بنور فاطمة (ع) اهتديت ::: 61 ـ 70
(61)
بصوت هادئ جميل بدأ الخطيب في الخطبة وتدفق شعاع كلماتها إلى أعماق وجداني ، وضح لي أن مثل هذه الكلمات لا تخرج من شخص عادي حتى ولو كان عالما مفوها درس آلاف السنين ، بل هي في حد ذاتها معجزة. كلمات بليغة .. عبارات رصينة ، حجج دامغة وتعبير قوي .. تركت نفسي لها واستمعت إليها بكل كياني وعندما بلغت خطبتها الكلمات التي بدأت بها هذا الفصل لم أتمالك نفسي وزاد انهمار دموعي. وتعجبت من هذه الكلمات القوية الموجهة إلى خليفة رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ومما زاد في حيرتي أنها من ابنة رسول الله فماذا حدث ؟
     ولماذا .. وكيف ؟ !! ومع من كان الحق وقبل كل هذا هل هذا الاختلاف حدث حقيقة ؟ وفي الواقع لم أكن أعلم صدق هذه الخطبة ولكن اهتزت مشاعري حينها وقررت الخوض في غمار البحث بجدية مع أول دمعة نزلت من آماقي .. وفي هذا المنحى لا أريد أن أسمع من أحد ، فقط أريد خيط البداية أو بداية الخيط لأنطلق ، ولم تكن الخطبة مقصورة على ما ذكرته من فقرات بل هي طويلة جدا وفيها الكثير من الأمور التي تشحذ الهمة لمعرفة تفاصيل ما جرى وظروفه الموضوعية المحيطة به.
     انتهى الشريط ، كفكفت دموعي محاولا إخفاءها حتى لا يحس بها ابن عمي ، لا أدري لماذا ؟ ربما اعتزازا بالنفس ، ولكن هول المفاجأة جعلني أنهمر عليه بمجموعة من الأسئلة وما أردت جوابا ، إنما هي محاولة للتنفيس وكان آخر أسئلتي إذا كان ما جاء في بعض مقاطع الخطبة صحيحا فهل كل ذلك من أجل فدك قطعة الأرض ؟!
     أجابني : عليك أولا أن تعرف من هي فاطمة ثم تبدأ البحث بنفسك حتى لا أفرض عليك قناعتي وأول مصدر تجد فيه بداية الخيط صحيح البخاري ، وناولني الكتاب فكانت المفاجأة التي لم أتوقعها.
     ماذا بين أبي بكر وفاطمة (ع) ؟
     أخرج البخاري في صحيحه الجزء الخامس (ص 82) في كتاب المغازي باب غزوة خيبر قال : عن عروة عن عائشة أن فاطمة بنت النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)


(62)
أرسلت إلى أبي بكر تسأله ميراثها من أبيها مما أفاء عليه بالمدينة وفدك وما بقي من خمس خيبر فقال أبو بكر : إن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) قال : « لا نورث من تركناه صدقه إنما يأكل آل محمد من هذا المال ... إلى أن يقول البخاري فأبى أبو بكر أن يدفع إلى فاطمة منها شيئا فوجدت فاطمة على أبي بكر في ذلك فهجرته ولم تكلمه حتى توفيت وعاشت بعد النبي (صلى الله عليه وسلم) ستة أشهر فلما توفيت دفنها زوجها علي ليلا وصلى عليها ولم يؤذن بها أبا بكر ».
     وأورد مسلم في صحيحه ذات الواقعة مع تغيير طفيف في الألفاظ يقول « فغضبت فاطمة » بدل كلمة وجدت (1).
     من هاتين الروايتين وغيرهما نستخلص الآتي :
     أولا : هذه الحادثة التي وقعت بين فاطمة بنت النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) والخليفة الأول حقيقة لا يمكن تكذيبها ولا الإعراض عنها لأنها مثبتة في متن أكثر الكتب صحة واعتمادا عند أهل السنة والجماعة بل في كل المصادر التاريخية والحديثية كما سيأتي بيانه لاحقا.
     ثانيا : إن الحادثة لم تكن خلافا عابرا أو سوء تفاهم بسيط بل هي مشكلة كبرى هذا ما نلمسه من كلمة « فوجدت فاطمة على أبي بكر » أو بتعبير مسلم « فغضبت فاطمة » فالغضب والوجد معناهما واحد ، محصلة أن فاطمة غضبت غضبا شديدا على أبي بكر .. بالرغم من قول الخليفة بأن الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) قال « لا نورث » ولكن فاطمة غضبت.
     ثالثا : إن غضب الزهراء كما أنه لم يكن قليلا في حدته لم يكن قصيرا في مدته بل استمر حتى وفاتها كما يقول البخاري نقلا عن عائشة « فهجرته ولم تكلمه حتى توفيت » وهذا معنى جلي في أن حالة الغضب والخلاف استمر إلى وفاتها بل إلى ما
     (1) صحيح مسلم كتاب الجهاد باب قول النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) لا نورث ص 153 وكذلك أورده البخاري في كتاب فرض الخمس باب فرض الخمس.
(63)
بعد ذلك إذ أن أبا بكر لم يصل عليها ودفنت ليلا سرا بوصية منها كما سنبين.
     رابعا : غضب الزهراء لم يكن منصبا فقط على أبي بكر بل شمل الخليفة الثاني بدليل عدم ذكره ضمن المصلين عليها ، وسيتضح أثناء البحث أن موقف أبي بكر وعمر واحد يعني موقف الزهراء منهما وموقفهما منها ، يقول ابن قتيبة في تاريخه « دخل أبو بكر وعمر على فاطمة فلما قعدا عندها حولت وجهها إلى الحائط .. إلى أن يقول فقالت : أرأيتكما إن حدثتكما حديثا عن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) تعرفانه وتعملان به ؟ قالا : نعم فقالت نشدتكما الله ألم تسمعا رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) يقول : رضا فاطمة من رضاي وسخط فاطمة من سخطي ، فمن أحب فاطمة ابنتي فقد أحبني ومن أرضاها فقد أرضاني ومن أسخطها فقد أسخطني ؟ ..
     قالا : نعم سمعناه من رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) قالت : فإني أشهد الله وملائكته أنكما أسخطتماني وما أرضيتماني ولئن لقيت النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) لأشكونكما إليه ، ثم قالت : والله لأدعون عليكما في كل صلاة أصليها » (1).
     كل هذه الحقائق جعلت الدنيا مظلمة لدي .. وفور توصلي إليها قفز إلى ذهني ألف سؤال وسؤال .. لا أدري ماذا أفعل وكيف أفكر وإلى من ألجأ ؟ !! إنها بضعة المصطفى الصديقة فاطمة ، أقرأ فإذا بها عاشت بعد أبيها في حالة غضب إلى أن ماتت ... كيف ولماذا !! الطرف الآخر الذي غضبت عليه الزهراء إنه الخليفة الأول ..
     الصديق .. الخليل لقد كان يحب رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) كما علمونا ـ أكثر من نفسه .. فكيف يفعل بالزهراء شيئا يغضبها ؟.
     كيفما كانت التساؤلات ومهما كان التبرير هاهي فاطمة (ع) كما وجدت بين طيات الكتب غاضبة على الخليفتين .. وكما سأبين لك عزيزي القارئ في الفصول القادمة .. وبرغم كل الحواجز قررت مواصلة البحث والتنقيب على ألا أجعل بين
     (1) الإمامة والسياسة « تاريخ الخلفاء » ص 12 ـ 13.
(64)
نفسي والحقائق حجاب الخوف أو الرهبة أو التبرير ومضيت في طريق ربما كان شائكا في بدايته ولكني بفضل بركات الصديقة الطاهرة وصلت إلى شاطئ اليقين ، ومعها ـ روحي فداها ـ كانت البداية المفجعة والنهاية الممزوجة بحلاوة الإيمان وقمة المعرفة.
     وسأبدأ معك عزيزي القارئ محطة فمحطة ولننطلق من تعريف شخصية فاطمة (ع) من خلال فضائلها التي سطرها الوحي بأحرف من نور وكللها النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) بصدق حديثه وهو الصادق المصدق فكانت كلماته حول فاطمة ذات دلالات ومعان نحاول أن نستقصيها في هذه الصفحات وبلا شك لن نستوعب كل ما جاء من مناقب وفضائل عن الزهراء (ع) لكني سأحاول سرد ما يفيدنا في بحثنا هذا ومن ثم نتعرف على الحقائق المحيطة بفاطمة (ع) والتي بنورها وبركاتها اهتديت وخرجت من ظلمات الجهل إلى رحاب نور أهل البيت (ع).
     فاطمة (ع) في القرآن
     كثيرة هي الآيات التي تحدثت عن قدسية الزهراء (ع) ومكانتها السامية سنختار هنا بعضا منها.
     الآية الأولى :
     قوله تعالى ( إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيرا ) (سورة الأحزاب : آية / 33).
     تشمل هذه الآية المباركة فيمن تشمل السيدة فاطمة الزهراء (ع) بل هي محور الآية وأساسها .. لأنها نزلت في أهل بيت النبوة ، ولنا حديث مع أولئك الذين حاولوا إدخال البعض من غير أهل البيت في نطاق الآية ، وما يهمنا الآن هو أن الزهراء معنية بهذا الخطاب الإلهي .. ولقد فصلت السنة في سبب نزول الآية وفيمن جاءت.
     لقد أورد مسلم في صحيحه أن الآية محل النقاش نزلت في خمسة : النبي (صلى


(65)
عليه وآله وسلم) وعلي وفاطمة والحسن والحسين (ع) وذلك في كتاب فضائل الصحابة باب فضائل أهل البيت وهو الحديث المعروف بحديث الكساء كما أنه اشتهر عند أهل بيت النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) بأهل العباءة أو الكساء وهذا من المتسالم عليه بين كل المسلمين خصوصا في مجتمعنا السوداني. وسنزيدك من المصادر التي تؤكد أن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وعليا وفاطمة والحسنين هم المقصودون بالآية في البحوث القادمة إن شاء الله ولكن دعنا الآن نتدبر الآية ، ومن خلالها نتعرف على شخصية فاطمة (ع).
     إن المتأمل في كلمات الآية يتوصل إلى أن المخاطبين بهذه الآية ، وفاطمة أحدهم مطهرون معصومون من كل رجس ، وتقريب ذلك تصدير الآية بأقوى أدوات الحصر على الاطلاق (إنما) مما يعني أن هذا الأمر خاص بجماعة معينة محددة لا يتعداهم إلى غيرهم ، ثم يأتي البحث عن الإرادة الإلهية التي ذكرت في الآية ( إنما يريد الله ... ) هي إرادة المولى عز وجل ( إنما أمره إذا أراد شيئا أن يقول لك كن فيكون ) فلا يمكن بحال تخلف إرادته تعالى.
     أما الرجس في اللغة فمعناه كل ما يلوث الإنسان سواء كان لوثا ظاهريا أو باطنيا والذي يعبر عنه بالإثم .. والرجس في هذه الآية هو اللوث والنجاسة الباطنية لأن الابتعاد والطهارة من النجاسة الظاهرية وظيفة دينية عامة لجميع المسلمين وذلك لشمول التكليف للجميع ولا خصوص لأهل البيت حتى ترد هذه الآية بحصرها وتوكيدها لنفي الرجس الظاهري عن أهل البيت. إنما جاءت لبيان فضيلة لهم خصهم بها الله سبحانه وتعالى وأخبر عنها في كتابه العزيز.
     ثم يأتي التأكيد ( ويطهركم تطهيرا ) إن النظرة العميقة للآية تجعلنا لا نشك لحظة واحدة في عصمة أهل البيت الذين ذكروا فيها ومنهم فاطمة بنت محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) فهي معصومة مطهرة من كل رجس ظاهرا وباطنا وسيأتيك التأكيد


(66)
على ذلك.
     الآية الثانية :
     قوله تعالى : ( قل لا أسألكم عليه أجرا إلا المودة في القربى ) (سورة الشورى :
     آية / 23). لقد جعل الله سبحانه وتعالى أجر الرسالة مودة أهل البيت ومنهم فاطمة الزهراء ، فالآية نزلت في قربى الرسول وهم علي وفاطمة والحسن والحسين كما نقل ذلك أعلام الحديث والتفسير مثل الحاكم الحسكاني الحنفي في شواهد التنزيل ج 2 ص 130 والحاكم النيسابوري في المستدرك (1).
     إنها العظمة والرفعة .. لقد وزن الله تعالى الرسالة المهيمنة على كل الرسالات بمودة القربى .. لقد استحقت فاطمة هذا الوسام الإلهي بجدارة ويكفينا لتأكيد ذلك تسطيرها ضمن آيات الذكر الحكيم .. إنه رصيد يضاف لمناقب الزهراء وفضائلها وإلى المزيد.
     الآية الثالثة :
     قوله تعالى ( فقل تعالوا ندع أبناءنا وأبناءكم ونساءنا ونساءكم وأنفسنا وأنفسكم ثم نبتهل فنجعل لعنة الله على الكاذبين ) (سورة آل عمران : آية / 61).
     لم يختلف المسلمون أن هذه الآية أيضا من مختصات أهل البيت فهي نزلت يوم مباهلة نصارى نجران وقد أمر الله تعالى النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أن يأخذ معه عليا وفاطمة والحسن والحسين (ع). فكانت هذه الآية وذلك مما ذكره مسلم في صحيحه كتاب الفضائل باب فضائل علي بن أبي طالب (1). وهكذا مثلت فاطمة كل نساء الأمة وكانت المباهلة بمثابة تثبيت للرسالة ، ولأهمية الحديث وعظمته في مسيرة
     (1) كما أورد ذلك السيوطي في إحياء الميت والزمخشري في تفسيره الكشاف. والفخر الرازي في تفسيره والسيوطي في الدر المنثور والقندوزي الحنفي في ينابيع المودة والبخاري وغيرها من المصادر.
     (1) وجاء ذلك أيضا في مستدرك الصحيحين للحاكم ومسند أحمد بن حنبل ج 1 ص 158.

(67)
الإسلام كان المباهل بهم مع النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) هم علي وفاطمة وابناهما .. مع أن الآية ذكرت نساءنا بصيغة الجمع إلا أن التمثيل المقدس كانت فاطمة فقط دون غيرها من النساء ولا حتى نساء النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) فتأمل عزيزي القارئ وانطلق بعقلك لتدرك مكانة الزهراء وعظمتها وما أظنك بقادر.
     آيات أخرى :
     يقول تعالى ( إن الأبرار يشربون من كأس كان مزاجها كافورا عينا يشرب بها عباد الله يفجرونها تفجيرا يوفون بالنذر ويخافون يوما كان شره مستطيرا ) إلى قوله تعالى ( إن هذا كان لكم جزاءا وكان سعيكم مشكورا ) (سورة الإنسان : آية / 5 ـ 22) ، هذه الآيات نزلت في علي وفاطمة والحسن والحسين بمناسبة قصة صيامهم ثلاثة أيام وتصدقهم في تلك الأيام الثلاثة بطعامهم على المسكين واليتيم والأسير بينما هم في أشد الحاجة إلى الطعام لإفطارهم .. ولقد ذكر جمع كبير من المحدثين والمفسرين أن هذه الآيات نزلت في هؤلاء الأربعة. منهم الزمخشري في كشافه .. والفخر الرازي في تفسيره (1).
     إن نزول هذه الآيات في علي وفاطمة والحسنين ينبوع أخر لكرامتهم ومكانتهم عند الله .. إذ أن الخالق جل وعلا خاطبهم من عليائه بصيغة الأمر الذي أبرمه وفرغ منه ( فوقاهم الله شر ذلك اليوم ، ولقاهم نضرة وسرورا وجزاهم بما صبروا جنة وحريرا ... ) إلى آخر الآيات هذه هي حقيقة الزهراء فاطمة وتلك هي مكانتها عند الله.
     يطول بنا المقام لسرد كل ما جاء عن فاطمة في القرآن ولقد جمع أحد العلماء الآيات التي نزلت في فضل فاطمة وأهل البيت فبلغت (258) آية من الذكر الحكيم.
     (1) الكشاف ج 4 ص 670 ط بيروت ، أسد الغابة لابن الأثير الشافعي ج 5 ص 530 ـ 531 ، تذكرة الخواص للسبط بين الجوزي وشواهد التنزيل للحاكم ، الدر المنثور للسيوطي وغيرها من المصادر.
(68)
ومع ذلك لو لم تأت إلا آية التطهير أو المباهلة لكفى بها موعظة لقوم يؤمنون فهذا قرآن عظيم في كتاب مكنون تنزيل العزيز الحميد.
     فاطمة (ع) بلسان أبيها
     ملاحظتان قبل الانطلاق في أحاديث الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) عن فاطمة :
     الملاحظة الأولى :
     إن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) حينما يتحدث عن فاطمة فإنه لا ينطلق من عاطفة الأبوة وهو القائل فيه البارئ عز وجل ( وما ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى ) وهو (صلى الله عليه وآله وسلم) في عموم حديثه عن الأشخاص لا يعطي أحدا أكثر مما يستحقه تبعا لعاطفته وحتى لو كان ذلك الإنسان ابنته.
     لأننا لو قلنا بذلك لطعنا في نبوته وكلماته القدسية التي نؤمن جميعا بأنها حجة لا زيغ فيها ولا هوى .. قال عبد الله بن عمرو بن العاص : كنت أكتب كلشيء أسمعه من رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فنهتني قريش وقالوا تكتب كلشيء سمعته من رسول الله وهو بشر يتكلم في الغضب والرضا ؟ فأمسكت عن الكتابة فذكرت ذلك لرسول الله فأومأ بأصبعه إلى فيه وقال : « أكتب فوالذي نفسي بيده ما خرج منه إلا حق ».
     إن النبي الأكرم (صلى الله عليه وآله وسلم) لا ينطق إلا صدقا وعدلا فلنضع كلماته عن الزهراء نصب أعيننا ونحن نقرأ عن موقفها بعد وفاته ولا نترك للشيطان سبيلا يتسلل منه .. لان فهمنا لهذه النقطة يمهد لنا السبيل لفهم موقف فاطمة (ع).
     الملاحظة الثانية :
     إنه (صلى الله عليه وآله وسلم) ركز في شخصية فاطمة على قدسيتها وخلوصها لله تعالى وقربها منه (صلى الله عليه وآله وسلم) بحيث يجعلك تأخذ الاحساس بأنها


(69)
جزء منه ما يصيبه كأنما أصابها وما يصيبها كأنما أصابه وأنها تمثله جسدا وموقفا ..
     تعبر عنه وهو المعبر عن إرادة الله تعالى وذلك في مجمل أحاديثه عن فاطمة « من أسخط فاطمة فقد أسخطني » « من أغضب فاطمة قد أغضبني ومن أغضبني فقد أغضب الله » .. وعلى هذا المنوال.
     ولقد استوقفني كثيرا محور كلام الرسول عن ابنته والذي كان يدور حول غضبها وسخطها ورضاها وكأنه ـ بأبي وأمي ـ يلمح للأمة بمصيبتها وابتلائها في موقفها من الزهراء .. وهذا لا ولن يخفى على ذوي الألباب المتفتحة والقلوب المفعمة بحب النبي وآله فلماذا يا ترى كان التركيز على هذا المحور بالذات ؟! هل يعقل أن يكون ذلك بلا سبب ؟! ألا يحمل هذا في طياته دلالات عميقة وإشارات واضحات.
     لقد كان رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) أبلغ العرب حين يتكلم وأكثر الناس حكمة حينما يفصح كما كان أحسنهم إنصافا للناس.
     لقد هيأ الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) الناس حتى يصدقوا الزهراء حين تنطق وهيأهم لأن يتحاشوا غضبها إذا غضبت وأخبرهم أن أذاها أذى له وهكذا مهمة الأنبياء تربية الأمم حاضرا أثناء حياتهم وتهيئتهم لاستقبال الحوادث المستقبلية بعد رحيلهم .. والنبي وهو أعظمهم خص الزهراء وهو الصادق الأمين بهالة قدسية تحرم على الآخرين هتكها .. ولم يكن ذلك لقرابتها منه بل لأنها أخلصت للحق وذابت في بوتقته فكانت مقياسا ومعيارا للذين سيأتون بعد أبيها (صلى الله عليه وآله وسلم) وتجلت حكمة الرسول في أحاديثه المختلفة للأمة التي كانت تنظر لواقع المستقبل وهي تحمل في طياتها بصائر تتضح من خلالها الرؤية ، وتحكم بها على أحداث الواقع في أي زمان ومكان. والأمثلة على ذلك كثيرة ، لقد تحدث النبي الأعظم (صلى الله عليه وآله) عن علي بن أبي طالب (ع) حينما قال « علي مع القرآن والقرآن مع علي » لأن معاوية سيأتي يوما ما ويرفع المصاحف على أسنة الرماح طالبا التحكيم بالقرآن كما حدث


(70)
في صفين حينها ستعرف أين جهة الحق والصدق لأن الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) ترك المعيار فعلي والقرآن لا يفترقان .. كذلك عندما قال (صلى الله عليه وآله وسلم) لعمار « تقتلك الفئة الباغية » فإنه (صلى الله عليه وآله وسلم) لم يترك مجالا للاعتذار لأولئك الذين قاتلوا في صف معاوية ضد علي ومعه عمار بن ياسر وهكذا أحاديث النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) تنطلق من الحاضر لتشخص داء الأمة في المستقبل.
     كل ذلك يجعلنا ننظر إلى غضب الزهراء بقدسية وإلى موقفها بتعقل. إنه غضب من أجل الحق وموقف صدق ضد الانحراف.
     إننا ننزه الزهراء من أن تغضب في سبيلشيء غير الحق إنه غضب مقدس وصرخة حق مدوية وبعد قليل سينكشف الغطاء وترى لماذا كان هذا الغضب.
     وإليك بعضا مما قاله المصطفى في ابنته ربيبة الوحي فاطمة الزهراء (ع) :
     1 ـ « فاطمة بضعة مني فمن أغضبها أغضبني ».
     رواه البخاري في صحيحه باب مناقب قرابة الرسول ج 4 ص 281 دار الحديث القاهرة (1).
     2 ـ « إنما فاطمة بضعة مني يؤذيني ما آذاها ».
     رواه مسلم في صحيحه كتاب فضائل الصحابة باب فضائل فاطمة.
     وفي رواية « فاطمة بضعة مني يقبضني ما يقبضها ويبسطني ما يبسطها » (2).
     3 ـ قال الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) لفاطمة (ع) :
     « إن الله يغضب لغضبك ويرضى لرضاك » رواه الحاكم في المستدرك على الصحيحين كتاب مناقب الصحابة ص 154 وقال عنه حديث صحيح الإسناد ولم
     (1) ذكره ابن حجر في الصواعق المحرقة ص 188.
     (2) أورده ابن حجر في صواعقه أيضا ص 190 وقد جاء هذا الحديث بصيغ مختلفة تعبر عن نفس المعنى في كثير من المصادر مثل مسند أحمد بن حنبل وكنز العمال والإمامة والسياسة لابن قتيبة ... وغيرها.
بنور فاطمة (ع) اهتديت ::: فهرس