وليس من الإنصاف أن يكون هؤلاء بمنزلة أهل السبق ، ومن رسخ الإيمان في قلوبهم فنشروا الإسلام ، وحملوا ألوية العدل ، ونشروا العقيدة الإسلامية ، وجاهدوا في سبيل الله بأموالهم وأنفسهم عن نية صادقة ، وهاجروا عن إيمان خالص .
وقد قال النبي صلّى الله عليه وآله :
« إنما الأعمال بالنيات ، وإنما لكل امرىء ما نوى فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله فهجرته إلى الله ورسوله ، ومن كانت هجرته لدنيا يصيبها أو امرأة يتزوجها فهجرته إلى ما هاجر إليه » (1).
وسأله ناس من أصحابه فقالوا : يارسول الله أنؤاخذ بما عملنا في الجاهلية ؟
فقال صلّى الله عليه وآله :
« أما من أحسن منكم في الإسلام فلا يؤاخذ به ، ومن أساء أخذ في الجاهلية والإسلام » (2) .
وعن صهيب مرفوعاً :
« ما آمن بالقرآن من استحل محارمه » (3) .
وعنه صلّى الله عليه وآله بلفظ : « من أحسن في الإسلام لم يؤاخذ بما عمل في الجاهلية ، ومن أساء في الإسلام اخذ في الأوّل ، والأخر » (4).
وعن ابن عمر قال :
صعد رسول الله صلى الله عليه وسلم المنبر فنادى بصوت رفيع فقال :

____________
(1) صحيح مسلم : 6/48 .
(2) صحيح مسلم : 1/ 77 .
(3) صحيح الترمذي : 2/151 .
(4) صحيح مسلم : 1/77 .

( 135 )

« يا معشر من اسلم بلسانه ولم يفض الإيمان إلى قلبه لا تؤذوا المسلمين ، ولا تعيروهم ولا تتبعوا عوراتهم . من تتبع عورة أخيه المسلم تتبع الله عورته ، ومن تتبع الله عورته يفضحه ولو في جوف رحله» (1).
وهكذا يتضح لنا على ضوء الأحاديث النبوية وآي القرآن الكريم مساواة الناس وشمول الأحكام لهم ، وأن ثبوت العدالة بالعمل ، ولا أثر لها بدونه ، والصحابة هم أولى بتنفيذها ، والقول في اجتهادهم مطلقاً يحتاج إلى مشقة في الإثبات ، والنتيجة عقيمة لا تثمر كثير فائدة ، والتأويل في مقابلة النص معناه طرح للأحكام . فلا يصح أن يتأولوها على خلاف ظاهرها ، ثم يستبيحوا لأنفسهم مخالفة الظاهر منها ، بل الأحكام شرعة واحدة بين الناس لتشملهم عدالتها . فلا مجال لأحد عن الخضوع لها وتطبيقها .
ولنا في سياسة الإمام علي بن أبي طالب ، وسيرته في عصر الخلفاء ، وفي عصره لأكبر دليل على ما نقول :
فقد كان يقيم الحد على من تعدّى حدود الله ، ويعامل كل واحد بما يقتضيه عمله ، وبقدر منزلته عند الله تعظم منزلته عنده .
وكم كان يدعو على أولئك الذين وسموا بالصحبة ، وخالفوا كتاب الله وسنة رسوله ، ونصبوا له الحرب .
وقد أعلن عليه السلام البراءة منهم على منبره لأنهم خالفوا كتاب الله وسنة نبيه صلّى الله عليه وآله وسلّم .
ومن وقف على عهوده عليه السلام لعماله ، ووصاياه لأمراء جيشه ، ورسائله لولاة أمره ، يعرف هناك عدم الالتزام بما ألزموا الأمة

____________
(1) صحيح الترمذي : 1/365 .

( 136 )

به ، من القيود التي فرضتها ظروف خاصة ، وهو القول بعدالة الصحابي ، وإن ارتكب ما حرّم الله .
والتحدث عن سيرة علي لا يتسع له مجال هذا الموضوع الذي خضناه بهذه العجالة ، والغرض أن أصحاب محمد صلى الله عليه وآله لا بد أن يلتزموا باجتناب ما حرم الله تعالى ويهتدوا بهدي رسوله صلى الله عليه وآله ، ولم يفتحوا المجال لمتأول في مقابلة النص ، وللاجتهاد شروط ، ولعل في قصة قدامة أكبر دليل على ذلك قدامة بن مضعون :
قدامة بن مضعون بن حبيب المتوفى ( سنة 36هـ ) كان من السابقين الأولين ، وهاجر الهجرتين ، واستعمله عمر بن الخطاب على البحرين ، فقدم الجارود سيد عبد القيس على عمر بن الخطاب من البحرين ، وشهد على قدامة أنه شرب الخمر فسكر ، فقال : من يشهد معك فقال الجارود : أبو هريرة .
فقال عمر لأبي هريرة : بم تشهد ؟ قال : لم أره شرب الخمر ولكن رأيته سكران يقيء .
فقال عمر : لقد تنطعت في الشهادة ، ثم كتب إلى قدامة أن يقدم عليه من البحرين فقدم ، فقال الجارود : أقم على هذا حدّ الله .
فقال عمر : أخصم أنت أم شهيد ؟
فقال شهيد .
فقال : قد أديت شهادتك .
ثم غدا الجارود على عمر فقال :
أقم على هذا حدّ الله .
فقال عمر :
ما أراك إلا خصماً وما شهد معك إلا رجل واحد .



( 137 )

فقال الجارود : أنشدك الله .
فقال عمر : لتمسكن لسانك أو لأسوانك .
فقال : يا عمر ما ذالك بالحق أن يشرب ابن عمك الخمر وتسوءني .
فقال ابو هريرة : يااميرالمؤمنين إن كنت تشك في شهادتنا فأرسل إلى ابنة الواليد فأسألها ـ وهي امرأة قدامة ـ فأرسل عمر إلى هند بنت الوليد ينشدها ، فأقامت الشهادة على زوجها .
فقال عمر لقدامة : إني حادّك ، فقال قدامة :
لوشربت كما تقول ما كان لكم أن تحدّني .
فقال عمر : لم ؟
قال قدامة : قال الله عزوجل : ( ليس على الذين آمنوا وعملوا الصّالحات جناح فيما طعموا ... ) الآية .
فقال عمر : أخطأت التأويل أنت إذا اتقيت الله اجتنبت ماحرّم الله ، ثم أقبل عمر على الناس فقال :
ماترون في جلد قدامة ؟
فقالوا : لا نرى أن تجلده ما دام مريضاً . فسكت على ذلك أيّاماً ثم أصبح وقد عزم على جلده فقال : ما ترون في جلد قدامة . فقالوا : لا نرى أن تجلده ما دام وجعاً .
فقال عمر : لأن يلقى الله تحت السياط أحب إليّ من أن ألقاه وهو في عنقي ، ائتوني بسوط تام . فأمر به فجلد (1) .
هذه قصة قدامة ، وإقامة الحد عليه ، وتأويله فيما ارتكبه ، ولم نوردها لنحط من كرامته ، أو نطعن عليه في دينه ، فله شرف الهجرة

____________
(1) الإصابة في تمييز الصحابة : 3/228 .

( 138 )

والسبق ، ولكنّا ذكرناها ليتضح لنا عدم صحة ما يقولون ، بعدم مؤاخذة المتأول ، وإن خالف الإجماع ، وما هو معلوم بالضرورة كقضيّة أبي الغادية وقتله لعمار بن ياسر مع اعترافه بأن ما ارتكبه جريمة توجب دخول النار .
وهناك جماعة من الصحابة تأوّلوا فأخطأوا ، فلم يدرأ تأويلهم الحد لوقوعهم في الخطأ . منهم :
أبو جندل ، وضرار بن الخطاب ، وأبو الأزور فقد وجدهم أبوعبيدة قد شربوا الخمر فأنكر عليهم . فقال أبو جندل :
( ليس على الذين آمنوا جناح فيما طعموا ... ) الآية ، ولم ينفعهم ذلك وأقام عليهم الحد .
فأين العدالة من إقامة عليهم الحد .
وكان عبد الرحمن بن عمر بن الخطاب قد شرب الخمر بمصر فأقام الحد عليه عمرو بن العاص إلى كثير من ذلك (1) .
***
سياسة عمر تجاه بعض الصحابة
وهذا عمر بن الخطاب لم يثبت العدالة لأبي هريرة عندما استعمله على البحرين فقدم بعشرة آلاف فقال له عمر :
استأثرت بهذه الأموال يا عدوّ الله ، وعدو كتابه .
فقال أبوهريرة :
لست بعدوّ الله ، ولا عدوّ كتابه ، ولكن عدوّ من عاداهما .

____________
(1) الإمام الصادق والمذاهب الأربعة : 1/602ـ 05

( 139 )

فقال عمر : من أين لك ؟
قال : خيل نتجت ، وغلّة ، ورقيق لي ، وأعطية تتابعت (1) .
وفي لفظ ابن عبد ربه :
إنّ عمر دعا أبا هريرة فقال له :
علمت أني استعملتك على البحرين ، وأنت بلا نعلين ، ثم بلغني أنك ابتعت أفراساً بألف دينار وستمائة دينار قال :
كانت له أفراساً تناتجت ، وعطايا تلاحقت ، قال عمر :
قد حسبت لك رزقك ومؤنتك وهذا فضل فأدّه .
قال أبو هريرة : ليس لك ذلك .
قال : بلى أوجع ظهرك ، ثم قام إليه بالدرّة فضربه حتى أدماه ، ثم قال :
ائت بها. قال احتسبتها عند الله .
قال : لو أخذتها من حلال ، وأدّيتها طائعاً ، أجئت من أقصى البحرين تجبي الناس لك لا لله ، ولا للمسلمين ؟ مارجعت به أميمة إلا لرعية الحمر ، وأميمة أم أبي هريرة (2) .
هكذا رأينا عمر يقابل أبا هريره بشدّة ، ويتهمه بخيانة أموال المسلمين ، وينسبه لعداء الله ، وعداء كتابه ، ولا يصدقه فيما يدّعيه . ولو كان أبو هريرة عادلاُ في نظر عمر لصدق قوله . ولقال أنت عادل ، أو مجتهد مخطىء ، وكذلك موقف عمر مع خالد بن الوليد في جنايته الكبرى مع مالك بن نويرة .
ويحدثنا البلاذري أن أبا المختار ، يزيد بن قيس ، رفع إلى عمر ابن الخطاب كلمة يشكو بها عمال الأهواز وغيرهم يقول فيه :

____________
(1) تاريخ ابن كثير : 8/113 .
(2) العقد الفريد : 1/26 .

( 140 )

ابـلغ أمير الـمؤمنيـن رسـالـة * فأنت أمين الله فـي النهـي والأمـر
وأنـت أمـين الله فيـنا ومن يكن * أمينا لرب العرش يسلم لـه صـدري
فأرسل إلى الحجاج فاعرف حسابه * وارسل إلى جزء وارسـل إلـى بشر
ولا تنـسيـن الـنـافعين كليهمـا * ولا ابن غلاب من سراة بني نصر(1)

إلى آخر الرسالة وذكر فيها جماعة من عماله الذين استأثروا بالأموال ، وجلّهم من الصحابة ، فعاقبهم عمر ، واتهمهم بالخيانة ، والخيانة لا تجتمع مع العدالة .
ولا نطيل الحديث حول قاعدة أصالة العدالة لكل صحابي ، أو تأويل الأخطاء لهم على وجه يلزم السكوت عليه .
ما ذلك إلا تحدّ لنواميس الدين ، ومقدسات الشريعة ، ومجادلة بالباطل لحفظ كرامة معاوية وحزبه ( ها أنتم جادلتم عنهم في الحياة الدنيا فمن يجادل الله عنهم يوم القيامة أم من يكون عليهم وكيلاً ) (2) .
____________
(1) فتوح البلدان : ص 227 .
(2) سورة النساء : الآية 109 ، الإمام الصادق والمذاهب الأربعة 1/605، 606 .

( 141 )

المنافقون من الصحابة

ماجاء عنهم في سورة التوبة عن غزوة تبوك
ذكر البغوي وغيره عن ابن عباس أنه قال :
لم يكن رسول الله يعرف المنافقين حتى نزلت سورة براءة وكان قبلها يعرف بعض صفاتهم وأقوالهم ، وأفعالهم ممّا جاء عنهم في عدة سور نزلت قبل براءة ، منها سورة المنافقين ، والأحزاب ، والنساء ، والأنفال ، والقتال ، والحشر .
أما سورة براءة فقد فضحتهم ، وكشفت جميع أنواع نفاقهم الظاهرة ، والباطنة ومن أجل ذلك سميت ( الفاضحة ) والمبعثرة ، والمشردة ، والمخزية ، والمثيرة ، والحافرة ، والمنكّلة ، والمدمدمة ، وسورة العذاب !
وإليك بيان أمورهم في غزوة تبوك ، وحدها ، وأعمالهم ، وآيات نفاقهم ، وهتك أستارهم ، وعقابهم ، مرتبة على سياق آيات سورة التوبة لا على الحروف (1):

____________
(1) هذا الفصل منقول عن الجزء العاشر من تفسير القرآن الحكيم للإمامين محمد عبده ، ومحمد رشيد رضا رضي الله عنهما والأرقام الموضوعة هي أرقام الصفحات من هذا الجزء .

( 142 )

1ـ استئذانهم في التخلف وهو لا يقع من مؤمن ، وإنما يستأذن ترك الجهاد من لا يؤمن بالله ولا بالأخرة (467) .
2ـ لو أرادوا الخروج لأعدّوا له عدة (471) .
3ـ إن الله كره انبعاثهم فثبطهم (471) .
4ـ إنهم لو خرجوا في المؤمنين لم يزيدوهم إلاً خبالاً ، ويبغون فتنتهم (473) .
5ـ إنهم اتبعوا الفتنة من قبل تبوك في غزوة أحد ، إذ أوقعوا الشقاق في المسلمين ، وثبطوا بعضهم (474) .
6ـ إنهم قلبوا الأمور للنبي من أول الأمر إلى أن جاء الحق بنصره وظهور أمر الله وهم كارهون لذلك (475) .
7ـ إن منهم من استأذن النبي في القعود متعذراً بأنه يخاف على نفسه الافتتان بجمال نساء الروم ، فسقطوا في فتنة معصية الله ورسوله بالفعل (477) .
8ـ إن كل حسنة تصيب النبي تسؤوهم ، وكلّ مصيبة تعرض له تسرّهم ، ويرون أنهم أخذوا بالحزم في التخلّف ( 478 ) .
9ـ إن المؤمنين يتربصون بالمنافقين عذاب الله مباشرة أو بأيديهم ( 479) .
10ـ إن صدقاتهم لا تقبل لفسوقهم ، ولكفرهم ، وإتيانهم الصلاة وهم كسالى ، وإنفاق ما ينفقون وهم كارهون ( 481 ) .
11ـ تعذيبهم بأموالهم وأولادهم في الدنيا وموتهم على كفرهم (485 ـ 574) .
12ـ حلفهم للمؤمنين بأنهم منهم ، ووصف خيبتهم ، وفرقهم منهم ( 485 ) .


( 143 )

13 ـ لمز بعضهم للرسول في الصدقات ، فإن أعطوا منها رضوا ، وإلا سخطوا (467) .
14 ـ إيذاؤهم له ( ص ) بقولهم : هو أذن (516) .
15 ـ حلفهم للمؤمنين ليرضوهم دون إرضاء الله ورسوله (522) .
16 ـ حذرهم إنزال سورة تنبئهم بما في قلوبهم ووعيدهم على استهزائهم باخراج ما يحذرون (525) .
17ـ اعتذارهم عن استهزائهم بأنهم كانوا يقصدون الخوض واللعب ، وكون هذا الخوض عين الكفر ، ووعيدهم بتعذيب طائفة منهم بإصرارهم على إجرامهم ، واحتمال العفو عن طائفة أخرى ( 528 ـ 532 ) .
18ـ بيان حال المنافقين وصفاتهم العامة ذكراناً ، وإناثاً ، وإيقادهم هم والكفار نار جهنم ولعنهم إلخ (533 ) .
19 ـ تشبيههم بمنافقي الأمم الغابرة في كونهم لا حظ لهم إلا الاستماع بما ذكروا في خوضهم بالباطل ، وحبوط أعمالهم في الدنيا والأخرة مثلهم وخسارهم التام (527) . وتذكيرهم بنبأ أقوام الأنبياء قلبهم (539 ) .
20ـ ( إن المنافقين هم الفاسقون ) . الآية ( 67) .
21ـ قرنهم بالكفار في وجوب جهادهم والإغلاظ في معاملتهم ووعيدهم ( 549 ) .
22ـ حلفهم على إنكار ما قالوا من كلمة الكفر ، وإثبات الله لما نفوه ( وهمهم بما لم ينالوا ) أي محاولة اغتياله (ص) ( 551 ـ 555 ) .
23ـ من عاهد الله منهم على الصدقة في حالة العسر ، وإخلافه ،


( 144 )

وكذبه ، بعد الغنى واليسر ، وإعقابهم ذلك نفاقا يصحبهم إلى الحشر ، وجهلهم علم الله بحالهم في السرّ والجهر (558) .
24 ـ لمزهم وعيبهم للمؤمنين في الصدقات ، وسخريتهم منهم . (563) .
25 ـ حرمانهم الانتفاع باستنفار الرسول لهم بكفرهم حتى بالله ورسوله لا يرجى اهتداؤهم بالرجوع عن قسوتهم (666) .
26 ـ فرح المخلّفون منهم بمقعدهم خلاف رسول الله ، وتواصيهم بعدم النفر في الحر ، وتذكيرهم بحر جهنم (569) .
27ـ كون الأجدر بهم أن يحزنوا ، ويضحكوا قليلاً ويبكوا كثيراً (572) .
28 ـ نهيه (ص) عن الصلاة على موتاهم ، وتعليله بكفرهم وموتهم عليه (573) .
29 ـ استئذان أغنيائهم بالتخلف عن الجهاد كلما نزلت سورة تأمر بالجمع بين الإيمان والجهاد (581) .
30ـ حال الأعراب ، واستئذان بعضهم بالقعود عن الجهاد ، وقعود الكاذبين بغير اعتذار ووعيدهم بعذاب أليم على الكفر (583) .
نكتفي بذلك من صفات المنافقين في غزوة تبوك التي جاءت بسورة التوبة ومن أراد المزيد من معرفة سائر أعمال المنافقين فليرجع إلى سور : المنافقين ، والأحزاب ، والنساء ، والأنفال ، والقتال ، والحشر .
وفي الصحيحين من حديث الإفك أن أسيد بن الخضير قال لسعد ابن عبادة :
إنك منافق ، تجادل عن المنافقين . واختصم الفريقان فأصلح النبي بينهم ـ فهؤلاء البدريون فيهم من قال لآخر منهم :


( 145 )

إنك منافق ، ولم يكفر النبي لا هذا ، ولا ذاك .
والأخبار في ذلك كثيرة ومن شاء أن يقف على أسماء المنافقين من الخزرج والأوس فليرجع إلى الجزء الأول من ( أنساب الأشراف ) يجد أسماءهم قد ملأت عشر صفحات كاملة من ص 274 إلى ص 283 .

يفضلون التجارة واللهو عن الصلاة

ولا بأس أن نورد هنا ما فعله الصحابة مع رسول الله ، وانفضاضهم من حوله إلى التجارة واللّهو ، وتفضيل ذلك على الصّلاة ، وتركهم إيّاه قائماً وحده يصلّي يوم الجمعة وذلك بعد أن أمرهم الله سبحانه بأن يسعوا إلى الصلاة ، ويتركوا البيع ، لأن ذلك خير لهم ( إن كانوا يعلمون ) فخالفوا عن أمر الله ، وانصرفوا إلى تجارتهم ، ولهوهم ، من حول رسول الله ! وإليك هذه الآية الكريمة التي تفضحهم قال تعالى :
( وإذا رأوا تجارة أو لهواً انفضّوا إليها وتركوك قائماً قل ماعند الله خير من اللهو ومن التجارة والله خير الرازقين ) الجمعة : 11 .


نفاق الصحابة على عهد النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم وبعده
وإليك حديثاً رواه البخاري وغيره (1) عن حذيفة بن اليمان يبين فيه نفاق الصحابة على عهد النبي صلّى الله عليه وسلم وبعده .
قال حذيفة : إن المنافقين اليوم ، شرّ منهم على عهد النبي صلّى الله عليه وسلم ، كانوا يومئذ يسرون ، واليوم يجهرون ! وفي رواية أخرى للبخاري كذلك عنه :
____________
(1) فتح الباري : 13/62ـ 63 ط مصر .

( 146 )

قال : إنما كان النفاق على عهد النبي (ص) ، فأما اليوم فإنما هو الكفر بعد الإيمان . ( وفي رواية ) : فإنما هو الكفر والإيمان .
واخرج البزار عن أبي وائل ، قلت لحذيفة : النّفاق اليوم شر أم على عهد رسول الله صلّى الله عليه وسلم ؟ قال :
فضرب به على جبهته وقال :
أوه : هو اليوم ظاهر ، إنما كانوا يستخفون على عهد رسول الله (1) !
____________
(1) أضواء على السنة المحمدية ص 356ـ 359 ط دار المعارف بمصر الطبعة الثالثة .

( 147 )

صـيـانـة

القرآن مـن التـحريـف



( 148 )

قال أمير المؤمنين عليه السلام في : وصف القرآن الكريم :
جعله الله ريا لعطش العلماء ، و ربيعاً لقلوب الفقهاء ومحاج لطرق الصلحاء ودواء ليس بعده داء ، ونوراً ليس معه ظلمة .
نهج البلاغة

( 149 )

                نقدم إلى القارىء الكريم بعض الآراء لعلماء الشيعة الإماميّة عن سلامة القرآن من الزيادة والنقصان .

معنى التحريف
قال الراغب الأصباني :
وتحريف الشيء إمالته كتحريف القلم . ( المفردات في غريب القرآن ص 114 ط مصر ) .

الشيعة مأمورون بالأخذ بما يوافق القرآن
عن أبي عبدالله عليه السلام قال :
خطب النبي صلّى الله عليه وآله بمنى فقال :
أيها الناس ما جاءكم عني يوافق كتاب الله فأنا قلته ، وماجاءكم يخالف كتاب الله فلم أقله . ( أصول الكافي : 1/69 رقم الحديث 5 ) .
وعن أبي عبدالله عليه السلام قال :


( 150 )

قال رسول الله صلى الله عليه وآله : إن على كل حق حقيقة ، وعلى كل صواب نوراً ، فما وافق كتاب الله فخذوه ، وما خالف كتاب الله فدعوه . ( اصول الكافي : 1/69 رقم الحديث 1 ) .
وعن أبي عبدالله عليه السلام قال :
ما لم يوافق من الحديث القرآن فهو زخرف . ( أصول الكافي : 1/69 رقم الحديث 4 ) .


التمسك بالقرآن الكريم
إن الإمامية أشدّ تمسّكا بالقرآن ، ومحافظة عليه ، وتعظيماً له ، ومنه يستقون عقيدتهم ، وأحكامهم وبه يدفعون شبهات المقياس المبطلين وأقوال المتحذلقين ، فهو عندهم : المعجزة الكبرى ، والمقياس الصحيح للحق ، والهداية . فقد رووا أن أئمتهم أمروهم أن يعرضوا ما ينقل عنهم على القرآن ، فإن خالفه فهو كذب ، وافتراء ، وزخرف وباطل يجب ضربه في عرض الجدار (1) .

صيانة القرآن عن الزيادة والنقصان
قال الله تعالى :
( هذا بيان للناس وهدى وموعظة للمتقين ) ( ذلك الكتاب لا ريب فيه هدى للمتقين ) ( إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون ) ( كتاب أحكمت آياته ثم فصلت من لدن حكيم خبير ) ( لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنزيل من حكيم حميد ) (2) .

( صدق الله العلى العظيم ) .


____________
(1) الشيعة في الميزان ص 314 طبع بيروت ـ لبنان .
(2) المؤلف : علماء الشيعة الإمامية يستدلون بالآيات الواردة تحت عنوان : ( صيانة القرآن عن =

( 151 )

جمع القرآن الكريم على عهد النبي (ص)
قال الإمام شرف الدين العالمي ( قدس سره ) :
وكان القرآن مجموعاً أيام النبي صلّى الله عليه وآله على ما هو عليه الآن من الترتيب ، والتنسيق في آياته ، وسوره ، وسائر كلماته ، وحروفه بلا زيادة ، ولا نقصان ، ولا تقديم ولا تأخير ، ولا تبديل ، ولا تغيير ..
أجل : إن القرآن عندنا كان مجموعاً على عهد الوصي ، والنبوّة ، مؤلفاً على ما هو عليه الآن ... وقد كان القرآن زمن النبي صلّى الله عليه وآله وسلم يطلق عليه الكتاب قال الله تعالى :
( ذلك الكتاب لا ريب فيه هدى للمتقين ) (1) البقرة : 2 .

____________
=
الزيادة والنقصان ) وبأحاديث كثيرة وردت عن طريق أئمة أهل البيت النبوي عليهم السلام بإرجاع شيعتهم إلى التمسك بهذا القرآن المتداول بين يدي عامة المسلمين في جميع أقطار العالم وإليك نص أول إمام من أئمة العترة الطاهرة وصيّ الرسول وخليفته ( صلّى الله عليه وآله ) بلا فصل أميرالمؤمنين ، وسيد الوصيين علي بن أبي طالب عليه السلام .
قال عليه السلام :
وعليكم بكتاب الله فإنه الحبل المتين ، والنور المبين ، والشفاء النافع ، والرّي النافع [ نفع العطش إذا أزاله ] والعصمة للمتمسك ، والنجاة للمتعلق ، لا يعوج فيقام ولا يزيغ فيستعتب ، ولا تخلفه كثيرة الرّد ، وولوج السمع من قال به صدق ، ومن عمل به سبق .
( نهج البلاغة شرح محمد عبده ص 335 ط بيروت ـ دارالمعارف ) .
(1) بعض الآيات التي فيها جاء ذكر( الكتاب ) :
( يا أيها الذين آمنوا آمنوا باالله ورسوله والكتاب الذي نزل على رسوله ...) النساء : 136 .
( قد جاءكم من الله نور وكتاب مبين ) المائدة : 15 .
( ونزلنا عليك الكتاب تبياناً لكل شيء ) النجل : 89 .
( هو الذي بعث في الأميين رسولا منهم يتلوا عليهم آياته ويزكيهم ويعلمهم الكتاب ) . الجمعة : 2 .
( وهذا كتاب مصدق لسانا عربياً ) الأحقاف : 12 .
( إنا أنزلنا إليك بالحق ) الزمر : 2.
( كتاب أنزلناه إليك مبارك ليتدبروا آياته وليتذكروا أولو الألباب ) ص : 29 .
( إنا أنزلنا عليك الكتاب للناس بالحق ) الزمر : 41 .

=


( 152 )

وهذا يشعر بأنه كان مجموعاً ، ومكتوباً فإن ألفاظ القرآن إذا كانت محفوظة ، ولم تكن مكتوبة لا تسمّى كتاباً ، وإنما تسمّى بذلك بعد الكتابة كما لا يخفى ، وكيف كان فإن رأي المحقّقين من علمائنا :
أن القرآن العظيم إنما هو ما بين الدفتين الموجود في أيدي الناس ، والباحثون من أهل السنة يعلمون منا ذلك ، والمنصفون منهم يصرّحون به . ( أجوبة مسائل جار الله ص 34 ، 37 الطبعة الثانية صيدا عام 1377 هـ ) .
____________
=
( تلك آيت الكتاب المبين ) القصص : 2 .
( هذا كتابنا ينطق عليكم بالحق ) الجاثية : 29 .
( إنه لقرآن كريم في كتاب مكنون ) الواقعة : 37 ، 38 .


( 153 )

لا تحريف في القرآن

1ـ معنى التحريف (1)
يطلق لفظ التحريف ويراد منه عدّة معان على سبيل الإشراك ، فبعض منها واقع في القرآن باتفاق من المسلمين ، وبعض منها لم يقع فيه باتفاق منهم أيضاً ، وبعض منها وقع الخلاف فيما بينهم ، وإليك تفصيل ذلك :

____________
(1) علماء الشيعة الإمامية الذين ألّفوا في فقه القرآن ينكرون التحريف ، وكذلك علماء التفسير .
وأما علماء الحديث والرجال من الشيعة فإنهم قائلون بتمحيص الروايات حتى في كتب الحديث المعتبرة عندهم (* ) .
وأمّا فقهاء الشيعة ، ومؤلّفو آيات الأحكام فهم يحتجون بالقرآن وذلك إذعاناً منهم بحجية القرآن ، وصيانته من التحريف ، وأهم من هؤلاء جميعاً علماء الكلام ، ومؤلّفو الفلسفة الإسلامية ، والحكماء منهم الذين دوّنوا عقائد الشيعة بالأصول العلمية والفلسفية يرفضون الرأي القائل : بتحريف القرآن رفضاً باتاً بل إنهم في مقام الاستدلال على الإمامة والخلافة يستدلّون بآيات من القرآن الكريم .

____________
(*) راجع معجم رجال الحديث الجزء الأول .
قال الراغب الأصبهاني : وتحريف الكلام أن تجعله على حرف من الاحتمال يمكن حمله على غيره ، قال عزوجل : ( يحرفون الكلم عن مواضعه ) ( ومن بعد مواضعه ) ( وقد كان فريق منهم يسمعون كلام الله ثم يحرفونه من بعدما عقلوه ) ( المفردات في غريب القرآن ص 114 ) .


( 154 )

الأول : « نقل الشيء عن موضعه وتحويله إلى غيره » ومنه قوله تعالى :
( من الذين هادوا يحرفون الكلم عن مواضعه ) النساء : 46 .
ولا خلاف بين المسلمين في وقوع مثل هذا التحريف في كتاب الله فإن كل من فسر القرآن بغير حقيقته ، وحمله على غير معناه فقد حرفه ، وترى كثيراً من أهل البدع ، والمذاهب الفاسدة ، قد حرفوا القرآن بتأويلهم آياته على آرائهم وأهوائهم .
وقد ورد المنع عن التحريف بهذا المعنى ، وذم فاعله في عدة من الروايات منها :
رواية ( الكافي ) بإسناده عن الباقرعليه السلام أنه كتب في رسالته إلى سعد الخير :
«... وكان من نبذهم الكتاب أن أقاموا حروفه ، وحرّفوا حدوده ، فهم يروونه ، ولا يرعونه ، والجهّال يعجبهم حفظ للرواية ، والعلماء يحزنهم تركهم للرعاية... » الوافي 3/274 . أبواب القرآن وفضائله .

الثاني : النقص أو الزيادة في الحروف ، أو في الحركات ، مع حفظ القرآن ، وعدم ضياعه ، وإن لم يكن مميزاً في الخارج عن غيره » .
والتحريف بهذا المعنى واقع في القرآن قطعاً فقد أثبتنا فيما تقدّم (1) عدم تواتر القراءات ، وأمّا غيرها فهو إمّا زيادة في القرآن ، وإمّا نقيصة فيه .

____________
(1) انظر : البيان في تفسير القرآن ص 158 طبع بيروت تحت عنوان : أدلّة تواتر القراءات .

( 155 )

الثالث : النقص أو الزيادة بكلمة ، أو كلمتين ، مع حفظ التحفظ على نفس القرآن المنزل » .
والتحريف بهذا المعنى قد وقع في صدر الإسلام ، وفي زمان الصحابة قطعاً ، ويدلنا على ذلك إجماع المسلمين على أن عثمان أحرق جملة من المصاحف وأمر ولاته بحرق كل مصحف غير ما جمعه .
وهذا يدّل على أن هذه المصاحف كانت مخالفة لما جمعه ، وإلاّ لم يكن هناك سبب موجب لإحراقها .
وقد ضبط جماعة من العلماء موارد الاختلاف بين المصاحف ، منهم :
عبدالله بن أبي داود السجستاني ، وقد سمّى كتابه هذا بكتاب ( المصاحف ) . وعلى ذلك فالتحريف واقع لا محالة ، إمّا من عثمان ، أو من كتاب تلك المصاحف ، ولكنا سنبين بعد هذا إن شاء الله تعالى : أن ما جمعه عثمان كان هو القرآن المعروف بين المسلمين ، الّذي تداولوه عن النبي صلّى الله عليه وآله يداً بيد .
فالتحريف بالزيادة والنقيصة إنما وقع في تلك المصاحف التي انقطعت بعد عهد عثمان .
وأما القرآن الموجود فليس فيه زيادة ، ولا نقيصة .
وجملة القول : إن من يقول بعدم تواتر تلك المصاحف ـ كما هو الصحيح ـ فالتحريف بهذا المعنى وإن كان قد وقع عنده في الصدر الأول إلاّ أنه قد انقطع في زمان عثمان ، وانحصر المصحف بما ثبت تواتره عن النبي صلّى الله عليه وآله .
وأما القائل : بتواترالمصاحف بأجمعها ، فلا بدّ له من الالتزام بوقوع التحريف بالمعنى المتنازع فيه في القرآن المنزل ، وبضياع شيء منه .


( 156 )

الرابع: « التحريف بالزيادة والنقيصة في الآية والسورة مع التحفظ على القرآن المنزل ، والمتسالم على قراءة النبي (ص) إيّاها » .
والتحريف بهذا المعنى أيضاً واقع في القرآن قطعاً . فالبسملة ـ مثلاً ـ ممّا تسالم المسلمون على أن النبي (ص) قرأها قبل كلّ سورة غير سورة التوبة .
وقد وقع الخلاف في كونها من القرآن بين علماء السنة . فاختار جمع منهم أنّها ليست من القرآن ، بل ذهبت المالكيّة إلى كراهة الإتيان بها قبل قراءة الفاتحة في الصلاة المفروضة ، إلا إذا نوى بها المصلّي الخروج من الخلاف ، وذهب جماعة أخرى إلى أن البسملة من القرآن .
وأما الشيعة الإمامية فهم متسالمون على جزئية البسملة من كل سورة غير سورة التوبه ، واختار هذا القول جماعة من علماء السنة أيضاً ... وإذاً ، فالقرآن المنزل من السّماء قد وقع فيه التحريف يقيناً بالزيادة ، أو بالنقيصة .
الخامس : « التحريف بالزيادة بمعنى أن بعض المصحف الذي بأيدينا ليس من الكلام المنزل » .
والتحريف بهذا المعنى باطل بإجماع المسلمين ، بل هو ممّا علم بطلانه بالضرورة .
السادس : « التحريف بالنقيصة ، بمعنى أن المصحف الّذي بأيدينا لا يشتمل على جميع القرآن الّذي نزل من السّمآء ، فقد ضاع بعضه على النّاس » .
والتحريف بهذا المعنى هو الذّي وقع فيه الخلاف فأثبته قوم ونفاه آخرون (1) .

____________
(1) البيان في تفسير القرآن ص 200 طبع بيروت .