إرشاد العقول إلى مباحث الأصول المجلد الأوّل ::: 271 ـ 285
(271)
عليه الأمر فإنّما هو بالمشاكلة ، أو لكونه بصورة الأمر لأنّه مقتضى استعلائه.
    وأمّا القول الثالث : أعني : اعتبار كليهما ، فهذا هو المختار أمّا العلو فواضح لما عرفت من التبادر.
    وأمّا الاستعلاء فنمنع صدق الأمر على طلب العالي من السافل بلسان الاستدعاء ، وذلك لأنّ مورد البحث هو ما إذا صدر الطلب بلسان المولوية والعبودية ، وفي مثله يعتبر الاستعلاء ، ولو كان الكلام خارجاً عن تلك الدائرة فلا يطلق عليه انّه الأمر بل يطلق عليه الاستدعاء حتى ولو صدر عن النبي ( صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ) ويشهد لذلك ما رواه ابن عباس حيث إنّ بريرة كانت زوجة للعبد فلما اعتقت كان لها الخيار ـ حسب الحكم الشرعي ـ بين البقاء على حبالة زوجها أو المفارقة ، فاختارت هي ، المفارقة ؛ فاتّصل زوجها بعمّ النبي العباس بن عبد المطلب ليكلّم النبي حتى يأمرها بالبقاء ، فلمّـا كلمها النبي ، وقال لها : « إنّه زوجك » فقالت بريرة : أتأمرني يا رسول اللّه ؟ فقال : لا ، إنّما أنا شافع ، قال : فخيّـرها ، فاختارت نفسها. (1)
    ترى أنّ النبي ( صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ) لما يخاطبها ، بقوله : « إنّه زوجك » ، الظاهر في أنّ الإبقاء مع حبالة الزوج السابق ، كان مورد رغبة النبي ، فسألته ( صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ) وقالت : أتأمرني بكلامك هذا ؟ فنفى النبي ( صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ) الأمر وأثبت الشفاعة ، فلو كان وجود العلو كافياً في صدق الأمر لما كان لبريرة السؤال عن مقصود النبي ( صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ) لملازمة العلو وحده مع الأمر.
    وهذا ـ أي سؤالها عن مقصود النبي ـ يدلّ على أنّ خطاب العالي على قسمين :
    قسم يكون مقروناً بالاستعلاء فيكون أمراً ، وقسم آخر يكون بلسان الاستدعاء فيكون شفاعة.
1 ـ مسند أحمد : 1/215.

(272)
    وأمّا القول الرابع : فهو خيرة المحقّق البروجردي القائل بعدم أخذ واحد منهما في صدق الأمر مستدلاً ، بقوله : إنّ حقيقة الطلب على قسمين : قسم يطلب فيه انبعاث المطلوب منه من نفس الطلب ، بحيث يكون داعيه ومحرّكه إلى الامتثال صرف هذا الطلب ، وهذا ما يسمّى أمراً.
    وقسم يقصد فيه انبعاث المطلوب منه من الطلب منضماً إلى بعض المقارنات التي توجب وجود الداعي في نفسه ، كطلب المسكين من الغني ، وهذا القسم من الطلب يسمّى التماساً (1) والقسم الأوّل يناسب العالي. ولا يراد منه كون الطالب عالياً ، مأخوذاً في مفهوم الأمر ، حتى يكون معنى « آمرك بكذا » أطلب منك وأنا عال.
    فعلى هذا فحقيقة الطلب على قسمين غاية الأمر أنّ القسم الأوّل منه حقّ من كان عالياً ، ومع ذلك لو صدر عن السافل بالنسبة إلى العالي كان أمراً أيضاً ولكن يذمّه العقلاء على طلبه بالطلب الذي ليس شأناً له فيقولون أتأمره ؟! كما أنّ القسم الثاني يناسب شأن السافل ، ولو صدر عن العالي أيضاً لم يكن أمراً فيقولون لم يأمره بل التمس منه ويرون هذا تواضعاً منه. (2)
    يلاحظ عليه : أنّ تقسيم الطلب إلى قسمين ، وإن كان تقسيماً صحيحاً ، لكن الكلام في كيفية وضع لفظ الأمر للقسم الأوّل فما هو المخصص لعدم شموله للقسم الثاني ، فلابدّ أن يضمّ إلى معنى الطلب شيء آخر حتى يصدّه عن الشمول للقسم الآخر ، فما هو ذاك القيد ؟ فهل هو :
    1. ما يكون الانبعاث من نفس الطلب ، وهو كما ترى.
1 ـ طلب السافل من العالي يسمّى سؤالاً ودعاءً لا التماساً.
2 ـ نهاية الأُصول : 1/75 ـ 76 بتلخيص.


(273)
    2. ما يكون الطالب ، عالياً بالنسبة إلى المطلوب منه.
    ولا ثالث ، والثاني هو المتعيّن ، ولا يعني هذا القول دخول العلو بالمعنى الاسمي في مدلول الأمر حتى يكون معنى قوله : « آمرك » أي أطلب منك وأنا عال ، ولو فسّر بذلك فهو من قبيل زيادة الحدّ على المحدود ، بل يراد دخوله على وجه الإجمال وعلى نحو المعنى الحرفي.

    الجهة الثالثة : في دلالة مادة الأمر على الوجوب
    اختلفت كلمتهم في أنّ لفظة الأمر حقيقة في الوجوب ، أو مشترك معنوي بينه و بين الوجوب.
    ذهب المحقّق الخراساني إلى الأوّل ، واستدلّ عليه بوجوه تالية :
    1. انسباق الوجوب منه عند الإطلاق.
    2. الأمر بالحذر من مخالفة أمر الرسول ، كقوله سبحانه : ( فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصيبَهُمْ عَذابٌ أَليم ) (1) والضمير في « أمره » يرجع إلى النبي ( صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ) لما تقدم من قوله سبحانه : ( لا تَجْعَلُوا دُعاءَ الرَّسُولِ بَينكُمْ كَدُعاءِ بَعْضكُمْ بَعْضاً ) (2) و « المخالفة » يتعدى بنفسه يقال خالف أمره ، ولكن جاءت هنا مقروناً بـ « الجارّ » لتضمنها معنى الإعراض ، أي يعرضون عن أمر الرسول. (3)
    3. وقوله : « لولا أن أشقّ على أُمّتي لأمرتهم بالسواك » (4) الدالّ على أنّ الأمر
1 ـ النور : 63.
2 ـ النور : 63.
3 ـ مجمع البيان : 4/158 ط صيدا.
4 ـ وسائل الشيعة : الجزء2 ، الباب 3 من أبواب السواك ، الحديث 4.


(274)
يلازم المشقة وهي آية الوجوب.
    4. قوله ( صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ) لبريرة بعد قولها : أتأمرني يا رسول اللّه ؟ قال : « لا إنّما أنا شافع » أي أتلزمني بالبقاء مع الزوج؟ فأجاب : لا.
    5. وصحّة توبيخ العبد الذي خالف أمر المولى ، كقوله سبحانه : ( ما مَنَعَكَ أَلاّ تَسْجُدَ إِذ أَمَرْتُك ). (1)
    6. والإيعاد بالسجن عند المخالفة ، كقوله سبحانه حاكياً عن امرأة العزيز : ( وَلئن لَمْ يَفْعَل ما آمره لَيُسْجَنَنّ ). (2)
    ثمّ إنّه قدَّس سرَّه أجاب عن أدلة القائلين بالاشتراك المعنوي حيث استدلّوا بالوجوه التالية :
    أ : الأمر ينقسم إلى الإيجاب والاستحباب والتقسيم آية أنّه حقيقة في الجامع بينهما.
    يلاحظ عليه : أنّ التقسيم بنفسه قرينة على أنّ المراد من المقسم هو الأعم من الوجوب ، والكلام فيما لا يكون هناك قرينة.
    ب : انّ الأمر يستعمل في الوجوب والندب فلو لم يكن موضوعاً للقدر المشترك بينهما لزم أن يكون إمّا مجازاً في الندب أو مشتركاً لفظياً وكلاهما على خلاف الأصل.
    يلاحظ عليه : بأنّه لا دليل على هذه الترجيحات ـ كما تقدّم في تعارض الأحوال ـ فانّ الأُصول اللفظية إنّما يحتجّ بها فيما إذا كان الشكّ في المراد لا في مثل المقام حيث إنّ الهدف تبيّن كيفية الإرادة ، وانّها هل على نحو الحقيقة أو الأعمّ منها ومن المجاز ؟ إلى غير ذلك.
1 ـ الأعراف : 12.
2 ـ يوسف : 32.


(275)
    ج : انّ فعل المندوب طاعة ، وكلّ طاعة فهو فعل المأمور به ، ففعل المندوب ، فعل المأمور به.
    يلاحظ عليه : منع الكبرى لو أُريد من المأمور به ، المعنى الحقيقي أي فعل الواجب ، ولو أُريد الأعم منه ومن غيره لا يثبت المدعى. هذا توضيح ما في الكفاية.
    هناك نكتة مهمة كان على صاحب الكفاية التنبيه عليها ، وهي :
    أنّه لا شكّ في استفادة الوجوب من لفظة الأمر ومن مرادفه في الفارسية ( فرمان ) إنّما الكلام في مَنْشَئِها ، فهل الوجوب مدلول لفظي وضعي ، بمعنى أنّ لفظه موضوع للوجوب ، أو هو مقتضى الإطلاق وانّ الوجوب لا يحتاج إلى بيان زائد ، بخلاف الندب ، فإذا لم يكن هناك بيان زائد يحمل على الوجوب ، أو لا هذا ولا ذاك ، بل هو مقتضى حكم العقل ؟ هنا احتمالات ثلاثة ندرسها.
    لا سبيل إلى الأوّل ، إذ ليس الوجوب والندب من مداليل لفظ الأمر ، بل الكل من المفاهيم الانتزاعية ، فانّ لفظ الأمر وضع لنفس الطلب وحده ، وإنّما ينتزع الوجوب من استعماله مقروناً بشيء يدل على شدّة رغبة المولى بالفعل وعدم رضاه بتركه ، كما أنّ الندب ينتزع من استعماله مقروناً بما يدل على خلاف ذاك. (1)
    نعم الاحتمال الثاني قريب بناء على إلقاء الأمر (2) بلا قرينة دالة على الندب كاف في بيان الوجوب ، بخلاف الندب فهو رهن بيان زائد من تجويز المخالفة وسيوافيك أنّ مقتضى صيغة الأمر هو كونه نفسيّاً ، عينياً تعيينياً ، لأنّها لا تحتاج إلى
1 ـ وسيوافيك تفصيله في دلالة صيغة الأمر على الوجوب أو الندب والكلام في المقام في لفظ « الأمر » فلا يختلط عليك البحث.
2 ـ من فرق بين لفظ الأمر وصيغته.


(276)
بيان زائد سوى الأمر والبعث ، بخلاف مقابليها فانّها رهن القيود التي تفيد انّ الأمر غيري لا نفسي ، أو كفائي لا عيني ، أو تخييري لا تعييني ، وسيأتي توضيح ذلك في محله العاجل.
    والاحتمال الثالث هو الأقرب وهو حكم العقل بأنّ أمر المولى لا يترك بلا جواب ، وانّه يلزم تحصيل المُؤمِّن من العقوبة ، ولا يجوز تركه باحتمال انّه يرضى لتركه.
    ولذلك ، يجب العمل بالأمر إلاّ إذا دلّ الدليل على الترخيص ، فيكون الوجوب من المداليل العقلية ، لا اللفظية الوضعية ، ولا الإطلاقية.

    الجهة الرابعة : في أنّ الموضوع له هو الطلب الإنشائي
    لما اختار المحقّق الخراساني أنّ مفاد الأمر ، هو الطلب ، حاول بيان واقع هذا الطلب وأنّ المراد منه هو الطلب الإنشائي لا الحقيقي الذي يقال له الطلب بالحمل الشائع الصناعي.
    ولا يختص هذا البحث بمادة الأمر ، بل يعم صيغته فانّها أيضاً موضوعة ـ حسب مختاره ـ للطلب ، وانّ المراد منه هو الإنشائي ، لا الحقيقي.
    وعلى هذا كان الأنسب إيراده في الفصل الثاني المختص بصيغة الأمر ، وأن يبحث عن مفاد الأمر بمادته وصيغته بصفقة واحدة.
    وعلى كلّ تقدير ، انّ الطلب على قسمين :
    1. اعتباري إنشائي.
    2. واقعي حقيقي.
    والذي يمكن إنشاؤه باللفظ هو المعنى الاعتباري منه ، لا الحقيقي كما هو


(277)
الحال في عامّة الإنشائيات ، فانّ الزوجية الحقيقية غير قابلة للإنشاء ، بل القابل له ، هو الاعتباري المنتزع من الحقيقي بنوع من التشبيه.
    وكذا الرئاسة ، فمنها تكويني وقد منح اللّه سبحانه الرأس تدبير الأعضاء فهو يدير ويدبّر تكويناً ، ومنها اعتباري وهو المدير المنصوب لإدارة مجتمع خاصّ ، يأمر وينهى.
    والتكويني من كلّ هذه الأُمور ، رهن علّة تكوينية ، فاللّه سبحانه خلق العين والأُذن زوجين ، بخلاف الاعتباري منه ، فهو رهن ترتّب غرض عقلائي لاعتباره وفرضه ، فالرجل الهندي يتزوج امرأة إيرانية ، وبينهما من حيث الموطن والثقافة ، بعد المشرقين ، لكن الاعتبار يفرضهما زوجين يتساهمان في الحياة حلوها ومرّها.
    ونظير ذلك ، الإرادة ، فمنها حقيقيّة تتجلّـى في الذهن بعد مقدّمات ، من تصوّر الشيء المراد والتصديق بفائدته ، والميل إليه ، و ... إلى أن تنتهي تلك الأُمور إلى استتباعها حركة العضلات ، نحو إنجاز العمل أو نحو الأمر به فالإرادة التكوينية ، رهن علّة تكوينية توجب ظهورها على لوح النفس.
    كما أنّ منها قسماً إنشائياً ، يفرض لأجل ترتب غرض عقلائي عليه فقول المولى : « افعل » أو آمرك بكذا إنشاء للإرادة باللفظ على غرار الإرادة التكوينية ، غير انّها تفترق عن الثانية ، انّ الإرادة الحقيقية أمر واقعي ظاهر على لوح النفس ، بخلاف الأُخرى فهي صرف اعتبار وفرض.
    وعلى ضوء ذلك فالطلب والإرادة كفرسي رهان في عامّة المجالات والمظاهر من حيث المفهوم والمصداق والإنشاء.
    الف : فالطلب والإرادة يتّحدان مفهوماً وبينهما من الحمل ، الحمل الأوّلي.
    ب : الطلب والإرادة يتّحدان مصداقاً ، فالظاهر في لوح النفس طلب وإرادة بالحمل الشائع.


(278)
    ج : الطلب والإرادة يتّحدان إنشاءً ، فالمنشأ بلفظ الأمر أو افعل أمر واحد ، له اسمان لكن كلّما أُطلق الطلب ينصرف إلى القسم الإنشائي من هذه الأقسام ، وكلما أُطلقت الارادة تنصرف إلى القسم الحقيقي منها.
    ولعلّ بعض من ذهب إلى تعدّد الطلب والإرادة ، وعدم وحدتهما ، أراد مغايرة الإنشائي من الطلب ، مع الفرد الحقيقي من الإرادة وإلاّ فلا وجه للتعدد.
    ويشهد على الوحدة أنّ الإنسان إذا حاول أن يفعل شيئاً مباشراً ، أو يقوم به غيره نيابة لم يجد في قرارة ذهنه ، سوى شيئاً واحداً يعبّر عنه تارة بالطلب التكويني وأُخرى بالإرادة الحقيقية ، ولذلك ذهب الأصحاب إلاّ من شذّ إلى وحدتهما في مجال التكوين والحقيقة ، كوحدتهما في عالم المفهوم والإنشاء ، ومن ذهب من الأصحاب إلى التعدّد ، فإنّما أخذ من الطلب ، الجانب الإنشائي ومن الإرادة القسم الحقيقي ، ولا شبهة في مغايرتهما ، إنّما الكلام مقايسة كلّ إلى الآخر في رتبة واحدة.
    وليس هذا من خصائص الطلب والإرادة ، بل الأمر كذلك في مورد النهي فلا تجد في لوح النفس إلاّ أمراً واحداً كالكراهة وليس شيء آخر سواها حتى تسمّيه بلفظ آخر ، خلافاً لمورد الأمر حيث نجد هناك لفظين مختلفين ، لكن يشير إلى معنى واحد.
    ومثلهما : الترجّي والتمنّي ، بل الجمل الخبرية ، فليس في مورد الجميع سوى أمر نفساني ، يعبّر عنه في مورد الإنشاء بالترجي والتمنّي ، وفي مورد الخبر بالعلم ، فليس في عامة الموارد ـ إنشائية أو إخبارية ـ سوى أمر واحد ، ويعبّر عنه بلفظ واحد كما هو الغالب أو بلفظين كما في مورد الأمر.
    هذا توضيح ما في « الكفاية » مع ما في تعبيره من التعقيد.


(279)
    و كان عليه قدَّس سرَّه الإشارة إلى نكتة مهمة وهي ما هو السبب لطرح هذه المسألة ؟ أي : وحدة الطلب والإرادة أو تعددهما.
    ولأجل إزاحة النقاب عن وجه الحقيقة يلزم البحث في النقاط التالية :
    أ. ما هو السبب لطرح هذه المسألة في علم الكلام ؟
    ب. ما هو المراد من الكلام النفسي الذي أعقب طرحَ تلك المسألة ؟
    ج. الأدلة الأربعة للأشاعرة على إثبات الكلام النفسي ونقدها.
    د. ما معنى كونه سبحانه متكلّماً عند المعتزلة والإمامية ؟
    هـ. ما هو موقفنا من المسألة المطروحة : وحدة الطلب والإرادة ؟
    وإليك البحث فيها واحدة تلو الأُخرى.

    الأُولى : ما هو السبب لطرح هذه المسألة في علم الكلام ؟
    ربّما يسأل الإنسان نفسَه عما هو السبب لطرح مسألة وحدة الطلب والإرادة ( كما عليه الإمامية والمعتزلة ) أو تعددهما ( كما عليه الأشاعرة ) وما دور تلك المسألة في علم الكلام ؟
    ويعلم السبب من خلال الوقوف على سيرها التاريخي.
    إنّ صفاته سبحانه تنقسم إلى ذاتي وفعلي ، والمائز بينهما هو أنّ الأوّل أُحادي التعلّق ، بمعنى أنّه لا يقبل النفي والإثبات ، وهذا كالعلم والقدرة ، فهو سبحانه يعلم ويقدر على الإطلاق ولا يصحّ أن يقال ولو في مورد خاص لا يعلم ولا يقدر عليه ، وهذا بخلاف صفات الفعل المنتزعة من إيجاده سبحانه وخلقه ، فهي ثُنائية التعلّق ، أي تقبل النفي والإثبات ويقال : يُحيي ولا يحيي ، يميت ولا يميت ، يخلق ولا يخلق ، ولو باعتبار تعلّق أحدهما بموجود والآخر بغيره.


(280)
    وقد ذكر شيخنا الكليني ذلك الميزان في كتاب الكافي حيث قال : ألا ترى انّا لا نجد في الوجود ما لا يُعلم ولا يُقدر عليه وكذلك صفاته الذاتية الأزلية ، فلسنا نصفه بقدرة ، وعجز ، وعلم ، وجهل ، وسفه ، وحكمة ، وعزة ، ودولة. ولكن يجوز أن يقال : يُحب من أطاعه ، ويُبغض من عصاه ، ويُوالي من أطاعه ، ويُعادي من عصاه ، وانّه يرضى و يسخط ، إلى آخر ما أفاد. (1)
    هذا وقد اختلفت كلمة أهل العلم في صفة التكلّم ، فأهل الحديث أي أتباع أحمد بن حنبل ( المتوفّى عام 241 هـ ) والأشاعرة الذين يقتفون أثر الشيخ أبي الحسن الأشعري ( 260 ـ 324 هـ ) على أنّها من صفات الذات كالعلم ، والقدرة والإرادة ، وهي غير هذه الثلاثة.
    واختارت الإمامية والمعتزلة أنّها من صفات الفعل وإن اختلفت الطائفتان في كيفيّة تقرير كونها من صفات الفعل بعد الاتفاق على عدم كونها من صفات الذات ، وسيوافيك الفرق بين التقريرين.
    ولما كان القول بأنّ التكلّم من صفات الذات مستلزماً لكونه قديماً كالذات ذهب أهل الحديث والأشاعرة برُمّتهم إلى أنّ كلامه سبحانه قديم ليس بمخلوق.
    قال أحمد بن حنبل : القرآن كلام اللّه ليس بمخلوق ، فمن زعم أنّ القرآن مخلوق فهو جهمي كافر ، ومن زعم أنّ القرآن كلام اللّه عزّ وجلّ ، ووقف ولم يقل مخلوق ولا غير مخلوق فهو أخبث من الأوّل ، ومن زعم بأنّ ألفاظنا وتلاوتنا له مخلوقة والقرآن كلام اللّه ، فهو جهمي ، ومن لم يُكفّر هؤلاء القوم فهو مثلهم. (2)
    وعلى هذا اتّفقت الحنابلة والأشاعرة على أنّ التكلّم وصف ذاتي قديم ، و كلامه مثل ذاته قديم ، وبالتالي : القرآن قديم.
1 ـ الكافي : 1/111.
2 ـ السنة : 49.


(281)
    وبذلك تشبّهوا في كلامهم هذا من غير وعي بقول النصارى ، حيث قالوا : بأنّ المسيح كلمة اللّه وهي قديمة ، وهؤلاء أيضاً قالوا بأنّ القرآن كلام اللّه وهو قديم ، وقد أثبتنا في بحوثنا الكلامية أنّ القول بأنّ التكلّم من صفات الذات وانّ كلامه قديم والقرآن أمر غير حادث ، إنّما تسرّب من قبل علماء النصارى الذين كان لهم صلة وثيقة بعلماء البلاط الأموي والعباسي. (1)
    ثمّ بعد الاتّفاق بأنّ التكلّم من صفات الذات اختلفت الأشاعرة والحنابلة في تفسير تلك الصفة ، فالحنابلة قالوا بأنّ كلامه وحروفه وجمَله وأصواته قديمة حالّة في الذات (2) ، ولما كان هذا القول واضح البطلان ، حاول الإمام الأشعري ـ لما تاب عن الاعتزال والتحق بأهل الحديث ـ حاول أن يصحح عقيدة أهل الحديث بكون التكلّم من صفات الذات وانّه قديم بقدم الذات ، خالياً عن تلك الوصمة العالقة بعقيدة أهل الحديث ، وذلك من خلال تفسير كلامه بالكلام النفسي.
    وكان من نتائج القول بالكلام النفسي هو تعدد الطلب والإرادة ، وسيوافيك عند دراسة أدلة الأشاعرة انّ القول بالكلام النفسي يلازم تعدد الطلب والإرادة.

    الثانية : ما هو المراد من الكلام النفسي ؟
    إنّ الكلام النفسي الذي طرحه الإمام الأشعري في تفسير كلامه سبحانه قد اكتنفه غموض كثير ، حتى أنّ المحقّق الطوسي وصفه بأنّه غير معقول ، وقال : والنفساني غير معقول. (3)
    وقد نقل الشريف المرتضى عن شيخه المفيد أنّه كان يقول : ثلاثة أشياء لا
1 ـ انظر كتاب بحوث في الملل والنحل : 3/379 ، لشيخنا الأُستاذ ( مد ظله ).
2 ـ شرح المواقف : 8/92.
3 ـ كشف المراد : قسم الإلهيات : 32.


(282)
تُعقل ، وقد اجتهد المتكلمون في تحصيل معانيها من معتقديها بكلّ حيلة فلم يظفروا منهم إلاّ بعبارات تناقض المعنى فيها مفهوم الكلام ، اتحاد النصرانية يعني التثليث مع ادّعاء التوحيد ، وكسب النجارية ، وأحوال البهشمية. (1)
    وكان على الشيخ المفيد أن يعطف عليها الكلام النفسي.
    وعلى الرغم من ذلك ففي الأشاعرة من تصدّى لتفسيره ، منهم :
    1. قال العضدي في « المواقف » : هو المعنى القائم بالنفس الذي يعبّر عنه بالألفاظ ونقول هو الكلام حقيقة ، وهو قديم قائم بذاته تعالى ، وهو غير العبارات ، إذ قد تختلف بالأزمنة والأمكنة ، ولا يختلف ذلك المعنى النفسي. (2)
    2. الفاضل القوشجي في شرحه على تجريد الاعتقاد ، فقال : إنّ من يورد صيغة أمر أو نهي أو نداء أو إخبار أو استخبار أو غير ذلك ، يجد في نفسه معاني يعبر عنها بالألفاظ التي يسمّيها بالكلام الحسّي ، فالمعنى الذي يجده في نفسه ويدور في خلده ولا يختلف باختلاف العبارات بحسب الأوضاع والاصطلاحات ويقصد المتكلم حصوله في نفس السامع ليجري على موجبه ، هو الذي نسمّيه الكلام النفسي. (3)
    3. وقال الفضل بن روزبهان ( المتوفّى عام 927 هـ ) في ردّه على كتاب العلاّمة باسم كتاب نهج الحقّ :
    إذا أراد المتكلّم بالكلام ، فهل يفهم من ذاته أنّه يزوّر ويرتب المعاني فيعزم على التكلم بها ، كما انّ من أراد الدخول على السلطان أو العالم فانّه يرتب معاني وأشياء ويقول في نفسه سأتكلم بهذا ؟ فالمنصف يجد في نفسه هذا ألبتة. (4)
1 ـ الفصول المختارة : 2/128 ـ 129 ط النجف الأشرف.
2 ـ شرح المواقف : 8/94.
3 ـ شرح التجريد للقوشجي : 420.
4 ـ محمد حسين المظفر ، دلائل الصدق : 1/146.


(283)
    ما ذكره هؤلاء الأعلام أوضح شيء وقفت عليه في الكتب الكلامية للأشاعرة. ومع ذلك كلّه فما ذكروه لا يسمن ولا يغني من جوع ، لأنّ التكلّم عندهم من صفات الذات وصفة التكلّم عندهم غير صفة الإرادة والعلم ، وما ذكروه من المعاني المنتظمة في النفس التي لاتختلف مع اختلاف اللغات ترجع إلى أحد الأمرين : إمّا معاني إخبارية فترجع إلى التصور والتصديق ، أو إنشائية فترجع إلى الإرادة والكراهة ونظائرهما من الترجي والتمني والاستفهام ، فعندئذ يكون الكلام النفسي من فروع العلم في الإخبار ، وفروع الإرادة والكراهة في الإنشائيات.
    وبذلك أصبح الكلام النفسي بين الأُحجيّة واللغز وما يرجع إلى العلم والإرادة.
    إلى هنا تمّ الكلام في النقطة الثانية.

    الثالثة : أدلّة الأشاعرة على الكلام النفسي
    استدلّت الأشاعرة على وجود الكلام النفسي بوجوه نذكر منها أربعة :
    الأوّل : استدلّ السيد الشريف على الكلام النفسي وتبعه الفضل بن روزبهان في شرحه على كتاب « نهج الحقّ » للعلاّمة الحلي بأنّ الرجل قد يأمر بما لا يريده ، كأمره للاختبار فليس فيه الإرادة ولكن يطلق عليه الأمر ، وهذا دليل على وجود شيء في النفس المصحح لإطلاق الأمر عليه ، وليس هو إلاّ الطلب وهو الكلام النفسي. (1)
    فهذا الدليل متضمّن لإثبات الكلام النفسي كما يتضمن تعدد الإرادة والطلب.
    والجواب : أنّ الأوامر الاختبارية على قسمين :
1 ـ شرح المواقف : 8/94.

(284)
    قسم تتعلّق الإرادة فيه بنفس المقدمة ، ويكون نفس الفعل غير مراد ، كما هو الحال في الأمر بذبح إسماعيل ، فانّ المقصود هو ترفيع إبراهيم بهذا العمل حتى يُؤثر رضا ربِّه على عواطفه النفسية ، وهذا يتم بالتهيؤ للعمل من خلال الإتيان بالمقدمات ولذلك لما جاء إبراهيم بالمقدمات أُوحي إليه ( قَدْ صَدَّقْتَ الرُُّّؤيا ). (1)
    ففي هذا القسم نمنع عدم وجود الإرادة ، بل هي موجودة متعلّقة بالمقدمة ، وبذلك ينخرم الاستدلال ، لأنّه مبني على عدم وجود الإرادة حتى يثبت بذلك وجود شيء آخر باسم الطلب الذي يصحِّح صدق الأمر.
    وقسم آخر تتعلّق الإرادة بنفس الإنشاء دون المقدّمة ولا ذيها ، وهذا كما إذا أمر الوالد ولده بالأمر لغاية تدريبه للرئاسة وتدبير الأُمور ، ففي هذا المقام أيضاً الإرادة موجودة لتعلّقها بنفس الأمر بالأمر.
    وبذلك ظهر أنّه ليس في الأوامر الاختيارية مورد يفقد الإرادة حتى نحتاج في تصحيح الأمر إلى شيء ثان باسم الطلب.
    الثاني : انّ العصاة والكفّار مكلّفون بما كُلّف به أهل الطاعة والإيمان ، وتكليفهم لا يكون ناشئاً من إرادة اللّه سبحانه ، وإلاّ لزم تفكيك إرادته عن مراده ، فلابدّ أن يكون هناك مبدأ آخر للتكليف وهو الطلب. وهذا يدل على تغاير الإرادة والطلب أوّلاً ، ووجود صفة أُخرى في ذاته غير الإرادة.
    وحاصل الاستدلال : أنّ الأمر في مورد العصاة والكفّار لا يخلو من حالتين :
    1. إمّا أن تكون هناك إرادة من اللّه بالنسبة إليهما.
    2. أو لا تكون إرادة منه إليهما.
1 ـ الصافات : 105.

(285)
    فعلى الأوّل يكون هؤلاء مكلفين لكن يلزم تفكيك المراد من الإرادة ، بشهادة المخالفة.
    وعلى الثاني يلزم عدم كونهم مكلفين فلا يصحّ العقاب. (1)
    فلا محيص عن القول بأنّهم مكلّفون لا بملاك الإرادة بل بملاك الطلب ، وتفكيكه عن المطلوب غير ضائر.
    وأجاب عنه المحقّق الخراساني بالتفكيك بين الإرادة التكوينية والإرادة التشريعية ، بأنّ ما لا ينفك عن المراد هي الأُولى من الإرادتين دون الثانية ، وإليك نص كلامه حيث قال :
    إنّ استحالة التخلّف إنّما تكون في الإرادة التكوينية وهو العلم بالنظام على النحو الكامل التام دون الإرادة التشريعية وهو العلم بالمصلحة في فعل المكلّف ، ومالا محيص عنه في التكليف إنّما هو هذه الإرادة التشريعية لا التكوينية. (2)
    ثمّ إنّه قدَّس سرَّه أورد في مسألة أُخرى وهي أنّ سبب الإطاعة والإيمان هو موافقة الإرادة التشريعية من اللّه مع الإرادة التكوينية منه ، فعندئذ يختار العبد الإيمان والطاعة ، وسبب الكفر والعصيان مخالفة الإرادة التشريعية مع التكوينية منه سبحانه ، فالتشريعية تتعلّق بالإيمان والطاعة ، والتكوينية منه تتعلق بالخلاف فيصدر منه الكفر والعصيان.
    أقول : إنّ ما ذكره ذيلاً خارج عمّا هو المطلوب في المقام ولذلك نرجئه إلى المقام الثاني الذي يأتي بعد الفراغ عن مسألة وحدة الطلب والإرادة وتعدّدهما.
    ولو كان قدَّس سرَّه مقتصراً بما قبل الذيل لأغنانا عن الخوض في المسألة الثانية غير أنّ كلامه في الذيل جرّه إلى البحث عن الجبر والاختيار إلى أن وصل إلى مقام
1 ـ شرح المواقف : 8/95.
2 ـ الكفاية : 1/99.
إرشاد العقول إلى مباحث الأصول المجلد الأوّل ::: فهرس