سعد بن وقاص تابعي ثقة روى عنه الناس . وهو الذي باشر قتل الحسين .
فقل لي أي جرح في الدين أكبر من هذا ! وهذا تنبيه .
وإلاّ فهذا باب لو فتح وصنّف فيه لكان فناً كبيراً ، وكذلك سائر الكلام من المحدّثين في مخالفيهم في العقائد فاختبره ، وشاهد هذه الدعوى من كتب الجرح ، فتأمل كلامهم في الموافق ، والمخالف ، واجعله من شهادة الأعداء ، وأهل الإحن .
وليتهم جعلوا ذلك باطناً ، وظاهراً ، ولكن يقولون :
نحن نروي عن المبتدعة ثم يعاملونهم هذه المعاملة .
قال يحيى بن معين : وقيل له في سعيد بن خالد البجلي حين وثّقه ( شيعي ) .

____________
(1) كقدامة بن مظعون .
(2) هو الذي نزلت فيه الآية
( إن جاءكم فاسق بنبأ فتبينوا ) .

( 119 )

قال : وشيعيّ ثقة ، وقدريّ ثقة .
وقال العجلي : كذالك في عمران بن حطان ثقة وهو خارجي مدح ابن ملجم (1) لعنه الله بقوله :
يا ضربة من تقي ما أراد بها * إلاّ ليبلغ عند الله رضوانا

فانظر عمن رضي بقتل علي ، وعمن قتله طلحة ، وعمن قتل الحسين ، وتوثيقهم لهم .
وأما علماء الأمّة ، وحفاظها كحماد بن سلمة الإمام ، ومكحول العالم الزاهد ، فتجنبهم مثل البخاري ومسلم ايضاً .
وقد اختلفت عقائد المحدثين ، فترى الرجل الواحد تختلف فيه الأقوال حتى يوصف بأنّه أمير المؤمنين ، وبأنه اكذب الناس ، أو قريب من هاتين العبارتين ، وانظر الصحيحين كم تحامى صاحباهما من الأئمة الكبار الذين يتطلب النقم عليهم تطلّباً ، ولو نظر تجنب افضلهم لاضمحل ، ولما أثر في ظن صدقهم إلا كقطرة دم في بحر يم ـ وفي رجالهما من صرّح كثير من الأئمة بجرحهم ، وتكلم فيهم من تكلّم بالكلام الشديد ، وإن كان لا يلزمهما ـ أعني صاحبي الصحيحين ـ إلاّ العمل باجتهادهما .
وأعجب من هذا أن في رجالهما من لم يثبت تعديله ، وإنما هو في درجة المجهول ، أو المستور .
قال الذهبي : في ترجمة حفص بن بغيل قال ابن القطان : لا يعرف له حال ولا يعرف ، يعني فهو مجهول العدالة ، ومجهول العين ، فجمع الجهالتين .
قال الذهبي : لم أذكر هذا النوع في كتابي « الميزان » .

____________
(1) ابن ملجم هو الذي اقترف إثم قتل عليّ رضي الله عنه .
( 120 )

قال ابن القطان : تكلم في كل ما لم يقل فيه إمام عاصر ذلك الرجل ، أو أحد ممن عاصره ما يدل على عدالته ، وهذا شيء كثير ، ففي الصحيحين من هذا النمط خلق كثير مستورون ما ضعّفهم أحد ، ولا هم مجاهيل ؛
وقال في ترجمة مالك بن خير الزبادي :
في رواة الصحيحين عدد كثير ما علمنا أحداً نصّ على توثيقهم .
فانظر : هذا العجب . يروي عمن حاله ما ذكر ، ويترك أئمة مشاهير مصنفين لأنهم قالوا بخلق القرآن ، أو وقفوا ، أو نحو ذلك .
والعجب هنا من مجاملة الذهبي بقوله : ولا هم مجاهيل ، فمن لم يعلم عدالته لم تشمله أدلّة قبول خبر الآحاد الخاصة بالعدول ، واللإصطلاح على تسميته مستوراً لا يدخله في العدول الذين تتناولهم أدلّة قبول الأحاد ، فهذا تفريط ، وإفراط !
يترك ابا حنيفة ، ومحمد بن الحسن ، وابن إسحاق ، وداود الظاهري .
ومنهم : من أذعن له الناس في المغازي ، ومنهم : من تبعه شطر أهل البسيطة ، ثم يروي عن مستور لا يعلم من هو ، ولا ما هو .
وليس مرادنا الحط من الصحيحين ، ولكن ليعلم أن الخلاف دخلت مفسدته في كل شعب ، فهذا هو ما نحن بصدده من التنقير عن الخلاف فاعلمه ا هـ باختصار (1) .
ثم قال المقبلي في ذيل هذا الكتاب المسمى بالأرواح النوافخ فيما شرح به قوله (2) :

____________
(1) من كتاب العلم الشامخ للمقبلي .
(2) ص 687 ـ 688 .

( 121 )

وادعوا الصحبة وأثبتوها لمن لم يقض له بها دليل :
وجه هذا الكلام ما كررناه أنهم يصطلحون على شيء في متأخر الأزمان ، ثم يفسرون الكتاب ، والسنة باصطلاحهم المجدّد .
والصحبة ليس فيها لسان شرعي ، إنما هي بحسب الّلغة وكذلك سائر الألفاظ التي وردت بها فضائل الصحابة ، لكن المحدثون اصطلحوا أو قضوا بغير دليل ، على أن الصحبة لكل من رأى النبي ، أو رأى هو النبي ولو طفلاً ، بشرط أن يكون محكوماً بإسلامه ، ويموت على ذلك ، ولا يرتد .
ولا يشك منصف بل عاقل أن هذه القيود أمر اصطلاحي لا تقضي اللغة بها ، لأن الاشتقاق إنما هو من صحب ، لا من رأى أو رئي تحقيقاً أو تقديراً ، ليدخل الأعمى .
وكان عليهم أن يقولوا تقديراً قريباً أو نحوه ليخرج المعاصر الذي لم يره ، بل ليخرج كلّ احد ، إذ التقدير بحر واسع ، فهذا اصل الخطأ في هذه المسألة كما قد حذرناك من هذه الغلطة التي وقع الناس كثيراً فيها .
ثم بعد أن تم لهم تعريف الصحبة ذيلوها باطراح ما وقع من مسمى الصحابي منهم من يتستر بدعوى الاجتهاد ، دعوى تكذبها الضرورة في كثيرة من المواضع .
ومنهم من يطلق ! ويا عجباه من قلة الحياء في ادعاء الاجتهاد لبسر ابن أرطأه (1) ، الذي انفرد بأنواع الشر لأنه مأمور المجتهد معاوية ناصح
____________
(1) نقل الحافظ ابن حجر في الإصابة أن معاوية وجه بسر بن أرطأة إلى اليمن والحجاز وأمره أن ينظر من كان في طاعة علي فيوقع بهم ويقتلهم ، وهو الذي قتل طفلين لعبيد الله بن عباس ، ولأمهما عائشة بنت المدان قصيدة في ذلك نكتفي منها بهذا البيت :
أنحى عليّ ودجى اني مرهفة * مشحوذة وكذلك الإثم يقترف
ثم وسوست فكانت تقف في الموسم تنشد هذا الشعر وتهيم على وجهها .


( 122 )

الإسلام في سبّ عليّ بن أبي طالب وحزبه . وكذلك مروان ، والوليد الفاسق ، وكذلك الاجتهاد الجامع للشروط في البيعة ليزيد ومن أشار بها ، وسعى فيها ، أو رضيها وما لا يحصى ، والله ما قال قائلهم ذلك نصحاً لله ولرسوله ، اللهم إلا مغفل لا يدري ما يخرج من رأسه ـ قد سلم مقدمات وغذّى لحمه ، وعروقه بالهوى ، والتقليد ، وعوّد جسمه ما اعتاد ، فصار بذلك غذاؤه . ثم أخذ يتجاسر في البناء على ذلك ، كنظائر لها قلّما يخلو منها أحد ، وان اختلفت مكانتها في الدين . غايته أن الورع يتحرز من الرضا بتلك الطوام ، فمن غاب عن المعصية ثم رضيها ، كان كمن حضرها ، والعكس كما صرّح به الحديث النبوي ...ا هـ (1) * .

____________
(1) ممن جعلوهم من الصحابه من لمز النبي صلّى الله عليه وسلم في الصدقات ومنهم من آذاه وقال : ( هو أذن ) ومنهم من اتخذوا مسجداً ضراراً وتفريقاً بين المؤمنين ، ومنهم من كان في قلبه مرض ومنهم : المعوقون ، ومنهم الذين اعتذروا في غزوة تبوك وكانوا بضعة وثمانين رجلا ، وحلفوا للنبي فقبل منهم علانيتهم فنزل فيهم قوله ( سيحلفون بالله لكم إذا انقلبتم إليهم لتعرضوا عنهم فأعرضوا عنهم إنهم رجس ومأواهم جهنّم جزاء بما كانوا يكسبون * يحلفون لكم لترضوا عنهم فإن ترضوا عنهم فإن الله لا يرضى عن القوم الفاسقين ) .
وفي هذه الغزوة هم أربعة عشر منافقاُ أن يفتكوا برسول الله في ظلمات الليل عند عقبة هناك . ولما انصرف النبي من هذه الغزوة إلى المدينة كان في الطريق ماء يخرج من وشل بوادي المشقق فقال رسول الله : من سبقنا إلى ذلك الماء فلا يسقين منه شيئاً حتى نأتيه . فسبقه إليه نفر من المنافقين واستقوا ما فيه فلما أتاه رسول الله ! وقف عليه فلم ير فيه شيئاً ، ولما علم النبي بأمر المنافقين قال : أولم ننههم أن يستقوا منه شيئاً حتى نأتيه ثم لعنهم ودعا عليهم .
وبحسبك أن تجد أن في القرآن سورة تسمّى سورة المنافقين . وسيأتيك بيان مفصل عن المنافقين في غزوة تبوك .
وروى البخاري عن زيد بن ثابت : لما خرج النبي إلى أحد رجع ناس من أصحابه فقالت فرقة منهم : نقتلهم وقالت فرقة : لا نقتلهم ، نزلت الآية الكريمة : (فما لكم في المنافقين فئتين والله أركسهم بما كسبوا... )الآية قال الراغب في مفرداته :« أركسهم أي ردّهم إلى كفرهم ـ والكلام في هذا الباب ـ كثير جداً .
(*) أضواء على السنة المحمدية ص 344ـ 353.


( 123 )

شمول الصحبة ومميزاتها
كما أن الصحبة تشمل من مردوا على النفاق ، والذين ابتغوا الفتنة من قبل ، وقلبوا لرسول الله الأمور ، واظهروا الغدر ، حتى جاء الحق وظهر أمر الله وهم كارهون .
وفيهم : من كان يؤذي رسول الله وقد وصفهم الله بقوله :
( ومنهم الذين يؤذون النبي ويقولون هو أذن .. والذين يؤذون رسول الله لهم عذاب أليم ) (1) . و ( إنّ الذين يؤذون الله ورسوله لعنهم الله في الدنيا والآخرة وأعدّ لهم عذاباً مهيناً ) (2) .
وفيهم المخادعون والذين يظهرون الإيمان وقد وصفهم الله تعالى بقوله :
( ومن الناس من يقول آمنّا بالله وباليوم الآخر وما هم بمؤمنين * يخادعون الله والذين آمنوا وما يخدعون إلاّ أنفسهم وما يشعرون ) (3).
( وإذا لقوا الذين آمنو قالوا آمنّا وإذا خلوا إلى شياطينهم قالوا إنّا معكم إنّما نحن مستهزئون ) (4) .
( ومنهم من عاهد الله لئن آتانا من فضله لنصدّق ولنكونّن من الصالحين * فلما آتاهم من فضله بخلوا به وتولوا وهم ومعرضون * فأعقبهم نفاقاً في قلوبهم إلى يوم يلقونه بما اخلفوا الله ما وعدوه وبما كانوا يكذبون ) (5) .
والحاصل أن الصحبة منزلة عظيمة ، وفضيلة جليلة ، وهي

____________
(1) سورة التوبة : الآية 61 .
(2) سورة الاحزاب : الاية 57 .
(3) سورة البقرة : الايتان 8 ـ 9 .
(4) سورة البقرة : الآية 14 .
(5) سورة التوبة : الآيات 75ـ 76ـ 77 .

( 124 )

بعمومها تشمل من امتحن الله قلبه للإيمان ، واخلص لله ، وجاهد ، وناصر ، ومن رقى درجة الكمال النفساني . فكان مثالاً لمكارم الأخلاق ، وهم يخشون الله ، ويمتثلون أوامره ، كما وصفهم الله بقوله :
( إنما المؤمنون الذين إذا ذكر الله وجلت قلوبهم وإذا تليت عليهم آياته زادتهم إيماناً وعلى ربهم يتوكلون * الذين يقيمون الصلاة وممّا رزقناهم ينفقون * أولئك هم المؤمنون حقاً لهم درجات عند ربّهم ومغفرة ورزق كريم ) (1) .
كما أنها لم تشمل من لم يدخل الإيمان قلبه :
( يقولون بألسنتهم ما ليس في قلوبهم ) (2) .
ليت شعري ما هذه العصمة ، أكانت في حياة النبي صلّى الله عليه وآله وسلم أم بعده ؟! فإن كانت في حياته فما أكثر الشواهد على نفي ذلك :
أخرج البيهقي بسنده عن أبي عبدالله الأشعري عن أبي الدرداء قال :
قلت : يارسول الله بلغني أنك تقول :
ليرتدن أقوام بعد إيمانهم قال صلّى الله عليه وآله وسلم : أجل ولست منهم (3).
ومن الغريب أن البعض علّل ذلك بأن المراد من هؤلاء المرتدين ، هم الذين قتلوا عثمان ، وإن أبا الدرداء مات قبل قتل عثمان ، وبهذا التوجيه يتوجه الطعن على أكثر الصحابة ، فإنهم اشتركوا بقتل عثمان ،

____________
(1) سورة الأنفال : الآيات 2ـ 3ـ 4
(2) سورة الفتح : الآية : 11.
(3) تاريخ ابن كثير : 6 / 170

( 125 )

والمتخلفون عن ذلك عدد لا يتجاوز أصابع الكف .
وبمقتضى هذا التأويل يدخل في قائمة الحساب عدد كثير هو أضعاف ما في قائمة الشيعة من المؤاخذات ، ومن الشواهد على نفي العدالة في زمان النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم :
1ـ كان رجل يكتب للنبي صلّى الله عليه وآله وسلم ، وقد قرأ البقرة ، وآل عمران ، فكان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يملي عليه غفوراً ، رحيماً ، فيكتب : عليماً ، حكيما . فيقول له النبي : اكتب كذا وكذا فيقول : أكتب كيف شئت ، ويملي عليه عليماً حكيماً فيكتب : سميعاً بصيراً وقال :
انا أعلمكم بمحمد . فمات ذلك الرجل . فقال النبي صلّى الله عليه وآله وسلم :
الأرض لا تقبله .
قال انس : فحدثني أبو طلحة ، أنه أتى الأرض التي مات فيها الرجل ، فوجده منبوذاً فقال أبو طلحة :
ما شأن هذا الرجل ؟ قالوا : دفناه مراراً فلم تقبله الأرض .
قال ابن كثير : وهذا على شرط الشيخين ولم يخرجاه (1) .
2ـ وهذا الوليد بن عقبة بن أبي معيط الذي سماه الله فاسقاً حينما ارسله النبي صلّى الله عليه وآله على صدقات بني المصطلق فعاد وأخبر النبي صلّى الله عليه وآله وسلم أنهم خرجوا لقتاله فأراد أن يجهز لهم جيشاً فأنزل الله فيه :
( يا أيها الذين آمنو إن جاءكم فاسق بنبأ فتبينوا أن تصيبوا قوماً بجهالة ... ) ( الآية ) فقد كان في عداد الصحابة ، فأين العدالة من

____________
(1) تاريخ ابن كثير : 6 / 170 .

( 126 )

الفاسق ؟! (1) .
3ـ وهذا الجد بن قيس أحد بني سلمة نزلت فيه :
( ومنهم من يقول إئذن لي ولا تفتني ألا في الفتنة سقطوا وإن جهنم لمحيطة بالكافرين ) (2) .
4ـ وهذا مسجد ضرار ، وما ادراك ما مسجد ضرار قد بناه قوم ، وسموا بالصحبة يتظاهرون فيه بأداء الصلاة في اوقات لا يسعهم الوصول إلى النبي صلّى الله عليه واله وسلم ، ولكن فضح الله سرهم ، وأبان أمرهم فهم منافقون .
وانزل الله فيهم :
( والذين اتخذوا مسجداً ضراراً وكفراً وتفريقاً بين المؤمنين وإرصادأ لمن حارب الله ورسوله من قبل وليحلفن إن أردنا إلاّ الحسنى والله يشهد إنهم لكاذبون ) (3) .
وكانوا إثني عشر رجلا من المنافقين منهم :
خذام بن خالد بن عبيد ، ومن داره أخرج المسجد .
ومعتب بن قشير ، وأبو حبيبة بن ابي الأزعر وغيرهم (5) .
5ـ وهذا ثعلبة بن حاطب بن عمر بن أمية ممن شهد بدراً واحداً فقد منع زكاة ماله ، فأنزل الله فيه :
( ومنهم من عاهد الله لئن آتانا من فضله لنصدقن ولنكونن من الصالحين * فلما آتاهم من فضله بخلوا به وتولّوا وهم

____________
(1) تفسير ابن كثير : 4/ 212 .
(2) سيرة ابن هشام : 2/ 332 .
(3) سورة التوبة : الآية 107 .
(4) سيرة ابن هشام : 1/ 341 ، وتفسير ابن كثير 2/ 388 .

( 127 )

معرضون ) (1) .
وكان ثعلبة هذا من الصحابة ملازماً لأداء الصلاة في أوقاتها ، وكان فقيراً معدماً ، فقال لرسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم :
ادع لي أن يرزقني مالاً فقال صلّى الله عليه وآله وسلم :
ويحك يا ثعلبة قليل تشكره خير من كثير لا تطيقه .
فقال ثعلبة :
والذي بعثك في الحق نبيّاً لئن دعوت الله فيرزقني مالاً لاعطين كل ذي حق حقّه .
فقال رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم :
اللهم ارزق ثعلبة مالا ، فزاد وفره ، وكثر ماله ، وامتنع من أداء زكاته فأعقبه نفاقاً إلى يوم يلقاه بما أخلف وعده وكان من الكاذبين .
6ـ وهذا ذو الثدية كان في عداد الصحابة متنسكاً عابداً ، وكان يعجبهم تعبّد واجتهاده فأمر النبي بقتله ، وكان صلّى الله عليه وآله وسلم يقول :
إنه لرجل في وجهه لسفعة من الشيطان ، وارسل ابا بكر ليقتله فلما رآه يصلّي رجع وارسل عمراً فلم يقتله ثم أرسل عليّاً عليه السلام فلم يدركه (2) وهو الذي ترأس الخوارج وقتله علي عليه السلام يوم النهروان .
7ـ وهؤلاء قوم وسموا بالصحبة كانوا يجتمعون في بيت سويلم يثبطون الناس عن رسول الله صلّى الله عليه وآله فأمر من أحرق عليهم بيت سويلم (3) .

____________
(1) سورة التوبة الآيتان: 75و 76 .
(2) الإصابة في تميز الصحابة : 1/429.
(3) سيرة ابن هشام : 3/235 .

( 128 )


8ـ وهذا قزمان بن الحرث شهد أحداً ، وقاتل مع النبي صلّى الله عليه وآله وسلم قتالاً شديداً فقال أصحاب النبي صلّى الله عليه وآله وسلم ما أجزأ عنا أحد كما أجزأ عنّا فلان فقال النبي صلّى الله عليه وآله وسلم :
أما إنه من أهل النار .
ولمّا أصحابته الجراحة وسقط فقيل له :
هنيئاً لك بالجنّة يا ابا الغيداق .
قال : جنة من حرمل ، والله ما قاتلنا إلا على الأحساب (1) .
9ـ وهذا الحكم بن أبي العاص بن أميّة بن عبد شمس طريد رسول الله ولعينه وهو والد مروان وعم عثمان .
حدث الفاكهي بسند عن الزهري ، وعطاء الخراساني أن أصحاب محمد صلّى الله عليه وآله دخلوا عليه وهو يلعن الحكم فقالوا : يارسول الله ما باله ؟ فقال :
دخل عليّ شق الجدار وأنا مع زوجتي فلانة .
ومرّ النبي بالحكم فجعل الحكم يغمز النبي بإصبعه فالتفت فرآه فقال :
اللهم اجعله وزغاً فزحف مكانه (1) . وكان يسمى خيط الباطل .
وقال صلّى الله عليه وآله فيه :
ويل لأمتي مما في صلب هذا .
ومن حديث عائشة أنها قالت لمروان بن الحكم :
أشهد أن رسول الله لعن اباك وأنت في صلبه .

____________
(1) الإصابة : 3/ 235 .

( 129 )

10ـ وهذه أم المؤمنين عائشة لم يثبت لها صلّى الله عليه وآله الايمان كما حدث كثير بن مروة عنها :
إن النبي صلّى الله عليه وآله قال : أطعمينا يا عائشة قالت : ما عندنا شيء .
فقال أبو بكر :
إن المرأة المؤمنة لا تحلف أنه ليس عندها شيء وهو عندها .
فقال النبي صلّى الله عليه وآله :
ما يدريك أنها مؤمنة ؟
انّ المرأة المؤمنة في النساء كالغراب الأبقع في الغربان (1) .
وهذا إنكار من النبي صلّى الله عليه وآله على القطع بالعدالة ، والإيمان .
ولو كان كما يدعى لقال مؤيداً لقول أبي بكر . نعم إنها مؤمنة ، وزوجة نبي ومن أهل الجنة ، ولكنة صلّى الله عليه وآله لم يرض بذلك الاعتقاد ، وإنما الأمور منوطة بالعمل وحسن الخاتمة.
ويدل على ذلك أنه صلّى الله عليه وآله عاد كعباً في مرضه فقالت أم كعب : هنيئاً لك الجنة يا كعب ، فقال صلّى الله عليه وآله:
من هذه المتالية على الله عزوجل ؟
قال كعب : هي أمي يارسول الله .
فقال صلّى الله عليه وآله :
وما يدريك يا أم كعب ، لعل كعباً قال ما لا يعنية ، ومنع ما لا يغنية (2) .

____________
(1) علل الحديث لا بن أبي حاتم : 1/439.
(2)تاريخ بغداد : 4/273 .

( 130 )

11ـ وأخرجا النسأئي في صحيحه عن ابن عباس في نزول قوله تعالى :
( ولقد علمنا المستقدمين منكم ولقد علمنا المستأخرين ) أنه قال :
كانت امرأة تصلّي خلف رسول الله صلّى الله عليه وآله حسناء من أحسن الناس ، وكان بعض القوم يتقدّم لئلا يراها ، ويستأخر بعضهم حتى يكون في الصف المؤخر ، فإذا ركع نظر من تحت إبطه ليراها . فأنزل الله فيهم ذلك .
12ـ وأخرج ابن حنبل من طريق ابن عباس ، وابن عمر أنها سمعا النبي صلّى الله عليه وآله على منبره يقول :
لينتهين اقوام عن ودعهم الجماعات ، أو ليختمن الله على قلوبهم ثم ليكتبن من الغافلين (1) .
13ـ وأخرج أحمد في مسنده : عن عبدالله بن مسعود عن النبي صلّى الله عليه وآله أنه قال لأصحابه : أنا فرطكم على الحوض ولأنازعن أقواما ثم لأغلبن عليهم فأقول : يا ربي اصحابي ، فيقول :
إنك لا تدري ما أحدثوا بعدك (2) .
وأخرج عن ابن مسعود ايضاً بلفظ : وأني ممسك بحجورك إن تهافقوا في النار كتهافت الفراش (3) .
وأخرج الترمذي عن النبي (ص) ويؤخذ من أصحابي برجال ذات اليمين ، وذات الشمال فأقول : ياربي أصحابي فيقال : إنك لا تدري

____________
(1) مسند أحمد : 5/40 .
(2) مسند أحمد : 5/231 .
(3) مسند أحمد : 6/51 .

( 131 )

ما أحدثوا بعدك ، فإنهم لم يزالوا مرتدين على أعقابهم منذ فارقتهم ، فأقول كما قال العبد الصالح : إن تعذبهم فإنّهم عبادك (1)
وأخرج مسلم من طريق عائشة بلفظ :
إني على الحوض انتظر من يرد عليّ منكم فوالله لينقطعن رجال فلأقولن أي ربي ... الحديث . وأخرج مثله من طريق أم سلمة(2) .
ولعلّ الاستمرار بذكر الشواهد ـ وما أكثرها ـ يوجب الإطالة ، والإطالة توجب الملل فلهذا نكتفي بالقليل من البيان حول الشواهد على نفي العدالة المزعومة :
« لكل من هب ، ودرج » .
والحق أن الصحبة بما هي فضيلة جليلة لكنها غير عاصمة ، فإن فيهم العدول ، والأولياء والصديقون ، وهم علماء الامة ، وحملة الحديث ، وفيهم مجهول الحال ، وفيهم : المنافقون وأهل الجرائم كما أخبر تعالى بقوله :
( وممن حولكم من الأعراب منافقون ومن أهل المدينة مردوا على النفاق لا تعلمهم نحن نعلمهم سنعذبهم مرتين ثم يردون إلى عذاب عظيم ) (3).
وفيهم : من كان يؤذي رسول الله صلّى الله عليه وآله :
( والذين يؤذون رسول الله لهم عذاب أليم ) (4) .

____________
(1) صحيح الترمذي : 2/67 .
(2) صحيح مسلم : 4/65 ـ 67 .
(3) سورة التوبة : الآية 101 .
(4) سورة التوبة : الآية 61 .

( 132 )

فإلى الله نبرأ من هؤلاء ، وممن ( اتخذوا أيمانهم جنة فصدوا عن سبيل الله فلهم عذاب مهين ) (1) .
والذين ( يخادعون الله وهو خادعهم وإذا قاموا إلى الصلاة قاموا كسالى يراؤون الناس ولا يذكرون الله إلاّ قليلاً * مذبذبين بين ذلك لا إلى هؤلاء ولا إلى هؤلاء ومن يضلل الله فلن تجد له سبيلاً ) (2) .
والكتاب العزيز يعلن بصراحة عن وجود طائفة تستمع إلى رسول الله صلّى الله عليه وآله ولكن طبع الله على قلوبهم لأنهم اتبعوا الهوى فقال تعالى :
( ومنهم من يستمع إليك حتى إذا خرجوا من عندك قالوا للذين أتوا العلم ماذا قال آنفاً أولئك الذين طبع الله على قلوبهم واتبعوا أهواءهم ) (3) .
كما أعلن تعالى لعن طائفة منهم وهم الذين في قلوبهم مرض والذين يفسدون في الأرض ويقطعون أرحامهم ( أولئك الذين لعنهم الله فأصمتهم وأعمى أبصارهم * أفلا يتدبرون القرآن أم على قلوب أقفالها ) (4) .
أجل أين ذهب أولئك بعد رسول الله صلى الله عليه وآله ؟ وقد جرعوه الغصص في حياته ، ودحرجوا الدباب ، فهل انقلبت حالهم بعد موته صلّى الله عليه وآله من النفاق إلى الإيمان ؟ ومن الفساد إلى الصلاح ، ومن الشك إلى اليقين ، فأصبحوا في عداد ذوي العدالة من

____________
(1) سورة المجادلة : الآية 16 .
(2) سورة النساء : الآيتان 142ـ 143 .
(3) سورة محمد(ص) : الآية 16 .
(4)سورة محمد(ص) : الآيتان 23ـ 24 .

( 133 )

الصحابة الذين طبعت نفوسهم على التقى والورع ، وعفة النفس والعلم ، والحلم ، والتضحية في سبيل الله وهم الذين وصفهم الله تعالى بقوله :
( إنما المؤمنون الذين آمنوا بالله ورسوله ثم لم يرتابوا وجاهدوا بأموالهم وأنفسهم في سبيل الله أولئك هم الصادقون ) (1) .
فنحن لا نرتاب في ديننا، ولا نخالف قول الحق في تمييز منازل الصحابة ، ودرجاتهم فنتبع الصادقين منهم ، ونوالي من اتصف بتلك الصفات التي ذكرها الله ورسوله ، كما أنا لا نأتمن أهل الخيانة لله ورسوله ، ففي ذلك جناية على الدين وخيانة لأمانة الإسلام ولا نركن لمن ظلم منهم ، ولا نواد من حاد الله ورسوله .
هذا هو قوله الحق . والحق أحق أن يتبع (2) .
***
الصحابة في حدود الكتاب والسنة
وهل تجاوزت الشيعة في نقد أعمال بعض الصحابة حدود الكتاب والسنة ؟ إذ وجدوا في أعمالهم مخالفة ظاهرة ، لا يمكن لها التأويل والتسامح ، لأن عموم الصحبة لا يمنحهم سلطة التصرف بالأحكام ، ولا تسوغ لهم مخالفة تلك الحدود وإن الاجتهاد في مقابلة النص هو في الحقيقة طرح للأحكام ، ونبذ للقرآن وراء الظهور ، وإن كثيراً منهم حديثو عهد في الإسلام ، قد ألفت نفوسهم أشياء وطبعت عليها ، ومن الصعب أن تتحلل منها بسرعة .

____________
(1) سورة الحجرات : الآية 15.
(2) الإمام الصادق والمذاهب الأربعة : 1/593 ـ 596 .