دروس موجزة في علمي الرّجال والدّراية ::: 16 ـ 30
(16)
الصادق ( عليه السَّلام ) ، له كتاب الرجال.
    2. الحسن بن محبوب ( 149 ـ 224 هـ ) من أصحاب الإمام أبي الحسن الرضا ( عليه السَّلام ) ، له كتاب المشيخة.
    3. علي بن حسن بن فضّال ( 203 ـ حوالي 270 هـ ) من أصحاب الإمامين أبي الحسن الهادي وأبي محمد العسكري عليهما السَّلام ، له كتاب الرجال.
    وقد استمر التأليف من عصر أئمّة أهل البيت بين أصحابنا إلى يومنا هذا.

    1. اذكر وجوه الحاجة إلى دراسة أحوال الرواة.
    2. بيّن موقف الإمام الصادق ( عليه السَّلام ) من الروايات التي تُنسب إلى أهلالبيتعليهم السَّلام.
    3. اشرح سيرة العلماء في العمل بالروايات.


(17)
    الدرس الثالث
أدلّة نفاة الحاجة إلى علم الرجال
(1)
    قد عرفت أدلّة القائلين بالحاجة إلى علم الرجال في استنباط الأحكام ، وحان البحث في استعراض أدلّة النفاة ، و قد استدلّوا بوجوه ، نذكر المهمّ منها :

    الأوّل : قطعية روايات الكتب الأربعة
    إنّ هناك من يذهب إلى قطعية روايات الكتب الأربعة ، وانّ أحاديثها مقطوعة الصدور عن المعصومين ( عليهم السَّلام ) ، وعلى ذلك فالبحث عن أحوال الرواة من حيث الوثاقة وعدمها لأجل طلب الاطمئنان بالصدور ، والمفروض انّها مقطوعة الصدور.
    والجواب : انّ ما ذكر ، دعوى فارغة عن الدليل والبرهان ; ولا يدّعيها من له إلمام بتاريخ الحديث وتدوينه. فنحن ندرس « الكافي » أوّلاً ، ثمّ « الفقيه » ثانياً ، و هكذا ، فنقول :
    احتجّ على لزوم الأخذ بروايات الكافي بوجهين :
    الأوّل : كون رواياته قطعية.


(18)
    الثاني : كون عامّة رواياته صحيحة.
    ونحن ندرس الوجهين واحداً بعد الآخر :

    أ. قطعية روايات « الكافي »
    لا شكّ انّ كتاب « الكافي » لمحمد بن يعقوب الكليني ( المتوفّى عام 329 هـ ) من أجلّ كتب الشيعة وأكثرها فائدة ، والذي لم يعمل مثله ، حيث صنّف كتابه هذا وهذّبه في عشرين سنة ، وهو يشتمل على ثلاثين كتاباً يحتوي على ما لا يحتوي عليه غيره ، وهو من أضبط الأُصول وأجمعها وأعظمها ولكن على الرغم من ذلك ليست قاطبة رواياته قطعية الصدور على التحقيق.
    كيف ؟ وانّ المؤلّف نفسه لم يدّع ذلك ، بل يظهر من مقدّمته على الكتاب عدم جزمه بقطعية صدور جميع أحاديثه ، حيث قال :
    « فاعلم يا أخي أرشدك اللّه أنّه لا يسع أحداً تمييز شيء ممّا اختلف الرواية فيه عن العلماء ( عليهم السَّلام ) برأيه إلاّ على ما أطلقه العالم بقوله ( عليه السَّلام ) : « أعرضوها على كتاب اللّه فما وافق كتاب اللّه عزّوجلّ فخذوه وما خالف كتاب اللّه فردّوه ».
    وقوله عليه السَّلام : « دعوا ما وافق القوم ، فإنّ الرشد في خلافهم ».
    وقوله ( عليه السَّلام ) : « خذوا بالمجمع عليه ، فإنّ المجمع عليه لا ريب فيه ». و نحن لا نعرف من جميع ذلك إلاّ أقلّه ، ولا نجد شيئاً أحوط ولا أوسع من ردّ علم ذلك كلّه إلى العالم ( عليه السَّلام ) ، وقبول ما وسع من الأمر فيه بقوله : « بأيّما أخذتم من باب التسليم وسعكم » وقد يسّر اللّه ـ وله الحمد ـ تأليف ما سألت ، وأرجو أن يكون بحيث توخّيت ». (1)
    وهذا الكلام ظاهر في أنّ محمّد بن يعقوب الكليني لم يكن يعتقد بصدور
1. الكافي : 1/9.

(19)
روايات كتابه عن المعصومين ( عليهم السَّلام ) جزماً ، وإلاّ لم يكن وجه للاستشهاد بالرواية على لزوم الأخذ بالموافق من الروايتين عند التعارض ، فإنّ هذا لا يجتمع مع الجزم بصدور كلتيهما ، فإنّ موافقة الكتاب إنّما تكون مرجّحة لتمييز الصادر عن غيره ، ولا مجال للترجيح بها مع الجزم بالصدور.
    كيف يمكن أن يقال بأنّ رواياته قطعية الصدور ، مع أنّ الشيخ الصدوق لم يكن يعتقد بذلك ، فانّه قال في باب « الوصيّ يمنع الوارث » :
    « ما وجدت هذا الحديث إلاّ في كتاب محمد بن يعقوب ، و ما رويته إلاّ من طريقه ». (1)
    فلو كانت روايات الكافي كلّها قطعية الصدور ، فكيف يصحّ ذلك التعبير من الشيخ الصدوق ؟!
    أضف إلى ذلك انّ في الكافي روايات لا يمكن القول بصحّتها. (2)
    نعم وجود هذه الروايات لا ينقص من شأن الكتاب وجلالته ، وأي كتاب بعد كتاب اللّه العزيز ليس فيه شيء ؟!

    ب : صحّة روايات « الكافي »
    إنّ الظاهر من الحوار الدائر بين السائل والمجيب ( الكليني ) هو انّ جميع ما في « الكافي » يتّسم بالصحة حيث طُلِبَ من الكليني أن يكتب كتاباً يجمع فيه جميع علوم الدين و ما يكتفي به المتعلّم ويرجع إليه المسترشد ويأخذ منه ما يريد علم الدين والعمل بالآثار الصحيحة عن الصادقين ( عليهم السَّلام ).
1. من لا يحضره الفقيه : 4/223.
2. لاحظ كتابنا « كليات في علم الرجال » : 375 ـ 376.


(20)
    وقد استجاب الكليني لرغبته ، حيث قال :
    و « قد يسّـر اللّه و له الحمد تأليف ما سألت ، وأرجو أن يكون بحيث توخّيت ». (1)
    وهذا الحوار يكشف عن كون ما في « الكافي » صحيحاً عند المؤلف.
    يلاحظ عليه : أوّلاً : أنّ السائل إنّما سأل محمد بن يعقوب تأليف كتاب يشتمل على الآثار الصحيحة عن الصادقين ( عليهم السَّلام ) ولم يشترط عليه أن لا يذكر فيه غير الرواية الصحيحة ، أو ما صحّ عن غير الصادقين ( عليهم السَّلام ) ، ومحمد بن يعقوب قد أعطاه ما سأله ، فكتب كتاباً مشتملاً على الآثار الصحيحة عن الصادقين ( عليهم السَّلام ) في جميع فنون علم الدين ، وإن اشتمل الكتاب على غير الصحيحة من الآثار ، أو الصحيحة عن غيرهم أيضاً استطراداً وتتميماً للفائدة.
    وثانياً : أنّ كون الرواية أو الروايات صحيحة عند الكليني لا يكون دليلاً على كونها صحيحة عند الآخرين بعد ما كانت شرائط الحجّية مختلفة في الأنظار ، وسيوافيك انّ الصحيح عند القدماء غير الصحيح عند المتأخّرين (2) ، وعندئذ كيف يمكن الأخذ بعامّة روايات « الكافي » بمجرّد كونها صحيحة عند المؤلّف ؟!

    1. ما هو الوجه الأوّل لنفي الحاجة إلى علم الرجال ؟
    2. هل كان الكليني يعتقد بقطعية روايات كتابه أو لا ؟ ولماذا ؟
    3. هل كان الصدوق يعتقد بقطعية روايات الكافي ، أو لا ؟ ولماذا ؟
    4. هل تتسم عامّة روايات الكافي بالصحّة ، أو لا ؟ ولماذا ؟
1. الكافي : 1/8 ـ 9.
2. لاحظ : الدرس 30.


(21)
    الدرس الرابع
أدلّة نفاة الحاجة إلى علم الرجال
(2)
    نقد قطعية أو صحّة أحاديث « الفقيه »
    إنّ كتاب « من لا يحضره الفقيه » تأليف الشيخ محمد بن علي بن الحسين بن بابويه ( 306 ـ 381 هـ ) المعروف بالشيخ الصدوق من أصحّ الكتب الحديثية وأتقنها بعد « الكافي » وقد طلب منه أبو عبد اللّه محمد بن الحسن المعروف بـ « نعمة » أن يصنّف كتاباً في الفقه والحلال والحرام ويسمّيه بـ « من لا يحضره الفقيه » ، كما صنّف الطبيب الرازي محمد بن زكريا كتاباً في الطب وأسماه « من لا يحضره الطبيب ».
    فأجاب مسؤوله وصنّف هذا الكتاب له ، وهو يصفه بقوله :
    « ولم أقصد فيه قصد المصنّفين في إيراد جميع ما رووه ، بل قصدت إلى إيراد ما أُفتي به وأحكم بصحته ، واعتقد فيه أنّه حجّة فيما بيني و بين ربّي تقدّس ذكره وتعالت قدرته ، وجميع ما فيه مستخرج من كتب مشهورة عليها المعوّل وإليها المرجع ، مثل كتاب حريز بن عبداللّه السجستاني ... وغيرها من الأُصول والمصنّفات التي طرقي إليها معروفة في فهرس الكتب التي رويتها عن مشايخي


(22)
وأسلافي ( رضي اللّه عنهم ) ». (1)
    يلاحظ عليه : أوّلاً : أنّ المدّعى هو كون روايات الفقيه قطعية الصدور بمعنى تواترها أو محفوفة بالقرائن التي تفيد العلم بالصدور ، والمتبادر من العبارة هو اعتقاد الصدوق بصحّة ما أورده فيه ، والصحيح أعمّ من القطعيّ ؛ لأنّ كون الرواية صحيحة عند المؤلّف غير كونها قطعية الصدور ، فالمراد من الصحة هي اعتبارها عنده وكونها حجّة بينه و بين ربّه ، وهو غير كونها قطعية الصدور.
    ثمّ إنّ تصحيح أحد الأعلام المتقدّمين كالكليني والصدوق للرواية لا يكون حجّة إلاّ عليهم لا على غيره ، بعدما كانت شرائط الحجّية مختلفة الأنظار ، فربّ حديث ، صحيح عند الصدوق وليس كذلك عند المتأخّرين وبالعكس ، فعلى المستنبط أن يتحرّى حتى يقف على صحّة الرواية وعدمها.
    فتلخّص من ذلك : انّ الصدوق لم يدّع قطعية الروايات الواردة في « الفقيه » وإنّما ادّعى اعتبارها ، لكن كون الرواية معتبرة عند مجتهد لا يكون دليلاً على اعتبارها عند المجتهد الآخر.
    وثانياً : أنّ أحاديث كتاب « الفقيه » لا تتجاوز عن 5963 حديثاً ، منها 2050حديثاً مرسلاً ، وعند ذلك كيف يمكن الركون إلى هذا الكتاب والقول بقطعية مراسيله أو اعتبارها ؟!
    وأمّا « التهذيب » و « الاستبصار » اللّذان يعدّان من الكتب الأربعة فهما من تأليف الشيخ محمد بن الحسن الطوسي وهو لم يدّع قطعية الأخبار الواردة فيهما ولا صحتها ; بل صرّح في مقدّمة كتابه بأنّ بعض ما أورده فيهما ضعيف سنداً ، وقسم منها عمل الأصحاب على خلافها. (2)
1. من لا يحضره الفقيه : 1/2 ـ 5.
2. انظر التهذيب : 1/3.


(23)
    إلى هنا تمّ الدليل الأوّل لنفاة الحاجة إلى علم الرجال ، وإليك دراسة الدليل الثاني لهم.

    الثاني : عمل المشهور جابر لضعف السند
    ذهب بعضهم إلى أنّ كلّ خبر عمل به المشهور فهو حجّة سواء كان الراوي ثقة أم لا ، وكلّ خبر لم يعمل به المشهور ليس بحجّة وإن كان رواته ثقات.
    يلاحظ عليه : انّ معرفة المشهور في كلّ المسائل أمر صعب للغاية ، لأنّ بعض المسائل غير معنونة في كتبهم ، وجملة أُخرى منها لا شهرة فيها ، وقسم منها يعدّمن الأشهر والمشهور ، ولأجل ذلك لا مناص من القول بحجّية قول الثقة وحده وإن لم يكن مشهوراً ، نعم يجب أن لا يكون معرضاً عنه كما حقّق في محلّه.

    الثالث : لا طريق إلى إثبات العدالة
    إنّ الغاية من الرجوع إلى الكتب الرجالية ، هو الوقوف على عدالة الراوي ، ولكنّها لا تثبت ، وذلك لأنّ أصحاب الكتب الرجالية ، ما عاصروا الرواة ولا عاشروهم ، وإنّما رجعوا في التعديل والجرح إلى الكتب المؤلّفة في العصور المتقدّمة التي كانت أصحابها معاصرين ومعاشرين مع الرواة أو مقاربين لأعصارهم ، فإنّ مضامين الأُصول الرجالية الخمسة وليدة تلك الكتب المؤلّفة في العصور المتقدّمة. هذا من جانب.
    ومن جانب آخر ، انّه لا « عبرة بالكتابة ولا بالقرطاس » كما هو الأساس في كتاب القضاء.
    والجواب أوّلاً : أنّ قسماً كبيراً من تعديلهم وجرحهم مستند إلى السماع من كابر عن كابر ، ومن ثقة عن ثقة ، فتكون شهاداتهم في حقّ الرواة ، مستندة إلى


(24)
السماع من شيوخهم إلى أن تنتهي إلى عصر الرواة ، و كانت الطبقة النهائية معاصرين لهم أو مقاربين لأعصارهم.
    كما أنّ قسماً آخر من قضائهم في حقّ الرواة مستند إلى الاستفاضة والاشتهار بين الأصحاب ، نظير علمنا بعدالة الشيخ الأنصاري وغيره من المشايخ عن طريق الاستفاضة والاشتهار في كلّ جيل وعصر إلى أن ينتهي إلى عصر الشيخ نفسه.
    وثانياً : نفترض انّ تعديلهم وجرحهم كان مستنداً إلى الكتب المدوّنة في عصر الرواة ، لكن لمَ لا يجوز الاعتماد عليها إذ ثبتت نسبتها إلى مؤلّفيها ؟ وما ربّما يقال من أنّه لا عبرة بالقرطاس أو بالكتابة فإنّما يراد المشكوكة لا المتيقّنة ، ولذلك تقبل الأقارير والوصايا المكتوبة إذا كانت بخط المقرّ أو الموصي ، أو خط غيرهما لكن دلّت القرائن على صحّة ما رُقّم كما إذا ختمت بخاتم المقرّ والموصي ، ومن يرفض الكتابة فانّما يرفضها في المشكوك لا في المعلوم والمطمئن منها.
    ثمّ إنّ لنفاة الحاجة إلى علم الرجال أدلّة أُخرى ضعيفة ، استعرضناها مع أجوبتها في كتابنا « كليات في علم الرجال » فلاحظ.

    1. هل يدل ما ذكره الصدوق في مقدمة كتاب « الفقيه » على قطعية صدور رواياته ، أو لا ؟ ولماذا ؟
    2. ما هو الوجه الثاني لنفاة الحاجة إلى علم الرجال ، وما هو جوابه ؟
    3. ما هو الوجه الثالث لنفاة الحاجة إلى علم الرجال ، وما هو جوابه ؟
    4. ماذا يراد من قولهم : « لا عبرة بالقرطاس والكتابة » وهل معناه نفي الاعتماد على الكتب الرجالية ؟


(25)
    الدرس الخامس
طرق ثبوت وثاقة الراوي
    التوثيقات الخاصّة
    ينقسم التوثيق إلى توثيق خاص ، وإلى توثيق عام.
    فالمراد من الأوّل هو التوثيق الوارد في حقّ شخص معيّن ، من دون أن تكون هناك ضابطة خاصة في البين.
    والمراد من الثاني هو توثيق جماعة تحت ضابطة خاصة وعنوان معيّن.
    وإليك بيان التوثيقات الخاصة ، وأمّا العامّة فسيوافيك بيانها لاحقاً.
    يثبت التوثيق الخاص بوجوه نذكرها واحداً تلو الآخر :

    الأوّل : نصّ أحد المعصومين ( عليهم السَّلام )
    إذا نصّ أحد المعصومين ( عليهم السَّلام ) على وثاقة الرجل ، فإنّ ذلك يثبت وثاقته قطعاً ، وهذا من أوضح الطرق وأسماها ، ولكن يتوقّف على ثبوته بالعلم الوجداني أو برواية معتبرة ؛ والأوّل غير متحقّق في زماننا ، إلاّ أنّ الثانية موجودة كثيراً.
    مثلاً : روى الكشّي بسند صحيح عن علي بن المسيب ، قال : قلت للرضا ( عليه السَّلام ) : شُقّتي بعيدة ولست أصِلُ إليك في كلّ وقت ، فعمّن آخذ معالم ديني ؟


(26)
    فقال : « من زكريا بن آدم القمي ، المأمون على الدين والدنيا ». (1)
    نعم يجب أن يصل التوثيق بسند صحيح ، ويترتب عليه أمران :
    الأوّل : لا يمكن الاستدلال على وثاقة الراوي برواية نفسه عن الإمام ، فإنّ إثبات وثاقة الراوي بقوله يستلزم الدور الواضح ، وكان سيدنا الأُستاذ الإمام الخميني ( قدَّس سرَّه ) يقول : إذا كان ناقل الوثاقة هو نفس الراوي ، فإنّ ذلك يثير سوء الظن به ، حيث قام بنقل مدائحه وفضائله في الملأ الإسلامي.
    الثاني : لا يمكن إثبات وثاقة الراوي بالرواية الضعيفة ، فإنّ الرواية إذا لم تكن قابلة للاعتماد كيف تثبت بها وثاقة الراوي ؟!

    الثاني : نصّ أحد أعلام المتقدّمين
    إذا نصّ أحد أعلام المتقدّمين كالبرقي و الكشّي وابن قولويه والصدوق والمفيد والنجاشي والشيخ وأمثالهم على وثاقة الراوي.
    لكنّ الاكتفاء بتوثيق واحد منهم مبني على حجّية قول الثقة في الأحكام والموضوعات ، فكما أنّ قول الثقة حجّة في الأحكام من دون لزوم التعدّد فهكذا حجّة في الموضوعات ، ومنها المقام أي كون الراوي ثقة أو غير ثقة. وقد أثبتنا في بحوثنا الأُصولية انّ دليل حجّية خبر الثقة يعمّ الأحكام والموضوعات معاً إلاّ ما دلّ الدليل الشرعي على التعدّد ؛ كما في المرافعات لفضّ الخصومات حيث لا يُقضى إلاّ بالبيّنة ، ومثلها رؤية الهلال وغيرهما. وقد وردت روايات يستنبط منها حجّية قول الثقة في الموضوعات ذكرناها في كتابنا « كليات في علم الرجال ». (2)
    ثمّ على القول بحجّية قول الثقة في الحكم والموضوع يبقى هناك إشكال ، وهو انّ إخبار الأعلام المتقدّمين عن الوثاقة والحسن ، لعلّه نشأ من الحدس
1. رجال الكشي : 496.
2. كليات في علم الرجال : 159 ـ 160.


(27)
والاجتهاد وإعمال النظر ، فلا تشمله أدلّة حجّية خبر الثقة فإنّها لا تشمل إلاّ الإخبار عن حسّ.
    والجواب : انّه لا شكّ في اختصاص قول الثقة بما إذا أخبر عن حس لا عن حدس ، و مبنى الأصحاب في التوثيق و الجرح كان هو الحس لا الحدس ، ويؤيد ذلك انّ النجاشي ربّما يستند إلى أقوال الرجال ، ويقول : « ذكره أحمد بن الحسين » ، (1) إلى غير ذلك من الموارد.
    والذي يبيّن انّهم كانوا يستندون في التوثيق والتضعيف على الحسّ دون الحدس ، قول الشيخ في كتاب « العدّة » في آخر فصله ، حيث قال في ثنايا البحث عن حجّية خبر الواحد :
    « إنّا وجدنا الطائفة ميّزت الرجال الناقلة لهذه الأخبار فوثّقت الثقات منهم ، وضعّفت الضعفاء ، وفرّقت بين من يعتمد على حديثه وروايته ، وبين من لا يعتمد على خبره ، ومدحوا الممدوح منهم ، وذمّوا المذموم وقالوا : فلان متّهم في حديثه ، وفلان كذّاب ، وفلان مخلّط ، وفلان مخالف في المذهب والاعتقاد ، وفلان واقفي ، وفلان فطحي ، وغير ذلك من الطعون التي ذكروها. وصنّفوا في ذلك الكتب واستثنوا الرجال في جملة ما رووه في التصانيف في فهارسهم ، حتّى أنّ واحداً منهم إذا أنكر حديثاً نظر في إسناده وضعفه برواته. هذه عادتهم على قديم وحديث لا تنخرم ». (2)
    وهذا دليل على أنّ التوثيق والتضعيف ، والمدح والقدح كانت من الأُمور الشائعة المتعارفة بين العلماء ، وكانوا ينصّون عليها في كتبهم.

    الثالث : نصّ أحد أعلام المتأخّرين
    وما تثبت به وثاقة الراوي أو حسن حاله هو نص أحد أعلام المتأخّرين عن
1. المراد ابن الغضائري في كتابه.
2. عدّة الأُصول : 1/141 ، ط تحقيق الأنصاري.


(28)
الشيخ الطوسي ؛ ولكنّه على قسمين : قسم مستند إلى الحس ، وقسم مستند إلى الحدس.
    فالأوّل كما في توثيقات الشيخ منتجب الدين ( المتوفّى585 هـ ) وابن شهر آشوب ( المتوفّى 588 هـ ) صاحب « معالم العلماء » وغيرهما ، فإنّهم لأجل قرب عصرهم لعصور الرواة ، ووجود الكتب الرجالية المؤلّفة في العصور المتقدّمة بينهم ، كانوا يعتمدون في التوثيق والتضعيف على السماع ، أو الوجدان في الكتاب المعروف أو على الاستفاضة والاشتهار ، ودونهما في الاعتماد ما ينقله ابن داود في رجاله ، والعلاّمة في خلاصته عن بعض علماء الرجال.
    والثاني كالتوثيقات الواردة في رجال من تأخّر عنهم كالميرزا الاسترآبادي والسيد التفريشي والأردبيلي والقهبائي والمجلسي والمحقّق البهبهاني وأضرابهم ، فإنّ توثيقاتهم مبنيّة على الحدس والاجتهاد كما تفصح عنه كتبهم ، فلو قلنا بأنّ حجّية قول الرجالي من باب الشهادة ، فلا تعتبر توثيقات المتأخّرين ; لأنّ آراءَهم في حقّ الرواة مبنيّة على الاجتهاد والحدس ، ولا شكّ في أنّه يعتبر في قبول الشهادة إحراز كونها مستندة إلى الحس دون الحدس ، كيف ؟ وقد ورد في باب الشهادة انّ الصادق ( عليه السَّلام ) قال : « لا تشهدنّ بشهادة حتّى تعرفها كما تعرف كفّك ». (1)

    1. ما هو الطريق الأوّل لمعرفة وثاقة الراوي ، مع ذكر مثال له ؟
    2.هل تنصيص أعلام المتقدّمين على الوثاقة حجّة ، أو لا ؟ ولماذا ؟
    3. اذكر كلام الشيخ في كتاب العدة ، وماذا أراد منه ؟
    4. هل تنصيص أعلام المتأخّرين على الوثاقة حجّة أو لا ؟ وهل هناك فرق بين من قَرُبَ عهدهُ من زمان الرواة ومَنْ بعد عنه ؟
1. الوسائل : 18 ، الباب 20 من أبواب الشهادات ، الحديث 1 و 3.

(29)
    الدرس السادس
تصحيح الرجوع إلى توثيقات المتأخّرين
    إذا كان الرجوع إلى قول الرجالي من باب الشهادة ، فقد علمت أنّه لا عبرة بتوثيقات المتأخّرين ; لأنّه يشترط في صحّة الشهادة ونفوذها استنادها إلى الحس ، وهذا الشرط منتف في توثيقاتهم.
    نعم يمكن تصحيح الرجوع إلى توثيقاتهم بوجهين :

    الأوّل : الرجوع إلى أهل الخبرة
    إنّ الرجوع إلى قول الرجالي يُعدّ من أقسام الرجوع إلى أهل الخبرة ، ولا يشترط في الاعتماد على أقوالهم أن يكون نظرهم مستنداً إلى الحس ، فإنّ قول الخبير حجة سواء استند إلى الحس وهو قليل ، أم إلى الحدس وهو كثير.
    ألا ترى أنّ قول الطبيب المعالج حجّة في حقّ المريض ، فلو أمر الطبيب المريض بالامتناع من استعمال الماء ، يجب على المريض التيمّم مكان الوضوء ; أو قال بأنّ الصوم مضرّ بصحّته ، يجب على الصائم الإفطار.
    ومنه أيضاً تقييم الخسارات الواردة على الأموال ، ومثلها الجناية فيرجع في تحديدها إلى أهل الخبرة ، وليس نظرهم مستنداً إلى الحس.


(30)
    فالعالم الرجالي خبير في معرفة الرواة من حيث الوثاقة وضدّها وإن استند في نظره إلى القرائن والشواهد المفيدة للاطمئنان في مورده.
    وهذا الوجه إنّما يفيد لمن يقول بحجّية قول الرجالي من باب أنّهم أهل الخبرة.

    الثاني : حجّية الخبر الموثوق بصدوره
    إنّ الدليل الوحيد على حجّية خبر الواحد هو بناء العقلاء وسيرتهم المتّصلة بزمن المعصومين الكاشفة عن رضاهم بالعمل بخبر الواحد ، ولكن الكلام فيما هو موضوع الحجّية ، فهناك نظران :
    أ. انّ الحجّة هو خبر الثقة بما هو ثقة وإن لم يفد الوثوقَ بصدور الرواية.
    فلو كان هذا هو الموضوع فلا يفيد الرجوع إلى توثيقات المتأخّرين في إثبات الصغرى ، وهو انّ المخبر ثقة ، لعدم استنادهم في مقام الشهادة إلى الحسّ.
    ب. انّ الموضوع للحجّية هو الخبر الموثوق بصدوره سواء أكان الراوي ثقة أم لا ، وانّ العمل بخبر الثقة لأجل انّه يفيد الوثوق بصدور الرواية.
    فإذا كان هذا هو ملاك الحجّية فالرجوع إلى توثيقات المتأخّرين الذين يعتمدون في التعديل والجرح على القرائن والأمارات ، ربما يورث الوثوق بصدور الخبر فلا يكون الرجوع إلى أقوالهم وكلامهم أمراً غير مفيد.

    طرق الوثوق بصدور الرواية
    كما أنّ توثيقات المتأخّرين من الطرق المورثة للعلم بصدور الرواية ، فإنّ هناك أُموراً أُخرى يجب على المستنبط القيام بها مباشرة ، فإنّها من الأُمور المورثة
دروس موجزة في علمي الرّجال والدّراية ::: فهرس