بنور فاطمة (ع) اهتديت ::: 191 ـ 200
(191)
ولا أدري كيف يدعون نصرة الحق وهم يكذبون بل يبالغون فيه إلى حد يؤسف له ، صرخت في وجهه بلا وعي مني : ألا يمكنك أن تنصر الحق الذي تدعيه بدون أن تكذب وتفتري على القوم. فارتبك متلعثما : كيف تقول لي مثل هذا الكلام ؟! قلت :
    أنت الذي أجبرتني على ذلك أنا قرأت للشيعة وجلست معهم وأعرف جيدا ما يقولون وما ذكرته لي بعيد عنهم كل البعد فهم يوقرون الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) أكثر مني ومنك ويحترمون المقدسات الدينية ويؤمنون بالله ويدعونه ليل نهار ، ثم إن كلامك هذا متناقض فهم إذا كانوا يؤمنون بجبرائيل كونه يحمل وحي الرسالة للرسول فكيف يعبدون الحجر ، ثم إن مثل هذه التهم صارت قديمة لا يصدقها أحد والناس أكبر وعيا من أن تنطلي عليهم هذه الأكاذيب. قال : يبدوا أنك منهم ! قلت :
    لست شيعيا ولو كنت فلاشيء يمنعني من التصريح بذلك لكنني الآن فقط عرفتكم ، أنتم لا تستطيعون الدفاع عن باطلكم إلا عن طريق الكذب ، ومما يحزنني أنني كنت أعتقد بأن أنصار السنة « الوهابية » هم أكثر الناس ورعا وتقوى ، لكن الآن تجليتم لي بحقيقتكم. أدرت له ظهري كيما أرجع إلى الإخوة فقال لي : على كل حال يجب ألا تتأثر بكلام هؤلاء فإن في حديثهم سحرا يؤثر ، ضحكت وقلت له : هذا ما قالته قريش للنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) عندما جاء بالقرآن ، ورجعت إليه مرة أخرى قائلا له : ـ دعنا من كل ذلك فأنا أسألك حول قضية الحسين بن علي كمسألة واضحة ماذا تقولون فيها ؟ سكت وكأنه يبحث عن إجابة ثم قال : لماذا تبحثون عن هذه الأشياء ؟!
    قلت : أجب على سؤالي ودع عنك السبب.
    قال : معاوية صحابي جليل ، ويزيد كان أميرا على المسلمين والحسين خرج على ولي أمر زمانه ، ولو كان يزيد قد أخطأ فربما يكون قد تاب فلا داعي لأن نتحدث حوله ونشهر به.
    قلت مختتما هذا الحوار الذي لن يثمر عنشيء : أنت بهذا تلغي الآيات القرآنية التي شهرت بقابيل ونمرود وفرعون والسامري ... وغيرهم من الطغاة أعداء الرسالات ،

(192)
وبقولك هذا تبرر لكل مخطئ في هذه الدنيا لأنه ربما يتوب ، وبهذه العقلية تعطل الدين ويصبح كل التاريخ بلا فائدة ، كلمة أخيرة أقولها لك أنتم لا ترتقون لمستوى الدفاع عن شريعة السماء لأنها لا تحتاج إلى مراوغة وكذب وافتراء وحديثي معك الآن إذا لم أصبح بسببه شيعيا فهو يبعدني عنكم أكثر فأكثر.
    وحاول أن يعتذر قائلا : على كل حال نصيحة لك لا تقرأ لهؤلاء ونحن سنكون بالمرصاد لهم.
    قلت : إذا كانوا على حق فالله ناصرهم وإن كانوا على باطل فأنتم أكثر بطلانا منهم ، وتركته وانصرفت راجعا إلى الإخوة فوجدت أن الوهابية لم تزل تدافع عن يزيد ومعاوية فتركتهم وانصرفت إلى بعض أشغالي أسفا على حال هؤلاء المساكين الذين يرددون ما يقوله أحبارهم بلا وعي ولا فهم.
     مع الحسين (ع) :
    قضية الحسين (ع) من أولى القضايا التي أخذت مساحة من دواخلي وعمقت جرحا أحسست به منذ اللحظة الأولى التي بدأت فيها الحقائق تتكشف مزيحة جهلا ووهما كنا نعيشه بإيعاز وتخطيط ذكي من أولئك الذين حرفوا الحقائق وفقا لأهوائهم ورغباتهم وبتنا نحن نعيش في قصور من زجاج نحلم بأن يعيد التأريخ نفسه لنعيش تلك الحياة المعصومة التي كان يعيشها الصحابة والرعيل الأول من التابعين الذين عاشوا في صدر الإسلام ، ولا ننسى دور علمائنا الذين ظلوا يرددون ما وجدوه في التاريخ دون نظر وتحليل لما جرى فيه.
    وقضية الحسين (ع) من القضايا التي أراد أعداء الإسلام أن لا تبرز للناس لأنها تمثل حلقة من حلقات الصراع بين الحق والباطل وتعتبر من أنصح صفحات التاريخ في قضية الجهاد والتضحية في سبيل رسالة السماء.

(193)
كثيرا ما كنت أسمع في مجتمعي السوداني أن فلانا (مظلوم ظلم الحسن والحسين) ولكن من ظلمهم وكيف ؟ وما هو أساس ذلك الظلم ؟ وهل الحسن والحسين من الشخصيات الهامشية في الإسلام حتى لا نقف عند ما جرى لهم من هذه الأمة التي لم تحفظ النبي فيهم ؟!.
    غاية ما تعلمناه في مدارسنا أنه كانت هنالك مذبحة في منطقة كربلاء بطلها الحسين بن علي بدون ذكر لأسباب أو نتائج ، ويبدو أن أهل السنة والجماعة لديهم قناعة بفتوى شريح القاضي « الحسين خرج عن حده فليقتل بسيف جده » أو أنهم يدفنون رؤوسهم في الرمال حياء مما فعله سلفهم (الصالح) في أهل بيت النبي (صلى الله عليه وآله وسلم).
    استوقفتني قضية الحسين (ع) كثيرا كما استوقفتني قضية أمه الزهراء وأنا أبحث عن جهة الحق ، قرأت وسمعت عن قصة الحسين (ع) وعشت معه تارة أبكي وأخرى ألعن فيها من ظلمه وتارة أتأمل في واقع أمة كهذه ، لم أسمع بمثل هذه البشاعة من قبل ، أو سمعت ولكن كالعادة مخدرا بمقولة أن ما جرى في صدر الإسلام مرورا بالأمويين والعباسيين لا يجب علينا أن نبحث فيه ، ولا أن نتساءل ما هو جذر المشكلة ، لأن ذلك سيقودنا إلى نتائج ربما تخدش في أولئك المقدسين مما يجعل غضب الرحمن يصب علينا صبا.
    وقضية الحسين (ع) ستضعنا أمام أسئلة كثيرة وعلامات استفهام الإجابة عليها ستفضي بنا إلى أن الحسين كقضية لم يقتل في كربلاء ، بل إن أصل القضية يرجع إلى ما بعد وفاة الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) هنالك كانت البداية ، والنهاية كانت بجسد الحسين (ع) ليظهر يزيد بن معاوية أحقادا بدرية كما جاء في التاريخ فحينما جاؤوه برأس الحسين (ع) قال :
ليت أشياخي ببدر شهدوا لأهلوا واستهلوا فرحا قد قتلنا القرم من ساداتهم جزع الخزرج من وقع الأسل ثم قالوا يا يزيد لا تشل وعدلنا ميل بدر فاعتدل


(194)
إن القضية ليست خروج الحسين (ع) ضد أمير المؤمنين كما تسميه حاشية الضلالة عبدة الدينار والدرهم الذين باعوا دينهم من قبل لأبيه وأتموا الصفقة بقتلهم ابن بنت رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ، إن القضية قضية عداء طبيعي بين الحق والباطل وعداء تاريخي بين الهاشميين والأمويين ، وما يزيد إلا امتداد لأبيه الذي اكتسب شرعيته وملكه من الخليفة الثاني عمر بن الخطاب الذي اشتهر بقساوته ومساءلته للولاة فيما عدا معاوية « كسرى العرب » كما يقول عنه عمر لما عرف به من حبه للبذخ والترف واهتمامه بالمظاهر ، وهكذا كان معاوية في وضع مريح جعله يمتلك امبراطورية مسلحة بالشام ادخرت لنصرة الباطل فظهرت في صفين ضد علي ابن أبي طالب وفي النهاية أصبحت مقرا لحكم بني أمية.
    والحديث عن كربلاء ذو شجون ، وما جرى فيها من أحداث يقرح الجفون ويفطر الفؤاد ، لقد خرج أبو عبد الله الحسين (ع) ليصلح في الأمة ويعيدها إلى رشدها وذلك بإرجاعها إلى المنبع الحقيقي المتمثل في خلفاء رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) من أهل بيته المنصوص عليهم ، وها هو يقول قبل خروجه « إني لم أخرج أشرا ولا بطرا ولا مفسدا ولا ظالما وإنما خرجت لطلب الاصلاح في أمة جدي (صلى الله عليه وآله وسلم) ، أريد أن آمر بالمعروف وأنهى عن المنكر وأسير بسيرة جدي وأبي علي بن أبي طالب ».
    لم تلتزم الأمة بوصية النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) في استخلاف علي فابتلاها الله تعالى برجل كمعاوية سلط على رقابهم مراهقا فاجرا هو ابنه يزيد كما نجد في التاريخ الذي يحدثنا عن شخصية يزيد فيقول ابن كثير « كان يزيد صاحب شراب وفيه أيضا إقبال على الشهوات وترك بعض الصلوات في بعض الأوقات ».
    وقال صاحب الأغاني « كان يزيد أول من سن الملاهي في الإسلام من الخلفاء وآوى المغنين وأظهر الهتك وشرب الخمر ».
    وجاء في أنساب الأشراف « كان يزيد أول من أظهر شرب الشراب والاستهتار

(195)
بالغناء والصيد واتخاذ القيان والغلمان والتفكه بما يضحك منه المترفون من القرود والمعافرة بالكلاب والديكة ».
    هذا يسير مما وجدناه في كتب التاريخ عن شخصية يزيد ولو لم يفعل إلا قتله الحسين وأهل بيت النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وسبيه النساء الهاشميات لكفاه ليصاب بلعنات من السماء تلحقها لعنات من التاريخ الذي لم يحفظ لنا عن يزيد إلا الانحراف والمجون واللهو ، وقتل الأبرياء والتسلط على رقاب المسلمين إلى أن أهلكه الله ، ولا عجب أن يظهر من يدافع عن يزيد ويكتب كتابا ويطبعه باسم « حقائق عن أمير المؤمنين يزيد » فالتاريخ يعيد نفسه وسيستمر الصراع بين الحق والباطل إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها ، ولكن مما يؤسف له حقا أن هنالك من يصدق هذه الترهات والخرافات ومحاولات الدفاع عن شخصيات سقط عنها القناع ولم يرحمها التاريخ.
     من هو الحسين (ع) :
    لولا أن منهج البحث يتطلب التعرض لسيرة يزيد لما تطرقت لذكرشيء منها ، ويكفي أن نتعرف على شخصية الحسين (ع) لندرك أن من قتله أو سكت على قتله أو رضي الله بذلك أو أسس أساس هذا الظلم والجور على أهل البيت (ع) هم أعداء للدين وللإسلام.
    لقد جاء في الصحاح ، الحديث المتواتر لرسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) :
    « حسين مني وأنا من حسين أحب الله من أحب حسينا ». إن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) الذي لا ينطق إلا صدقا وعدلا كرس في العقول مفهوم حب أهل البيت (ع) وليس ذلك بسبب القرابة الدموية كما بينا ، إذ أنه لا يعقل وكيف تكون عواطفه مرتكزات تنطلق منها الأمة لتحديد معتقداتها وهو المبلغ لرسالة السماء وكل كلمة تنطق بها تمثل مفردة يجب النظر إليها بعين الاعتبار ، ولقد قرن الرسول (صلى

(196)
الله عليه وآله وسلم) حب الحسين بحب الله بلا قيد ولا شرط وذلك لا يكون إلا إذا كان الحسين يجسد الإرادة الإلهية والامتداد للنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) في مسؤولية تحمل الرسالة والدفاع عنها ، ولذلك قال الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) : « الحسن والحسين سيدا شباب أهل الجنة » وأهل الجنة في سن واحدة وفيها من كل الأمم من يستحقها ومع ذلك فهما سيدا أهل الجنة !.
    ماذا نعرف عن الحسن والحسين اللذين يستحقان هذه المرتبة العالية « سيادة أهل الجنة » ؟ سؤال وجهته إلى أكثر من شخص تحير في الإجابة عليه « هل الله سبحانه وتعالى جعل الجنة لأقرباء النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) بدون عمل وإنجاز يستحقون به ذلك !! ! إن الحسن والحسين إمامان أوصى بهما النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) لأنهما من الأئمة الذين سيقع عليهم عب ء مواصلة المسيرة الرسالية على أن تلتف حولهم الأمة لتأخذ منهم معالم دينها.
    والحسين من أهل الكساء الذين نزلت فيهم آية التطهير والمباهلة إنه الإمام البر التقي النقي ابن بنت المصطفى وثالث أولي الأمر المفروض علينا طاعتهم ... يذبح في كربلاء كما يفعل بالكبش ومع ذلك غيبوا الحقيقة عن الناس أرادوا لنا أن نعيش في جهل ... أن لا نقرأ خلف السطور في كتب التاريخ ... لماذا سمحت الأمة لنفسها أن تقتل أهل بيت النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) ومن الممهد لذلك ؟ لأن ظلم الحسين يجعلنا نتساءل عن ظلم الحسن والذي يعني التحدث عن معاوية وذلك يقودنا بالبحث عما أسموه بالفتنة في عهد عثمان وهذا بلا شك سيؤدي إلى هدم السقيفة على رؤوس أصحابها ، وهذا ما يخشاه علماؤنا الأفاضل.
    إن الحسين لم يقتل في كربلاء وحدها ... يقول العلامة السيد هادي المدرسي :
    إن للحسين قضيتان. « قضية الجسد المقطع وقضية الحق المضيع » صحيح أن جسد الحسين قطع في كربلاء وفصل الرأس عن الجسد .. ولكن الحق مضيع منذ اعتلى أبو بكر منصة الحكم بلا حق وأبعد أبا الحسن عليا (ع) الخليفة الشرعي ... وعندما بلغ

(197)
الأمر بالأمة أن يتسلط عليها شارب الخمر وراكب الفجور ضحى الحسين بنفسه وأهل بيته لينبه الأمة إلى خطورة ما هي عليه وإلى ذلك يشير الإمام الحسين (ع) عندما أرادوا منه أن يبايع يزيد وهو في المدينة قال : « نحن أهل بيت النبوة ومعدن الرسالة بنا فتح الله وبنا يختم ويزيد شارب الخمر وقاتل النفس ومثلي لا يبايع مثله ».
    وشئ متوقع أن تسمع الأمة بأن يذبح ابن بنت نبيها فلا تنصره ، فهذا هو الخليفة الأول أبو بكر يأمر بجمع الحطب حول بيت أم الحسين (ع) ليحرق أو يعطوه الشرعية وها هو عمر بن الخطاب يقف على باب دارها مهددا بالحرق حتى ولو كانت بنت المصطفى فيه كما مر .. فالقضية لها خلفية تاريخية منذ وفاة النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) ، فالجرأة التي جعلت أولئك يتطاولون على أولياء الله ويتخذون منصب الخلافة هدفا يهون في سبيله التنازل عن رسالة الإسلام حتى ولو أدى ذلك إلى قتل علي وفاطمة (ع) وهتك ستار بيت النبوة والنيل من بيت نزل فيه الوحي ومنه انطلقت الرسالة ... كل هذا لا بد أن يترجم يوما في صورة قبيحة ستظل نقطة سوداء في جبين الأمة وصفحة دموية في تاريخها ألا وهي واقعة الطف التي كان أبطالها هم أهل ذلك البيت الذي هتك حرمته الخلفاء بما أحدثوه من أمور مع أن العهد قريب والرسول لما يقبر أما في زمن يزيد فقد أحكمت القبضة للكفار والمنافقين وبدأوا يقطفون ثمار السقيفة ، وتجلت أهدافهم لمحو رسالة السماء في أقبح صورها ظهر عاشوراء 61 ه‍.
    رفض الإمام الحسين عقد البيعة ليزيد وبدأ في الاستعداد وتحرك إلى مكة التي أتته فيها الكتب والرسائل من أهل الكوفة يطلبون منه القدوم ، فأرسل إليهم ابن عمه مسلم بن عقيل فاجتمع عليه أهل الكوفة وبايعه ثمانية عشر ألفا ، فلما علم يزيد بذلك عزل واليه على الكوفة نعمان بن بشير وولى عبيد الله بن زياد طالبا منه تتبع مسلم وقتله فقدم عبيد الله وتتبع الشيعة فثار عليه مسلم ولكن أهل الكوفة خذلوه عندما مارس معهم ابن زياد سياسة الترغيب والترهيب وبقي مسلم وحيدا يقاتل حتى قتل في

(198)
تفاصيل مأساوية وقتل معه كبير الشيعة هناك هاني بن عروة وأرسل ابن زياد برأسيهما إلى يزيد.
    توجه الحسين إلى العراق بعد استلامه رسالة من مسلم قبل قتله تفيد بعدد من بايع وانتظارهم له ، وقد حاول البعض أن يثني الحسين (ع) عن الخروج إلا أنه كان يقول : « والله لو أنني كنت في جحر هامة من هذه الهوام لاستخرجوني حتى يقضوا في حاجتهم والله ليعتدن علي كما اعتدت اليهود على السبت » وكما يقول ابن كثير يقول « لأن أقتل بمكان كذا وكذا أحب إلي من أن تستحل بي يعني مكة » لقد كان يعلم أن القوم غير تاركيه حتى يبايع ولكنه كان مستعدا للتضحية فداء لهذا الدين ولا يبايع مثل يزيد ، يقول الإمام الحسين (ع) : « الحمد لله وما شاء الله ولا قوة إلا بالله ، خط الموت على ولد آدم مخط القلادة على جيد الفتاة ، ما أولهني إلى أسلافي اشتياق يعقوب إلى يوسف وخير لي مصرع أنا لاقية ، كأني بأوصالي تقطعها عسلان الفلوات بين النواويس وكربلا فيملأن مني أكراشا جوفا وأجربة سغبا لا محيص عن يوم خط بالقلم ، رضا الله رضانا أهل البيت نصبر على بلائه ويوفينا أجور الصابرين ، لن تشذ عن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) لحمته وهي مجموعة له في حظيرة القدس تقربها عينه وينجز بها وعده. من كان باذلا فينا مهجته ، وموطنا نفسه على لقاء ربه فليرحل معنا ، فإني راحل مصبحا إن شاء الله ».
    وانطلق غير مبال بأولئك الذين جبنوا عن مجابهة الباطل وسكتوا عن نصرة الحق ، انطلق ولسان حاله يقول : إن كان دين محمد لا يستقيم إلا بقتلي فيا سيوف خذيني ، وفي الطريق لقي الفرزدق فاستخبره الخبر فقال : إن القوم قلوبهم معك وسيوفهم عليك.
    أرسلت الجيوش لتقطع عليه الطريق وطلبوا منه إما البيعة أو القتل فرفض الإمام (ع) البيعة وقدم لهم خيارات أخرى رفضوها ثم خطب الحسين في ذلك الجيش « أيها الناس إن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) قال : من رأى منكم سلطانا

(199)
جائرا مستحلا لحرم الله ناكثا لعهد الله مخالفا لسنة رسول الله (صلى الله عليه وآله سلم) يعمل في عباد الله بالإثم والعدوان فلم يغير عليه بفعل ولا قول كان حقا على الله أن يدخله مدخله ... إلى أن قال : وأنا أحق من غير ».
    رفضوا رجوعه أو التوجه إلى يزيد وتركوه يسير مجانبا الطريق حتى يرسلوا لابن زياد ليدلي برأيه ، لقي الحسين (ع) رجلا من أهل الكوفة فقال له : « فالا تنصرنا فاتق الله أن تكون ممن يقاتلنا فوالله لا يسمع واعيتنا أحد ثم لا ينصرنا إلا هلك ».
     نزول الركب المقدس في كربلاء :
    حطت الركاب في كربلاء ومنع أهل البيت (ع) الماء وجاء الأمر من عبيد الله بن زياد إلى عمر بن سعد قائد الجيش الرسمي للوالي : أما بعد فإني لم أبعثك إلى حسين لتكف عنه ولا لتطاوله ولا لتمنيه السلامة والبقاء ولا لتقعد له عندي شافعا ، انظر فإن نزل حسين وأصحابه على الحكم واستسلموا فابعث بهم إلي سلما وإن أبوا فازحف عليهم حتى تقتلهم وتمثل بهم فإنهم لذلك يستحقون ، فإن قتل الحسين فأوطئ الخيل صدره وظهره فإنه عاق مشاق قاطع ظلوم ... وليس عهدي في هذا أن يضر بعد الموت شيئا ولكن على قول من قال : لو قد قتلته فعلت هذا به ! إن أنت مضيت لأمرنا فيك جزيناك جزاء السامع المطيع ، وإن أبيت فاعتزل عملنا وجندنا وخل بين شمر بن ذي الجوشن وبين العسكر فإنا قد أمرناه بأمرنا والسلام.
    أحاطوا به يوم عاشوراء ـ بأبي وأمي ـ ولم يكن معه إلا بضعة وسبعون نفسا ما بين طفل وشاب وشيخ وامرأة ، خطب في أعدائه وحاول وعظهم وهدايتهم إلى سبيل الرشاد ولكن هيهات لقد ختم الله على قلوبهم وحقت عليهم كلمة العذاب ، وقد قال فيما قال : تبا لكم أيتها الجماعة وترحا ! أحين استصرختمونا والهين فأصرخناكم موجفين سللتم علينا سيفا لنا في أيمانكم ! وحششتم علينا نارا اقتدحناها على عدونا وعدوكم فأصبحتم إلبا لأعدائكم على أوليائكم بغير عدل أفشوه فيكم ولا أمل أصبح لكم فيهم ، فهلا لكم الويلات تركتمونا والسيف مشيم

(200)
والجأش طامن ، والرأي لما يستحصف ولكن أسرعتم إلينا كطيرة الدبا وتداعيتم علينا كتهافت الفراش ، ثم نقضتموها سفها وضلة ... فسحقا لكم يا عبيد الأمة وشذاذ الآفاق ونبذة الكتاب ومحرفي الكلم وعصبة الإثم ونفثة الشيطان ومطفئي السنن. ألا وإن الدعي ابن الدعي قد ركز بين اثنتين ... بين السلة والذلة وهيهات منا الذلة يأبى الله لنا ذلك ورسوله والمؤمنون وحجور طابت وطهرت وأنوف حمية ونفوس أبية لا تؤثر طاعة اللئام على مصارع الكرام ألا وإني زاحف بهذه الأسرة على قلة العدد وخذلان الناصر ، . أما والله لا تلبثون بعدها إلا كريثما يركب الفرس ، حتى تدور بكم دور الرحى وتقلق بكم قلق المحور ، عهد عهده إلي أبي عن جدي رسول الله « فأجمعوا أمركم وشركاءكم ثم لا يكن أمركم عليكم غمة ثم اقضوا إلي ولا تنظرون ، إني توكلت على الله ربي وربكم ما من دابة إلا هو آخذ بناصيتها إن ربي على صراط مستقيم ».
    ثم رفع يديه إلى السماء وقال : « اللهم احبس عنهم قطر السماء وابعث عليهم سنين كسني يوسف وسلط عليهم غلام ثقيف يسقيهم كأسا مصبرة فإنهم كذبونا وخذلونا وأنت ربنا عليك توكلنا وإليك المصير ».
    ثم قال (ع) : والله لا يدع الله أحدا منهم إلا انتقم لي منه قتلة بقتلة وضربة بضربة وإنه لخير لي ولأهل بيتي وأشياعي.
    هذا هو كلام أبي عبد الله الحسين (ع) فاقرأ وتأمل تحس فيه بشفافية الروح المؤمنة وتدرك معنى الرسالية مما يؤكد أن ثورة الحسين لم تكن لتغيير نظام حاكم فقط إنما صرخة لتنبيه الأمة للانحراف العقائدي وابتعادها عن أوصياء رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ولكن من يستمع ..
    أصر القوم على تنفيذ جريمتهم وبدأوا القتال الذي تطايرت فيه الأيدي وتساقطت الرؤوس ولم يرحم كبير ولا صغير مثل أصحاب الإمام حبيب بن مظاهر وزهير بن القين وغيرهم .. أولئك الذين فهموا ماذا تعني نصرتهم للحسين (ع) وهم على علم بقتلهم فكانوا يتفانون في الدفاع عن ابن رسول الله.
بنور فاطمة (ع) اهتديت ::: فهرس