إرشاد العقول إلى مباحث الأصول المجلد الأوّل ::: 331 ـ 345
(331)
قصد الأمر ، وحتى قصد الوجه والتمييز في الغرض ، إذ لو كان له مدخلية لوجب على المولى التنبيه على مدخليته ولو ببيان خارج عن الخطاب كأن يقول بعد الأمر بالصلاة أيّها المكلّف ، الواجب الذي أمرت به واجب تعبّدي لا توصّلي ، فسكوته في كلّ مورد مشكوك كاشف عن عدم مدخليته في غرض المولى وعدم مدخليته في المتعلّق.
    وبهذا ظهر أنّ الأصل في التعبّدية والتوصّلية هو التوصّلية ، وذلك من وجوه شتى :
    أ. إمكان أخذه في المتعلّق ، وقد عرفت عدم تمامية الوجوه التي استدلّوا بها على الامتناع.
    ب. إمكان أخذه في المتعلّق بأمر ثان.
    ج. إمكان أخذه في المتعلّق مقيّداً بجملة خبرية.
    د. إمكان تفهيمه بالنهي عن ضده بعد الأمر بالشيء.
    هـ. إمكان التمسّك بالإطلاق المقامي وانّه لو كان له مدخلية لكان على المولى البيان.
    بقي الكلام في أدلّة القائلين في أنّ الأصل هو التعبديّة.

    أدلّة القائلين بأنّ مقتضى الأصل هو التعبديّة
    استدلّ القائلون بانّ الأصل هو التعبّدية بوجوه :
    الأوّل : ما نقله المحقّق النائيني عن العلاّمة الكلباسي : أنّ المولى إنّما يأمر عبده بشيء ويطلبه منه ليجعل أمره محرّكاً إيّاه نحو العمل وباعثاً له نحو المراد.
    وإن شئت قلت : إنّ الغرض من الأمر ، كون الأمر داعياً ، فحينئذ إن أتى


(332)
المكلّف به بداعي أمره ، فقد حصل الغرض وسقط الأمر ، وإلاّ فلا. (1)
    يلاحظ عليه : أنّه خلط بين كون الغرض من الأمر أن يكون داعياً للمكلّف إلى المأمور به ، وبين كون الغرض منه هو الإتيان به بذاك القصد. والمسلّم إنّما هو الأوّل ، وأمّا الثاني فيفتقر إلى دليل.
    وبعبارة أُخرى : انّ الغرض من الأمر هو تعيين موضوع الطاعة حتّى يقف المكلّف على واجبه ، وأمّا الإتيان لأجل أمر المولى فلم يعلم أنّه غرض الأمر.
    الثاني : قوله سبحانه : ( وَما أُمِرُوا إِلاّ ليَعبُدُوا اللّهَ مُخْلِصينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفاء وَيُقِيمُوا الصَّلاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكاة وَذلِكَ دينَ القَيّمة ). (2)
    وهو يدل على حصر الأوامر الصادرة منه سبحانه في التعبّدية ، حيث جاءت غاية للأمر ، في قوله ( وما أُمروا إِلاّ ليعبدوا اللّه ) أي ما أُمروا بشيء في مورد من الموارد من الطهارة إلى الديات إلاّ لأجل عبادة اللّه ، فكانت الغاية للأمر في جميع الموارد هي عبادة اللّه ، وعليه فكلّ أمر ورد في الشريعة ، عباديّ ، إلاّ ما قام الدليل على كونه غير عبادي ، وهذا العموم متّبع إلى أن يدلّ دليل على خلافه.
    يلاحظ عليه : بأنّ الآية بصدد بيان حصر العبادة والطاعة في اللّه سبحانه ، لا حصر عامة أوامره في التعبّدية ، وعلى ذلك فمعنى قوله ( وما أُمروا ) أي ما أُمروا ( في مجال العبادة ) إلاّ بالعبادة الخالصة. وليس معناه انّهم ما أمروا بشيء مطلقاً إلاّ ليعبدوا اللّه به حتى تكون الغاية من الأمر مطلقاً في تمام الموارد عبادة اللّه سبحانه ، ويؤيد ذلك قوله سبحانه : ( اتّخذوا أَحبارهُمْ وَرُهبانَهُمْ أَرباباً مِنْ دُونِ اللّهِ وَالمَسيحَ ابنَ مَرْيَمَ وَما أُمِروا إِلاّ لِيَعْبُدُوا إِلهاً واحِداً لا إِلهَ إِلاّ هُوَ سُبْحانَهُ عَمّا يُشْرِكُون ) (3) فالآية ظاهرة في أنّهم ما أمروا في مجال العبادة إلاّ عبادة إله واحد لا
1 ـ أجود التقريرات : 1/112 ـ 113.
2 ـ البينة : 5.
3 ـ التوبة : 31.


(333)
عبادة الآلهة ولا اتخاذ الأحبار والرهبان أرباباً من دُون اللّه.
    الثالث : قوله ( صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ) : « إنّما الأعمال بالنيّات ، وإنّما لامرئ ما نوى » (1) أي واقعية كلّ عمل بنيّة القربة وإيجاده للّه سبحانه ، فيكون المراد من النيّة ، نيّة القربة ، فكلّ عمل خلا عن نيّة القربة لا يُعدّ عملاً ، فلا يحصل الامتثال.
    يلاحظ عليه : أنّ الاستدلال مبني على تفسير النيّة في الحديث بنيّة القربة ، مع أنّه لا دليل عليه ، بل المراد منه قصد العناوين التي ربّما ينطبق على العمل ، كضرب اليتيم للأدب أو للإيذاء ، وعليه لا يكون للروايتين مساس بالمقام.
    وإن شئت قلت : إنّ اتّصاف العمل بالحسن والقبح ، أو بكونه مقرّباً وغير مقرّب منوط بكيفية النيّة.
    وأنّ كلّ عمل أتاه المكلّف بنيّة صالحة ، يوصف بالحسن والقربة ، وإلاّ فلا ، وأمّا أنّ سقوط كلّ أمر يتوقّف على نيّة التقرّب إلى اللّه ، وأنّه لولاها لفسد العمل فلا يدل عليه.
    وفي بعض الروايات : انّ اللّه لا ينظر إلى صوركم ولكن ينظر إلى قلوبكم.
    إلى هنا تبيّن أنّ مقتضى الأصل اللفظي هو التوصّلية إلاّ أن يدلّ دليل على كون الواجب قربياً.

    مقتضى الأصل العقلي
    لو افترضنا أنّه لم نخرج بنتيجة قطعية حسب الأدلة الاجتهادية فلا محيص من الرجوع إلى الأصل العقلي أوّلاً والشرعي ثانياً ، فما هو مقتضى الأصل العقلي ؟
1 ـ الوسائل : 1 ، الباب 5 من أبواب مقدمات العبادات ، الحديث 7.

(334)
    إنّ مقتضاه هو البراءة ، سواء أقلنا بإمكان أخذه في المتعلّق أم لا ؟ أمّا على الأوّل فواضح ، وأمّا على الثاني فلأنّ المولى وإن كان غير متمكّن من الأخذ في المتعلّق لكن يمكن أن ينبه على شرطيته بالأمر الثاني أو بالطرق التي تعرفت عليها.
    لكن المحقّق الخراساني ذهب إلى أنّ الأصل الجاري في المقام عند الشكّ هو الاشتغال ، قائلاً :
    بأنّ الشكّ هاهنا في الخروج عن عهدة التكليف المعلوم ، مع استقلال العقل بلزوم الخروج عنها ، فلا يكون العقاب ـ مع الشكّ وعدم إحراز الخروج ـ عقاباً بلا بيان ، ضرورة أنّه بالعلم بالتكليف ، تصحّ المؤاخذة على المخالفة ، وعدم الخروج عن العهدة ، لو اتّفق عدم الخروج عنها بمجرّد الموافقة بلا قصد القربة ، وهكذا الحال في كلّ ما شكّ دخله في الطاعة ، والخروج به عن العهدة ممّا لا يمكن اعتباره في المأمور به ، كالوجه والتمييز. (1)
    توضيحه : أنّه قدَّس سرَّه بصدد بيان الفرق بين الأقلّ والأكثر الارتباطيين ، والمقام بأنّ الشكّ في الثاني يرجع إلى الشكّ في السقوط دون الأوّل فانّ الشكّ فيه يرجع إلى سعة المتعلّق وضيقه.
    وأساس الفرق هو التمكّن من أخذ القيد في المتعلّق في الارتباطيين ، دون المقام حيث إنّ الأخذ فيه مستلزم للمحال ، وعلى ضوء ذلك لا ملازمة بين القول بالبراءة فيهما والقول بالبراءة في المقام ـ مضافاً ـ إلى أنّه قدَّس سرَّه يعول بالاشتغال في كلا المقامين كما سيوافيك في مبحث الاشتغال.
    يلاحظ عليه : أوّلاً : أنّ ما ذكره مبني على تقسيم الجزء إلى ما يمكن أن يكون
1 ـ كفاية الأُصول : 1/113 ـ 114.

(335)
مأخوذاً في المتعلّق وما لا يمكن ، فتجري البراءة في الأوّل دون الثاني.
    وأمّا على المختار من أنّ جميع الشروط والأجزاء على سنخ واحد ، و انّ الكلّ يرجع إلى المتعلّق ، وانّ للمولى أن يأخذ قصد الأمر جزءاً للمأمور به كالقنوت وجلسة الاستراحة ، فلا يصحّ الفرق بين المقام والأقل والأكثر الارتباطيين.
    وثانياً : أنّ ما ذكره من الدليل على الاشتغال في المقام ليس أمراً جديداً ، بل هو دليل القائلين بالاشتغال في الأقل والأكثر الارتباطيين في ذلك المبحث حيث قالوا : بأنّ الأمر بالأقل معلوم ونشك في سقوطه لأجل ارتباطية الأجزاء ، وانّ الغرض المستكشف من الأمر معلوم ونشك في سقوطه بإتيان الأقل ، فيجب الإتيان بكلّ ما احتمل دخله في الغرض.
    فإذا كان روح الدليل في المقامين هو الشكّ في السقوط وحصول الغرض ، فنقول :
    إنّ تحصيل غرض المولى واجب لكن في المقدار الذي قام الدليل عليه ، وأمّا ما لم يقم عليه الدليل فليس بواجب تحصيله ، كما في المقام.
    وبعبارة أُخرى : فالعبد مسؤول أمام اللّه حسب ما أعطي من الحجة لا ما شك فيه ، والشكّ في سقوط الأمر في المقامين لاحتمال عدم حصول الغرض لا يؤثر في الاشتغال ، وقد نبّه ببعض ما ذكرنا المحقّق العراقي في تقريراته ، فقال :
    إنّ التقريب المذكور ليس موجباً للفرق بين المقام والأقل والأكثر الارتباطيين ، بل هو أحد الوجوه التي ذكرت للدلالة على لزوم الاحتياط فيهما. (1)
1 ـ بدائع الأفكار : 1/240.

(336)
    حكم الأصل الشرعي
    قد عرفت أنّ حكم الأصل العقلي هو البراءة ، وأمّا حكم الأصل الشرعي فهو أيضاً كالعقلي على ما اخترنا من إمكان أخذه في المتعلّق بطرق مختلفة ، فإذا شككنا في جزئيته أو شرطيته فيكون ممّا لا يعلمون ، فيرفع بحديث الرفع.
    ثمّ إنّ المحقّق الخراساني لما بنى على عدم إمكان أخذه في المتعلّق ذهب في المقام إلى عدم جريان البراءة الشرعية قائلاً :
    بأنّه لابدّ في عمومها لشيء من كونه قابلاً للرفع والوضع ، وليس المقام كذلك ، فانّ دخل قصد القربة ونحوها في الغرض ليس بشرعي ، بل واقعي ، ودخل الجزء والشرط فيه وإن كان كذلك ، إلاّ أنّهما قابلان للوضع والرفع شرعاً. فبدليل الرفع ـ ولو كان أصلاً ـ يكشف أنّه ليس هناك أمر فعلي بما يعتبر فيه الشكوك ، يجب الخروج عن عهدته عقلاً ، بخلاف المقام ، فانّه علم بثبوت الأمر الفعلي وشكّ في كيفية الخروج. (1)
    يلاحظ عليه : بأنّ ما ذكره مبني على امتناع أخذه في المتعلّق مطلقاً ، فعندئذ يكون دخله في الغرض تكوينياً لا جعلياً ، والأمر التكويني غير قابل للوضع والرفع.
    ثمّ إنّ المحقّق الخراساني أشار في ذيل كلامه إلى وجود الفرق بين المقام والشكّ في الجزئية والشرطية ، بعد اشتراكهما في أنّ مدخلية الجزء والشرط أمر عقلي ، ولكنّه في غير قصد الوجه قابل للرفع والوضع ، فلأجل ذلك يشمله حديث الرفع بخلاف المقام.
1 ـ كفاية الأُصول : 1/114 ـ 116.

(337)
    نقل كلام عن المحقّق العراقي
    إنّ المحقّق العراقي تابع المحقّق الخراساني في عدم جريان البراءة الشرعية ، وأيّده بوجهين ، لكن مبنى الوجه الأوّل غير مبنى الوجه الثاني.
    فالأوّل منهما مبني على عدم جريان البراءة العقلية.
    كما أنّ الوجه الثاني مبني على القول بعدم إمكان أخذه فيه بأمر واحد وإمكان أخذه بأمرين ، ولولا التوجّه إلى أنّ لكلّ وجه مبنى خاصاً لانقلب كلامه إلى ألغاز.
    أمّا الأوّل فقال :
    أمّا الوجه الأوّل فمحصّله أنّ ملاك البراءة النقلية هو كون الأمر المشكوك فيه إذا لم يبينه المولى كان ناقضاً لغرضه ، ومورد الكلام ليس كذلك ، فانّ القيد المزبور على فرض كونه مراداً للمولى لا يكون ناقضاً لغرضه إذا لم يبينه لكفاية حكم العقل بلزوم الإتيان به في مورد الشكّ ، فلا يلزم من عدم البيان نقض الغرض ، وإذا كان المورد كذلك لا يكون مجرى للبراءة النقلية. (1)
    يلاحظ عليه : أنّ حكم العقل بالاشتغال حكم في مقام الشكّ ، وليس حكماً واقعياً ، فكم فرق بين الحكم بحسن العدل وقبح الظلم فلا يمكن للشارع نقضه وبين حكمه بالاشتغال في المقام في مقام الشكّ ، فعندئذ يكون حكم الشارع بالبراءة النقلية بما انّه حكم مولوي رافعاً لحكم العقل.
    وأمّا الوجه الثاني : انّ جريان البراءة النقلية عن وجوب قيد الدعوة بنحو الأمر الثاني ، لا يثبت أنّ متعلّق الأمر الأوّل هو تمام المطلوب إلاّ على القول بحجّية
1 ـ بدائع الأفكار : 1/243.

(338)
الأصل المثبت ، ضرورة أنّ نفي الوجوب من متمم الجعل ، وإثبات انّ الباقي واف بالغرض بالأصل المذكور من أظهر مصاديق الأصل المثبت ، بخلاف ما لو قلنا بإمكان أخذ قيد الدعوة ونحوه في متعلّق الأمر الأوّل فانّه عليه يرجع الشكّ إلى انبساط الأمر على الجزء أو القيد المشكوك في دخله ، فإذا جرت البراءة في انبساط الأمر عليه وتعلقه به استفدنا أنّ باقي الأجزاء هو تمام المأمور به في نظر العرف وليس ذلك من المثبت لخفاء مثل هذه الواسطة في نظر العرف. (1)
    وحاصله : انّه لو قيل بإمكان الأخذ بأمر واحد تثبت أصالة البراءة الشرعية انّ المأتي به تمام الموضوع ، وأمّا على القول بعدم إمكان أخذه بأمر واحد وإنّما يمكن بأمر ثان ، فنفي الأمر الثاني بالبراءة وبالتالي نفي التعبدية لا يثبت كون المأتي به تمام الواجب.
    يلاحظ عليه : بأنّ الالتزام بوجوب العلم بكون المأتي به تمام المأمور به من قبيل الالتزام بما لا يجب الالتزام به ، إذ ليس الواجب إلاّ عنوان الصلاة لا عنوان تمام المطلوب حتى يجب إحرازه ، بل يجب إحراز ما قامت عليه الحجّة سواء أكان تمام المأمور به أو لا.
    إلى هنا خرجنا عن هذا البحث الضافي بالنتائج التالية :
    1. انّ مقتضى الأصل اللفظي في التوصلية والتعبدية هو التوصلية.
    2. انّ مقتضى الأصل العقلي والشرعي عند عدم الدليل كالإطلاق وغيره على التوصلية ، هو التوصلية.
    3. انّ المعتبر في صحّة الواجب هو الإتيان به للّه سبحانه ، ولا يعتبر الإتيان به لأمره سبحانه.
1 ـ بدائع الأفكار : 1/244.

(339)
    إنّ هذا البحث مبنيّ على القول بأنّ ملاك العبادة هو الإتيان لأمره ، وأمّا على القول بأنّ ملاك العبادة هو الإتيان للّه سبحانه فالبحث أشبه بالسالبة بانتفاء الموضوع.


(340)
    المبحث الخامس
في دوران صيغة الأمر
بين كونه
نفسياً ، تعيينياً ، عينياً ، وما يقابلها
    إذا دار أمر الصيغة بين كونه نفسياً أو غيرياً ، كما إذا قال : اغتسل للجنابة ، واحتمل كونه واجباً بنفسه أو غيرياً واجباً للغير كالصلاة والصوم.
    أو دار أمرها بين كونه تعيينياً أو تخييرياً ، كما إذا قال : ( يا أَيُّهَا الّذينَ آمَنُوا إِذا نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِنْ يَومِ الجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلى ذِكْرِ اللّه ) (1) ودار بين كونه واجباً تعيينياً لا يسقط بالإتيان بشيء آخر ، أو تخييرياً ساقطاً بفعل الظهر أيضاً.
    أو دار أمرها بين كونه عينيّاً أو كفائياً ـ كما إذا قال : قاتل في سبيل اللّه ، ودار أمره بين كونه واجباً عينياً و واجباً عليه في جميع الحالات قام به الآخر أو لا ، أو كفائياً ساقطاً إذا قام به الآخر.
    فالمعروف في جميع الصور الثلاث هو الحمل على النفسي التعييني العيني ، غير أنّهم اختلفوا في وجه ذلك بعد الاتفاق على أصل الحمل ، وقد ذكروا في المقام وجوهاً.
1 ـ الجمعة : 9.

(341)
    الوجه الأوّل : الحمل مقتضى الإطلاق
    ذهب المحقّق الخراساني إلى أنّ الحمل مقتضى إطلاق الصيغة قال : مقتضى إطلاق الصيغة كون الوجوب نفسياً ، تعيينيّاً ، عينياً ، لأنّ الوجوب في مقابلاتها مقيّد بقيد ، ومضيقة دائرته به ، فإذا كان في مقام البيان ولم ينصب قرينة عليه ، فالحكمة تقتضي كون الوجوب مطلقاً ، وجب هناك شيء آخر أو لا ، أتى بشيء آخر أو لا ، أتى به آخر أو لا. (1)
    وحاصله : انّ الوجوب في الثلاثة الأول ، مطلق ، وفي مقابلاتها مقيّد ، فإذا لم يأت بالقيد مع كونه في مقام البيان ، يؤخذ بإطلاقه ويحمل على كونه نفسياً تعيينياً ، عينيّاً.
    وأورد عليه السيّد الأُستاذ : بأنّ كلاً من القسمين ، من أقسام الوجوب ، يمتاز عن المقسم بقيد ، ولا معنى لأن يكون أحد القسمين مقيّداً دون الآخر ، وإلاّ يلزم أن يكون القسم عين المقسم ، وإليك بيان قيد كلّ واحد من القسمين :
    الواجب النفسي ما وجب لنفسه.
    والغيري ما وجب لغيره.
    الواجب التعييني ما وجب وإن أتى بشيء آخر.
    والتخييري ما وجب إذا لم يأت بشيء آخر.
    الواجب العيني ، ما وجب وإن أتى به شخص آخر.
    والكفائي ما وجب إذا لم يأت به شخص آخر.
    وعلى ضوء ذلك يكون كلّ واحد منهما في مقام التحديد مشتملاً على قيد زائد على نفس البعث ولو من باب زيادة الحدّ على المحدود ، وعليه تصير النفسية
1 ـ كفاية الأُصول : 1/116.

(342)
مبائنة للغيرية ، لا تتعين إلاّ بدال آخر ، فلو كان هناك قرينة على أحد الطرفين فهو ، وإلاّ يصير الكلام من هذه الجهة مجملاً. (1)
    يلاحظ عليه : أنّ ما ذكره صحيح إذا لوحظ كلّ من القسمين برؤية عقلية ، فلكلّ ، قيد يمتاز به عن المقسم والقسم الآخر ، وأمّا إذا لوحظ برؤية عرفية فالعرف يرى الوجوب النفسي ، نفس الوجوب بلا قيد ، وهكذا الآخران ، من دون أن يزيد على الوجوب بشيء ، وذلك لأنّ القيد في الواجب النفسي ، أعني قوله : « ما وجب لذاته أو لنفسه » ليس شيئاً زائداً على أصل الأمر ، بل هو تأكيد له ، فلا يتلقّاه العرف أمراً زائداً على أصل الوجوب وإن كان في نظر العقل قيداً زائداً.
    وبه يتبين حال الأمرين الآخرين ، فانّ تفسير التعييني « بما وجب وإن أتى بشيء آخر » ، وتفسير العيني « بما وجب وإن أتى به آخر » ، ليس قيداً زائداً على الوجوب ، بل هو تفسير لإطلاق الوجوب وسعته وانّه غير محدد ولا مقيّد ، وواجب في كلتا الحالتين ، وعليه يكفي في بيانه السكوت بخلاف القيد في الأقسام الثلاثة ، فانّه تحديد للوجوب وتضييق له فلا يكفي في بيانه السكوت ، بل لابدّ من التكلّم به ، فإذا سكت يحمل على الفرد الذي يكون إطلاق الوجوب كافياً في بيانه وإفادته.
    وبعبارة أُخرى : انّ الإطلاق عبارة عن كون ما وقع تحت دائرة الطلب تمام الموضوع للحكم ، ويكون وافياً بإفادة المقصود ، فلو أُريد النفسي ونظيره ، فالوجوب المطلق من غير قيد باللفظ واف بإفادة المراد ، وإن أُريد المقيّد ، فالتعبير غير واف ، وقد عرفت انّ النفسي والتعييني والعيني ، نفس الوجوب المطلق في منظر العرف لا تزيد عليه بشيء في ذهنه. وكأن العرف يتلقى السكوت وافياً ببيان الثلاثة الأول ، دون الثلاثة الأُخر.
1 ـ تهذيب الأُصول : 1/167.

(343)
    الوجه الثاني : الحمل مقتضى حكم العقل في مجال العبودية
    قد عرفت أنّ أمر المولى ، تمام الموضوع لوجوب الطاعة والعلم بالخروج عن العهدة ، ولا يصحّ له ترك المأمور به باحتمال كونه مندوباً ، فلا يترك أمر المولى بلا جواب ، والجواب إمّا العلم بكونه مندوباً وإمّا الإتيان بالمأمور.
    وعلى ضوء ذلك يجب أن يحمل على كون الوجوب نفسياً تعيينياً عينياً ، إذ على هذا الفرض يقوم بامتثال الأمر في جميع الأحوال ولا يترك أمر المولى بلا جواب بخلاف ما إذا حمل على مقابلاتها فحينئذ يصحّ له ترك المأمور به باحتمال انّه واجب مقدّمي بشيء لم يجب بعد ، أو واجب تخييري أتى بعدله ، أو كفائي أتى آخر به ، ومن المعلوم أنّ ترك المأمور به بهذه الاحتمالات ترك بلا عذر قاطع وجواب حاسم.

    الوجه الثالث : المختص بمورد التعييني والعيني
    إنّ الوجوب في الواجب التخييري متعلّق بعنوان انتزاعي وهو أحد الفعلين أو الأفعال كما أنّه في الواجب الكفائي متعلّق بأحد المكلّفين ، فلو أتى المكلّف بأحد الأعدال أو قام به أحد المكلّفين فقد امتثل الحكم ، لكون المأتي به موافقاً للمأمور به ، وعلى هذا فمقتضى الإطلاق كون الواجب تعيينياً عينياً ، وذلك لأجل أنّ الفرق بين الواجب التعييني والتخييري هو أنّ الواجب في الأوّل هو الجامع الحقيقي والعنوان المتأصّل المنطبق على مصاديقه انطباقاً ذاتياً ويكون لنفس العنوان مدخلية في الحكم ، مثل قوله : « صلّ » ويكون المكلّف مخيّراً بين مصاديقه الذاتية في مقام الامتثال ، وأمّا الواجب في الثاني ، فالواجب فيه هو العنوان الانتزاعي والجامع غير المتأصّل ، والمكلّف مخيّر بين مصاديقه كعنوان أحد الفعلين


(344)
أو أحد الأفعال ، ولا مدخلية للعنوان في ثبوت الحكم ، إلاّ أنّه اتخذ وسيلة لبيان ما هو الواجب ، وتعلّق الإرادة والعلم بهذه العناوين ، بمكان من الإمكان فضلاً عن تعلّق الحكم الذي ليس إلاّ أمراً اعتبارياً.
    فإذا قال المولى : « أطعم » فظاهر البيان مدخلية ذاك العنوان ، بما هو هو ، في الحكم ، لا بما أنّه أحد أفراد العنوان الانتزاعي ، ولو كان المتكلّم في مقام البيان ، وكان الواجب تعيينياً لكفى البيان المزبور ، بخلاف ما إذا كان تخييرياً ، فانّه يكون البيان ناقصاً غير واف.
    وبذلك يعلم حال التردد بين العيني والكفائي ، فانّ مردّ التردد إلى أنّ التكليف توجّه إلى نفسه أو إلى عنوان أحد المكلّفين ، فانّ ظاهر الخطاب أنّه متوجّه إلى شخصه أو إلى عنوان ذاتي كالمستطيع الذي هو من مصاديقه ، وهذا بخلاف ما إذا كان واجباً كفائياً فالخطاب فيه ليس متوجّهاً إلى شخص المكلّف ولا إلى عنوان ذاتي ، بل إلى عنوان انتزاعي كأحد المكلّفين.
    يلاحظ عليه : انّ ما ذكره مبني على تفسير الفرق بين التعييني والتخييري أو العيني والكفائي بما ذكر ، وسيوافيك عدم صحّته وانّ التعلق في الجميع بنحو واحد. وإنّما الاختلاف في سنخ الوجوب ، لا في متعلقه على النحو الذي مرّ.
    هذا كلّه حول الأصل اللفظي ، وأمّا مقتضى الأصل العملي فقد فرّقه الأُصوليون المتأخرون فبحثوا عن مقتضى الأصل فيما إذا دار بين النفسي والغيري في مبحث وجوب المقدمة ، وعن الأمرين الأخيرين في مبحث البراءة والاشتغال.


(345)
    المبحث السادس
الأمر عقيب الحظر أو توهمه
    لو قلنا بإفادة صيغة الأمر الوجوب وضعاً أو إطلاقاً أو لأجل حكم العقل ، فهل الأمر كذلك إذا وقع عقيب الحظر أو توهمه ؟ وإليك بعض الأمثلة :
    1. قال سبحانه : ( وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْمَحيض قُلْ هُوَ أَذىً فاعْتَزِلُوا النّساء فِي الْمَحيضِ وَلا تَقْربُوهُنّ ) وقال بعد النهي ( فإِذا تَطَهّرْنَ فأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللّه ) (1) فالحظر والنهي في آية واحدة.
    2. قال سبحانه : ( أُحِلّت لَكُمْ بَهِيمَةُ الأَنْعام إِلاّ ما يُتْلَى عَلَيْكُمْ غَيْر مُحِلِّي الصيدِ وأَنْتُمْ حُرُمٌ إِنَّ اللّهَ يَحْكُمُ ما يُريد ) (2) أي غير مستحلّين اصطيادها في حال إحرامها.
    وجاءت الآية الثانية بالأمر بالاصطياد بعد الاحلال ، وقال : ( وَإِذا حَلَلْتُمْ فَاصْطادُوا ). (3)
    فما هو مفاد الأمر بعد النهي أو توهمه ؟ وهناك أقوال :
    أ. فمن قائل بظهورها في الاباحة.
    ب. إلى آخر قائل بظهورها في الوجوب.
    ج. إلى ثالث بتبعية حكم الموضوع لما قبل النهي إذا علّق الأمر بزوال علّة
1 ـ البقرة : 222.
2 ـ المائدة : 1.
3 ـ المائدة : 2.
إرشاد العقول إلى مباحث الأصول المجلد الأوّل ::: فهرس