|
|||
دراساتٌ موجزةٌ
في الخيارات والشروط دراسة موضوعية ميسّرة
على ضوء الكتاب والسنّة تأليف
الفقيه المحقّق جعفر السبحاني (3)
بسم الله الرحمن الرحيم
قال الله تبارك وتعالى :
( وَ مَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً فَلَوْلاَ نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَة مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَ لِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ ) ( التوبة : 122 )
(4)
(5)
بسم الله الرحمن الرحيم
كلمة المكتب
الحمد للّه والصّلاة والسّلام على أنبياء اللّه ، لا سيّما رسوله الخاتم وآله الطيّبين الطاهرين المعصومين. أمّا بعد ، لا شكّ انّ إصلاح المناهج الدراسية المتداولة في الحوزات العلمية والمعاهد الدراسية في العصر الحاضر ـ الذي عُرف بعصر ثورة المعلومات ـ بات حاجة ملحّة يقتضيها تطوّر العلوم وتكاملها عبر الزمان ، وظهور مناهج تعليمية وتربوية حديثة تتوافق مع الطموحات والحاجات الإنسانية المتجددة. و هذه الحقيقة لم تعد خافية على القائمين على هذه المراكز ، فوضعوا نصب أعينهم إصلاح النظام التعليمي في قائمة الأولويات بعد أن باتت فاعليته رهن إجراء تغييرات جذرية على هيكلية هذا النظام. و يبدو من خلال هذه الرؤية انّ إصلاح النظام الحوزوي ليس أمراً بعيد المنال ، إلا أنّه من دون إحداث تغيير في المناهج الحوزوية ستبوء كافة الدعوات الإصلاحية بالفشل الذريع ، وستموت في مهدها. و المركز العالمي للدراسات الإسلامية ـ الذي يتولّى مهمّة إعداد المئات من الطلاب الوافدين من مختلف بقاع الأرض للاغتراف من نمير علوم أهل (6)
البيت ( عليهم السَّلام ) ـ شرع في الخطوات اللازمة لإجراء تغييرات جذرية على المناهج الدراسية المتّبعة وفق الأساليب العلمية الحديثة بهدف عرض المواد التعليمية بنحو أفضل ، الأمر الذي لا تلبّيه الكتب الحوزوية السائدة ؛ ذلك انّها لم تؤلّف لهدف التدريس ، وإنّما أُلّفت لتعبّـر عن أفكار مؤلّفيها حيال موضوعات مرّ عليها حُقبة طويلة من الزمن وأصبحت جزءاً من الماضي.
و فضلاً عن ذلك فانّها تفتقد مزايا الكتب الدراسية التي يراعى فيها مستوى الطالب ومؤهّلاته الفكرية والعلمية ، وتسلسل الأفكار المودعة فيها وأداؤها ، واستعراض الآراء والنظريات الحديثة التي تعبّر عن المدى الذي وصلت إليه من عمق ، بلغة عصرية يتوخّى فيها السهولة والتيسير وتذليل صعب المسائل مع احتفاظها بدقة العبارات وعمق الأفكار بعيداً عن التعقيد الذي يقتل الطالب فيه وقته الثمين دون جدوى. و انطلاقاً من توجيهات كبار العلماء والمصلحين وعلى رأسهم سماحة الإمام الراحل قدَّس سرَّه ، وتلبية لنداء قائد الثورة الإسلامية آية اللّه الخامنئي ـ مدّ ظـله الوارف ـ قام هذا المركز بتخويل « مكتب مطالعة وتدوين المناهج الدراسية » مهمة تجديد الكتب الدراسية السائدة في الحوزات العلمية على أن يضع له خطة عمل لإعداد كتب دراسية تتوفّر فيها المزايا السالفة الذكر. و قد بدت أمام المكتب المذكور ـ ولأوّل وهلة ـ عدّة خيارات : 1. اختصار الكتب الدراسية المتداولة من خلال انتقاء الموضوعات التي لها مساس بالواقع العملي. 2. إيجازها وشحنها بآراء ونظريات حديثة. (7)
3. تحديثها من رأس بلغة عصرية وإيداعها أفكار جديدة ، إلا أنّ العقبة الكأداء التي ظلّت تواجه هذا الخيار هي وقوع القطيعة التامة بين الماضي والحاضر ، بحيث تبدو الأفكار المطروحة في الكتب الحديثة وكأنّها تعيش في غربة عن التراث ، وللحيلولة دون ذلك ، لمعت فكرة جمع الخيارات المذكورة في قالب واحد تمثّل في المحافظة على الكتب الدراسية القديمة كمتون وشرحها بأُسلوب عصري يجمع بين القديم الغابر والجديد المحدث.
و بناء على ذلك راح المكتب يشمّر عن ساعد الجدّ ويستعين بمجموعة من الأساتذة المتخصّصين لوضع كتب وكراسات في المواد الدراسية المختلفة ، من فقه وأُصول وتفسير ورجال وحديث وأدب وغيرها. و كانت مادة الفقه ( قسم الخيارات ) بحاجة ماسّة إلى وضع كتاب جديد فيها يتناسب مع تطلّعات المركز ، فطلبنا من العلاّمة الفقيه ، سماحة آية اللّه الشيخ جعفر السبحاني ـ مدّ ظله ـ تدوين دروس موجزة في الخيارات والشروط ، فلبّى رغبتنا مشكوراً وتفضّل بتدوين هذا الكتاب الذي يحتوي على أهمّ المطالب الفقهية في الخيارات والشروط ، ببيان جزل وأُسلوب سهل ، بعيداً عن التعقيد والغموض ، لا يجد الطالب عسراً في استيعابها وفهمها. و في الختام لا يفوتنا إلا أن نتقدّم بالشكر الجزيل والثناء الوافر لأُستاذنا المؤلِّف على ما بذله من جهود في هذا الصعيد ، ونبتهل إلى اللّه سبحانه أن يديم عطاءه العلمي. المركز العالمي للدراسات الإسلامية
(8)
(9)
الحمد للّه ربّ العالمين ، والصّلاة والسلام على خاتم أنبيائه وأفضل سفرائه وأمينه على وحيه ، وعلى آله الذين هم عيبة علمه وحفظة سننه ، وحجج اللّه في أرضه.
أمّا بعد ، فهذه دروس موجزة في الخيارات والشروط وأحكامهما ، مصحوبة بالاستدلال ، بعيدة عن التعقيد والغموض والإطناب المملّ ، متعرّضة لأهمّ المسائل وألزمها ، معرضة عمّا يقلّ الابتلاء بها. وقبل الخوض في المقصود نرى من اللازم الإشارة إلى نكتة هامة وهي انّ الفقهاء قسّموا الفقه إلى أقسام أربعة : 1. العبادات ، 2. العقود ، 3. الإيقاعات ، 4. الأحكام والسياسات. ويشترك جميعها في لزوم استنباط أحكامها من الكتاب والسنّة والتحلّي بالمبادئ التي يتوقف عليها الاجتهاد ، غير انّ هناك فرقاً رئيسياً بين العبادات والمعاملات ( العقود والإيقاعات ) وهو انّ العبادات المحضة (1) أُمور توقيفية نزل بها الوحي من دون أن يكون للعرف والعقلاء أيّ مدخليّة فيها ، بل يجب على الفقيه الانكباب على الكتاب والسنّة. وهذا بخلاف المعاملات ، فانّها أُمور عرفية عقلائية أجرى الشارع عليها التعديل ، فأمضى ما يُصبّ في صالح الفرد والمجتمع وردع عن غيره ، الأمر الذي يفسّره 1. قيد احترازي عن الزكاة والخمس ونحوهما فانّها قربيات لا عبادات. (10)
لنا قلة النصوص الشرعية في باب المعاملات.
وعلى ضوء ذلك فالعبادات بما أنّها أُمور توقيفية ، ولم يخوّل أمرها إلى الإنسان ، وليس له فيها أيّ صنع ، لا محيص للفقيه في استنباط أحكامها عن السير وراء النصوص ، وعدم الخروج عنها قيد شعرة ، والإفتاء حسب شمول النصوص للمورد وعدم شموله ، والإمعان في لسان الدليل وملاحظة مقدار سعته وضيقه. وأمّا المعاملات فبما أنّها أُمور عقلائية ـ ابتكرها العقلاء طيلة حياتهم الاجتماعية ـ فهي أُمور عرفية قبل أن تكون شرعية ، فلا محيص للفقيه وراء مطالعة الدروس عن الإمعان في الارتكازات العرفية ، وما هو المعتبر عند العرف ، وما ليس كذلك. وقد أوضحنا في محاضراتنا أنّ صحّة المعاملة رهن دعامتين : الأُولى : كون المعاملة عرفية عقلائية ، تدور عليها رحى معاشهم وحياتهم الاجتماعية. الثانية : عدم ورود نهي من الشارع عنها على نحو العموم أو الخصوص. وإحراز كلا الأمرين كاف في الحكم بصحّة المعاملة ، ودخولها تحت العمومات ، من غير حاجة إلى إخراج النفس وإتعابها ، وإدخال المعاملات المستحدثة تحت العناوين الموجودة في الكتب الفقهية ، فعقد التأمين ، والشركات المستحدثة ، وبيع الامتياز ونظائرها داخلة تحت تلك الضابطة ، والتفصيل موكول إلى محلّه. وفي الختام نرجو من اللّه سبحانه أن يحفظنا من الزلل في التفكير والعمل ، كما نرجو منه سبحانه أن ينتفع بهذا الكتاب روّاد العلم وطلاّب الفضيلة. المؤلف
(11)
الكتاب يشتمل على المباحث التالية :
تمهيد : انّ الأصل في العقود اللزوم المقصد الأوّل : الخيارات العامة المقصد الثاني : الخيارات الخاصة بالبيع المقصد الثالث : أقسام الشرط المقصد الرابع : شروط صحة الشرط المقصد الخامس : أحكام الشروط المقصد السادس : أحكام الخيار (12)
(13)
تمهيد
الأصل في العقود اللزوم
الخيار لغةً واصطلاحاً
الخيار اسم مصدر من الاختيار ، نصّ به لفيف من علماء اللغة. قال ابن منظور : الخيار خلاف الاشرار. والخيار الاسم من الاختيار. (1) وتبعه الزبيدي في شرح القاموس. (2) ولكن الظاهر من الفيّومي في مصباحه انّه مصدر حيث قال : الخيار هو الاختيار. (3) ونقل الطريحي كلا القولين من غير ترجيح وقال : الخيار هو الاختيار ، ويقال : اسم من تخيرت الشيء مثل الطيرة اسم من تطيّر. (4) وعلى كلّ تقدير إذ كان الخيار من الاختيار وهو بمعنى الاصطفاء ، قال سبحانه : ( وَاختارَ مُوسى قَومَهُ سَبعينَ رَجُلاً ) (5) ، وقال سبحانه : ( وَأَنا اخْتَرتُكَ لِما يُوحى ) (6) ، فيكون الخيار أيضاً بمعنى الاصطفاء والانتخاب. 1. لسان العرب : 4 ، مادة « خير » فيه وسائر المصادر. 2. تاج العروس : 11. 3. المصباح المنير : 1. 4. مجمع البحرين : 3. 5. الأعراف : 155. 6. طه : 13. (14)
وأمّا في الاصطلاح فقد عُرِّف بتعاريف عديدة ، نقتصر منها على تعريفين : فالأوّل منهما للمحقّقين من القدماء ، والثاني للشيخ الأنصاري :
1. الخيار ملك إقرار العقد وإزالته. 2. الخيار هو ملك فسخ العقد (1) ، وهو المنقول أيضاً عن فخر المحقّقين ، ولعلّ الأوّل هو الأوفق لما في الروايات ، كما في قوله ( عليه السَّلام ) : « البيّعان بالخيار ما لم يفترقا » (2) ، أي له السلطنة على انتخاب أحد الطرفين إلى أن يفترقا ، وفي رواية الحلبي : « فإذا افترقا وجب البيع ». (3) وعلى هذا فالخيار لغة غيره اصطلاحاً ، لأنّه في اللغة بمعنى الاصطفاء والترجيح فيلازم صدور الترجيح من ذي الخيار ، بخلافه في الاصطلاح فهو عبارة عن حقّ الاصطفاء وحقّ الترجيح وإن لم يُعْمِل حقّه ، ولم يُرجح شيئاً. الأصل في العقود اللزوم وقبل الخوض في بيان أقسام الخيار وأحكامها نشير إلى ضابطة في العقود ، وهي : ذهب الأعلام (4) إلى أنّ الأصل في العقود هو اللزوم ، يقول الشهيد : الأصل في البيع اللزوم ، وكذا في سائر العقود ويُخرج عن الأصل في مواضع لعلل خارجة. (5) 1. والفرق بين التعريفين ، انّ الأوّل يركز على مالكية ذي الخيار للاقرار والفسخ ، والثاني يركز على مالكية ذي الخيار لخصوص الازالة. 2. الوسائل : 12 ، الباب 1 من أبواب الخيار ، الحديث 3 و4. 3. الوسائل : 12 ، الباب 1 من أبواب الخيار ، الحديث 3 و4. 4. التذكرة : 10/5 ؛ ايضاح الفوائد في شرح القواعد : 1/480. 5. القواعد والفوائد : 2/242. (15)
ويظهر من « مفتاح الكرامة » في كتاب المزارعة انّه إجماعي حيث قال بعد قول العلاّمة « وهو عقد لازم من الطرفين » ما هذا نصّه : « إجماعاً كما في جامع المقاصد والمسالك ومجمع البرهان ... وكأنّه إجماع ، لأنّ الأصل في العقد اللزوم إلا ما أخرجه الدليل ». (1)
فلو ثبتت الضابطة المذكورة فتكون هي المرجع فيما شكّ في لزوم العقد وجوازه ، سواء كانت الشبهة حكمية أو موضوعية. أمّا الأُولى فكما إذا شكّ في لزوم الجعالة أو المضاربة ، فالأصل هو اللزوم. اللّهمّ إلا أن يدلّ دليل على الجواز. أمّا الثانية فكما إذا اختلف المتداعيان في عقد ، فادّعى أحدهما انّه كان صلحاً والآخر انّه كان وديعة أو عارية ، فالأصل هو اللزوم ، فعلى من يدّعي خلافه ، البيّنة. إذا عرفت ذلك فالكلام يقع في توضيح الأصل ، وما هو المراد منه ؟ فنقول : هنا وجوه : الأوّل : المراد من الأصل هو الغلبة وانّ الغالب على العقود هو اللزوم. لكنّه ممنوع صغرى ، إذ ليست قلّة العقود الجائزة على حدّ يوجب انصراف الدليل عنها ، كما أنّه ممنوع كبرى ، إذ لا دليل على حجّية الغلبة لأنّها لا تفيد إلا ظنّاً ، والأصل في الظنون عدم الحجّية إلا إذا قام الدليل على حجّيتها. الثاني : الاستصحاب بمعنى انّه إذا قام أحد المتعاقدين بفسخ العقد وشككنا في تأثيره وعدمه ، فالأصل هو بقاء أصل العقد أو أثره بعد الفسخ. وذلك لأنّ العقد أو الإيقاع إذا تحقّق يوجب ترتّب أثر شرعي عليه ، من 1. مفتاح الكرامة : 7/300. |
|||
|