إرشاد العقول إلى مباحث الأصول المجلد الأوّل ::: 286 ـ 300
(286)
انكسر رأس يراعه ، ونحن نرجع إلى ذلك البحث بعد الفراغ من وحدة الطلب (1) والإرادة وعدمها.
    وعلى كلّ حال فما ذكره في الجواب غير صحيح لوجهين :
    الأوّل : أنّ تفسير الإرادة في كلا الموردين بالعلم تفسير خاطئ لاستلزامه إنكار الإرادة في ذاته ـ تقدّست أسماؤه ـ والفاعل الفاقد للإرادة أشبه بالفاعل غير المختار ، وهو إنكار لذات جامعة لجميع الصفات الجمالية والجلالية.
    الثاني : انّ ظاهر كلامه أنّ الإرادة التكوينية تتعلّق بفعل النفس ولذلك لا تنفك عن المراد لكونها تحت اختيار النفس ، والإرادة التشريعية تتعلق بفعل الغير ، وبما أنّه خارج عن اختيار النفس ربّما تنفك الإرادة عن المراد فيريد المولى شيئاً ويريد العبد شيئاً آخر.
    ولكنّه غير تام ، لأنّ الإرادة لا تتعلق إلاّ بما يقع تحت اختيار المريد ، والذي هو تحت اختيار الفاعل إنّما هو أفعاله ، سواء كان مبدأً للتكوين أو مبدأً للتشريع ، وأمّا فعل الغير فهو خارج عن اختيار الآمر فكيف تتعلق الإرادة بالخارج عن حيطة اختياره ؟
    والحاصل : أنّ دراسة ماهية الإرادة يدفعنا إلى القول بأنّها لا تتعلق إلاّ بما يقع تحت اختيار المريد وهو ليس إلاّ فعل نفسه ، وأمّا فعل الغير فهو خارج عن اختياره ، فكيف يطلبه ويريده من دون فرق بين أن يكون الآمر هو اللّه سبحانه أو الموالي العرفية.
    نعم انّ اللّه سبحانه قادر على أن يلجئه إلى الطاعة ولكن المفروض غير ذلك وأنّ المطلوب قيامه بالفعل عن اختيار.
1 ـ لاحظ ص 296.

(287)
    وبهذا تبيّن أنّ جواب المحقّق الخراساني غير تام.
    والأولى في الجواب أن يقال : انّ الإرادة في كلا المقامين تعلقت بفعله سبحانه وأنّه ليس هنا أي تفكيك بين الإرادة ومتعلقها ، ففي القسم التكويني منها تعلقت بإيجاد العالم ، فإذا قال له كن فيكون.
    وفي القسم التشريعي تعلقت إرادته بإنشاء البعث وانشاء الطلب وقد تحقّق الانشاء ولم يلزم منه تفكيك الإرادة عن المراد.
    وعلى ضوء ذلك نحن نختار أنّ الكفار والعصاة مكلّفون ، وملاك التكليف إرادته سبحانه لكن ليس متعلقها أفعالهم الجوانحية والجوارحية ، بل متعلقها إنشاء البعث والطلب وإقامة الحجة عليهم ، وهو متحقّق. ويكفي هذا المقدار كونهم مكلفين.
    الثالث : ما ذكره الفضل بن روزبهان ، قال : إنّ كلّ عاقل يعلم أنّ المتكلّم من قامت به صفة التكلّم ، وخالق الكلام لا يقال انّه متكلّم ، كما أنّ خالق الذوق لا يقال انّه ذائق ، فيجب أن يكون كلامه قائماً بنفسه وذاته ، وليس هو إلاّ الكلام النفسي. (1)
    يلاحظ عليه : أنّ ما استدلّ به مبني على أنّ الهيئة موضوعة للدلالة على القيام الحلولي ، وعليه لا يكون سبحانه متكلماً إلاّ بحلول الكلام في ذاته ، وبما أنّ حلول الحروف والجمل والأصوات في ذاته أمر محال فالحال في ذاته هو الكلام النفسي أي المعاني المنتظمة.
    ولكن المبنى غير تام ، إذ قد يكفي في صدق المشتق قيام المبدأ بالذات بنحو من الأنحاء سواء كان القيام حلولياً كالحي والميت أو صدورياً كالضارب ، أو لأجل صلتها بالمبدأ كاللابن والتامر ، وليس صدق المشتقات بإحدى هذه
1 ـ دلائل الصدق : 1/147.

(288)
الملابسات قياسياً حتى يقاس الذائق والطاعم على المتكلّم ويستدل بصدق الأخير على صدق الأولين.
    ويمكن أن يقال : انّ اختلاف المبادئ من حيث التعدية واللزوم يوجب صدق بعض المشتقات عليه سبحانه دون بعض ، فما كان منها متعدياً ، يكفي فيه الإيجاد والصدور ، ويستند إليه سبحانه ، كالقابض والباسط والمتكلّم ، وما كان من قبيل اللازم يشترط فيه الحلول فلا يطلق عليه سبحانه كالنائم والذائق والقائم.
    ثمّ إنّ هذا الدليل يركِّز على إثبات الكلام النفسي ولا صلة له بوحدة الطلب والإرادة أو تعدّدهما.
    ومثله الدليل التالي.
    الرابع : انّ الكلام كما يصحّ إطلاقه على الكلام اللفظي كذلك يصحّ إطلاقه على الكلام الموجود في النفس ، كما في قوله سبحانه : ( وَأَسِرُّوا قَوْلَكُمْ أَوِ اجْهَرُوا بِهِ إِنَّهُ عَليمٌ بِذاتِ الصُّدُور ) (1) فأطلق « القول » على الموجود في الذهن. وقوله سبحانه : ( إِنْ تُبْدُوا ما فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحاسبكُمْ بِهِ اللّه ). (2)
    والجواب عن الآية الأُولى : انّ إطلاق القول فيها على الموجود في الضمير من باب العناية فانّ القول من التقوّل باللسان فلا يطلق على المعاني المنتظمة في النفس إلاّ بالعناية كما يقول الإنسان : إنّ نفسي صحيفة علم ، وأمّا الآية الثانية فلا صلة لها بالمقام لأنّـها ترجع إلى أنّ نية السوء يُحاسَب بها العبد.
    وحصيلة البحث : انّ الكلام النفسي أمر باطل وما تصوّروه من الكلام النفسي فهو في الإنشائيات من قسم الإرادة والكراهة أو التمنّي والترجّي أو الاستفهام ، وفي الإخبار من قبيل التصوّر والتصديق ، فإذا كان المبنى باطلاً فما فرّعوا عليه من تغاير الطلب والإرادة مثله.
1 ـ الملك : 13.

(289)
    الرابعة : معنى كونه سبحانه متكلّماً عند العدلية
    اتّفق المسلمون على أنّ من صفاته سبحانه كونه متكلّماً ولكن اختلفوا في تفسيره إلى مذاهب أربعة :
    أ. إنّه سبحانه متكلّم بمعنى حلول الحروف والأصوات والجمل والكلمات في ذاته ، وهو مذهب أهل الحديث.
    ب. انّه متكلّم بالكلام النفسي ، وهو مذهب الشيخ الأشعري الذي قام به بإصلاح عقيدة أهل الحديث ، وقد زاد الطين بلّة.
    ج. انّه سبحانه متكلّم بمعنى أنّه يوجد ألفاظاً في الشجر والجبل والحجر ، وهذا مذهب المعتزلة.
    د. كلامه سبحانه فعله وهو نظرية الإمامية.
    قد وقفت على التفسيرين الأوّلين وضعفهما ، وإليك التفسير الثالث الذي عليه أئمّة المعتزلة.
    قالوا : كلامه سبحانه أصوات وحروف ليست قائمة بذاته تعالى بل يخلقها في غيره كاللوح المحفوظ أو جبرئيل أو النبي ، وقد صرح بذلك القاضي عبد الجبار ، فقال : حقيقة الكلام الحروف المنظومة والأصوات المقطعة ، وهذا كما يكون منعِماً بنعمة تُوجد في غيره ، ورازقاً برزق يوجد في غيره ، فهكذا يكون متكلّماً بايجاد الكلام في غيره ، وليس من شرط الفاعل أن يحلّ عليه الفعل. (1)
    يلاحظ عليه أوّلاً : أنّ تفسير التكلّم بهذا المعنى لا يختص بالمعتزلة بل
1 ـ شرح الأُصول الخمسة : 528 ؛ شرح المواقف : 495.

(290)
هو شيء تقبله عامة الطوائف الإسلامية ، وهذا هو شارح المواقف يقول : هذا الذي قالته المعتزلة لا ننكره ، بل نحن نقوله ونسمّيه كلاماً لفظيّاً ونعترف بحدوثه وعدم قيامه بذاته تعالى ولكن نُثبت أمراً وراء ذلك.
    وثانياً : أنّ تفسير التكلّم بهذه الصورة إنّما يصح فيما إذا كلّم سبحانه شخصاً من أنبيائه كما في قوله سبحانه : ( وَكَلّمَ اللّهُ مُوسى تَكْلِيماً ) (1). وليس تكليمه ـ عندئذ ـ منحصراً بما ذكر ، بل له أقسام ثلاثة أشار إليها سبحانه في بعض الآيات ، فقال : ( وَما كانَ لِبَشَر أَنْ يُكَلِّمَهُ اللّه إِلاّ وَحياً أَوْ مِنْ وَراءِ حِجاب أَوْ يُرْسِلَ رَسُولاً فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ ما يَشاءُ إِنّهُ عَليٌّ حَكِيم ). (2)
    وقد بين تعالى انّ تكليمه الأنبياء لا يعدو عن الأقسام التالية :
    1. ( إِلاّ وَحياً ).
    2. ( أَوْ مِنْ وَراءِ حِجاب ).
    3. ( أَوْ يُرْسِلَ رَسُولاً ).
    فقد أشار بقوله ( إِلاّ وَحياً ) إلى الكلام الملقى في روع الأنبياء بسرعة وخفاء.
    كما أشار بقوله ( أَوْ مِنْ وَراءِ حِجاب ) إلى الكلام المسموع لموسى ( عليه السَّلام ) في البقعة المباركة. قال تعالى : ( فَلَمّا أَتاها نُوديَ مِنْ شاطِىِ الوادِ الأَيْمَن فِي البُقْعَةِ المُباركةِ مِنَ الشَّجَرةِ أَنْ يا مُوسى إِنّي أَنَا اللّهُ رَبُّ العالَمِين ). (3)
    وأشار بقوله ( أَوْ يُرسل رَسُولاً ) إلى الإلقاء الذي يتوسط فيه ملك الوحي ، قال سبحانه : ( نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الأَمينُ * عَلى قَلْبِك ). (4)
1 ـ النساء : 164.
2 ـ الشورى : 51.
3 ـ القصص : 30.
4 ـ الشعراء : 193 ـ 194.


(291)
    ففي الحقيقة الموحي في الأقسام الثلاثة هو اللّه سبحانه تارة بلا واسطة بالإلقاء في الروع ، أو بالتكلّم من وراء حجاب بحيث يسمع الصوت ولا يرى المتكلّم ، وأُخرى بواسطة الرسول ( أمين الوحي ) ، فهذه الأقسام الثلاثة هي الواردة في الآية المباركة.
    هذا كلّه حول مذهب المعتزلة ؛ وأمّا مذهب الإمامية فحاصله ما يلي :

    مذهب الإمامية في كونه متكلّماً
    مذهب الإمامية ، وهو يتركب من أمرين :
    أ. حقيقة كلامه إذا خاطب الأنبياء وهذا هو الذي سبق تفسيره.
    ب. وصفه بالتكلّم إذا لم يكن هناك مخاطب خاص ، فلابدّ من تفسيره بوجه آخر ، وهو أنّ كلامه ليس من قبيل الأصوات والألفاظ ، بل عبارة عن الأعيان الخارجيةوالجواهر والأعراض ، وقد سمّى سبحانه فعله كلاماً في غير واحد من الآيات ، كما سيوافيك ، وتسمية الكون بعامّة أجزائه كلاماً لأجل أنّه يفيد ما يفيده الكلام اللفظي.
    توضيحه : أنّ الكلام في أنظار الناس هو الحروف والأصوات الصادرة من المتكلّم ، القائمة به وهو يحصل من تموج الهواء واهتزازه بحيث إذا زالت الأمواج ، زال الكلام معه ، ولكن الإنسان الاجتماعي يتوسّع في إطلاقه ، فيطلقه على الخطبة المنقولة ، والشعر المروي مع أنّ الكلام الواقعي قد زال بزوال الموجات والاهتزازات ، وليست الخطب والأشعار المكتوبة منها ، ومع ذلك يطلق عليهما الكلام توسّعاً ، ووجه التوسّع اشتراك الثاني مع الأوّل في الأثر وهو الكشف عمّا في


(292)
ضمير الإنسان.
    كما يتوسّع أكثرمن ذلك فيطلقه على كلّ فعل يكشف عمّا في ضمير الفاعل من العلم والقدرة والعظمة والكمال ، غير أنّ دلالة الألفاظ على السرائر والضمائر وضعيّة اعتبارية ، ودلالة الأفعال والآثار على ما عليه الفاعل من العظمة ، تكوينية.
    ولأجله نرى أنّه سبحانه يسمّي عيسى بن مريم كلمة اللّه ويقول : ( يا أَهلَ الكتاب لاتَغْلُوا فِي دينِكُمْ ولا تَقُولُوا عَلى اللّه إِلاّ الحَقَّ إِنّما المَسِيحُ عِيسى ابنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللّهِ وَكَلمتُهُ أَلقاها إِلى مَرْيَمَ ورُوحٌ منه ) (1) وجه الإطلاق هو أنّ ولادة المسيح من أُمّه من دون أن يكون هناك لقاح الذكر والأُنثى ، يعد آية من آياته ومعجزة من المعاجز وكاشفاً عن قدرته وعظمته سبحانه.
    وفي ضوء هذا الأصل يَعُدّ سبحانه كلّ ما في الكون من كلماته ويقول : ( قُلْ لَوْ كانَ الْبَحْرُ مِداداً لِكَلماتِ رَبّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَنْ تَنْفَدَ كَلِماتُ رَبِّي وَلَوْ جِئْنا بِمِثْلهِ مَدَداً ). (2)
    ويقول سبحانه : ( وَلَوْ أَنَّما فِي الأَرْضِ مِنْ شَجَرَة أَقْلامٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُر مَا نَفِدَتْ كَلِماتُ اللّه ). (3)
    قال أمير المؤمنين وسيد الموحدين ( عليه السَّلام ) في « نهج البلاغة » :
    « يُخْبِرُ لا بِلسان وَلَهَوات ، ويَسْمَعُ لا بخُروق وأدوات ، يقولُ ولا يَلفِظُ ، وَيَحْفَظُ ولا يَتَحَفَّظُ ، وَيُريد ولا يُضْمِر ، يُحِبّ ويرضى مِنْ غَيرِ رِقَّة ، وَيُبْغِضُ وَيغضب من غير مشقّة ، يقول لمن أراد كونه : كن. فيكون ، لا بصوت يُقْرَع ، ولا
1 ـ النساء : 171.
2 ـ الكهف : 109.
3 ـ لقمان : 27.


(293)
بِنداء يُسمَع ، وإنّما كلامه سبحانه فِعْلٌ منه أنشأه وَمَثَّلَهُ ، لم يكن من قبل ذلك كائناً ، ولو كان قديماً لكان إلهاً ثانياً ». (1)
    وقد نقل عنه ( عليه السَّلام ) أنّه قال مبيّناً عظمة خلقة الإنسان :
أتزعم أنّك جرمٌ صغيرٌ وأنت الكتابُ المبينُ الذي وفيكَ انطوى العالمُ الأكبرُ بأحرُفِهِ يَظهَرُ المُضْمَرُ
    فكلّ ما في صحيفة الكون من الموجودات الإمكانية كلماته ، وتخبر عمّا في المبدأ من كمال وجمال وعلم وقدرة.
    وإلى ذلك يشير المحقّق السبزواري في منظومته بقوله :
لسالك نهج البلاغة انَتَهَج إنّ تَدْرِ هذا ، حمدَ الأشيا تعرِف كلامه سبحانه الفعل خَرَج إن كلماتُه إليها تُضف (2)
    إلى هنا تمّ البحث عن النقطة الرابعة ، وحان البحث عن النقطة الخامسة وهي موقفنا من اتحاد الطلب والإرادة.

    الخامسة : موقفنا من وحدة الطلب والإرادة
    قد عرفت أنّ المحقّق الخراساني ذهب إلى اتّحاد الطلب والإرادة في المـراحـل الثلاث ، أي مفهوماً وإنشاءً ومصداقاً ، ولكن مقتضى التحقيق خلاف ما أفـاد.
    أمّا المرحلة الأُولى أي وحدتهما مفهوماً فهو غير تام للفرق بينهما بوجوه :
    1. المفهوم من الطلب ، غير المفهوم من الإرادة ، بدليل عدم صحّة استعمال الطلب مكان الإرادة وبالعكس يقول سبحانه : ( يُريدُ اللّهُ بِكُمُ اليُسْرَ وَلا يُريدُ
1 ـ نهج البلاغة ، الخطبة 179 ، ج2 ، ص 122 ، ط عبده.
2 ـ شرح منظومة السبزواري ، لناظمها ، ص 190.


(294)
بِكُمُ الْعُسْر ) (1) ولكن لا يصحّ أن يقال يطلب اللّه منكم اليسر ولا يطلب منكم العسر.
    قال رسول اللّه ( صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ) : « طلب العلم فريضة على كلّ مسلم ». (2) فلا يقوم مكانه الإرادة ، بأن يقال إرادة العلم فريضة على كلّ مسلم ومسلمة.
    2. تستعمل الإرادة فيما إذا كان المراد قريب الوصول غير محتاج إلى مقدمات كثيرة ، بخلاف الطلب فانّه السعي الذي يكون الوصول إلى المطلوب رهن مقدّمات كثيرة.
    3. الإرادة أمر قلبي جانحي ، والطلب أمر خارجي جارحيّ.
    ومع هذه الاختلافات كيف يمكن ادّعاء الترادف بين اللفظين ، وانّهما متحدان مفهوماً.
    وأمّا المرحلة الثانية : مرحلة الإنشاء والاعتبار فالمشكلة فيها تكمن في أنّ الأُمور الاعتبارية ، بما أنّها أُمور عرفية ترجع حقيقتها إلى جعل مثال لأمر خارجي ملموس كالزوجية والمالكية ، وأمّا الأُمور البعيدة عن الحسّ القائمة بالنفس كالإرادة ، فلا تمس الحاجة إلى جعل فرد اعتباريّ منها حتى يسمّى بالإرادة الإنشائية أو بالترجّي أو التمنّي الإنشائيين ، بل غاية ما يطلبه العقلاء في تلك الموارد ، إظهارها وإبرازها.
    وأمّا الطلب فلا مانع من جعل فرد انشائي يقوم مقام فرد تكويني ، فانّ الإنسان ربّما يطلب خروج زيد من البيت ، فتارة يقوم بالتكوين ، فيأخذه بيده ويُخرجه منه ، وأُخرى بإنشاء ذلك الأمر التكويني ، بالإشارة باليد أو الحاجب ، أو التكلّم بلفظ أخرج.
1 ـ البقرة : 185.
2 ـ الكافي : 1/30.


(295)
    وبذلك اتضح انّه ليس لنا إرادة إنشائية ، وأمّا الطلب فله وجود تكويني وإنشائي ، ومعه كيف يمكن أن يتّحدان في مقام الإنشاء مع أنّه ليس للإرادة فرد إنشائي ؟!
    وأمّا المرحلة الثالثة : أي عدم اتحادهما مصداقاً ، فلأنّ الإرادة التكوينية من الأُمور النفسانية موطنها النفس والطلب من الأُمور الجوارحية ، موطنها الخارج عن حيطة النفس ، فكيف يمكن الحكم باتحادهما ؟!
    وبذلك تبيّن تغاير الطلب والإرادة في المراحل الثلاث ، لكن لا بالمعنى الذي عليه الشيخ الأشعري ، فانّ الكلام النفسي باطل ، ومع ذلك فالطلب يغاير الإرادة في عامّة المراحل.
    ومن آفات التحقيق قلة التتبع ، وأنّ أكثر المفكرين يغترون بإبداعاتهم دون أن يتحملوا عبء التحقيق ، وعلى ذلك فلا غرو في رمي المحقّق الخراساني النزاعَ القائم بين الأشاعرة والمعتزلة طِوال قرون على قدم وساق ، باللفظي و انّ من قال بالوحدة ، فقد رام وحدة كلّ مع الآخر ، مع حفظ المرحلة ، فقال : إنّ كلاًمنهما متحدان مفهوماً وإنشاء ومصداقاً ، و من قال بالتعدد ، فقد نسب الفرد الحقيقي من الإرادة مثلاً إلى الفرد الإنشائي منه ، ثمّ تبجّح قدَّس سرَّه بتحقيقه وتصليحه فقال « ثمّ إنه يمكن مما حققنا ان يقع الصلح بين الطرفين و لم يكن نزاع في البين بأن يكون المراد من حديث الاتحاد ، ما عرفت من العينية مفهوماً ووجوداً حقيقياً وإنشائياً ، ويكون المراد من المغايرة والاثنينية ، هو اثنينية الإنشائي من الطلب ، والحقيقي من الإرادة.
    ولكنّك بعد الوقوف على السير التاريخي للمسألة تقف على عدم صحّة هذا النوع من التصالح وأنّ النزاع حقيقي ، كيف ؟! وكان النزاع بين الطائفتين ، عنيفاً ، والتاريخ يعبّر عنه بمحنة أحمد وأتباعه.


(296)
    إكمال
    إنّ المحقّق الخراساني لما ذكر أنّ للّه سبحانه إرادتين : تكوينية وتشريعية ، وانّ ما لا ينفك عن المراد إنّما هو القسم الأوّل لا الثاني ، عرج على مبحث آخر من دون ملزم ، وهو أنّ الإيمان رهن موافقة الإرادة التكوينية للّه سبحانه مع الإرادة التشريعية منه ، كما أنّ الكفر والعصيان رهن مخالفتهما ، فإذا توافقتا فلابدّ من الإطاعة والإيمان ، وإذا تخالفتا فلا مناص من اختيار الكفر والعصيان.
    ثمّ إنّه بعد ما ذكر هذا لمع في ذهنه إشكالان ذكرهما بصيغة السؤال والجواب ، نذكرهما كالتالي :
    الإشكال الأوّل : فإذا كان الكفر والعصيان ، والإطاعة والإيمان بإرادته سبحانه التي لا تتخلف عن المراد فلا يصحّ أن تتعلّق بها الإرادة لكونها خارجية عن الاختيار المعتبر في التكليف عقلاً.
    هذا هو السؤال أو الإشكال.
    فأجاب عنه : بأنّ تعلّق الإرادة التكوينية بفعل الإنسان لا يلازم الجبر لأنّها تعلّقت بصدور الفعل عن العبد بقيد الإرادة والاختيار ، فلو صدر عنه جبراً يلزم تخلّف إرادته عن مراده تعالى.
    وبالجملة هناك أُمور ثلاثة :
    الأوّل : تعلّق الإرادة الإلهيّة بفعل العبد.
    الثاني : تعلّقها بصدور الفعل عنه لكن لا مطلقاً ، بل عن إرادة واختيار.
    الثالث : ما يترتّب على فعل العبد من الكفر والعصيان.
    وإنّما يلزم الجبر لو لم يتوسط الثاني بين الأوّل والثالث.
    الإشكال الثاني : إنّ الكفر والإيمان وإن صدرا عن العبد بإرادة واختيار إلاّ


(297)
أنّ هنا أمراً آخر يُضفي على الفعل طابَع الجبر ، وهو أنّ كلّ ما في الكون قد تعلقت به الإرادة الأزلية والمشيّة الإلهية ، وبما أنّ الإرادة جزء من صحيفة الكون ، فقد تعلّقت بها الإرادة الأزلية ، فيصبح وجودها أمراً حتمياً ، ومعه لا يكون الفعل أمراً اختيارياً.
    وأجاب عنه قدَّس سرَّه بقوله : إنّ ثمة أُموراً أربعة :
    الأوّل : العقاب.
    الثاني : الكفر والعصيان.
    الثالث : الاختيار والانتخاب.
    الرابع : الشقاء الذاتي.
    والأوّل مسبب عن الثاني وهكذا ، فالعقاب مسبب عن الكفر ، وهو بدوره مسبب عن الاختيار الذي ينتهي إلى الشقاء الذاتي. وحيث إنّ الذاتي لا يعلل فلا يصحّ القول لم جعل السعيد سعيداً والشقي شقياً. فانّ السعيد سعيد في بطن أُمّه ، والشقي شقي في بطن أُمّه. فلا مناص من دخول الكافر النار كما لا مناص من دخول المؤمن الجنة ، لكون الأوّل شقيّاً بالذات والثاني سعيداً كذلك.
    وبما انّ المحقّق الخراساني لم يخرج من البحث بنتيجة باهرة بل أثار في نفس الوقت إشكالين لم يخرج من عهدة الاجابة عنهما ، وهما :
    1. انّ كفر الكافر متعلّق الإرادة الأزلية فلا محيص عن كفره.
    2. انّ عقوبة الكافر معلول للشقاء الذاتي ولو بوسائط فلا مناص من كفره.
    وكلا الإشكالين لا ينتجان إلاّ الجبر.
    اعتذر عن هذه النتيجة السيئة للبحث بقوله : « قلم اينجا رسيد سر


(298)
بشكست » أي وصل اليراع هنا وانكسر رأسه ، كناية عن عدم الخروج بنتيجة صحيحة.
    وهذا ما دعانا إلى عقد بحث مستقل حول الجبر والتفويض وإن كان البحث فيه استطراداً. (1)
    ولولا كلام المحقّق الخراساني في المقام لاقتصرنا على القدر الذي قدّمناه.
1 ـ بما انّ هذا البحث من بحوث شيخنا الأُستاذ ـ دام ظلّه ـ كان بحثاً مسهباً مترامي الأطراف ننشره مستقلاً بفضل من اللّه سبحانه.

(299)
    الفصل الثاني
في صيغة الأمر
    وفيه مباحث :

    المبحث الأوّل
ما هو معنى صيغة « افعل » ؟
    قد خصّصنا المبحث الأوّل من مباحث هذا الفصل لبيان الموضوع له لصيغة « افعل » كما خصّصنا المبحث الثاني لبيان كيفية استفادة الوجوب والندب منها. غير أنّ القدماء خلطوا بين المبحثين والأولى ما صنعه صاحب الكفاية فقد فصل المبحث الأوّل عن الثاني ، فنقول :
    لا شكّ أنّ صيغة افعل تستعمل ويراد منها البعث تارة ، والتمنّي ثانياً ، كقول امرئ القيس :
ألا أيّها اللّيل الطويل ألا انجلي بصبح وما الإصباح منك بأمثل
    والتعجيز ثالثاً كقوله سبحانه : ( وَإِنْ كُنْتُمْ في رَيْب مِمّا نَزَّلنا عَلى عَبْدِنا فَأْتُوا بِسُورَة مِنْ مِثْلِهِ ). (1)
1 ـ البقرة : 23.

(300)
    والتحقير رابعاً كقوله سبحانه : ( قُلْ مُوتُوا بِغَيْظِكُمْ إِنَّ اللّهَ عَليمٌ بِذاتِ الصُّدُور ) (1) إلى غير ذلك من المعاني التي تراد من صيغة الأمر.
    إنّما الكلام فيما هو الموضوع له لهذه الصيغة ، فقد ذهب المحقّق الخراساني إلى أنّه وضعت لإنشاء الطلب وانّه استعمل في عامّة الموارد في هذا المعنى فلو كان هنا اختلاف فإنّما هو في الدواعي والبواعث فربّما يكون الداعي الطلب الحقيقي ، وأُخرى التمنّي ، وثالثة التعجيز ، ورابعة الإهانة ، فهي موضوعة لانشاء الطلب بلا قيد وشرط ، ومستعملة فيها في عامّة الموارد ، فبما أنّ المستعمل فيه واحد في الجميع وإنّما الاختلاف في الدواعي ، يوصف الجميع بالحقيقة.
    لكنّه احتمل في ذيل كلامه أنّ استعمالها فيما إذا كان الداعي ، هو البعث والتحريك ، حقيقة وفي غيره كالتمني والتعجيز مجاز ، لا لأجل الاختلاف في المستعمل فيه ، لأنّه واحد حسب المفروض ، بل لأجل كون الوضع لإنشاء الطلب مقيّداً بما إذا كان الداعي هو التحريك لا غيره. فلأجل تخلّف شرط الوضع توصف سائر الاستعمالات بالمجازية.
    يلاحظ عليه بأُمور :
    1. الظاهر أنّ هيئة افعل موضوعة للبعث الإنشائي مكان البعث التكويني ؛ كما في بعث العبد والغلام إلى العمل ، باليد ، وكإغراء الكلب المعلَّم للصيد. نعم لازم البعث الإنشائي هو كون المأمور به مطلوباً ومراداً ، ويدل على ذلك أنّ مفاد « افعل » مضاد لمفاد « لا تفعل » و مفاد الثاني هو زجر المكلف عن الفعل فيكون مفاد « افعل » هو بعثه نحو الفعل.
    2. انّ ما احتمله في آخر كلامه بأنّ استعماله فيما إذا كان الداعي غير التحريك مجاز ، غير صحيح على مذهبه ، لأنّ المجاز عنده عبارة عن استعمال
1 ـ آل عمران : 119.
إرشاد العقول إلى مباحث الأصول المجلد الأوّل ::: فهرس