إرشاد العقول إلى مباحث الأصول المجلد الأوّل ::: 316 ـ 330
(316)
العنوان ، وإن كان يعد إطاعة ، كالزكاة والخمس ، ويعتبر في سقوط الواجب الإتيان به للّه سبحانه ، لكن لا يعدّ عبادة وعبودية ، أعني ما يساوق عنوان : « پرستش » في الفارسية. وعلى ذلك فالأولى تبديل عنوان البحث إلى التوصلي والتقربي ، حتّى يعم القسم الأخير.
    يلاحظ عليه : أنّ ما ذكره مبني على أن ترادف العبادة للفظ « پرستش » في الفارسية مع أنّه غير ثابت ، فانّ للثاني ضيقاً لا ينطبق على الفرائض المالية التي يشترط في صحّتها الإتيان بها متقرّباً إلى اللّه ، ولكن العبادة في لغة العرب أعمّ من ذلك اللفظ ، لأنّ العبادة لغة هي : الخضوع والخشوع والتذلّل ، لكن لا مطلقاً بل الخضوع النابع من اعتقاد خاص وهو الاعتقاد بما انّه إله ، أو خالق أو انّه قائم بالأفعال الإلهية ، فصلاة الموحّد وصيامه عبادة ، لأنّه قام بها لأجل انّ المعبود إله أو ربّ ، كما أنّ خضوع المشركين أمام الوثن والصنم كان عبادة لا لأنّ الأصنام خلاّق العالم ، بل لتخيّلهم أنّه سبحانه فوّض أفعاله إليها ، من المغفرة ، والشفاعة ، فإذا شفعت تقبل شفاعتها من دون حاجة إلى إذنه سبحانه في الشفيع ، وارتضائه المشفوع له.
    فإذا كان هذا معنى العبادة فكلّ عمل يشعر بالخضوع ، ويعرب عن تعظيم الغير بما أنّه إله أو ربّ أو مفوّض إليه أفعاله سبحانه ، يكون عبادة من غير فرق بين الصلاة وإعطاء الخمس والزكاة. والوقوف في عرفات والمشعر الحرام ومنى ، والذبح وحلق الرأس والسعي والطواف ، فروح العبادة عبارة عن كون المحرّك ، هو استشعار العظمة استشعاراً نابعة من الاعتقاد بكون المعبود خالقاً أو ربّاً أو ما يماثل ذلك من كونه مالكاً لبعض أفعاله سبحانه.


(317)
    السادس : ما هو الأصل فيما شكّ أنّه توصلي أو تعبّدي ؟
    إذا علم أنّ الواجب تعبدي أو توصلي يعمل به حسب ما علم ، وأمّا إذا شكّ ، فهل هناك أصل لفظي يثبت كونه توصلياً أو لا ؟
    ثمّ إذا لم يكن هناك أصل لفظي فما هو حكم الأصل العملي في المقام.
    لا شكّ أنّه إذا شككنا في قيد المتعلّق يتمسك بالإطلاق كما إذا قال : اعتق رقبة ، نتمسّك بإطلاق المتعلق ويحكم بعدم وجوب الإيمان ، وأمّا المقام فهناك خصوصية ربّما تكون مانعة عن التمسّك بإطلاق المتعلق ، فإذا قال الشارع : أقم الصلاة لدلوك الشمس ، فربّما لا يمكن التمسّك ، بإطلاق الصلاة لدفع الشك في اعتبار قصد القربة مثلاً ، وذلك لأنّ قيود المتعلق على قسمين :
    قسم ما ينوع المتعلّق إلى قسمين كرقبة مؤمنة ورقبة كافرة ، فهذا ما يسمّى من القيود الواقعة تحت دائرة الطلب ، فكأنّ الطلب يقع على المتعلق مطلقة أو مقيدة.
    وقسم آخر لا ينوع المتعلّق إلى قسمين ، وهو عبارة عن القيود الناشئة من جانب الأمر بالمتعلّق بحيث لولا الأمر لما يكون عن هذا القيد عين ولا أثر ، وهذا كقصد الأمر في الصلاة ، فالصلاة المقيّدة بقصد الأمر متقيّدة بقيد يأتي من قبل الأمر ، فلولا أمر الآمر لما يوصف المتعلق بقصد الأمر ، ولأجل هذا التفاوت بين القيدين صار القسم الثاني محطاً للنزاع ، وانّ إطلاق المتعلّق هل يدل على كون الواجب توصلياً أو لا ؟ فمن قال بإمكان أخذ هذا القسم من القيود في المتعلق قال بأنّ الأصل هو التوصلية إلاّ أن يدلّ الدليل على خلافه ، وهذا خيرة الفقهاء من القدامى والمتأخّرين إلى عصر الشيخ الأنصاري.
    وأمّا من قال بعدم جواز أخذه في المتعلّق ، فذهب إلى أنّ الأصل هو التعبدية إلاّ أن يدل دليل على التوصلية وعليه الشيخ الأنصاري والمحقّق الخراساني.


(318)
    واستدلّوا على امتناع الأخذ في المتعلّق بوجوه نذكرها تباعاً ، ونقدّم ما ذكره صاحب الكفاية أوّلاً ثمّ نعرّج على ما ذكره الآخرون.

    الأوّل : استلزامه التكليف بغير المقدور
    إنّ أخذ « قصد الأمر » في المتعلّق يستلزم التكليف بغير المقدور ، فإذا افترضنا أنّ الموضوع قبل الأمر هو « الصلاة مع قصد الأمر » فهو فعل غير مقدور قبل الأمر ، فكيف يأمر بشيء غير مقدور قبله مع أنّه يشترط تعلّقه بالمقدور ؟
    يلاحظ عليه : أنّه يشترط كون المتعلّق مقدوراً حين الامتثال لا حين الأمر ، والمفروض أنّه بعد الأمر يصير امتثاله أمراً ممكناً.

    الثاني : استلزامه داعوية الأمر إلى نفسه
    إنّ الأمر لا يدعو إلاّ إلى متعلقه ، والمتعلّق هاهنا هو الشيء المقيّد بقصد الأمر ، فنفس الصلاة مثلاً لا تكون مأموراً بها حتى يقصد المأمور امتثال أمرها ، والدعوة إلى امتثال المقيّد محال ، للزوم كون الأمر داعياً إلى داعوية نفسه ومحرّكاً لمحرّكية نفسه.
    وإلى ذلك يشير صاحب الكفاية بقوله : لا يكاد يمكن الإتيان بها بداعي أمرها لعدم الأمر بها ، فانّ الأمر حسب الفرض تعلّق بها مقيّداً بداعي الأمر ولا يكاد يدعو الأمر إلاّ إلى ما تعلّق به لا إلى غيره. (1)
    وحاصل الاستدلال : أنّ الأمر إمّا يدعو إلى امتثال نفس الصلاة ، وهي ليست متعلّق الأمر ، وإمّا يدعو إلى امتثال المركب من الصلاة وقصد الأمر ، وهو
1 ـ كفاية الأُصول : 1/109.

(319)
يستلزم كون الشيء داعياً إلى نفسه.
    وهذا الوجه غير تام بكلا شقّيه ، إذ لنا أن نختار كلاً من الشقين ونجيب عنه ، فنقول :
    أمّا الشقّ الأوّل : فنحن نقول إنّ الصلاة بما هي هي متعلقة بالأمر وواجبة إمّا بالوجوب الغيري على القول بوجوب الأجزاء الداخلية ، أو بالوجوب الضمني حسب ما ذهب إليه المحقّق البروجردي حيث يترشح من الوجوب النفسي وجوبات متعددة حسب تعدد الأجزاء ، أو بالوجوب النفسي حسب المختار في باب الأجزاء الداخلية حيث إنّ الإنسان يأتي بكلّ جزء داخلي بنيّة امتثال الأمر النفسي ، فإذا قال المولى : ابن مسجداً ، فالمهندس أو البنّاء إنّما ينوي امتثال الأمر النفسي عند الاشتغال بالتخطيط وتهيئة مواد البناء ، وحفر الأرض لنصب الأعمدة ، فهذه الأعمال كلها نوع امتثال للأمر النفسي ، غير أنّ هذا الامتثال يتم بنحو تدريجي. وعلى جميع الأقوال فالصلاة مأمور بها.
    وأمّا الشقّ الثاني : فنلتزم بأنّ الأمر يدعو إلى كلا الجزءين : الصلاة ، وقصد الأمر ، غير أنّ داعوية الأمر إلى متعلّقه ليست داعوية تكوينية حتّى يلزم محرّكية الأمر لنفسه ، بل داعوية تشريعية التي مرجعها إلى بيان موضوع الطاعة ، وعلى ذلك فالأمر يبيّـن موضوع الطاعة وهما أمران : الصلاة وقصد الأمر ، ولا ضير في ذلك.
    نعم لو قلنا بأنّ الأمر محرّك تكويني بالنسبة إلى المتعلّق يلزم ما ذكر ، ويدل على ذلك أنّ الأمر لو كان محركاً لما وجد على أديم الأرض كافر أو عاص ، بل المحرّك هو الخوف من العذاب أو الطمع في الثواب.
    ثمّ إنّ « الأمر بالصلاة مقيّدة بداعي أمرها » ليس بمعنى أنّه يأتي الجزء


(320)
الثاني « داعي أمرها » بقصد أمره ، فانّ هذا التفسير غفلة عن معنى أخذ « قصد الأمر » في متعلّق الأمر ، فانّ الهدف من أخذه ليس إلاّ لبيان كيفية امتثال الجزء الأوّل فقط ، فإذا أتى بالصلاة بقصد أمرها فقد امتثل الأمر بالمركب من الصلاة وقصد الأمر ، قهراً ، ومعه لا يبقى موضوع لامتثال الجزء الثاني.
    وهذا كما إذا أمر المولى بالصلاة مع الطهارة فمن لم يكن متطهراً يكون الأمر داعياً إلى كلا الجزئين ، وأمّا من كان واجداً لها فتنحصر داعويته إلى الصلاة وحدها.
    والحاصل : انّ المستدل زعم أنّ هناك واجبين يجب امتثالهما :
    أ. نفس الصلاة بقصد أمرها.
    ب. قصد الأمر بقصد أمره.
    فيخيل إليه أنّ الإتيان بالجزء الأوّل غير كاف في صدق الامتثال ، بل لابدّ من امتثال الجزء الثاني بقصد أمره ، وعندئذ يترتب عليه محذور وهو عدم إمكان إتيان الجزء الثاني بقصد أمره ، ولكنّه غفل عن أنّ الواجب بالذات هو الجزء الأوّل وإنّما أخذ الجزء الثاني في الموضوع طريقاً إلى الصلاة وعنواناً لها ، فإذا أتى بالصلاة مع قصد الأمر فقد حصل الجزء الثاني قهراً من دون حاجة إلى إتيانه بقصد الأمر.

    الثالث : استلزامه التسلسل
    وبيانه يحتاج إلى بيان مقدمة وهي :
    كان المبنى في الدليل الثاني على أنّ الصلاة فاقدة للأمر ، والمجموع وإن كان واجداً للأمر لكن الأمر لا يمكن أن يدعو إلى المركب لاستلزامه داعوية الأمر إلى نفسه كما تقدّم.
    ولقائل أن يقول : إنّ الصلاة إنّما تفقد الأمر إذا كان الجزء الثاني شرطاً لا


(321)
شطراً ، وإلاّ فيوصف كلّ جزء بالوجوب.
    ثمّ إنّ المحقّق الخراساني أبطل هذا البيان باستلزامه التسلسل ، وذلك لما اختاره في باب اختيارية الشيء حيث ذهب إلى أنّ ملاك الاختيارية كون الشيء مسبوقاً بالإرادة ، وعلى ضوء هذا فكلّ شيء اختياري إذا صدر عن إرادة ، وأمّا الإرادة فليست اختيارية لعدم صدورها عن إرادة.
    وعلى ضوء ذلك فالصلاة اختيارية ، وقصد الأمر الذي هو عبارة أُخرى عن إرادة الأمر غير اختيارية ، ولو قلنا بأنّ الجزء الثاني اختياري أيضاً يجب أن يسبق بإرادة ثالثة وهلم جراً.
    وإلى هذا الدليل أشار المحقّق الخراساني بقوله :
    « فانّه يوجب تعلّق الوجوب بأمر غير اختياري ، فانّ الفعل وإن كان بالارادة اختيارياً ، إلاّ أنّ إرادته ـ حيث لا تكون بإرادة أُخرى وإلاّ لتسلسلت ـ ليست باختيارية. (1)
    يلاحظ عليه : عدم تمامية المبنى ، فانّ الملاك في اختيارية الفعل أحد أمرين : إمّا أن يكون مسبوقاً بالإرادة كما هو الملاك في الأفعال الصادرة عن الجوارح.
    وإمّا أن يكون صادراً عن فاعل مختار بالذات وإن لم يكن مسبوقاً بالارادة وهذا كالأفعال الصادرة عن الجوانح مثل الإرادة ، فانّها فعل اختياري لصدورها عن نفس المختار بالذات.
    ثمّ إنّ الإرادة لو كانت غير اختيارية لزم عدم صحّة جعلها قيداً أيضاً مع أنّ المحقّق الخراساني خصّ الإشكال بكون الإرادة شطراً لا شرطاً.
    أضف إلى ذلك انّه لو كان قصد الأمر غير اختياري كيف يحكم العقل
1 ـ كفاية الأُصول : 1/110.

(322)
بوجوب تحصيله مع أنّ تعلق التكليف بغير المقدور أمر ممتنع سواء كان الحاكم هو الشرع أو العقل ؟
    إلى هنا تمّت الأدلة الثلاثة التي أوردها المحقّق الخراساني دليلاً لامتناع أخذ قصد الأمر في المتعلّق وهي :
    1. استلزام التكليف بغير المقدور.
    2. داعوية الأمر إلى نفسه.
    3. استلزامه التسلسل.
    وقد عرفت وهن الجميع.
    وهناك أدلّة أُخرى ذكرها غير المحقّق الخراساني ، وإليك تفصيلها :

    الرابع : استلزام الدور
    إنّ الأمر يتوقف على موضوعه توقّفَ العرض على موضوعه ، فلو كان قصد الأمر مأخوذاً في الموضوع ، لزم الدور ، لعدم تحقّق جزء الموضوع إلاّ بالأمر.
    يلاحظ عليه : أنّ الأمر الصادر من المولى يتوقف على تصور « الصلاة في الذهن مع قصد الأمر » وهذا لا يتوقف على صدور الأمر من المولى ، بل يمكن تصوّر الصلاة مع قصد الأمر وإن لم يكن هناك أمر ، وعندئذ فلا دور.

    الخامس : تقدّم الشيء على نفسه
    ويلوح من هذا الدليل أنّ في القول بالأخذ مفسدة الدور ، والفرق بين الرابع والخامس ، أنّ الأوّل يصر على نفس « الأمر » وانّه عرض ، وهذا الدليل يصر على عنوان « القصد » في قصد الأمر ويقول :
    إنّ الأخذ في المتعلّق يستلزم تقدّم الشيء ( أي القصد ) على نفسه برتبتين ،


(323)
وذلك لأنّ قصد الأمر متأخر عن الأمر ، والأمر متأخر عن الموضوع ، فينتج انّ القصد متأخر عن الموضوع برتبتين. وأخذه في الموضوع يستلزم تقدّم الشيء ( القصد ) على نفسه.
    يلاحظ عليه : أنّه نفس الإشكال السابق ، لكن ببيان آخر ، وهو بيان مفسدة الدور ، والجواب أنّ المتأخر عن الموضوع هو القصد الخارجي المتعلّق بالأمر الواقعي الصادر عن المولى ، فهما ( الأمر والقصد ) متأخران عن الموضوع ، إمّا برتبة ( كما هو الحال في الأمر ) ، أو برتبتين ( كما هو الحال في قصده ).
    والمأخوذ في الموضوع هو مفهوم « قصد الأمر » الكلي لا القصد الخارجي المتعلّق بالأمر الواقعي الصادر عن المولى ، فما هو المتأخر ليس جزء الموضوع ، وما هو جزء الموضوع ليس متأخراً.
    وبعبارة أُخرى : ما هو المتأخر عبارة عن قصد الأمر بالحمل الشائع الصناعي ، وما هو المتقدّم عبارة عن مفهومه الكلي الذي ينطبق عليه قصد الأمر بالحمل الأوّلي ، فالموقوف والموقوف عليه مختلفان.

    السادس : لزوم اتحاد الحكم والموضوع
    انّ ما لا يوجد إلاّ بنفس انشائه كيف يعقل أخذه مفروض الوجود في موضوع نفسه ، فانّ مرجعه إلى اتحاد الحكم والموضوع ، والأمر في « قصد الأمر » ممّا لا يوجد إلاّ بالإنشاء ، وكيف يصحّ أخذه في المتعلّق. (1)
    يلاحظ عليه : أنّ المأخوذ في الموضوع ليس نفس الحكم الخارجيّ ، بل المأخوذ
1 ـ هذا ، هو الوجه الذي يظهر من المحقّق الخوئي في أثناء تقرير برهان أُستاذه ، ولكن لا صلة له ببرهانه وإنّما هو وجه مستقل ( لاحظ المحاضرات : 2/156 ).

(324)
مفهوم كلي ، وما هو الحكم مصداق له ، والفرق بينهما هو الفرق بين الحمل الأوّلي والشائع الصناعي.

    السابع : لزوم تقدّم الشيء على نفسه في المراحل الثلاث
    وحاصله : انّ أخذ قصد الأمر في المتعلّق يستلزم تقدّم الشيء على نفسه في مقام الإنشاء والفعلية والامتثال.
    أمّا في مقام الإنشاء فلأنّ الموضوع في القضايا الحقيقية لابدّ وأن يكون مفروض الوجود في الخارج في مقام أخذه موضوعاً ، سواء أكان خارجاً عن اختيار المكلّف كالوقت أم داخلاً تحت اختياره كما في قوله ( أُوفُوا بالعُقُود ) فانّ معناه انّه إذا فرض حصول عقد في الخارج يجب الوفاء به ، وحينئذ لو أخذ قصد امتثال الأمر قيداً للمأمور به ، يكون الأمر موضوعاً للتكليف ومفروض الوجود في الإنشاء ، فيكون وجود التكليف مشروطاً بفرض وجود نفسه فرضاً مطابقاً للواقع ، ويستلزم عندئذ كون الأمر مفروض الوجود قبل وجود نفسه ، وهو بعينه محذور الدور.
    وأمّا في مقام الفعلية فلأنّ فعلية الحكم تتوقّف على فعلية موضوعه ، أعني : متعلقات متعلّق التكليف ، وحيث إنّ المفروض انّ نفسه هو الموضوع لنفسه ومتعلّق لمتعلّقه فطبيعة الحال تتوقف فعليته على فعلية نفسه.
    وبعبارة أُخرى : إذا أمر المولى بواجب مقيد بداعي أمره ، ففعلية خطابه تتوقّف على فعلية موضوعه والمفروض انّ الأمر لنفسه ، جزء الموضوع وعليه تتوقّف فعلية الأمر على فعلية نفسه.
    وأمّا في مقام الامتثال فانّ قصد امتثال الأمر متأخر عن الإتيان بتمام أجزاء المأمور به وقيوده ، وحيث إنّ من جملة الأجزاء والقيود حسب الفرض نفس قصد


(325)
الامتثال الذي هو عبارة عن دعوة شخص ذاك الأمر فلابدّ وأن يكون المكلّف في مقام امتثاله قاصداً للامتثال قبل قصد امتثاله ، فيلزم تقدّم الشيء على نفسه ، لأنّه بما هو جزء المأمور به مقدّم ، وبما أنّ ماهية قصد امتثال الأمر عبارة عن الإتيان بالأجزاء بقصد الأمر متأخر عن الاجزاء. (1)
    يلاحظ على الأوّل : بأنّ أقصى ما يلزم هو فرض وجود الشيء ( قصد الأمر ) قبل تحقّقه وهو ليس بمحال ، وإنّما المحال وجوده واقعاً قبل تحقّقه ، فما عبّر بقوله « يلزم كونه مفروض الوجود قبل وجوده وهو بعينه محذور الدور » غير تام فانّ محذور الدور هو وجوده واقعاً قبل تحقّقه لا فرض وجوده قبل تحقّقه ، وشتان بينهما.
    وعلى الثاني : فلأنّ فعلية الحكم تتوقّف على فعلية الموضوع لا بمعنى وجوده خارجاً بل بمعنى قدرة المكلّف على الإيجاد والامتثال ، والمفروض أنّ المكلّف قادر على الصلاة بقصد أمرها ، وأمّا القدرة على إيجاد المتعلّق والصلاة ( بقصد الأمر ) فهي موقوفة على صدور الأمر الإنشائي قبل فعلية الموضوع لا على الأمر الفعلي.
    فينتج : الأمر الفعلي موقوف على القدرة على إيجاد الصلاة بأمرها ، والقدرة الكذائية ليست موقوفة على الأمر الفعلي ، بل على الأمر الإنشائي السابق.
    ثمّ إنّ سيدنا الأُستاذ أجاب عن الإشكال بوجه آخر ، وقال : إنّ فعلية الحكم لا تتوقف على فعلية الموضوع توقّف المعلول على علته ، بل لابدّ في حال فعلية الحكم من فعلية الموضوع ولو صار فعلياً بنفس فعلية الحكم ، لأنّ الممتنع هو التكليف الفعلي بشيء لم يكن متحقّقاً بالفعل ، وأمّا التكليف الفعلي بشيء يصير فعلياً بنفس فعلية الحكم فالضرورة قاضية بجوازه.
    وعلى الثالث : فلأنّ قصد الامتثال الذي هو متأخر عن إتيان المأمور به
1 ـ أجود التقريرات : 1/107 ـ 108 وأوضحه تلميذه المحقّق الخوئي في المحاضرات : 2/157.

(326)
المركب من الصلاة وقصد الأمر إنّما هو قصد بالحمل الشائع الصناعي ، فهو بهذا المعنى متأخر عن المتعلّق وجزئه ، وأمّا المتقدّم الذي يجب على المكلف قصد امتثاله فإنّما هو قصد الأمر بمفهومه الكلي الذي يقال انّه قصد الأمر بالحمل الأوّلي.

    الثامن : استلزامه الجمع بين اللحاظ الآلي والاستقلالي
    إنّ التكليف بالصلاة بقصد أمرها مستلزم للجمع بين اللحاظ الآلي والاستقلالي ، لأنّ الموضوع بقيوده لابدّ وأن يكون ملحوظاً استقلالاً ، والأمر بما أنّه آلة البعث ملحوظ باللحاظ الآلي ، فكون شيء مأخوذاً في ناحية الأمر والمأمور به يستلزم كونه ملحوظاً بلحاظين مختلفين. (1)
    يلاحظ عليه : بما سبق من أنّ الملحوظ استقلالاً هو قصد الأمر المأخوذ في المتعلّق وهو أمر بالحمل الأوّلي ، والملحوظ آلياً هو الأمر الجزئي المتعلّق بالمتعلّق الكلي.
    والحاصل : انّ الأمر الخارجي الذي هو بعث بالحمل الشائع ملحوظ آلياً والمأخوذ في المتعلّق هو الصورة الكلية للأمر الذي لا يقال انّه حمل بالشائع الصناعي.

    التاسع : التهافت في اللحاظ
    لو أخذ قصد الأمر في متعلّق متعلقه يلزم منه التهافت في اللحاظ والتناقض في العلم ، لأنّ موضوع الحكم متقدّم عليه في اللحاظ ، وقصد الأمر متأخر عنه في
1 ـ راجع نهاية الأُصول : 99.

(327)
اللحاظ ، كما أنّه متأخر عنه في الوجود فيكون متأخراً عن موضوع الأمر برتبتين ، فإذا أخذه جزءاً من موضوع الأمر أو قيداً فيه لزم أن يكون الشيء الواحد في اللحاظ الواحد متقدّماً في اللحاظ ومتأخراً فيه ، وهو في نفسه غير معقول وجداناً امّا للخلف أو لغيره. (1)
    يلاحظ عليه أوّلاً : بأنّ الملحوظ متقدّماً غير الملحوظ متأخراً ، فالملحوظ متقدّماً هو قصد الأمر بمفهومه الكلي ، والملحوظ متأخراً هو الأمر بالحمل الشائع ، فهناك لحاظان وملحوظان ، لا انّ هناك لحاظاً واحداً لشيء واحد متقدّم ومتأخر.
    وثانياً : انّ أقصى ما يترتّب عليه لحاظ الشيئين المترتبين في رتبة واحدة وهو ليس بمحال كلحاظ العلة والمعلول المترتبين في رتبة واحدة واللحاظ خفيف المؤونة ، وإنّما المحال كون المترتبين في رتبة واحدة في عالم الوجود.

    العاشر : وجود التسلسل في المدعو إليه
    هذا الوجه ، نقله المحقّق البروجردي عن أُستاذه المحقّق الخراساني ، وحاصله : إذا تعلّق الأمر بالصلاة بداعي الأمر ، فيسأل عن داعي الأمر وانّه إلى مَ يدعو ؟ فإن دعا إلى ذات الصلاة ، فهو خلف ، إذ ليس له أمر وإن دعا إلى المركب أي ( الصلاة بداعي الأمر ) ننقل الكلام إلى هذا الداعي الثالث وهلم جراً.
    والجواب : نختار الأمر الأوّل ، وانّه يدعو إلى نفس الصلاة ، والقول بأنّه فاقد للأمر قد مرّ جوابه بأنّ الأجزاء مأمور بها بالأمر النفسي ، وانّ من شرع في الصلاة فقد شرع بامتثال الأمر النفسي.
    ثمّ نختار الأمر الثاني بأنّه يدعو إلى الصلاة بداعي الأمر ، ولكن ليس معناه
1 ـ بدائع الأفكار : 230.

(328)
هو الإتيان بكلّ من الجزءين بداعيه ، أي الاتيان بالصلاة بداعي الأمر والإتيان بداعي الأمر بداعي أمره ، وذلك لأنّ الجزء الثاني لما لم يكن مقصوداً بالذات ، بل كان المقصود هو إتيان الجزء الأوّل بداعي أمره ، فإذا أتي بالجزء الأوّل بداعي الأمر ، يسقط امتثال الجزء الثاني ، لأنّه لم يؤخذ على وجه الموضوعية ، بل لأجل الطريقية إلى الجزء الأوّل وبيان كيفية امتثاله.
    ولعمر القارئ انّ ما ذكروه من الوجوه العشرة مغالطات ظهر وجهها ممّا ذكرنا ، ومقام الشيخ الأنصاري وتلاميذه وتلامذة تلاميذه أرفع من أن يعتمدوا على هذه الوجوه ، خصوصاً وانّ المقام من قبيل الاعتباريات والاعتبار سهل المؤونة ، فكيف يدعى فيها الاستحالة والامتناع ؟!

    تصحيح الأخذ بأمرين
    ثمّ إنّ من قال بامتناع قصد الأمر في المتعلّق بأمر واحد حاول أن يصحح الأخذ في المتعلّق بأمرين :
    أحدهما يتعلق بنفس الطبيعة ويقول : أقم الصلاة ، والأمر الثاني يتعلّق بالإتيان بها بداعي أمرها كما إذا قال : امتثل أمر الصلاة بقصد أمرها.
    وعلى هذا فيكون الأصل في الأوامر التوصلية ، فانّ الأخذ في متعلّق الأمر الأوّل وإن كان محالاً ولكن لما كان الأخذ في المتعلق بالأمر الثاني جائزاً فعدم وجود الأمر الثاني يكشف عن عدم مدخليته فيه. (1)
    وأورد المحقّق الخراساني على هذا الوجه بأنّ الأمر الأوّل إن كان يسقط
1 ـ مطارح الأنظار : 60.

(329)
بمجرّد موافقته ، ولو لم يقصد به الامتثال كما هو قضية الأمر الثاني فلا يبقى مجال لموافقة الثاني مع موافقة الأوّل بدون قصد امتثاله ، فلا يتوصل الآمر إلى غرضه بهذه الحيلة والوسيلة وإن لم يكد يسقط بذلك فلا يكاد يكون له وجه إلاّ عدم حصول غرضه بذلك من أمره لاستحالة سقوطه مع عدم حصوله وإلاّ لما كان موجباً لحدوثه ، وعليه فلا حاجة في الوصول إلى غرضه إلى وسيلة تعدد الأمر ، لاستقلال العقل مع عدم حصول غرض الآمر بمجرّد موافقة الأمر ، بوجوب الموافقة على نحو يحصل به غرضه فيسقط أمره.(1)
    يلاحظ عليه : بأنّ ما ذكره إنّما يتم إذا كان للمكلّف إحدى الحالتين ، إمّا عالماً بالتوصلية ، أو شاكّاً فيها وفي التعبدية ، فعلى الأوّل يسقط البحث ، وعلى الثاني يعمل بقاعدة الاشتغال ، وأمّا إذا كان المكلّف قاطعاً بأنّه توصلي قطعاً مخالفاً للواقع ، أو غير ملتفت إلى أنّه تعبدي أو توصلي ، فعندئذ يحتاج المولى في استيفاء غرضه إلى التوصل بالأمر الثاني فلا يكون لغواً.
    ثمّ إنّ المحقّق البروجردي أورد على تصحيح الأخذ بإشكالين :
    الأوّل : إذا كانت المصلحة قائمة بالمركّب من الصلاة وقصد الأمر ، فكيف يبعث المولى عبده إلى الجزء ( الصلاة ) الفاقد للمصلحة ؟
    الثاني : انّ الأمر الأوّل لما تعلّق بالفاقد للمصلحة لا يكون إلاّ أمراً صورياً ، ولا يكون قصد الأمر الكذائي مصحّحاً لكون الشيء عبادة. (2)
    والظاهر عدم تماميتهما أمّا الأوّل ، فلأنّ الصلاة بما هي هي ، ليست مجرّدة عن المصلحة ، بل هي حاملة لبعضها.
    وإن شئت قلت : تعدّمقتضياً بالنسبة إليها ، ولأجل ذلك يصحّ الأمر بها.
1 ـ كفاية الأُصول : 1/111.
2 ـ نهاية الأُصول : 115.


(330)
    نعم إنّما يمتنع إذا بعث إليها واكتفى بالأمر الأوّل.
    ومنه يظهر حال الجواب الثاني ، إذ ليس الأمر الأوّل صورياً بل أمر جدّي غاية الأمر على نحو الأمر بالمقتضي كما مرّ.
    نعم يمكن أن يؤاخذ على تصحيح الأخذ بالأمرين بأنّ الأخذ لا يتوقف على الأمرين بل يصحّ بأمر واحد ولكن بوجهين :
    الأوّل : أخذه في المتعلّق بصورة جملة خبرية بأن يقول : أقم الصلاة ويجب أن تُقيمها بقصد أمرها ، فانّ أكثر الإشكالات غير متوجهة على هذه الصورة.
    الثاني : أن ينهى عن الضد حتى يتعيّن الضد الآخر بأن يقول : « أقم الصلاة لا بداع نفساني » فإذا كان أحد الضدين اللّذين لا ثالث لهما منهياً عنه يتعيّن الضد الآخر أي بداع إلهي.

    الإطلاق المقامي
    إذا قلنا بامتناع أخذ قصد الأمر في المتعلّق فالإطلاق اللفظي يكون منتفياً بانتفاء موضوعه ، إذ ليس للمولى إمكان الأخذ للمتعلّق حتى يُستدل بعدم الأخذ على عدم الوجوب ، ولكن هناك أصلاً آخر باسم الإطلاق المقامي فيتمسّك به ويستدل به على التوصلية.
    والفرق بين الإطلاقين هو أنّ الإطلاق اللفظي عبارة عن كون المولى بصدد بيان كلّ ما له دخل في متعلّق الحكم ، فإذا سكت نستكشف عن عدم مدخليته ، بخلاف الإطلاق المقامي فانّه عبارة عن كون المولى بصدد بيان كلّ ما له دخل في غرضه وإن لم يكن له دخل في المتعلّق فإذا سكت نستكشف عن عدم وجوبه.
    وعلى ضوء ذلك فيمكن أن يتمسّك بالإطلاق المقامي على عدم مدخلية
إرشاد العقول إلى مباحث الأصول المجلد الأوّل ::: فهرس