إرشاد العقول إلى مباحث الأصول المجلد الأوّل ::: 16 ـ 30
(16)
الجوهر والعرض ، والجوهر إلى العقل والنفس والهيولى والصورة والجسم ، والعرض إلى الكم والكيف ... كلّها أعراض ذاتية بالنسبة إلى الموجود ، لأنّه مأخوذ في حدّ كلّ واحد من هذه المحمولات.
    هذا هو الغالب ولكن يكفي كون الموضوع أو أحد مقوّماته واقعاً في حدّ المحمول فتعمّ الأقسام التالية :
    1. أن يؤخذ موضوع المعروض في حدّ العارض.
    2. أن يؤخذ جنس المعروض في حدّ العارض.
    3. أن يؤخذ موضوع جنس المعروض في حدّ العارض.
    وقد ذكر الشيخ الرئيس لكلّ واحد مثالاً من العلوم الطبيعية ، وبما أنّ الأمثلة التي ذكرها لا تخلو من تعقيد نذكر لها مثالاً من العلوم الاعتبارية ، مثال الأوّل : « الفاعل مرفوع » فانّ الفاعل لا يؤخذ في تعريف المرفوع ، ولكن موضوع الفاعل ، أعني : الكلمة مأخوذة في حدّ المرفوع فيقال : المرفوع هو الكلمة المرفوعة.
    ومثال الثاني : « الفعل الماضي مبني » فانّ الفعل لا يؤخذ في تعريف المبني ، ولكن جنس الفعل ، أعني : الكلمة مأخوذة في حدّ المبني ، فيقال : الكلمة مبنيّة.
    ومثال الثالث : « المفعول المطلق منصوب » فانّ المفعول المطلق لا يؤخذ في حدّ المنصوب ولا جنسه ، أي المفعول بما هو هو ولكن معروض المفعولية وهو الكلمة مأخوذة في حدّ المنصوب.
    وهناك قسم آخر فاجعله رابع الأقسام وهو أن يؤخذ المحمول في حدّ الموضوع كما في قولنا : « الواجب موجود » فالمحمول مأخوذ في حدّ الواجب الذي هو الموضوع ، فانّ الواجب عبارة عن الموجود الذي يمتنع عليه العدم.


(17)
    وقد أشار إلى هذا التفسير للعرض الذاتي الشيخ الرئيس بقوله : بأنّ من المحمولات ما لا يكون مأخوذاً في حدّ الموضوع ، ولا الموضوع أو ما يقوّمه مأخوذاً في حدّه ، فليس بذاتي ، بل هو عرض مطلق غير داخل في صناعة البرهان مثل البياض للققنس (1). (2)
    هذا هو العرض الذاتي عند القدماء ، وقد رتّبوا على ذلك لزوم مساواة العرض الذاتي لمعروضه ، وبالتالي مساواة محمولات المسائل لموضوع العلم وذلك :
    إنّ حصول اليقين بالنسبة الموجودة في القضية فرع أن يكون المحمول مساوياً للموضوع بحيث يوضع المحمول بوضع الموضوع ، ويرفع برفعه ، مع قطع النظر عمّـا عداه ، إذ لو رفع مع وضع الموضوع أو وضع مع رفعه لم يحصل اليقين ، وهذا هو الموجب لكون المحمول الذاتي مساوياً لموضوعه.
    مثلاً إذا كان المحمول أخصّ من الموضوع ، كما إذا قلنا : كلّ حيوان متعجب ، لم يفد اليقين ، إذ لا يلازم وضع الموضوع وضع المحمول لكونه أعمّ.
    فإن قلت : هذا إنّما يتمّ إذا كان المحمول أخص من الموضوع ، وأمّا إذا كان المحمول أعمّ من الموضوع فوضع الموضوع يكفي في وضع المحمول كقولنا : كلّ إنسان ماش ، وهذا المقدار يكفي في حصول اليقين وإن لم يستلزم رفع الموضوع رفع المحمول.
    قلت : إنّ ما أخذ موضوعاً ليس بموضوع ، فانّ القيد في جانب الموضوع أمر لغو ، لأنّ الموضوع للمشي هو الحيوان لا الحيوان الناطق ( الإنسان ) إذ كونه ناطقاً كالحجر في جنب الإنسان ، ولذلك قالوا بأنّه يشترط أن يكون المحمول مساوياً
1 ـ الققنس : طائر جميل الصوت واللفظ رومي.
2 ـ الفن الخامس من المنطق في برهان الشفاء : 127.


(18)
للموضوع لا أعمّ ولا أخصّ.
    فإن قلت : إنّ المحمول في كثير من المسائل في الفلسفة الإلهية غير مساو للموضوع كما إذا قلت : الموجود إمّا واجب أو ممكن ، فإنّ كلّ واحد من الواجب والممكن ليس مساوياً للوجود.
    قلت : إنّ المحمول عبارة عن الجملة المردّدة وهي بأجمعها مساو للموجود.
    فإن قلت : إنّ كلّ واحد من الواجب والممكن ذات محمول خاص ، فنقول واجب الوجود بالذات بسيط من جميع الجهات.
    أو نقول : كلّ ممكن فهو زوج تركيبي له ماهية ووجود.
    فالمحمول في كلّ واحد غير مساو للموجود.
    قلت : إنّ الموضوع للبساطة ليس هو مطلق الوجود حتى لا تساوي البساطةُ مطلقَ الوجود ، كما أنّ الموضوع في القضية الثانية ليس مطلق الوجود ، بل الموضوع في الأوّل هو الموجود الواجب ، وهو يساوي البساطة ، وفي الثاني الموجود الممكن ، وهو يساوي التركب العقلي ، وإلى ما ذكرنا يشير الأُستاذ الطباطبائي بقوله :
    « إنّ كلاًّ منهما ( الواجب والممكن ) ذاتيّ لحصة خاصّة من الأعم المذكور ، لأنّ المأخوذ في حدّ كلّ منهما هو الحصة الخاصة به. (1)
    توضيحه أنا إذا قلنا : واجب الوجود بسيط ، فالموضوع ليس مطلق الوجود الأعم ، بل الحصة الخاصة التوأمة للواجب ، وتكون البساطة من أعراضه الذاتية لمساواتها له ، نعم إذا قلنا ( الموجود إمّا واجب أو ممكن ) ، فالموضوع هو مطلق الوجود الأعم ، ليصحّ تقسيمه إلى القسمين.
1 ـ تعليقة الطباطبائي على الجزء الأوّل لكتاب الأسفار : 30 ـ 31.

(19)
    وبذلك يتبيّن أنّ مساواة العوارض مع موضوع العلم ، شرط في المحمولات الأوّلية ، كقولنا : الموجود إمّا واجب أو ممكن ، وأمّا المحمولات الثانوية كالبساطة والتركّب فلا تشترط المساواة مع موضوع العلم ، بل تكفي مساواتها ، مع موضوعها ، أي الموجود المتحصص بالوجوب ، أو الإمكان ، وهكذا سائر الموارد ، لكفاية هذا المقدار في حصول اليقين بالنسبة.
    هذا إجمال ما ذكره العلاّمة الطباطبائي في تعاليقه على الأسفار ، ونهاية الحكمة.
    غير أنّ هنا نكتة : وهي أنّ ما ذكره من أنّ شرط كون القضايا يقينية هو أن يجتمع فيها شروط أربعة :
    كون النسبة ضرورية أوّلاً ، ودائمة الصدق ثانياً ، وكلّية الصدق ثالثاً ، وكون المحمول من العوارض الذاتية للموضوع رابعاً ، إنّما يختص بالعلوم الحقيقية ولا يعم العلوم الاعتبارية ، لأنّ الاعتباريات قائمة بلحاظ المعتبر ، وتتغير بتغيير الاعتبار ، ولا يلزم أن تكون ضرورية الصدق ودائمية وكلية.
    وبذلك يتضح انّ الأُمور الاعتبارية لا يقام عليها البرهان العقلي بالشكل الذي يقام في العلوم الحقيقية ، فانّ الموضوع فيها ليس من علل وجود المحمول حقيقة إلاّ بالاعتبار والمواضعة ، وتدوم العلية مادام الاعتبار قائماً فإذا زال ، زالت العلية.
    كما أنّه لا يعتبر كون المحمول عرضاً ذاتياً ( الشرط الرابع ) لأنّ العلوم الاعتبارية تدون لتحقيق غرض اجتماعي كالعلوم الأدبية ، فانّ الملاك في كون شيء من مسائل تلك العلوم كونه واقعاً في دائرة الغرض المطلوب من ذلك العلم سواء أكان العروض بلا واسطة أو معها ، وسواء أكانت الواسطة مساوية أو أعمّ أو


(20)
أخصّ أو مبائنة ، وسواء عدّ عرضاً ذاتياً أو غريباً ، فانّ اشتراط واحد من هذه الأُمور من قبيل لزوم ما لا يلزم ، بل انّ استعمال الذاتي والغريب في مسائل تلك العلوم من باب التشابه ، وإلاّ فلا عرض حقيقة فضلاً عن كونه ذاتياً أو غريباً.

    الجهة الثانية : نسبة موضوعات المسائل إلى موضوع العلم
    قال المحقّق الخراساني : إنّ موضوع كلّ علم هو نفس موضوعات مسائله وما يتّحد معها خارجاً وإن كان يغايرها مفهوماً تغاير الكلي ومصاديقه ، والطبيعي وأفراده.
    أقول : كأنّه قدَّس سرَّه بصدد الجواب عن الإشكال المذكور في المقام ، وهو أنّ العرض الذاتي عبارة عمّا يعرض موضوع العلم بلا واسطة أو بواسطة مساو ، فإذا كان هذا هو معنى العرض الذاتي فهو منقوض بمسائل العلوم قاطبة فانّ موضوعات المسائل أخصّ من موضوع العلم من دون فرق بين العلوم الحقيقية والاعتبارية.
    أمّا الأُولى كقولك : كلّ ممكن فهو زوج تركيبي له ماهية ووجود ، فمحمول المسألة أعني التركيب عارض لموضوعها أعني ( كلّ ممكن ) ، وهو أخصّ من الموجود المطلق ، الذي هو موضوع العلم في الالهيات بالمعنى الأعمّ.
    وأمّا الثانية كقولك : كلّ فاعل مرفوع فالرفع من عوارض الفاعل وهو أخصّ من موضوع علم النحو أعني الكلمة والكلام.
    هذا وقد أجاب عنه المحقّق الخراساني بأنّ نسبة الموضوعين إنّما هي نسبة الافراد إلى الطبيعي ، والمصاديق إلى الكلي ، والتغاير المفهومي لا يضر بعد اتحادهما في الوجود.


(21)
    يلاحظ عليه بأمرين :
    الأوّل : انّه إنّما يصحّ إذا لم يكن للخصوصية الموجودة في موضوع المسألة مدخلية في عروض المحمول. فيكون محمول المسألة عارضاً على موضوع العلم ، دون ما إذا كان له مدخلية كما في المقام فانّ للإمكان مدخلية في عروض التركب ، كما أنّ للفاعلية مثل هذا الشرط ، ونظيره قولنا : « زوايا المثلث مساوية لزاويتين قائمتين » فانّ للمثلّثية مدخلية في التساوي ، وعندئذ لا يمكن أن يعد محمول المسألة من عوارض موضوع العلم بحجّة أنّ التغاير مفهومي لا مصداقي.
    الثاني : انّ الإشكال إنّما يرد على من فسّر العرض الذاتي بما يعرض لموضوع العلم بلا واسطة أو بواسطة أمر مساو ، لا على من فسّر العرض الذاتي بما يعرض الموضوع بلا واسطة في العروض كما عليه المحقّق الخراساني تبعاً للحكيم السبزواري ، فوجود الواسطة لا تضر ما لم تكن واسطة في العروض ، كما هو كذلك في المقام ، فانّ الكم المتصل يتصف حقيقة بالمساواة إذا كان متّحداً مع المثلث ، كما أنّ الجسم الطبيعي ، يتصف بالحرارة والبرودة إذا كان متّحداً مع النار والماء وغير ذلك.
    هذا وقد أورد السيّد الأُستاذ قدَّس سرَّه على المحقّق الخراساني بانتقاضه بعلمي الهيئة والجغرافية فانّ النسبة بين الموضوعين فيهما إلى موضوعات مسائلهما نسبة الجزء إلى الكل. (1)
    يلاحظ عليه : بعدم انتقاض الضابطة فيهما ، وذلك لأنّ الموضوع في علم الهيئة ليس هو ذوات الكواكب حتى يكون البحث عن كوكب خاص بحثاً في جزء الموضوع ، بل الموضوع هو أوضاع الكواكب وطبائعها ، وهو أمر كلي ، وأوضاع كوكب خاص يكون فرداً من هذا الكلي ، ويؤيّد ذلك انّه عرّف علم الهيئة بقولهم
1 ـ تهذيب الأُصول : 1/7.

(22)
هو علم يعرف منه أحوال الأجرام البسيطة العلوية والسفلية وأشكالها وأوضاعها ومقاديرها وأبعادها ، وموضوعه الأجرام المذكورة من الحيثية المذكورة. (1)
    وهكذا الحال في علم الجغرافية فانّ موضوعه أحوال القارّات والبحار المختلفة ، فالبحث عن كلّ واحد من هذه القارّات بحثاً عن مصاديق هذا الفرد الكلي لا عن أجزائه.
    ويؤيد ذلك أنّه عُرِّف علم الجغرافية بقولهم : علم يتعرّف به على أحوال الأقاليم السبعة الواقعة في الرُبْع المسكون من كرة الأرض وعروض البلدان الواقعة فيها وأطوالها وعدد مدنها وجبالها وبراريها وبحارها وأنهارها ، إلى غير ذلك من أحوال الربع المعمور. (2)
    هذا كلّه على مبنى المحقّق الخراساني ، وأمّا على مذهب القدماء فالتساوي بين محمول المسألة وموضوع العلم متحقّق لما عرفت أنّ العرض الذاتي عبارة عمّا يكون الموضوع مأخوذاً في حدّ العرض ، كما في قولنا : الموجود إمّا واجب أو ممكن ، فالموجود مأخوذ في حدّ الواجب كما هو مأخوذ في حدّ الممكن ، وهكذا إذا أخذنا الواجب أو الممكن موضوعاً وبحثنا عن عوارضها وقلنا الواجب بسيط والممكن مركب ، فقد أخذ الموجود في حدّ البسيط كما أخذ في حدّ المركب ، لأنّ البسيط من جميع الجهات هو الموجود الواجب ، كما أنّ المركّب من ماهية ووجود هو الموجود الممكن ، وهكذا.
    ومهما تنزلنا وبحثنا عن محمول المحمول فلم يزل موضوع العلم سارياً في حدِّ المحمولات وعند ذلك يتبين معنى التساوي ، وهو تساوي المحمول مع
1 ـ أبجد العلوم : 2/576.
2 ـ أبجد العلوم : 2/212 ـ 213 ولفظة جغرافيا كلمة يونانية بمعنى صورة الأرض وربّما يقال جغراويا.


(23)
الموجود المتحصص ، كتساوي البسيط مع الموجود الواجب ( لا مطلق الوجود ) وتساوي التركب من ماهية ووجود مع الموجود المركب لا مطلق الموجود.
    وإلى ما ذكرنا يشير العلاّمة الطباطبائي في كلامه السابق ، أعني : انّ كلاًّ منهما ( الواجب والممكن ) ذاتي لحصة خاصّة من الأعم المذكور ، لأنّ المأخوذ في حد كلّ منهما هو الحصة الخاصة به.

    إجابة المحقق النائيني
    ثمّ إنّ المحقّق النائيني أجاب عن الإشكال بوجه آخر ، وقال : إنّ الموضوع لعلم النحو ليس هو الكلمة من حيث لابشرط ، بل الكلمة من حيث لحوق الإعراب والبناء ، فيتحد موضوع العلم مع موضوعات المسائل ، لأنّ الموضوع في قولنا : « كلّ فاعل مرفوع » هو الكلمة من حيث لحوق الإعراب والبناء لها ، والمفروض أنّها من هذه الحيثية تكون موضوعاً لعلم النحو ، فيتحد موضوع العلم مع موضوعات المسائل ، لأنّ كلاًّ من موضوع العلم مع موضوعات المسائل ملحوظ بشرط شيء وهو قيد الحيثية. (1)
    يلاحظ عليه : أنّ القيد المأخوذ في ناحية موضوع العلم غير القيد المأخوذ في ناحية موضوع المسائل ، فالمأخوذ في الأوّل هو القابلية للحوق الإعراب والبناء ، وأين هو من قيد الفاعلية والمفعولية المأخوذة في ناحية موضوع المسألة وادّعاء الوحدة بينها أمر عجيب ؟!
    نعم ما ذكرناه وحقّقناه إنّما هو جار في العلوم الحقيقية ، وأمّا الالتزام به في العلوم الاعتبارية فهو التزام بما لا يجب الالتزام به كما ذكرنا ذلك أيضاً عند البحث في المقام الأوّل.
1 ـ فوائد الأُصول للكاظمي : 1/23 ـ 24 ، بتلخيص.

(24)
    الجهة الثالثة : في لزوم وجود موضوع لكلّ علم
    هل يجب أن يكون لكلّ علم موضوع خاص يبحث عن عوارضه الذاتية أو لا ؟ فيه أقوال :
    1. لزوم وجود الموضوع ، وهو الظاهر من القدماء من تعريفهم موضوع العلم.
    2. عدم لزوم وجود الموضوع لكلّ علم ، وذلك لأنّ كلّ علم عبارة عن عدّة مسائل متشتتة يجمعها اشتراكها في حصول غرض واحد ، ولا يحتاج وراء ذلك إلى وجود موضوع يبحث عن أعراضه الذاتية.
    قال المحقّق الإصفهاني : إنّ العلم عبارة عن مركب اعتباري من قضايا متعددة يجمعها غرض واحد. (1)
    3. القول بالتفصيل بين العلوم الحقيقية والاعتبارية بلزوم وجود الموضوع في الأُولى دون الثانية ، وهو خيرة العلاّمة الطباطبائي. (2)
    استدلّ للقول الأوّل بقاعدة « الواحد لا يصدر إلاّ من واحد » ببيان أنّ الغرض الواحد المترتب على مجموع المسائل يتوقف على وجود جامع بينها وإلاّ يلزم صدور الواحد عن الكثير.
    يلاحظ عليه : أنّ القاعدة على فرض صحّتها مختصة بالواحد البسيط الذي ليس فيه رائحة التركيب ، كالعقل الأوّل ، بناء على أنّه إنيُّ الوجود ، فهو لا يصدر إلاّ عن الواحد ، وذلك لأنّه يجب أن يكون بين العلة والمعلول رابطة بها يصدر المعلول عن العلة ، وإلاّ فلو صدر من دون وجود صلة بينهما يلزم أن يصدر كلّ
1 ـ نهاية الدراية : 1/7.
2 ـ لاحظ الأسفار ، قسم التعليقة : 1/30 ـ 31.


(25)
شيء عن كلّ شيء ، فعلى ذلك فلو صدر المعلول الواحد من اثنين يجب أن يجتمع فيه حيثيتان مختلفتان تصحح كلّ واحدة صدوره عن العلة ، فعندئذ ما فرضناه واحداً عاد كثيراً ، وهو خلف.
    ولذلك قالوا : الواحد مع فرض كونه واحداً من جميع الجهات لا يمكن أن يصدر تارة من علّة وأُخرى من علة أُخرى. وهذا كما ترى يخصص برهان القاعدة وموردها بالبسيط من جميع الجهات وليس له مصداق في جانب العلة إلاّ اللّه سبحانه ولا في جانب المعلول إلاّ العقل.
    إذا عرفت ذلك فاعلم أنّ القاعدة لا تجدي نفعاً في المقام ، لأنّ الغرض المترتّب على المسائل ليس غرضاً واحداً شخصيّاً بسيطاً حتى يتوقف صدوره على تصوير جامع بين المسائل الكثيرة ، بل هو غرض واحد نوعيّ يتكثّر بتكثّر المسائل ، فالغرض المترتب على مسألة حجّية خبر الواحد غير الغرض المترتب على مسألة دلالة الأمر على الوجوب وعدمه ، والغرض المترتب على أبواب النواسخ ، غير الغرض المترتب على باب الفاعل والمفاعيل ، ومثل هذا لا يلزم أن يصدر من الواحد ، بل قد يصدر من الكثير لأنّه أيضاً كثير.
    هذا كلّه حول القول الأوّل.
    وأمّا القول الثاني ، فبيانه أنّ المحمول في العلوم عرض ذاتي لموضوع العلم فالموضوع من علل وجوده ، فكيف يمكن أن يكون هناك عرض بلا موضوع سواء أكان العرض عرضاً فلسفياً أم منطقياً.
    وبعبارة أُخرى : قد عرفت أنّ العرض الذاتي ما يؤخذ موضوعه في حدّه وهو الضابط في تمييزه ، فإذا فرض للمحمول محمول ، ولمحموله محمول ، وجب أن يؤخذ الموضوع الأوّل في حدّ الجميع حتى ينتهي إلى آخر محمول مفروض ، فوجود


(26)
الموضوع من صميم كون العرض ذاتياً. (1)
    وأمّا القول الثالث ، فبرهانه هو أنّ العلوم الاعتبارية تدوّن للحصول على غرض واحد اعتباري ، وليس حصول ذلك الغرض رهن وجود موضوع شامل لعامة موضوعات مسائله ، فالمقوم للعلم الاعتباري ترتّب غرض واحد على مسائل متسانخة سواء كان الكل داخلاً تحت عنوان واحد أو لا ، بل يكفي اشتراك عدّة من المسائل في الحصول على غرض واحد ، وهذا القول هو المتعيّن من بين الأقوال.

    الجهة الرابعة : في تمايز العلوم
    لا شكّ في وجود التمايز بين العلوم إنّما الكلام في تعيين المميز بينها ، وهناك أقوال :
    1. تمايز العلوم بتمايز الأغراض ، وهو خيرة المحقّق الخراساني.
    2. تمايز العلوم بتمايز الموضوعات وهو المشهور.
    3. تمايز العلوم بالجهة الجامعة بين مسائلها المنتزعة من المحمولات.
    4. تمايز العلوم واختلاف بعضها بذاتها وجوهرها ، وهو خيرة سيدنا الأُستاذ.
    فلنتناول كلّ واحد من هذه الأقوال بالبحث والتحليل.
    دليل القول الأوّل
    ذهب المحقّق الخراساني إلى أنّ تمايز العلوم بتمايز الأغراض وقال : إنّ تمايز العلوم ، إنّما هو باختلاف الأغراض الداعية إلى التدوين لا الموضوعات ولا
1 ـ الأسفار ، قسم التعليقة : 1/31.

(27)
المحمولات ، وإلاّ كان كلّ باب ، بل كلّ مسألة من كلّ علم ، علماً على حدة ، فلا يكون الاختلاف بحسب الموضوع أو المحمول موجباً للتعدّد ، كما لا تكون وحدتهما سبباً لأن يكون من الواحد (1) ( إذا كان الغرض متعدّداً ).
    يلاحظ عليه أوّلاً : أنّه إذا كان بين العلمين تمايز في مرتبـة الذات كتمايز علم النفس وعلم النبات ، حيث إنّ الموضوع في الأوّل غيره في الثاني ، فلا تصل النوبة إلـى التمييز بالغرض الذي هـو أمر متأخّر عن جوهـر المسـ ألة : موضوعها ومحمولها.
    وثانياً : أنّ ما ذكره إنّما يتمّ ـ ظاهراً لا واقعاً ـ في العلوم التي تتّحد موضوعاً وتختلف في المسائل ، كعلمي الصرف والنحو ، حيث إنّ الصرف يبحث عن عوارض الكلمة والكلام من حيث الصحّة والاعتلال ، والنحو يبحث عن عوارضهما من حيث الإعراب والبناء ، فعند ذلك يتصوّر انّ المائز بين العلمين هو تعدّد الغرض وهو معرفة الصحيح والمعتل ، والمعرب والمبني ، ولكنّ هناك نكتة مغفول عنها وهي أنّ تغاير الغرضين رهن أمر جوهري أضفى للعلمين صبغة التعدّد ، وهو عبارة عن اختلاف مسائل العلمين جوهراً ، فالعلمان متميّزان في مرتبة متقدّمة على الغرض ، والدليل على أنّ الجهة الجامعة لمسائل علم الصرف غير الجهة الجامعة لمسائل علم النحو ، فكلّ يجمعها جهة جامعة متغايرة فالأولى اسناد الميز إلى تلك الجهة الجامعة لا إلى الغرض العائد منها.
    وثالثاً : أنّ المراد من الغرض إمّا غرض تدويني أو غرض تعليمي ، وكلاهما متأخران عن العلم ، فلابدّ أن يكون للعلم ميز جوهري قبل هذين الغرضين.
1 ـ كفاية الأُصول : 1/5.

(28)
    دليل القول الثاني
    ذهب المشهور إلى أنّ تمايز العلوم بتمايز الموضوعات ، وهو صحيح في الجملة ، لأنّ موضوع كلّ علم داخل تحت نوع خاص ، كعلمي الحساب والهندسة ، فانّ الموضوع في الأوّل من مقولة الكم المنفصل ، ويبحث فيه عن أحوال الأعداد ، والموضوع في الثاني من مقولة الكم المتصل ، ويبحث فيه عن أحكام الخطوط والسطوح والأجسام التعليمية ، ومع هذا المائز الذاتي لا تصل النوبة إلى المائز بالعرض.
    ولكن ليس جميع العلوم كذلك ، فانّ العلوم ربّما تتحد موضوعاً وتتعدد وصفاً وتأليفاً حسب الجهات الملحوظة ، فانّ البدن الإنساني موضوع لكلّ من علم الطب والتشريح ، ووظائف الأعضاء ، فبما أنّه يبحث عنه من جهة عروض الصحّة والسقم عليه يكون موضوعاً لعلم الطب ، وبما انّه يبحث فيه لغاية التعرّف على أعضائه وأجزائه ، فهو موضوع لعلم التشريح ، وبما انّه يبحث فيه لغاية التعرّف على وظيفة كلّ عضو ، فهو موضوع لعلم وظائف الأعضاء ، فالعلوم متعددة والموضوع واحد ، فالميز هنا بالمحمولات لا بالموضوعات.
    فإن قلت : التمايز في هذا النوع من العلوم أيضاً بالموضوعات ، وذلك لأنّ تمايز العلوم بالموضوعات وتمايز الموضوعات بالحيثيات ، فإذا انضمت الحيثية إلى موضوع العلم يتميز عن العلم الآخر لاختلاف حيثيته معه.
    قلت : إنّ هذه الحيثيات ليست إلاّ أُموراً منتزعة من المحمولات المختلفة في هذه العلوم الثلاثة فما هو المحمول في علم الطب غير المحمول في علم التشريح ، والمحمول فيهما غير المحمول في علم وظائف الأعضاء ، وإذا لاحظها الخبير ، يرى بينها اختلافاً ذاتياً ، وينتزع من كلّ واحد حيثية خاصة يوصف بها الموضوع في كلّ علم ، ويتخيل انّ تمايز العلوم ، بالموضوعات وتمايز الموضوعات بالحيثيات ، غافلاً


(29)
عن أنّ هذه الحيثية منتزعة من محمولات العلوم ، متأخرة عنها. وعلى ذلك فنسبة الميز إلى المحمولات في أمثال هذه الموارد ، أولى من نسبته إلى الحيثيات.
    دليل القول الثالث
    إنّ لمسائل كلّ علم جهة وخصوصية لا توجد في مسائل سائر العلوم ، وتكون هذه الجهة جامعة بين تلك المسائل وبسببها يحصل الميز بين مسائل هذا العلم ومسائل سائر العلوم ، مثلاً : الجهة الجامعة لمسائل علم النحو هي البحث عن كيفية آخر الكلمة من المرفوعية والمنصوبية والمجرورية ، فهي خصوصية ذاتية ثابتة في جميع مسائله ، وبهذه الجهة تمتاز هذه المسائل عن مسائل سائر العلوم.
    يلاحظ عليه : أنّ ما ذكره صحيح في العلوم التي تتحد موضوعاً وتختلف محمولاً ، كما في علمي النحو والصرف أو العلوم الثلاثة الطب والتشريح ووظائف الأعضاء ، فانّ المائز هو الجهة الجامعة بين مسائل العلمين أو مسائل العلوم الثلاثة ، وأمّا إذا كان العلمان مختلفين موضوعاً فالتميز بالموضوع مقدّم رتبة وزماناً على الميز بالجهة الجامعة ، فانّ أوّل ما يقع في الذهن في هذه الموارد هو الموضوع ثمّ المحمول ثمّ الجهة الجامعة بين مسائلها.
    دليل القول الرابع
    ذهب السيّد الأُستاذ قدَّس سرَّه إلى أنّ تمايز العلوم بذواتها ، و قال : إنّ منشأ وحدة العلوم إنّما هو تسانخ القضايا المتشتتة التي يناسب بعضها بعضاً ، فهذه السنخية موجودة في جوهر تلك القضايا وحقيقتها ، ففي مثله تمايز العلوم واختلاف بعضها يكون بذاتها ، فقضايا كلّ علم مختلفة ومتميزة بذاتها عن قضايا علم آخر.
    وأمّا تداخل بعض مسائل العلوم في بعض فلا يضر بما ذكرناه ، لأنّ المركب


(30)
بما هو مركب متميز بذاته عن غيره لاختلاف أكثر أجزائه مع أجزاء المركب الآخر ، وإن اتّحدا في بعض. (1)
    يلاحظ عليه : أنّه ليس قولاً آخر غير القول بأنّ التمايز إمّا بالموضوع أو بالجهة الجامعة بين محمولات المسائل ، فانّ قولنا : « كلّ فاعل مرفوع » وإن كان غير مسانخ لقولنا : « زوايا كلّ مثلث تساوي زاويتين قائمتين » غير انّ عدم التسانخ إمّا لأجل الاختلاف في الموضوع ، أو المحمول ، أو النسبة بينهما ، وليس في المقام وراء هذه الصور الثلاث أمر آخر يكون هو موجباً لعدم التسانخ ، فلاحظ.
    والحقّ في المقام هو أنّ الميز بالموضوع فيما إذا كان بين الموضوعين تباين نوعي كعلمي الهندسة والحساب ، وبالجهة المشتركة بين محمولات المسائل ، فيما إذا كان الموضوع واحداً كعلمي الصرف والنحو وعلوم الطب والتشريح ووظائف الأعضاء.
    وأمّا التمايز بالأغراض فقد عرفت تأخّره عن الميز الجوهري الموجود بين المسائل ، إذ ترتّب غرض واحد على عدّة من المسائل دون الآخر كاشف عن تمايز جوهري بين العلمين فلا تصل النوبة إلى التمايز بالأغراض مع وجود التمايز الجوهري.

    الجهة الخامسة : ما هو موضوع علم الأُصول ؟
    قد اختلفت أنظار علماء الأُصول في تعيين موضوع علم الأُصول ، وهناك عدّة أقوال :
    1. إنّ موضوع علم الأُصول هو الأدلّة الأربعة وهو خيرة القدماء.
1 ـ تهذيب الأُصول : 1/4.
إرشاد العقول إلى مباحث الأصول المجلد الأوّل ::: فهرس