إرشاد العقول إلى مباحث الأصول المجلد الأوّل ::: 541 ـ 555
(541)
    الأمر السادس
ما هو الواجب من المقدّمة ؟
    لو قلنا بوجوب المقدّمة ، فقد اختلفت كلمتهم في ما هو الواجب منها إلى أقوال ستة :
    1. وجوب مطلق المقدّمة.
    2. وجوب المقدّمة حين إرادة ذيها.
    3. وجوب المقدّمة بشرط إرادة ذيها.
    4. وجوب المقدّمة التي يتوصل بها إلى ذيها.
    5. وجوب المقدّمة الموصلة إلى ذيها في نفس الأمر.
    6. وجوب المقدّمة في حال الإيصال.
    وإليك دراسة الأقوال واحداً بعد الآخر.

    القول الأوّل : وجوب مطلق المقدّمة
    إنّ دليل إيجاب المقدّمة لملاك رفع الاستحالة وهو موجود في عامّة المقدّمات من دون تقييد بشيء من القيود من الأقوال الخمسة.
    وهذا القول هو المشهور ، على القول بوجوب المقدّمة ، ويُعلم حاله بدراسة سائر الأقوال.


(542)
    القول الثاني : وجوب المقدّمة حين إرادة ذيها
    يظهر هذا القول من صاحب المعالم في مبحث الضد حيث قال : وأيضاً حجّة القول بوجوب المقدّمة على تقدير تسليمها إنّما تنهض دليلاً على الوجوب في حال كون المكلّف مريداً للفعل المتوقّف عليها. (1)
    وإنّما صار إلى هذا القول لأجل تصحيح العبادة إذا ابتلى بالأهم كالصلاة بالنسبة إلى الإزالة ، إذا ترك الثانية وأقام الأُولى.
    توضيحه : أنّه استدلّ القائل ببطلان الصلاة بأنّ ترك الضد ـ الصلاة ـ مقدّمة لفعل الأهم ( الإزالة ) ، فإذا كان الترك واجباً ، كان الفعل محرّماً ، وحرمة العبادة تلازم بطلانها.
    هذا دليل القائل بالبطلان ، ولكن صاحب المعالم قبل المقدّمتين ، وهما :
    1. انّ ترك الضد مقدّمة لفعل الضد.
    2. إذا كان الترك واجباً ، يكون الفعل حراماً.
    ولكن منع أن يكون ترك الضد واجباً مقدّمة مطلقاً ، بل إنّما يكون واجباً حين أراد أن يأتي بالأهم ، وأمّا إذا كان هناك صارف بالنسبة إليه ـ كما في المقام ـ حيث إنّ المفروض انّ المكلّف ترك الإزالة وتوجّه إلى الصلاة فلا يكون مثل هذا الترك واجباً في هذه الحالة ، وبالتالي لا يكون فعله حراماً ، وعندئذ تصح الصلاة لعدم حرمتها.
    يلاحظ عليه : أنّ تضييق وجوب المقدّمة بما إذا أراد ذيها ، يستلزم أن يكون
1 ـ معالم الأُصول : 74.

(543)
إيجابها حينئذ أمراً لغواً ، لأنّ الغاية من إيجاب المقدّمة إيجاد الداعي بالنسبة إلى إتيانها ، فلو أراد إتيان ذيها ، عن جدّ فهو لا محالة يأتي بالمقدّمة ، فلا وجه لإيجاب المقدّمة.

    القول الثالث : وجوب المقدّمة بشرط إرادة ذيها
    وقد نسب هذا القول إلى صاحب المعالم ولم يعلم مصدره ، والفرق بين هذا والقول الثاني هو الفرق بين الحينية والمشروطة.
    فلو قلت : كلّ كاتب متحرك الأصابع حين هو كاتب ، فالقضية حينيّة.
    ولو قلت : كلّ كاتب متحرك الأصابع ما دام كاتباً ، فالقضيّة مشروطة.
    والقضيتان تشتركان في أنّ تحرك الأصابع لا يعدو عن حالة الكتابة إلاّ قولنا : « حين هو كاتب » في القضية الأُولى وإن لم يكن قيداً لكن القضية لا تصدق إلاّ في هذه الصورة ، فلها ضيق ذاتي بالنسبة إلى غير هذه الصورة ، بخلاف إذا قلنا : « مادام كاتباً » فهو قيد وشرط له وإيجاد ضيق في مقام الدلالة والإثبات.
    وعلى كلّ تقدير فالقول المزبور باطل ، وذلك :
    يلاحظ عليه أوّلاً : انّه لاينطبق على عبارة المعالم بل عبارته تنطبق على القول الثاني السابق.
    وثانياً : إنّ إرادة ذي المقدّمة إمّا شرط لوجوب المقدّمة ، أو شرط لوجوب المقدّمة ووجوب ذيها.
    أمّا الأوّل : فيرد عليه إشكالان :
    1. انّ القول باشتراط المقدّمة بإرادة ذيها فقط يخالف ما مرّ من أنّ وجوب المقدّمة تابع لوجوب ذيها إطلاقاً واشتراطاً ، فكيف يكون وجوب المقدّمة مشروطاً


(544)
بإرادة ذيها دون وجوب ذي المقدّمة.
    2. يلزم التفكيك بين وجوب ذيها ووجوب المقدّمة عند عدم إرادة ذيها ، حيث تلزم فعلية وجوب ذي المقدّمة في ظرف عدم وجوب المقدّمة لأجل عدم وجود شرط وجوبها وهو إرادة ذيها.
    أمّا الثاني : فيرد عليه أيضاً إشكالان :
    1. لو كان وجوب ذيها مشروطاً بإرادة ذي المقدّمة يلزم أن يكون إيجابه لغواً ، لأنّ الإيجاب لأجل جعل الداعي إلى العمل في نفس المكلّف ، فإذا كان الداعي موجوداً في نفس المكلّف حيث إنّ المفروض إرادته لفعل ذي المقدّمة ، يلزم أن يكون إيجاب ذيها لغواً.
    2. يلزم أن يكون وجوب الشيء تابعاً لإرادة المكلّف وهو كما ترى.

    القول الرابع : وجوب المقدّمة بشرط التوصّل إلى ذيها
    قد نسب هذا القول إلى الشيخ الأعظم قدَّس سرَّه ، ولكن عبارة مقرّره مضطربة للغاية ومحتملة لوجوه مختلفة نذكر منها ما يلي :

    الأوّل : قصد التوصّل قيد لحصول الامتثال
    قد استظهر السيد الأُستاذ قدَّس سرَّه من أنّ مراد الشيخ هو أنّ قصد التوصل شرط لحصول الامتثال وتحقّقه ، وليس قيداً لوجوب المقدّمة ولا قيداً لذات المقدّمة ، وعلى ذلك فقول الشيخ هو قول المشهور في مقدار ما هو الواجب في المقدّمة ، غير أنّه أضاف بأنّ قصد الامتثال للأمر الغيري رهن قصد التوصّل وهو ليس بأمر بديع.


(545)
    ويدلّ على ذلك التفسير قول المقرر : الحق عدم تحقّق الامتثال بالواجب الغيري إذا لم يكن قاصداً للإتيان بذلك ، إذ لا إشكال في لزوم قصد عنوان الواجب فيما إذا أُريد الامتثال. (1)
    ومن الواضح انّ قصد التوصّل يتحقّق بأحد أمرين :
    أ. الإتيان بالمقدّمة كالوضوء لقصد إيقاع الصلاة.
    ب : أن يأتي بالوضوء بقصد أمرها الغيري.
    وهذا التفسير ينطبق مع بعض كلمات المقرّر كما تقدّم.

    الثاني : قصد التوصّل شرط لرفع الحرمة عند التزاحم
    وهذا القول نقله المحقّق النائيني قدَّس سرَّه عن أُستاذه المحقّق الفشاركي قدَّس سرَّه وهو أنّ قصد التوصّل شرط لرفع حرمة المقدّمة عند التزاحم مع واجب أهم ، مثلاً : إذا توقّف إنقاذ الغريق على اجتياز أرض مغصوبة فلا توصف المقدّمة بالوجوب إلاّ إذا قصد باجتيازه إنقاذَ الغريق وإلاّ فلو اجتاز لا لهذا القصد بل للتنزّه والتفرّج فلا يوصف الاجتياز بالوجوب بل يبقى على حرمته. (2)
    ويؤيد ذلك قول الشيخ في بيان وجه الثمرة لمختاره :
    تظهر الثمرة في جهة بقاء الفعل المقدّمي كالدخول في الأرض المغصوبة على حكمه السابق ، فلو قلنا بعدم اعتبار قصد التوصّل في وقوع المقدّمة على قصد الوجوب لا يحرم الدخول في ملك الغير إذا كان مقدمة لإنقاذ غريق ، وإن لم يقصد إنقاذه ، بخلاف ما لو اعتبرناه ، فهو حرام ما لم يكن قاصد لإنقاذه. (3)
1 ـ مطارح الأنظار : 72 ـ 76.
2 ـ فوائد الأُصول : 1/289.
3 ـ مطارح الأنظار : 74.


(546)
    يلاحظ عليه : أوّلاً : انّ كلام الشيخ أعمّ من صورة التزاحم ، بشهادة أنّه أفتى ـ فيما إذا كان على المكلّف فريضة فائتة فتوضّأ قبل الوقت غير قاصد لأدائها ولا لغاية من غايات المقدّمة ـ انّه لا يجوز له الدخول به في الصلاة الحاضرة ، ولا الفائتة ، فلو كان منحصراً بصورة المزاحمة لما كان وجه لعدم صحّة الوضوء مع عدم قصد التوصّل. (1)
    وثانياً : انّه إذا كان الملاك لوجوب المقدّمة هو رفع الاستحالة وتمكين المكلّف من امتثال الأهم فلا يفرق بين كونه قاصداً للتوصّل أو غير قاصد ، إذ الملاك لارتفاع الحرمة وانقلابها إلى الوجوب إنّما هو رفع الاستحالة ، وهو محفوظ وموجود في كلتا الصورتين.

    الثالث : قصد التوصّل جزء الموضوع
    إنّ القول بأنّ الواجب هو خصوص ما أتى به بقصد التوصّل هو المعروف عن الشيخ الأعظم ، وانّه ذهب إلى أنّ موضوع الوجوب مركّب من ذات المقدّمة وقصد التوصّل.
    ويدلّ عليها بعض تعبيرات المقرّر حيث قال :
    وهل يعتبر في وقوعه على صفة الوجوب أن يكون الإتيان لأجل التوصّل إلى الغير أو لا ؟ وجهان ، أقواهما الأول ، وتظهر الثمرة فيما إذا كان على المكلّف فائتة فتوضّأ قبل الوقت غير قاصد لأدائها ولا لإحدى غاياتها ، فعلى المختار لا يجوز الدخول به في الصلاة الحاضرة ولا الفائتة ؛ وأيضاً تظهر من جهة بقاء الفعل
1 ـ مطارح الأنظار : 74.

(547)
المقدّمي على حكمه السابق ، فلو قلنا بعدم إنشاء قصد التوصّل في وقوع المقدمي على صفة الوجوب لا يحرم الدخول في ملك الغير إذا كانت مقدمة لإنقاذ غريق وإن لم يترتّب عليه ، بخلاف ما لو اعتبرناه ، فهو حرام ما لم يكن قاصداً لإنقاذه. (1)
    وأورد عليه المحقّق الخراساني : بأنّ ملاك الوجوب هو التوقّف وانّه به ترتفع الاستحالة ، وعلى ذلك فلا فرق بين أن يقصد التوصّل أو لا يقصده ، ولا معنى لأخذ ما لا مدخلية له في موضوع الوجوب.

    تأييد لمقالة الشيخ
    ثمّ إنّ المحقّق الاصفهاني نصر الشيخ الأعظم بالبيان التالي : وهو مبني على مقدّمتين :
    أ. انّ الحيثيات التعليلية في الأحكام العقلية راجعة إلى الحيثيات التقييدية ، فإذا كانت مطلوبية المقدّمة لا لذاتها بل لحيثية مقدّميتها والتوصّل بها ، فالمطلوب الجدّي ، والموضوع الحقيقي للحكم العقلي هو نفس التوصّل.
    ب. انّ الشيء لا يقع على صفة الوجوب ومصداقاً للواجب بما هو واجب ، إلاّ إذا أُتي به عن قصد وعمد حتّى في التوصّليات ، لأنّ البعث ـ توصّلياً كان أم تعبّدياً ـ لا يتعلّق إلاّ بالفعل الاختياري ، فالغسل الصادر بلا اختيار ، وإن كان مطابقاً لذات الواجب ومحصّلاً لغرضه ، ولكنّه لا يقع على صفة الوجوب ومصداقاً للواجب بما هو واجب.
    ثمّ استنتج من هاتين المقدّمتين انّ اعتبار قصد التوصّل في وقوع المقدّمة على صفة الوجوب مطلقاً ، وذلك من جهة انّ المطلوب الحقيقي بحكم العقل ،
1 ـ مطارح الأنظار : 74.

(548)
هو التوصّل حسب المقدّمة الأُولى ، ومن جهة انّه ما لم يقع الواجب على وجهه المتعلّق به الوجوب وهو كونه عن قصد وعمد ، لا يقع مصداقاً للواجب حسب المقدّمة الثانية. (1)
    يلاحظ عليه : انّ ما ذكره في المقدّمة الأُولى أمر صحيح لا غبار عليه ، إنّما الكلام في المقدّمة الثانية فقد أفاد فيها انّ الواجب هو نفس التوصّل الصادر من المكلّف باختياره ، فنقول : إنّ الواجب في مقام التشريع وإن كان هو عنوان التوصّل لكن الامتثال يتحقّق بمصداقه وهو نفس الدخول إلى الأرض المغصوبة أو نفس الوضوء والغسل ، ويكفي في امتثال الأمر المقدّمي قصد نفس الدخول بما هو هو أو الوضوء كذلك ، حتّى يكون فعلاً اختياريّاً ، وأمّا القصد الزائد على هذا ، أعني : قصد الدخول لغاية التوصّل إلى إنقاذ الغريق أو إيقاع الصلاة فلم يدلّ عليه دليل.
    وإن شئت قلت : إنّ المكلّف في مقام الامتثال يجب أن يقصد مصداق ما يتوصّل به حتّى يكون الفعل اختيارياً ، لما عرفت من أنّ المطلوب هو الفعل الصادر عن المكلّف باختيار. فعلى ضوء هذا فالواجب عليه هو الدخول والورود عن اختيار ، فلو دخل الأرض المغصوبة نائماً أو توضّأ غير قاصد للوضوء فلا يسقط الأمر المقدّمي.
    وأمّا لزوم كون الدخول الاختياري لغاية الإنقاذ أو لغاية الصلاة فلا دليل عليه ، فالذي يستنتج من المقدّمتين هو الإتيان بالمقدّمة عن قصد لا إتيانها منضماً إلى قصد ثان وهو التوصّل إلى الواجب.
1 ـ لاحظ نهاية الدراية : 1/204 ـ 205.

(549)
    ثمّ إنّ المحقّق العراقي اعترض على بيان المحقّق المحشّي وحاصل. اعتراضه يتلخّص في وجهين :
    الوجه الأوّل : إنّا لا نسلم انّ الجهات التعليلية في الأحكام العقلية جهات تقييدية ، لوضوح أنّ العقل يرى لحكمه موضوعاً وعلّة.
    الوجه الثاني : لو صحّ ما ذكره ، فإنّما هو في الأحكام العقلية المحضة لا الشرعية المستكشفة كما في المقام ، فانّ الوجوب فيه بحكم الشارع ولا دخل للعقل فيه إلاّ بنحو الكاشفية. (1)
    وإلى الوجه الثاني يشير المحقّق الخوئي في تعليقته على تقريرات أُستاذه حيث قال : مغالطة نشأت من خلط الحكم الشرعي المستكشف من حكم عقلي ، بالحكم العقلي الثابت لجهة تعليلية ، ومن الواضح انّ كون الجهات التعليلية في الأحكام العقلية ، جهات تقييدية ، أجنبي عن كون الجهات في الأحكام الشرعية جهات تقييدية ولو كانت مستكشفة من طريق العقلي. (2)
    والظاهر ضعف الإشكالين :
    أمّا الأوّل : فانّه نابع من خلط مقام الثبوت بالإثبات ، فما ذكره من أنّ للعقل حكماً وموضوعاً وعلّة ، صحيح في مقام الإثبات ، فيقال : الكذب قبيح لأنّه مضر للمجتمع ، وأمّا في مقام الثبوت فليس هناك إلاّ شيئان : الحكم والموضوع ، والموضوع عند العقل في مقام الثبوت هو الإضرار ، والكذب محكوم بالقبح لا بالذات بل لكونه من مصاديق الإضرار.
1 ـ بدائع الأفكار : 1/387.
2 ـ أجود التقريرات : 1/233.


(550)
    ونظيره قولنا : الظلم قبيح لكونه مفسداً للمجتمع ، ففي مقام الإثبات أُمور ثلاثة ، وأمّا مقام الثبوت فليس هناك إلاّ موضوع ، وهو المفسد ، وحكم ، وهو القبح ، وأمّا الظلم فليس موضوعاً للقبح بالذات ، بل لأجل كونه داخلاً تحت عنوان المفسد.
    وأمّا الثاني : فلا فرق بين الحكم العقلي والحكم الشرعي المستكشف من الحكم العقلي ، إذ لا معنى لأن يكون المعلول ( الحكم المستكشف ) أوسع من علّته أي الحكم العقلي.
    نعم يمكن أن يكون ملاك الحكم الشرعي في الواقع أوسع من ملاك الحكم العقلي ، إذ ليس للعقل الإحاطة بعامّة الملاكات ، بخلاف الشرع فانّه محيط بعامّة الملاكات ، ولكنّه لا يوجب أن يكون الحكم الشرعي المستكشف في مقام الإثبات ، أوسع من الحكم العقلي الذي هو بمنزلة العلّة له.

    القول الخامس : وجوب المقدّمة الموصلة
    قد اختار صاحب الفصول أنّ الواجب هو المقدّمة الموصلة بقيد الإيصال ، وتحليل هذا القول يتوقّف على الكلام في مقامات ثلاثة :
    1. أدلّته.
    2. إشكالاته.
    3. ثمراته.
    وقد خالف المحقّق الخراساني النظامَ الطبيعي للبحث فقدّم الإشكالات على الأدلة ، وما صنعناه أحسن.
    وإليك الكلام في كلّ منها :


(551)
    المقام الأوّل
أدلّة القول بوجوب الموصلة
    قد استدلّ صاحب الفصول على وجوب المقدّمة الموصلة بوجوه ثلاثة ندرسها واحداً بعد الآخر.
    الدليل الأوّل : انّ الحاكم بالملازمة بين الوجوبين هو العقل ، ولا يرى العقل إلاّ الملازمة بين وجوب الشيء ووجوب ما يقع في طريق حصول الشيء وسلسلة وجوده ، وفيما سوى ذلك لا يدرك العقل أية ملازمة بينهما. (1)
    وأورد عليه المحقّق الخراساني : بأنّ العقل الحاكم بالملازمة دلّ على وجوب مطلق المقدّمة لا خصوص ما إذا ترتّب عليها الواجب فيما لم يكن هناك مانع عن وجوبه ( كالأرض المغصوبة ) لثبوت مناط الوجوب حينئذ في مطلقها وعدم اختصاصه بالمقيّد بذلك منها. (2)
    وأجاب عن إشكال المحقّق الخراساني ، تلميذُه الجليل المحقّق الاصفهاني بقوله : ليس التمكّن من ذي المقدّمة ملاكاً لوجوبها ، فانّ التمكّن من ذيها حاصل بصرف التمكّن من المقدّمة وإن لم يأت بها. نعم تتوقّف فعلية ذيها على فعلية مقدّمته ، ويتوقّف تحقّقه على تحقّقها ، بل الملاك هو إيصالها إلى الواجب حيث إنّ الاشتياق إلى شيء لا ينفك عن الاشتياق إلى ما يقع في سلسلة علل
1 ـ الفصول الغروية : 87 ، ط تبريز.
2 ـ كفاية الأُصول : 1/188.


(552)
وجوده دون ما لا يقع في سلسلتها. (1)
    إنّ هذه الكلمات تدور حول محور واحد ، وهو أنّ الملاك لوجوب المقدّمة هل هو التوقّف أو التوصّل ؟ وكل يدّعي واحداً منهما من دون أن يقيم برهاناً عقلياً قاطعاً للنزاع.
    والذي يمكن أن يحسم به النزاع هو تشخيص الغاية الذاتية عن العرضية في المقام بما قرر في الفلسفة وهو :
    إنّ الإجابة بالغاية الذاتية تقطع السؤال ، بخلاف الإجابة بالغاية العرضيّة فانّها لا تقطع ، بل للسائل أن يسأل عن وجه تحصيل الغاية العرضيّة أيضاً ، وقبل أن نميّز الغاية العرضية عن الذاتية في المقام نطرح مثالاً لينجلي فيه الموضوع.
    إنّ طالب العلم يتحمّل مشقّة وعناءً في سبيل التعلم ، فلو طرحنا عليه السؤال التالي :
    1. لماذا تدرس وتتحمل كلّ هذا العناء ؟
    لأجاب : أدرس بغية النجاح في الامتحان.
    2. ولماذا تريد النجاح في الامتحان ؟
    لأجاب : لنيل الشهادة.
    3. لماذا تريد نيل الشهادة العلميّة ؟
    لأجاب : للارتزاق بها في حياتي.
    فعندئذ تنتهي الأسئلة المتواردة ، فلو سألته بقولك لماذا تريد الارتزاق؟ يكون السؤال غلطاً ، لأنّ الارتزاق من ضروريات الحياة ، وهي غاية ذاتية لا تنفك عنها.
1 ـ نهاية الدراية : 205.

(553)
    ومثله المقام : فلو سأل سائل الآمر بقوله :
    1. لماذا أوجبت المقدّمة ؟
    لأجاب : لتوقّف المراد عليها سواء أكانت موصلة أم لا.
    2. إذا كانت المقدّمة غير مطلوبة بالذات فلماذا تطلبها في صورة عدم كونها موصلة ؟
    وهذا دليل على أنّ التوقّف غاية عرضية وليست ذاتية.
    وهذا بخلاف ما أجاب عن السؤال الأوّل بقوله :
    أوجبتها لتوصل بها إلى المقصود الذاتي.
    فعندئذ ينقطع السؤال ويقتنع السائل.
    وبذلك يُعلم أنّ أكثر إشكالات المحقّق الخراساني التي ساقها على صاحب الفصول وستمرّ عليك ، غير صحيحة ، لأنّ أساسها أنّ الغاية من الإيجاب هي التوقّف ، مع أنّك عرفت أنّ الغاية حسب التحليل هي التوصّل.
    الدليل الثاني : انّ العقل لا يمنع من أن يقول الآمر الحكيم بأنّه يريد من المأمور الحجَ ، ويريد منه السير الذي يتوصّل به إلى ذلك الفعل الواجب دون ما لا يتوصّل به إليه ، بل الضرورة قاضية بجواز تصريح الآمر بذلك ، كما أنّها قاضية بقبح التصريح بعدم مطلوبيتها له مطلقاً أو على تقدير التوصّل بها إليه. وذلك آية عدم الملازمة بين وجوبه ووجوب مقدّماته على تقدير عدم التوصّل بها إليه.
    ولما كان الملاك عند المحقّق الخراساني هو رفع الإحالة وإيجاد التمكّن أنكر هذا الدليل ، قائلاً : بأنّه ليس على الحكيم ذلك ، لأنّ دعوى قضاء الضرورة بذلك مجازفة ، وكيف يكون ذلك بعد كون المناط موجوداً في مطلق المقدّمة الموصلة


(554)
وغيرها. (1)
    وقد عرفت أنّ الملاك هو كونها واقعة في سلسلة الغرض الأسمى و كونها موصلة لما هو المطلوب الأقصى ، وعلى ذلك فالتصريح المذكور بمكان من الصحّة.
    الدليل الثالث : صريح الوجدان قاض بأنّ من يريد شيئاً بمجرّد حصول شيء آخر لا يريده إذا وقع مجرّداً عنه. ويلزم منه أن يكون وقوعه على وجهه المطلوب منوطاً بحصوله.
    وقد أورد عليه المحقّق الخراساني بوجهين :
    أوّلهما : انّ مطلوبية المقدّمة انّما هي لأجل عدم التمكّن من التوصّل بدونها ، لا لأجل التوصّل بها ، لأنّ التوصّل ليس من آثارها بل ممّا يترتب عليها أحياناً بالاختيار ولولا إرادة ذيها لما تكون موصلة.
    يلاحظ عليه : من أنّ الملاك كما عرفت التوصّل بالمقدّمة إلى ذيها خارجاً ، وقد أثبتنا عدم انقطاع السؤال لو كان الملاك مطلق التمكّن ، سواء أكانت موصلة أو لا ، وأمّا عدم ترتّبه على المقدّمة من دون ضم إرادة ذيها فسيوافيك الجواب عنه عند ذكر الإشكالات.
    ثانيهما : انّ الغاية ( الصلاة ) لا تكون قيداً لذي الغاية ( الوضوء ) بحيث كان تخلّفها موجباً لعدم وقوع ذي الغاية ( الوضوء ) على ما هو عليه من المطلوبية الغيرية ، وإلاّ يلزم أن تكون الغاية ( الصلاة ) مطلوبة بطلب غيري كسائر قيود الواجب الغيري.
1 ـ كفاية الأُصول : 1/188.

(555)
    يلاحظ عليه : بما سنشير إليه في المبحث الثاني ( إشكالات المقدّمة الموصلة ) من أنّه لا يلزم من إيجاب المقدّمة الموصلة ، كون الغاية من قيود ذي الغاية على نحو تكون الغاية واجبة بوجوب ذيها الغيري ، لأنّ مدخلية الغاية في المقدّمة على نحو دخول التقيّد وخروج القيد فانتظر.
    إلى هنا تمّت دراسة الأدلّة الثلاثة التي أقامها صاحب الفصول على مختاره ، كما تمّت مناقشة المحقّق الخراساني لها ، ووقفت على مدى صحتها ، وهناك دليل آخر على وجوب المقدّمة الموصلة ينسب إلى معاصر المحقّق الخراساني ـ أعني : السيد محمد كاظم اليزدي مؤلف العروة الوثقى ـ واستدلّ هو بالنحو التالي :
    الدليل الرابع : يصحّ للمولى تجويز الموصلة وتحريم غيرها ولا يجوز له تحريم مطلق المقدّمة أو خصوص الموصلة ، وذلك دليل على عدم وجود الملاك في غير الموصلة وإلاّ لما صحّ تحريمها.
    وهذا الدليل قريب من الدليل الثاني الماضي لصاحب الفصول حيث قال : إنّ العقل لا يمنع أن يقول الآمر الحكيم بأنّه يريد من المأمور الحج ويريد منه السير الموصل دون ما لايوصل كما عرفت. وعلى كلّ تقدير فتجويز الموصلة وتحريم غيرها آية وجود الملاك في الأُولى وعدمها في الثانية.
    ثمّ إنّ المحقّق الخراساني أورد عليه بوجهين :
    1. انّ الواجب في هذه الصورة وإن كان مختصّاً بالموصلة لكن خروج غير الموصلة ليس لأجل اختصاص الوجوب بالموصلة في باب المقدّمة بل لأجل المنع من غيرها المانع من الاتّصاف بالوجوب بها هنا.
    يلاحظ عليه : أنّ ما ذكره إنّما يتمّ إذا كانت المقدّمة محرمة بالذات كما في
إرشاد العقول إلى مباحث الأصول المجلد الأوّل ::: فهرس