إرشاد العقول إلى مباحث الأصول المجلد الأوّل ::: 556 ـ 570
(556)
اجتياز الأرض المغصوبة فلا تكون الحرمة فيه دليلاً على عدم الملاك ، وأمّا إذا كانت حلالاً بالذات وصارت ممنوعة بعنوان غير الموصلة كنصب السلّم لغاية الرياضة ، فانّ صحّة النهي آية عدم ملاك الوجوب الغيري فيه ، وإلاّ لما صحّ النهي بعد اشتراك الموصلة وغيرها في الملاك ، بل يكون النهي لغواً على خلاف الحكمة.
    2. انّ تجويز الموصلة وتحريم غيرها يستلزم أحد المحذورين :
    أ. إمّا تحصيل الحاصل.
    ب. أو تفويت الواجب.
    وذلك لأنّ الإيصال إمّا أن يكون موجوداً بالفعل أو لا.
    فعلى الأوّل يلزم تحصيل الحاصل ، لأنّ كون المقدّمة موصلة بالفعل يلازم وجود ذيها ، ومعه يكون الطلب أشبه بتحصيل الحاصل.
    وعلى الثاني أي ما إذا كان الإيصال بالقوّة لا بالفعل يكون الشروع في المقدّمة ـ لفقدان وصفها ـ أمراً حراماً ، والحرمة تُعجِزُ المكلّف عن امتثال الواجب عجزاً تشريعياً ، ويترتّب عليه المحذور الثاني وهو تفويت الواجب.
    وإلى المحذور الثاني يشير المحقّق الخراساني بقوله : إنّه يلزم أن لا يكون ترك الواجب حينئذ مخالفة وعصياناً لعدم التمكّن شرعاً منه لاختصاص جواز المقدّمة بصورة الإتيان به.
    وإلى المحذور الأوّل يشير بقوله : « وبالجملة يلزم أن يكون الإيجاب مختصّاً بصورة الإتيان ، لاختصاص جواز المقدّمة بها ، وهو محال فانّه يكون من طلب الحاصل المحال ».


(557)
    يلاحظ عليه : بأنّه إنّما يرد أحد المحذورين إذا أُريد من الإيصال ، هو فعليته بنحوالشرط المتقدّم أو المقارن ، فعلى فرض وجوده يلزم طلب الحاصل ، وعلى فرض عدمه يلزم تفويت الواجب.
    وأمّا إذا كان شرطاً متأخّراً لجواز المقدّمة فيكفي في جوازها علم الفاعل بالترتّب في المستقبل فتكون المقدّمة جائزة ، ولا يلزم لا تفويت الواجب ولا تحصيل الحاصل. (1)
    ويمكن أن يقال : إنّ المراد من الإيصال ليست فعلية ترتّب ذيها عليها حتّى يلزم أحد المحذورين ( حيث عند الترتّب يلزم تحصيل الحاصل ، وعند عدمه يلزم حرمة المقدّمة ) بل المراد بالإيصال هو كون المقدّمة واقعة في صراط الإتيان بذيها حسب تشخيص المكلّف وإرادته ، ويكفي في تحقّق الشرط بهذا المعنى كون المقدّمة في صراط ذيها في نيّة المكلّف.
    وإن شئت قلت : ليس الإيصال قيداً لجواز المقدّمة ، بل من قيود الواجب ( المقدّمة ) التي يجب على المكلّف تحصيلها ، وذلك بالسعي حتّى تنتهي المقدّمة إلى ذيها.
    وعندئذ لا يلزم أحد المحذورين ، أمّا تحصيل الحاصل فلأنّ المفروض عدم تحقّق وصف الإيصال ، وأمّا تفويت الواجب فلأنّ المفروض جواز المقدّمة التي وقعت في صراط ذيها حسب نية المكلّف.
    وبعبارة أُخرى : الإيصال كسائر قيود الواجب قيد اختياري يجب على المكلّف تحصيله حتّى لا يؤاخذ بترك الواجب.
1 ـ نهاية الدراية : 1/207 ، بتوضيح منّا.

(558)
    ونظير ذلك جواز تصرّف الولي في مال اليتيم بشرط أن يكون مقروناً بالغبطة ، فانّ النتيجة وهي كون المعاملة لصالح اليتيم شرط يجب على الولي تحصيلها ، وليس هذا الشرط موجوداً في أوّل الأمر.
    إلى هنا تمّت أدلّة المقدّمة الموصلة ، وحان البحث في المقام الثاني ، أعني : إشكالات القول بالمقدّمة الموصلة.


(559)
    المقام الثاني
إشكالات القول بوجوب المقدّمة الموصلة
    قد فرغنا من الكلام في أدلّة القول بوجوب خصوص المقدّمة الموصلة ، وبقي الكلام في البحث عن الشبهات التي وُجهت إلى تلك النظرية من قبل المتأخّرين عن صاحب النظرية ، وإليك بيانها :

    1. انقلاب الواجب النفسي إلى الغيري
    إنّ تقييد المقدّمة بالإيصال يوجب أخذ ذي الغاية جزءاً للمقدمة ، وهو يستلزم أن يكون الشيء الواحد واجباً نفسياً ، وواجباً غيريّاً حيث جعل ذي المقدّمة جزءاً من المقدّمة ، ومجموع المقدّمة واجب بالوجوب الغيري فيكون جزؤه أيضاً كذلك ، وإلى هذا أشار في « الكفاية » بقوله :
    إنّ الغاية لا تكاد تكون قيداً لذي الغاية بحيث كان تخلّفها موجباً لعدم وقوع ذي الغاية على ما هو عليه من المطلوبية الغيرية ، وإلاّ يلزم أن تكون الغاية مطلوبة بطلبه كسائر قيوده. (1)
    وقد أجاب عنه السيد الإمام الخميني قدَّس سرَّه بقوله : إنّ وصف الموصلية أمر
1 ـ كفاية الأُصول : 1/191.

(560)
انتزاعي من وجود نفس ذي المقدّمة في الخارج ، وهو منشأ انتزاعي لهذا الوصف ، وما هو قيد لوجوب المقدّمة إنّما هو ذاك الوصف الانتزاعي دون منشأ انتزاعه الذي هو نفس وجود ذي المقدّمة في الخارج ، فما هو الواجب غيرياً إنّما هو رهن الانتزاع ، وما هو واجب بالوجوب النفسي إنّما هو منشأ انتزاعه. (1)
    يلاحظ عليه : بأنّه إذا كان عنوان الموصلية أمراً انتزاعياً من وجود نفس ذي المقدّمة ، فيكون الواجب النفسي كالمقدّمة لهذا الأمر الانتزاعي الذي هو جزء للموضوع فيوصف أيضاً بالوجوب الغيري بحكم انّ منشأ الانتزاع مقدّمة للعنوان المنتزع الذي هو جزء المقدّمة.
    والأولى أن يجاب : بأنّ عنوان الموصلية لا ينتزع من وجود ذي المقدّمة في الخارج ولا من ترتّب ذيها على المقدّمة ، بل ينتزع من نفس المقدّمة إذا كانت في طريق ذيها ومنتهية إليه ، فالواجب هو إيجاد المقدّمة مع وصفها بأن يجعل المقدّمة في طريق ذيها وواصلة إليه ، وعند ذاك لا يلزم انقلاب الواجب النفسي إلى الواجب الغيري.

    2. سقوط المقدّمة بالإتيان بها
    إذا كان الواجب هو المقدّمة بقيد الإيصال ، فلو قلنا بوجوب المقدّمة يجب أن لا يسقط أمرها بالإتيان بها ما لم يترتّب عليه ذيها ، مع أنّ المعلوم خلافه ، وإلى هذا الإشكال أشار المحقّق الخراساني بقوله :
    ولأنّه لو كان الترتّب معتبراً فيه لما كان الطلب يسقط بمجرّد الإتيان بها من دون انتظار لترتّب الواجب عليها بحيث لا يبقى في البين إلاّ طلبه وايجابه ، كما إذا
1 ـ تهذيب الأُصول : 1/263.

(561)
لم تكن هذه بمقدّمة ، أو كانت حاصلة من الأوّل قبل إيجابه ، مع أنّ الطلب لا يكاد يسقط إلاّ بالموافقة ، أو بالعصيان والمخالفة ، أو بارتفاع موضوع التكليف كما في سقوط الأمر بالكفن أو الدفن بسبب غرق الميت أحياناً أو حرقه ، ولا يكون الإتيان بها بالضرورة من هذه الأُمور غير الموافقة. (1)
    يلاحظ عليه : بأنّ الإشكال مبني على تفسير الموصلة بوجود ذي المقدّمة في جنب المقدّمة على نحو يكون الوجوب الغيري متعلّقاً بشيئين متغايرين :
    1. المقدّمة.
    2. ذو المقدّمة في جنبها.
    وعلى ذلك فما لم يأت المكلّف بالجزء الثاني لا يسقط الأمر المقدّمي.
    ولكنّك عرفت أنّ عنوان الإيصال ليس نفسَ الواجب النفسي ولا منتزعاً عنه ، بل هو عبارة عن كون المقدّمة في الواقع في طريق ذيها ومنتهية إليه.
    وعند ذلك يختلف الحكم ثبوتاً وإثباتاً.
    فلو كانت المقدّمة واجدة لهذا الوصف ( كونها في طريق ذيها ومنتهية إليه ) يسقط الأمر واقعاً لا ظاهراً ، لعدم علم المكلّف بالانتهاء.
    والحاصل : انّه لا مانع من أن يُحدّد الآمر موضوعَ حكمه بالمقدّمة التي تنتهي إلى ذيها وتقع في طريقها ولا يتعلّق حكم الآمر بما إذا لم يكن كذلك.

    3. ما هو مقدّمة ليست بموصلة
    إنّ الإتيان بذيها ليس أثر المقدّمة بما هي هي ، بل يعدّ من أثره إذا انضم
1 ـ كفاية الأُصول : 1/186.

(562)
إليه أمر آخر وهو إرادة المكلَّفِ امتثالَ الواجب النفسي ، فعندئذ يترتّب ذو المقدّمة على المقدّمة ، وعلى ضوء ذلك فما هو مقدّمة ليست بموصلة ، وما هو موصلة ـ أي المقدّمة مع قيد الإرادة ـ لا يتعلّق به التكليف ، لأنّ الإرادة أمر خارج عن الاختيار ولا يتعلّق بها التكليف ، وإلى ذلك أشار المحقّق الخراساني بقوله :
    وأمّا ترتّب الواجب فلا يعقل أن يكون الغرضَ الداعي إلى إيجابها والباعثَ على طلبها ، فانّه ليس بأثر تمام المقدّمات فضلاً عن إحداها في غالب الواجبات ، فانّ الواجب إلاّ ما قلّ في الشرعيات والعرفيات فعل اختياري يختار المكلّف تارة ، إتيانَه بعد وجود تمام مقدّماته ، وأُخرى عدمَ إتيانه ، ومن المعلوم أنّ مبادئ اختيار الفعل الاختياري لا يوصف بالوجوب لعدم كونها بالاختيار وإلاّ لتسلسل. (1)
    يلاحظ عليه :
    أوّلاً : بأنّ الإشكال نشأ من تفسير الموصلة بالعلّة التامة لتحقّق ذيها ، وعندئذ تُصوّر أنّ المقدّمات بلا ضم الإرادة ليست بعلّة تامة ، ومعها وإن كانت علّة تامة لكن لا يتعلّق بها الأمر ، غير انّك عرفت أنّ المراد من الموصلة عبارة عن كون المقدّمة في الواقع في طريق المقصود ومنتهية إليه ولو بواسطة الإرادة ، وإن كانت المقدّمة بعامّة أجزائها غير كافية في تحقّق الغاية بل محتاجة إلى توسيط الإرادة.
    وعلى ذلك فكلّ من الشرط والمعد والسبب لو كان في الواقع في طريق ذيها فالجميع موصلة بهذا المعنى وإن لم يترتّب المقصود عليها بالفعل غير أنّه سيترتّب
1 ـ كفاية الأُصول : 1/185 ، وقد خلط المحقّق الخراساني في المقام بين الإشكالين الثالث والسادس ولأجل ذلك أوجد تشويشاً في العبارة.

(563)
عليه بعد فترة من الزمن.
    وثانياً : نمنع عدم تعلّق الأمر بالإرادة ، كيف ! وقد ورد الأمر بالقصد والإرادة في مقامات مختلفة ، مثلاً :
    إذا نذر الإقامة في البلد يجب عليه قصدها ، ومقوّم الإقامة هو القصد والإرادة التي تعلّق بهما الأمر.
    ونظير ذلك لزوم قصد القربة في التعبّديات ، فقد ورد الأمر في الشرع بإرادة الإتيان بها للّه سبحانه.
    وأمّا ما هو ملاك الاختيار فقد أشبع شيخنا الأُستاذ ـ مدّ ظلّه ـ الكلام فيه في رسالة خاصّة له بالجبر والتفويض (1) فلاحظ.

    4. لزوم الدور
    وقد قرّر الدور بوجهين :
    الأوّل : انّ وجود ذي المقدّمة يتوقّف على وجود المقدّمة ، ولو قلنا بقيدية الإيصال لتوقّف وجود جزء المقدّمة على وجود ذيها.
    يلاحظ عليه : أنّ الموقوف مغاير للموقوف عليه ، لأنّ وجود ذيها متوقّف على وجود المقدّمة ، ووصف المقدّمة ـ أعني : الإيصال ـ موقوف على وجود ذيها وحينئذ فلا دور.
    الثاني : ما قرره المحقّق النائيني وهو أنّ قيد الإيصال يرجع إلى اعتبار كون الواجب النفسي قيداً للواجب الغيري ، فيلزم أن يكون الواجب النفسي مقدّمة
1 ـ رسالة الأمر بين الأمرين نُشرت مع رسالة « لبّ الأثر في الجبر والقدر » سنة 1418 هـ.

(564)
للمقدّمة وواجباً بوجوب ناش من وجوبها ، وهو يستلزم الدور ، فانّوجوب المقدّمة إنّما نشأ من وجوب ذي المقدّمة ، ولو ترشح وجوب من وجوبها على ذي المقدّمة للزم الدور. (1)
    يلاحظ عليه أوّلاً : بأنّ الإشكال ناشئ من تفسير خاطئ للموصلة ، وهو أخذ وجود الواجب النفسي قيداً في المقدّمة ، وتعلّق الأمر الغيري بالمركب منه ، وقد عرفت أنّ الإيصال ليس بمعنى ترتّب واجب نفسي عليها ولا أخذ الواجب النفسي جزءاً للمقدمة ، بل كون المقدّمة في طريق ذيها.
    وثانياً : لو سلّمنا التفسير المذكور لا يلزم منه إلاّ اجتماع المثلين لا الدور ، وذلك لأنّ الواجب النفسي بما هو واجب نفسي يتعلّق به الوجوب النفسي ، وبما أنّه جزء للمقدمة يتعلّق بها الوجوب الغيري المتعلّق بالجميع الذي من أجزائه الواجب النفسي ، وأين هذا من الدور.

    5. لزوم التسلسل
    لو كان الوضوء الموصل إلى الصلاة مقدّمة ، أو السير الموصل إلى الحج مقدّمة ، فذات الوضوء والسير يكون مقدّمة للوضوء الموصل ، والسير الموصل وإن اعتبر الإيصال فيه أيضاً يكون مركّباً من شيئين : الوضوء والإيصال ، فينتقل الكلام إلى الجزء الأوّل منه ، فبما انّه أيضاً مقدّمة يعتبر فيه الإيصال وهكذا يلزم التسلسل ، ولا محيص من أن ينتهي الأمر إلى ما يكون الذات مقدمة ، فإذا كان الأمر كذلك فلتكن الذات من أوّل الأمر مقدّمة لذيها من دون اعتبار قيد التوصّل. (2)
1 ـ أجود التقريرات : 1/208.
2 ـ فوائد الأُصول : 1/209.


(565)
    وقد أجاب عنه الإمام الخميني قدَّس سرَّه : بأنّ الواجب بالأمر الغيري هو قيد المقدّمة الموصلة إلى الواجب النفسي لا المقدّمة الموصلة إلى المقدّمة ، وعليه فالذات ( الوضوء ) لم تكن واجبة بقيد الإيصال إلى المقيّد ، بل واجبة بقيد الإيصال إلى ذيها ، وهو حاصل بلا قيد زائد ، بل لا يمكن تقييد الموصلة بالإيصال. (1)
    يلاحظ عليه : بأنّ ما ذكره أشبه بتخصيص القاعدة العقلية ، مع أنّ القاعدة العقلية لا تُخَصّص ، لوجود ملاكها في عامة الأفراد.
    مثلاً إذا كان دليل وجوب المقدّمة الموصلة ما ذكره صاحب الفصول « من أنّ الإنسان لا يطلب شيئاً لا يقع في طريق مقصوده » فهو يقتضي أن تكون المقدّمة مع أجزائها في طريق مقصوده ، لأنّ العلّة كما تقتضي أن يكون الكل في طريقه كذلك تقتضي أن يكون الجزء أيضاً كذلك ، فلا يقع مطلوباً إلاّ إذا كان بهذا الوصف ، وعندئذ يلزم التسلسل.
    والأولى أن يجاب بأنّ وصف الإيصال ليس جزءاً خارجياً للمقدّمة ، بحيث تكون مركبة في الخارج من شيئين أحدهما ذات المقدّمة والآخر عنوان الموصلية ، بل المقدّمة في الخارج شيء واحد ، وأمّا الإيصال فهو أمر انتزاعي يصنعه الذهن من وقوع المقدّمة في طريق المقصود وانتهائها إليه ، وعلى ضوء هذا فليس الوضوء مقدّمة للمقدّمة ( الوضوء الموصل ) حتّى يقال : يجب أن يكون هو أيضاً موصلاً. بل المقدّمة هي الوضوء ولكن يجب على المكلّف إيجاد وصف الإيصال.

    6. اختصاص الوجوب بالعلل التوليدية
    لو كان الملاك مطلق التوقّف فهو موجود في الموصلة وغيرها ، ولو كان
1 ـ تهذيب الأُصول : 1/262.

(566)
الملاك خصوص ما يستحيل انفكاكه عن الواجب في الخارج فيختص الوجوب بالعلل التوليدية كالإلقاء بالنسبة إلى الإحراق ، ولا يعمّ العلل الاعدادية كالشرط والمعد والسبب ، فانّ كلّ واحد منها مقدّمة ، ولكن لا يستحيل انفكاك كلّ واحد منها عن الواجب. (1)
    وإلى هذا الإشكال أشار المحقّق الخراساني بقوله :
    إنّ القول بالمقدّمة الموصلة يستلزم إنكار وجوب المقدّمة في غالب الواجبات ، والقول بوجوب خصوص العلّة التامّة في خصوص الواجبات التوليدية. (2)
    يلاحظ عليه : بأنّ الملاك ليس التوقّف بما هو هو ولا خصوص ما يستحيل انفكاكه عن الواجب في الخارج ، بل الملاك ما يقع في طريق المطلوب بالذات ، وهذا لا يوجب اختصاص الوجوب بالعلّة التامّة بل كلّ من الشرط والمعد على قسمين موصل أي واقع في طريق المقصود ، وغير موصل أي ليس كذلك.
    بقيت هناك إشكالات أُخرى تعرّض لبعضها المحقّق العراقي فلاحظها. (3)
1 ـ أجود التقريرات : 1/239.
2 ـ كفاية الأُصول : 1/185.
3 ـ بدائع الأفكار : 1/388.


(567)
    المقام الثالث
ثمرات القول بوجوب المقدّمة الموصلة
    وقد فرغنا ـ بحمد اللّه ـ عن بيان الأدلّة لوجوب المقدّمة الموصلة والشبهات المتوجّهة إليها ، بقي الكلام في ثمرات هذا القول ، فنقول : يترتّب على هذا القول ثمرتان :

    الثمرة الأُولى : بقاء الحرمة في غير الموصلة
    لو انحصرت المقدّمة في المحرّم منها ، كما إذا توقّف إنقاذ الغريق على سلوك أرض مغصوبة ، فعلى القول بوجوب مطلق المقدّمة ، تزول عنها الحرمة ويتّصف السلوك بالوجوب ، سواء أكان موصلاً أم لم يكن كما لو كان سلوكها لأجل التنزّه.
    وعلى القول بوجوب خصوص المقدّمة الموصلة ، لا تزول الحرمة إلاّ إذا توصّل بسلوكها إلى إنقاذ الغريق ، فلو لم يتمكّن في النهاية من الإنقاذ كانت باقية على حرمتها واقعاً ، جائزة له ظاهراً.
    وعلى القول بوجوب قصد التوصّل لا تزول الحرمة إلاّ بقصد الإنقاذ.
    وعلى القول بعدم وجوب المقدّمة من رأس ، يبقى السلوك على حرمته ، ولا ترتفع الحرمة إلاّ بمقدار الضرورة ، وهو ما يتمكّن به من الإتيان بالواجب.


(568)
    الثمرة الثانية : صحّة الصلاة على القول بالموصلة
    هذه هي الثمرة الثانية وهي انّه إذا كانت العبادة مزاحمة لواجب أهم كالصلاة عند الابتلاء بأمر أهم منها كإزالة النجاسة عن المسجد ، فعلى القول بوجوب مطلق المقدّمة تبطل الصلاة ولا تبطل على القول بوجوب المقدمة الموصلة.
    وهذه الثمرة تبتني على أُمور أربعة :
    1. ترك الضد مقدّمة لفعل الضد الآخر.
    2. مقدّمة الواجب واجبة.
    3. انّ الأمر بالشيء يقتضي النهي عن ضده العام ، وهو النقيض.
    4. انّ هذا النهي موجب لفساد العبادة.
    وعندئذ يقال :
    1. ترك الصلاة مقدّمة للإزالة بحكم الأمر الأوّل.
    2. وترك الصلاة واجب بحكم الأمر الثاني ، أي الملازمة بين وجوب المقدّمة وذيها.
    3. وإذا كان ترك الصلاة واجباً ففعلها حرام بحكم الأمر الثالث.
    4. والنهي المتعلّق بالصلاة موجب للفساد بحكم الأمر الرابع.
    فإذا قلنا بوجوب مطلق المقدّمة تكون النتيجة بطلان الصلاة ، حيث إنّ مقدّمية ترك الصلاة توجب وجوبها ، ووجوب الترك يوجب حرمة الصلاة التي هي ضد الواجب ( ترك الصلاة ) وهي تستلزم بطلانها.
    وأمّا إذا قلنا بوجوب المقدّمة الموصلة فلا يكون ترك الصلاة واجباً ، بل


(569)
الواجب هو ترك الصلاة الموصل للإزالة ، وبما أنّ المكلّف غير راغب للإزالة فلا يكون ترك الصلاة في هذا الظرف واجباً حتّى يكون نقيضه حراماً ، ومعه لا يكون فاسداً.
    ولكن هذه الثمرة باطلة من أساسها لابتنائها على المقدّمات الأربع التي لم تُسلَّم واحدة منها كما ستظهر لك في مبحث الضد ، ومع ذلك فقد اعترض الشيخ الأنصاري على الثمرة الثانية.

    نظرية الشيخ في الثمرة
    ذهب الشيخ الأنصاري إلى بطلان الثمرة الثانية على القول بالموصلة ، وانّ الصلاة إمّا صحيحة على كلا القولين أو باطلة كذلك ، وذلك بتقديم مقدّمة.

    حدّ النقيض
    اختلفت كلمة المنطقيّين في تعريف النقيض ، فقال بعضهم :
    1. نقيض كلّ شيء رفعه ، فنقيض الإنسان ، هو اللاإنسان ، ونقيض الثاني هو رفع اللا إنسان ، وعلى هذا يختصّ النقيض بالأمر السلبي.
    2. نقيض كلّ شيء رفع أو مرفوع ، فنقيض الإنسان هو اللاإنسان ، ونقيض الثاني هو الإنسان الذي هو المرفوع.
    وربّما يقال أنّ من عرّف النقيض بالرفع أراد منه الأعم من الرفع والمرفوع ، يقول الحكيم السبزواري :
نقيض كلّ رفع أو مرفوع تعميم رفع لهما مرجـوع (1)

1 ـ شرح المنظومة ، قسم المنطق : 59.

(570)
    وعلى هذا فالمقدّمة للإزالة في المقام هو « ترك الصلاة » ونقيضه الذي يطلق عليه الضد العام على التعريف الأوّل هو رفع ترك الصلاة ، وعلى التعريف الثاني هو نفس الصلاة.
    إذا عرفت هذا فإليك بيان الشيخ في بطلان الثمرة بما هذا توضيحه :
    لو قلنا بأنّ نقيض كلّ شيء وضدّه العام عبارة عن الرفع. فنقيض « ترك الصلاة » أو « ترك الصلاة الموصل » عبارة عن رفعهما لا نفس الصلاة ، وتتعلّق الحرمة برفع ترك الصلاة المطلق أو المقيّد بالموصل ، لا بالصلاة التي هي تقارن النقيض ، غاية الأمر انّ لنقيض « الترك المطلق » ـ أعني : رفع الترك المطلق ـ مقارناً واحداً وهو الصلاة ، ولنقيض « الترك الموصل » ـ أعني : رفع ذلك الترك الموصل ـ مقارنان : أوّلهما الترك المجرّد بأن لا يصلّـي ولا يزيل النجاسة ، وثانيهما إقامة الصلاة ، فلا يصحّ الحكم بالبطلان على الأوّل ، والصحّة على الثاني ، بل يجب أن يحكم بالصحّة على كلا القولين.
    ولو قلنا بالشق الثاني وانّ النقيض أعمّ من الرفع والمرفوع فنقيض ترك الصلاة المطلق ، أو الترك الموصل ، هو نفس الصلاة فتكون باطلة على كلا القولين لتعلّق النهي به بعنوان النقيض والضد العام.
    هذا توضيح لمقالة الشيخ.

    كلام المحقّق الخراساني في ردّ الثمرة
    ذهب المحقّق الخراساني إلى ترتّب الثمرة على القول بالموصلة وعدمه ـ في صورة واحدة وهو أن يكون نقيض كلّ شيء هو رفعه ـ فنقيض الترك المطلق أو الترك الموصل هو رفعهما لا الصلاة ، وانّ الصلاة من مقارنات النقيض على كلا
إرشاد العقول إلى مباحث الأصول المجلد الأوّل ::: فهرس