دروس موجزة في علمي الرّجال والدّراية ::: 136 ـ 150
(136)
في هذا الباب العلاّمة الحلي في « الخلاصة » ، وتبعه ابن داود ، ثمّ أرباب المجاميع الرجالية وشرّاح الفقيه ، كالتفريشي والمجلسي الأوّل.
    والحاصل انّ عمله هذا ، أوجد مشكلتين :
    1. ربّما ذكر اسم المؤلّف الذي أخذ الحديث عنه في ثنايا الكتاب وغفل عن أن يذكر طريقه إليه.
    2. ذكر طريقاً لكنّه طريقٌ عليلٌ لا يحتجّ به.
    وقد ذهب سيد مشايخنا المحقّق البروجردي إلى عدم الحاجة لتصحيح أسناد الصدوق إلى أرباب الكتب ، وذلك لأنّ الكتب التي نقل عنها الصدوق في هذا الكتاب كانت مشهورة وكان الأصحاب يُعوّلون عليها ولم يكن ذكر الطريق إلى هذه الكتب إلاّ تبرعاً وتبرّكاً لإخراجها عن صورة المرسل إلى صورة المسند لاشتهار انتساب هذه الكتب إلى مؤلّفيها ، وبذلك استغنى المؤلّف عن ذكر السند في بعض المواضع ، أو ذكر طريقاً عليلاً.
    والذي يدلّ على ذلك قوله في ديباجة الكتاب : و « جميع ما فيه مستخرج من كتب مشهورة عليها المعوَّل وإليها المرجع ، مثل كتاب حريز بن عبد اللّه السجستاني ، وكتاب عبيد اللّه بن علي الحلبي وكتب علي بن مهزيار الأهوازي ... ». (1)
    وهذه العبارة تعرب عن أنّ ذكر الطريق إلى هذه الكتب في المشيخة لم يكن عملاً لازماً ، ولذلك ربما لم يذكر طريقاً إلى بعضها أو ذكر طريقاً فيه ضعف ، لعدم المبالاة بصحة الطريق وعدمها.
    قال المجلسي الأوّل في شرح العبارة ما هذا لفظه : من كتب مشهورة بين
1. الفقيه : 1/2 ـ 5.

(137)
المحدِّثين بالانتساب إلى مصنّفيها ورواتها ، والظاهر انّ المراد بالشهرة ، التواتر ، وقوله : « وعليها المعوّل » يعني كلّها محل اعتماد للأصحاب. (1)
    وبذلك أصبح البحث في طرق الصدوق إلى أصحاب الكتب أمراً غير لازم و انّما اللازم البحث عن حال مؤلّف الكتاب وطريقه إلى الإمام ويشهد على ذلك انّه ذكر طريقه إلى ما نقله عن كتاب « الكافي » ، ومن المعلوم انّ نسبة الكتاب إلى مؤلّفه كالشمس في رائعة النهار ، فإذا علم انّ الصدوق أخذ الحديث من الكتب المذكورة ، فالبحث عن الطريق يكون أمراً غير لازم ، اللّهمّ إلاّ إذا لم نجزم بذلك واحتملنا انّ الحديث وصل إليه بالطرق المذكورة في المشيخة ، فيصير البحث عن صحّة الطريق أمراً لازماً.
    لكن فرض البحث في الموارد التي أخذ الصدوق الحديث من الكتب المعروفة ، ففي مثل هذه الموارد لا تضرّ الجهالة أو الضعف في السند إلى كتب حمّاد ابن عيسى أو صفوان بن يحيى وغيرهما ممّا ذكر في مقدمة الكتاب.
    وبذلك تحّل المشكلة في كتاب « الكافي » أيضاً حيث إنّه ـ قليلاً ـ يُصدّر الحديث باسم من أخذ الحديث عن كتابه ، أو يتوسط بينه و بين أصحاب الكتب مجاهيل كمحمد بن إسماعيل على فرض جهالته ، أو ضعاف كسهل بن زياد.
    وجه الحل انّ اشتهار الكتب صار سبباً لترك ذكر السند ، أو توسط الراوي الضعيف بينه و بين صاحب الكتاب.

    مسلك الشيخ في التهذيبين
    قد ذكر السيد الأجل بحر العلوم مسلكه فيهما وقال : إنّه قد يذكر في
1. روضة المتقين : 1/14.

(138)
« التهذيب » و « الاستبصار » جميع السند كما في « الكافي » ، وقد يقتصر على البعض بحذف الصدر كما في « الفقيه » ولكنّه استدرك المتروك في آخر الكتابين ، فوضع له مشيخته المعروفة ، وهي فيهما واحدة غير مختلفة ، قد ذكر فيهما الطرق إلى أصحاب الأُصول والكتب ممن صدّر الحديث بذكرهم وابتدأ بأسمائهم ولم يستوف الطرق كلّها ولا ذكر الطريق إلى كلّ من روى عنه بصورة التعليق بل ترك الأكثر لقلّة روايته عنهم ، وأحال التفصيل إلى فهارس الشيوخ المصنّفة في هذا الباب ، وزاد في « التهذيب » الحوالة على كتاب الفهرست الذي صنّفه في هذا المعنى.
    إنّ السبب لترك ذكر الطريق أو الاقتصار بالطريق الضعيف ، نفس السبب الذي نوّهنا به في مورد « الفقيه » ويشهد على ذلك أمران :
    1. قوله في مشيخة التهذيب : والآن حين وفق اللّه تعالى للفراغ من هذا الكتاب ، نحن نذكر الطرق التي نتوصّل بها إلى رواية هذه الأُصول والمصنّفات ونذكرها على غاية ما يمكن من الاختصار ، لتخرج الأخبار بذلك عن حدّ المراسيل وتلحق بباب المسندات. (1)
    فإنّ العبارة تعرب عن أنّ الغاية في وضع المشيخة هو إخراج الكتب عن حدّ المراسيل والإلحاق بباب المسندات.
    2. انّه ( قدَّس سرَّه ) ابتدأ في المشيخة بذكر الطرق إلى كتاب « الكافي » الذي انتسابه للمؤلّف أمر متواتر.
    وبذلك نقف عن أنّ الغور في طرق الشيخ إلى أصحاب الكتب أمر لاطائل تحته فيما إذا نقل الحديث عن كتب معروفة ، وليس على الفقيه إلا التفتيش عن أحوال أصحاب الكتب ومشايخهم إلى أن ينتهي إلى الإمام.
1. التهذيب : 10/25 من المشيخة.

(139)
    نعم إذا كانت الكتب غير معروفة يجب الفحص عن الطريق الذي اعتمد عليه الشيخ في نقل الحديث.
    وبذلك يعلم أنّه لو أحطنا علماً بالكتب المعروفة في عصر الشيخ وميّزناها عن غيرها ، لاستغنينا عن البحث في أسانيد الشيخ إلى أرباب الكتب المعروفة.
    غير انّ كثيراً من المشايخ سلكوا غير هذا المسلك وحاولوا تصحيح أسانيد الشيخ في التهذيبين ، وهذا ما سنبحث عنه في الدرس التالي.

    1. ما هو منهج الشيخ الكليني في نقل الحديث في كتاب « الكافي » ؟
    2. ما هو منهج الشيخ الصدوق في نقل الحديث في كتاب « الفقيه » ؟
    3. كيف نعرف طرق الصدوق إلى أصحاب الكتب ؟
    4. ما هو منهج الشيخ الطوسي في نقل الحديث في « التهذيبين » ؟


(140)

(141)
    الدرس السادس والعشرون
تصحيح أسانيد الشيخ
في التهذيب والاستبصار
    قد عرفت أنّ الشيخ صدّر الحديث بأسماء من أخذ من كتبهم ، وذكر طرقه إليهم في آخر الكتاب وهؤلاء ـ أعني : الذين ذكر طريقه إليهم ـ تسعة وثلاثون شيخاً. خمسة وعشرون من طرقه صحيح ، والباقي غير معتبر.
    وأمّا الذي ترك الشيخ ذكر سنده إليهم في خاتمة الكتابين ، فربما يبلغ عددهم تسعة وعشرين شيخاً فيبلغ عدد المشايخ سبعين شيخاً ، وقد أوجب هذا اضطراباً في اعتبار أحاديث الكتابين ، حيث صار ذلك سبباً لعدم اعتبار أحاديث أكثر من صُدِّر الحديث بأسمائهم.
    ثمّ إنّ المحقّقين من المتأخّرين حاولوا تصحيح أسانيد الشيخ بوجوه مختلفة ، نذكر منها وجهين :

    الأوّل : الرجوع إلى الفهارس
    خلاصة هذا الوجه هو الرجوع إلى فهرست الشيخ أوّلاً ، وطرق من تقدّمه عصراً ثانياً ، أو عاصره ثالثاً.


(142)
    أمّا الأوّل : فلأنّ للشيخ في الفهرست طرقاً إلى أرباب الكتب والأُصول الذين أهمل ذكر طريقه إليهم ، فبالرجوع إلى الفهرست يعلم طريق الشيخ إلى أصحاب تلك الكتب التي لم يذكر سنده إليهم في المشيخة أو كان معلولاً بالضعف والجهالة.
    وأمّا الثاني : فبالرجوع إلى مشيخة الفقيه للشيخ الصدوق ، ورسالة الشيخ إلى غالب الزراري ( المتوفّى عام 368 هـ ) إذا كان لهما سند إلى الكتب التي لم يذكر سنده إليها في التهذيب ، لكن إذا وصّلنا سند الشيخ إلى هؤلاء يحصل ـ بالنتيجة ـ السند إلى أصحاب هذه الكتب.
    أمّا الثالث : فبالرجوع إلى طريق النجاشي فإنّه كان معاصراً للشيخ مشاركاً له في أكثر المشايخ كالمفيد ، والحسين بن عبيد اللّه الغضائري ، وأحمد بن عبدون الشهير بابن الحاشر ، فإذا علم رواية النجاشي للأصل والكتاب عن طريق أحد هؤلاء ، كان ذلك طريقاً للشيخ أيضاً.
    هذا هو الوجه الأوّل وهو الرائج بين علماء الرجال المتأخّرين.

    الثاني : التعويض عن الطريق الضعيف
    إنّ المتتبّع الخبير الشيخ محمد الأردبيلي ( المتوفّـى عام 1101 هـ ) أحد تلامذة العلاّمة المجلسي قد قام بتأليف كتابين في الرجال :
    أ. جامع الرواة : وهو كتاب مبتكر في موضوعه ، يلتقط في ترجمة الرواة جملة من الأسانيد عن الكتب الأربعة وغيرها ، ويجعلها دليلاً على التعرّف على شيوخ الراوي وتلاميذه وطبقته وعصره ، وقد طبع وانتشر وكان سيّد مشايخنا المحقّق البروجردي ( قدَّس سرَّه ) يُثني عليه كثيراً.


(143)
    ب. تصحيح الأسانيد : وهو بعد غير مطبوع ، ولم نقف عليه إلى الآن ، لكن ذكر المؤلّف مختصره وديباجته في آخر كتاب « جامع الرواة ». (1)
    وقد حاول المؤلّف في هذا الكتاب تصحيح أسانيد الشيخ في « الفهرست » و « الاستبصار » بغير الطريق المذكور وإليك نصّ كلامه :
    إنّي لمّا راجعت إليهما رأيت أنّ كثيراً من الطرق المورودة فيهما معلول على المشهور ، بضعف أو إرسال ، أو جهالة.
    وأيضاً رأيت انّ الشيخ رحمه اللّه ربما بدأ في أسانيد الروايات بأُناس لم يذكر لهم طريقاً أصلاً ، لا في المشيخة ولا في « الفهرست » ، فلأجل ذلك رأيت من اللازم تحصيل طرق الشيخ إلى أرباب الأُصول والكتب ، غير الطرق المذكورة في المشيخة و « الفهرست » ، حتى تصير تلك الروايات معتبرة.
    فلمّا طال تفكّري في ذلك وتضرّعي ، أُلقي في روعي أن أنظر في أسانيد روايات التهذيبين ، فلمّا نظرت فيها وجدت فيها طرقاً كثيرة إليهم غير ما هو مذكور في المشيخة والفهرست ، أكثرها موصوف بالصحة والاعتبار ، فصنّفت هذه الرسالة وذكرت فيها جميع الشيوخ المذكورين في المشيخة والفهرست ، وذيّلت ما فيهما من الطرق الضعيفة أو المجهولة بالإشارة إلى ما وجدت من الطرق الصحيحة أو المعتبرة مع تعيين موضعها ، وأضفت إليهم من وجدت له طريقاً معتبراً ولم يذكر طريقه فيهما. (2)
    ولزيادة التوضيح نقول : إنّه روى الشيخ في « التهذيب » روايات عن عليّ بن
1. لاحظ : الجزء الثاني من جامع الرواة : الفائدة الرابعة من خاتمته ، الصفحة 473 ، ونقله المامقاني في خاتمة التنقيح.
2. لاحظ ما ذكره المؤلف في الفائدة الرابعة من خاتمة كتابه « جامع الرواة » ، الصفحة 473 ـ 475. وما ذكرناه ملخّص ما أورده المحقّق البروجردي في تصديره لكتاب « جامع الرواة » : 1/266.


(144)
الحسن الطاطري بدأ بذكر اسمه في أسانيده. مثلاً روى في كتاب الصّلاة هكذا : عليّ بن الحسن الطاطري قال : حدّثني عبد اللّه بن وضّاح ، عن سماعة بن مهران قال : قال لي أبو عبد اللّه ( عليه السَّلام ) : « إيّاك أن تصلّي قبل أن تزول ، فإنّك تصلّي في وقت العصر خير لك أن تصلّي قبل أن تزول ».
    وقال في المشيخة : وما ذكرته عن عليّ بن الحسن الطاطري فقد أخبرني به أحمد بن عبدون ، عن عليّ بن محمّد بن الزبير ، عن أبي الملك أحمد بن عمر بن كيسبة ، عن عليّ بن الحسن الطاطري.
    وهذا الطريق ضعيف بجهالة اثنين منهم : ابن الزبير وابن كيسبة ، ومقتضاه عدم اعتبار تلك الروايات الّتي يبلغ عددها إلى ثلاثين حديثاً في « التهذيب ».
    وأمّا المحاولة ، فهي أنّا إذا رأينا أنّ الشيخ روى في باب الطّواف أربع روايات بهذا السند : موسى بن القاسم ، عن علي بن الحسن الطاطري ، عن درست بن أبي منصور ، عن ابن مسكان ، ثمّ وقفنا على أمرين :
    1. إنّ موسى بن القاسم ـ أعني : من صدّر به السند ـ ثقة.
    2. طريق الشّيخ إليه صحيح ، فعند ذلك يحصل للشّيخ طريق صحيح إلى الطّاطري ، لكن لا عن طريقه إليه في المشيخة ولا في الفهرست ، بل عن طريقه في المشيخة إلى موسى بن القاسم.
    ولأجل ذلك يقول الأردبيلي في مختصر تصحيح الأسانيد : وإلى علي بن الحسن الطاطري ، فيه عليّ بن محمّد بن الزبير في المشيخة والفهرست ، وإلى الطّاطري صحيح في التّهذيب في باب الطواف.
    وهذا يعطي أنّ موسى بن القاسم ليس راوياً لهذه الروايات الأربع فقط ، بل راو لجميع كتاب الطاطري عنه ، فيعلم من ذلك أنّ الشيخ روى كتاب الطاطري


(145)
تارة بسند ضعيف ، وأُخرى بسند معتبر ، وبذلك يحكم بصحّة كلّ حديث بدأ الشيخ في سنده بالطاطري.
    وقس على ذلك سائر الطرق الّتي للشيخ في الكتابين إلى المشايخ الّذين لم يذكر سنده إليهم في المشيخة ولا في الفهرست ، أو ذكر لكنّه ضعيف عليل ، وبهذا التتبّع يحصل له طرق صحيحة أنهاها صاحب الكتاب إلى خمسين وثمانمائة طريق تقريباً ، وعدد المعتبر منها قريب من خمسمائة طريق.
    هذه خلاصة المحاولة وقد نقده المحقّق البروجردي بما يلي :

    نقد السيد البروجردي
    إذا روى موسى بن القاسم عن عليّ بن الحسن الطاطري ، عن درست بن أبي منصور ، عن ابن مسكان ، فهو يحتمل من جهة النقل من كتب المشايخ وجوهاً :
    1. يحتمل أنّ موسى بن القاسم أخذ الحديث عن كتاب الطاطري ، وحينئذ روى موسى هذا الحديث وجميع كتاب الطاطري ، وبذلك يحصل للشيخ طريق صحيح إلى كتاب الطاطري ، وهذا هو الذي يتوخّاه المتتبّع الأردبيلي.
    2. يحتمل أنّ موسى بن القاسم أخذ الحديث عن كتاب درست بن أبي منصور وروى هذا الكتاب عنه بواسطة الطاطري.
    3. يحتمل أنّ موسى أخذ الحديث عن كتاب ابن مسكان ، وروى هذا الكتاب عنه بواسطة شخصين : الطاطري ، ودرست بن أبي منصور.
    وعلى الاحتمالين الأخيرين ، يحصل للشيخ الطوسي طريق صحيح إلى كتاب درست بن أبي منصور ، وكتاب ابن مسكان ولا يحصل طريق صحيح إلى نفس


(146)
كتاب الطاطري الّذي هو الغاية المتوخّاة.
    والحاصل : أنّه إذا كان طريق التهذيب إلى أحد المشايخ الّذين صدّر الحديث بأسمائهم وأخذ الحديث من كتبهم ، ضعيفاً ، فلا يمكن إصلاحه بما إذا وقع ذلك الشيخ في أثناء السند ، وكان طريقه إليه طريقاً صحيحاً ، لأنّ توسط الشيخ ( الطاطري ) في ثنايا السند لا يدلّ على أخذ الحديث عن كتابه ، بل من الممكن كون الحديث مأخوذاً عن كتاب شيخه ، أعني : درست بن أبي منصور ؛ أو شيخ شيخه ، أعني : ابن مسكان.
    وهذا الاحتمال قائم في جميع ما استنبطه في أسانيد التهذيبين.

    1. إذا كان طريق الشيخ في المشيخة إلى أصحاب الكتب ضعيفاً أو غير مذكور ، فهل يمكن تصحيح السند بالرجوع إلى الفهارس ؟
    2. ما هو المراد من التعويض عن الطريق الضعيف الذي اقترحها الشيخ محمد الأردبيلي في تصحيح سند الشيخ إلى أصحاب الكتب ؟
    3. اذكر نقد السيد المحقّق البروجردي لهذه المحاولة ؟


(147)
    الدرس السابع والعشرون
المصطلحات الرجالية
    قد اصطلح علماء الحديث والرجال ألفاظاً في التزكية والمدح ، وألفاظاً في الجرح والذم ، لابدّ من الإشارة إليها وتبيين المراد منها ، فلنذكر مايدل على التزكية والمدح ثمّ نعقّبها بما يدلّ على خلافها.
    إنّ الألفاظ الدالّة على التزكية بين صريح وغير صريح ، فنذكر من القسمين مايلي :
    1. ثقة
    وهذه اللفظة كثيرة التداول في الكتب الرجالية لاسيما في رجال النجاشي وفهرست الشيخ و من بعدهما.
    ذهب الشهيد الثاني إلى أنّ المراد منه هو العدل ، قال : إنّ هذه اللفظة « ثقة » و إن كانت مستعملة في أبواب الفقه أعمّ من العدالة ، لكنّها هنا لم تستعمل إلاّ بمعنى العدل ، وقد يتفق في بعض الرواة ، أن يكرر في تزكيتهم لفظة « الثقة » وهو يدلّ على زيادة المدح. (1)
1. شرح الدراية : 67.

(148)
    وأمّا ما هو وجه العدول من لفظ « عدل » إلى لفظ « ثقة » فهذا ما أجاب عنه بهاء الدين العاملي و قال : إنّهم يريدون بقولهم « فلان ثقة » : عدل ضابط ، لأنّ لفظة الثقة من الوثوق ولا وثوق بما يتساوى سهوه مع ذكره ، وهذا هو السرُّ في عدولهم عن قولهم « عدل » إلى قولهم « ثقة ». (1)
    والظاهر منهما انّه بمعنى العدل بالمعنى المتفق عليه بين الفريقين ، وأمّا دلالتها على كونه « إمامياً » فهذا ما ذهب إليه ابن صاحب المعالم والمحقّق البهبهاني.
    قال ابن صاحب المعالم : إذا قال النجاشي ثقة ، ولم يتعرض لفساد المذهب ، فظاهره أنّه عدل إمامي ، لأنّ ديدنه التعرّض للفساد ، فعدمه ظاهر في عدم ظفره ، لشدّة بذل جهده وزيادة معرفته. (2)
    وقال المحقّق البهبهاني : إنّ الرواية المتعارفة المسلّمة المقبولة أنّه إذا قال : « عدل إمامي نجاشيّاً كان أو غيره » أو فلان « ثقة » يحكمون بمجرّد هذا القول انّه عدل إمامي ، لأنّ الظاهر من الرواة ، التشيّع والظاهر من الشيعة حسن العقيدة ، أو لأنّهم وجدوا منهم أنّهم اصطلحوا ذلك في الإمامية وإن كانوا يطلقون على غيرهم مع القرينة. (3)
    يلاحظ عليه : بأنّ هذه اللفظة من الألفاظ المتداولة بين الرجاليين من الخاصّة والعامّة ، وليس لعلمائنا فيه اصطلاح خاص ، ولو كان المذهب داخلاً في مفهوم الثقة ، يلزم أن يكون مشتركاً لفظياً بين الفريقين.
    والذي يدلّ على ذلك هو انّ النجاشي يصف كثيراً من فاسدي المذهب
1. مشرق الشمسين : 296 ، ضمن كتاب الحبل المتين.
2. مقباس الهداية : 2/148 ، الطبعة الحديثة.
3. التعليقة : 5.


(149)
بالوثاقة في كلتا الحالتين قبل رجوعه إلى المذهب وبعده ، ولا يرى فساد المذهب منافياً للوثاقة ، ولنذكر نماذج :
    1. يقول في حقّ أحمد بن الحسن بن إسماعيل بن ميثم التمّار : قال أبو عمرو الكشّي : كان واقفاً ، وذكر هذا عن حمدويه ، عن الحسن بن موسى الخشاب ، قال : أحمد بن الحسن واقفي ، وقد روى عن الرضا ( عليه السَّلام ) و هو على كلّ حال ثقة صحيح الحديث ، معتمد عليه ، له كتاب النوادر. (1)
    2. ويقول في حقّ سماعة ، المعروف بالوقف : روى عن أبي عبد اللّه وأبي الحسن عليهما السَّلام مات بالمدينة ، ثقة ثقة. (2)
    ومن سبر الأُصول الرجالية الخمسة و ما ألّف بعدها ككتاب « معالم العلماء » لابن شهر آشوب ، ورجال ابن داود وغيرهما يقف على أنّ صحّة المذهب غير مأخوذة في مفهوم الثقة ، وإلاّ لزم الالتزام بالمجاز في الموارد التي ذكرنا وغيرها ، وهو كما ترى ، إذ لا يشكّ الإنسان أنّه استعمل فيها وفي غيرها بمناط واحد.
    وعلى كلّ تقدير ، فالقول بأنّ وصف النجاشي الراوي بالوثاقة ظاهر في كونه إمامياً إلاّ أن يصرّح بفساد مذهبه ، ليس أمراً قطعياً.
    نعم إذا قال : ثقة في الحديث ، فلا يدلّ على كونه عدلاً ، بل على كونه صادقاً في حديثه. ذلك لأنّ النجاشي كثيراً ما يقيّد الوثاقة ، ويقول : الحسين بن أحمد بن المغيرة كان عراقياً ، مضطرب المذهب ، وكان ثقة فيما يرويه. (3)
    ويقول في حقّ علي بن محمد بن عمر بن رَباح القلاّء : كان ثقة في الحديث ، واقفاً في المذهب ، صحيح الرواية. (4)
1. رجال النجاشي : 1/201 برقم 177.
2. رجال النجاشي : 1/431 برقم 515.
3. رجال النجاشي : 1/190 برقم 163.
4. رجال النجاشي : 2/86 برقم 677.


(150)
    وحصيلة الكلام : انّه إذا أطلق ثقة يتبادر منه أنّه عدل بالمعنى المتفق بين العامة والخاصة ، نعم ذهب بعضهم إلى أنّ معناها كونه عدلاً بضميمة المذهب ، كما عليه ابن صاحب المعالم والمحقّق البهبهاني.
    نعم لو قال : « ثقة في الحديث » فهو بمعنى كونه متحرّزاً عن الكذب.
    2. عين
    يقال تارة : عين ، وأُخرى : عين من الأعيان ، والمراد منها خيار القوم وأفاضلهم وأشرفهم. (1) تشبيهاً لها بالعين التي هي من أشرف الأعضاء.
    واحتمل المحقّق البهبهاني كونها بمعنى الميزان باعتبار صدق الراوي كما كان الصادق ( عليه السَّلام ) يسمّي أبا الصباح بالميزان لصدقه (2) ، ولكنّه بعيد لأنّ العين تستعار للميل في الميزان لا لنفس الميزان على ما في المفردات. (3)
    وفي اللسان العين في الميزان : الميل.
    3. وجه
    ربما يطلق : وجه ، وأُخرى وجه من وجوه الطائفة ، وفي اللسان : يقال فلان وجه القوم ، كقولهم : عينهم ورأسهم ، ووجه الاستعارة نفس ما مرّ في العين.
    لا شكّ في دلالة اللّفظين « العين والوجه » على المدح الكثير.
    نعم إنّ في دلالتهما على تزكية الراوي وجهين :
    الأوّل : انّه يفيد المدح الكثير ، خصوصاً إذا قال : عين من الأعيان ، أو وجه من وجوه أصحابنا.
1. لسان العرب : مادة عين ، يقول : وأعيان القوم : أشرافهم وأفاضلهم ؛ ويقول أيضاً : عين المتاع : خياره.
2. تعليقة الوحيد على منهج المقال : 104.
3. المفردات : مادة عين.
دروس موجزة في علمي الرّجال والدّراية ::: فهرس