إرشاد العقول إلى مباحث الأصول المجلد الأوّل ::: 571 ـ 585
(571)
القولين ، ومع ذلك ، فرق عرفاً بين مقارن ومقارن.
    وذلك لأنّ نسبة الصلاة إلى الترك المطلق ، كنسبة النقيض إلى العين ، لما عرفت من أنّه ليس للنقيض الواقعي ـ رفع الترك المطلق ـ إلاّ مقارن واحد ، ولذلك يعدّ ذلك المقارن للنقيض الواقعي ، نقيضاً للعين ـ ترك الصلاة ـ عرفاً فتكون محرّمة أخذاً بالقاعدة : إذا كان الشيء واجباً ـ ترك الصلاة المطلق ـ يكون ضدّه العام أو نقيضه محرّماً ، فتكون الصلاة باطلة لأجل حرمتها.
    وهذا بخلاف نسبة الصلاة إلى الترك الموصل ، فليس كلّ من الفعل والترك المجرّد نقيضاً له عرفاً ، لامتناع تعدّد النقيض ، ولا الجامع بينهما نقيضاً لامتناع الجامع بين الوجود والعدم ، فينحصر نقيضه برفع الترك الموصل ، ويكون كلّ من الفعل والترك المجرّد ، من مقارناته ، حيث إنّ رفع الترك المطلق ، تارة ينطبق على الفعل ، وأُخرى على الترك المجرّد ، والحرمة لا تسري من الشيء ( رفع الترك الموصل ) إلى مقارناته.
    والأولى ردّ الثمرة بردّ عامّة مقدّماته أو أكثرها ، ولا أقلّ من إبطال أنّ وجوب شيء مقتضي لحرمة ضده العام ونقيضه ، لما سيوافيك أنّ هذا النوع من النهي أمر لغو لا يصدر من الفاعل الحكيم.

    القول السادس : وجوب المقدّمة حال الإيصال
    الفرق بين هذا القول وخامس الأقوال ، أنّ الإيصال في السابق قيد للواجب ، والموصل وصف له ، بخلاف هذا القول فليس الإيصال قيداً ، ومع هذا لا ينطبق إلاّ على المقيّد ، شأن الفرق بين المشروطة والحينية.


(572)
    وإنّما لجأ القائل إلى هذا القول ، لأجل الفرار عن الإشكالات الستة المتوجّهة إلى القول الخامس ، وقد قرّر بوجوه :
    الأوّل : ما قرره سيّد مشايخنا المحقّق البروجردي ، وحاصل ما أفاده :
    إنّ متعلّق الوجوب ذاتُ ما يوجد من المقدّمات مصداقاً للموصل ، لا بوصف الموصلية. بمعنى أنّ الشارع رأى أنّ المقدّمات في الخارج على قسمين. قسم منها يوصل إلى ذيها و يترتّب هو عليها واقعاً ، وقسم منها لا يوصل ، فخصّ الوجوب بالقسم الأوّل ـ أعني : ما يكون بالحمل الشائع مصداقاً للموصلـ و ليست الموصلية قيداً مأخوذاً في الواجب بنحو يجب تحصيله ، بل هي عنوان مشير إلى ما هو واجب في الواقع ، و إنّما خصّ الوجوب به لأنّ المقدّمة ليست مطلوبة في حدّ الذات ، بل مطلوبيّتها لأجل ذيها ، فيختصّ طلبُها بما هو ملازم للمطلوب بالذات.
    ثمّ ردّه المحقّق البروجردي بأنّ ما ذكرمن المقدّمة الموصلة ليس أمراً جديداً ، بل هو نفس ما ذكره بعض القدماء من اختصاص الوجوب بالمقدّمة السببيّة ، فانّ المقدّمة التي تكون موصلة في متن الواقع و يترتّب عليها ذو المقدّمة لا تنطبق إلاّ على المقدّمة السببيّة. (1)
    ومع ذلك فالبيان المذكور ليس وافياً للمقصود ، إذ فيه :
    أوّلاً : أنّ تصوير القضية الحقيقية ـ المتوسطة بين المشروطة والمطلقة ـ أمر غير تام. لأنّ قوله : « حين هو كاتب » إمّا ملحوظ في ثبوت الحكم ، فيكون قيداً ، فترجع القضية الحينية إلى المشروطة ، أو غير ملحوظ فيه ، فترجع إلى المطلقة ، ولا
1 ـ نهاية الأُصول : 179 ـ 180.

(573)
يعقل أن لا يكون للشيء مدخلية في الحكم ، ومع ذلك ، لا ينطبق الحكم إلاّ على المقيّد.
    فإن قلت : إذا قلت رأيت زيداً قائماً ، فقد رأيته في تلك الحالة لا في غيرها ، ومع ذلك ليست الحالة قيداً للرؤية ولا للمرئي ، ومع ذلك أوجد ضيقاً في الرؤية حيث إنّك ما رأيته إلاّ في تلك الحالة.
    قلت : إنّ الحالة ، تعد من قيود ذيها فتكون جزء الموضوع ، فإذا قلت : رأيت زيداً قائماً ، فكأنّك قلت : رأيت زيد القائم ، ومن المعلوم أنّ الحكم لا يتجاوز عن موضوعه ، فعدم شمول الحكم لأوسع من حدّ الحال ، لأجل كونه من قيود الموضوع لبّاً ، والحكم يتضيّق حسب ضيق الموضوع.
    وعلى ضوء ذلك فانّ تخصيص الإيجاب بالمقدّمة التي تكون بالحمل الشائع مصداقاً للموصل لا يخلو إمّا أن يأخذ الموصل قيداً للواجب أو لا. فعلى الأوّل يرجع إلى القول الخامس ، وعلى الثاني يعمّ ما هو مصداق له بالحمل الشائع وما ليس كذلك.
    وثانياً : انّ المراد من الإيصال كونه واقعاً في طريق المقصود لا الموصلة بالفعل فيعمّ الشرط والمعدّ والسبب بمعنى المقتضي وارتفاع المانع ، إذ كلّ واحد منهما على قسمين تارة في طريق المقصود ، وأُخرى خارجه ، حتّى أنّ الخطوة الأُولى للسير إلى الحج توصف بالموصلة وغيرها.
    الثاني : ما أفاده المحقّق العراقي على ما في تقريراته (1) ، وهو أنّ الواجب ليس مطلقَ المقدّمة ولا خصوصَ المقدّمة المتقيّدة بالإيصال ، بل الواجب هو الحصّة التوأمة مع وجود سائر المقدّمات ، الملازمة (2) لوجود ذي المقدّمة.
1 ـ بدائع الأفكار : 1/389.
2 ـ صفة الحصة.


(574)
    وعلى هذا جرى المحقّق الخوئي في تعاليقه على أجوده ، حيث قال : إنّ ملاك الوجوب الغيري هو خصوصُ التوقّف على ما يكون توأماً لوجود ذي المقدّمة في الخارج من جهة وقوعه في سلسلة مبادئ وجوده بالفعل ، فيختصّ الوجوب الغيري حينئذ بالموصلة ، ولا يعم غيرها. (1)
    يلاحظ عليه : أنّ التوأمية إمّا قيد ، أو لا ، فعلى الأوّل ، تنطبق على مذاقِ صاحب الفصول ؛ وعلى الثاني ، لا يختصّ الحكم بالموصلة ، بل يعمّ غيرها.
    وبعبارة أُخرى : انّ كلاً من المقدّمة التوأمة والمقدّمة غير التوأمة وإن كان متميزاً في نفس الأمر ، حيث إنّ نصب السلّم في الخارج على قسمين :
    1. قسم ينتهي إلى ذي المقدّمة ، وهو المسمّى بالمقدّمة التوأمة.
    2. قسم لاينتهي بل تنفك المقدّمة عن ذيها ، وهو المسمّى بغير التوأمة.
    إلاّ انّ الكلام في مقام تعلّق الإرادة بأحد القسمين دون الآخر ، كتعلّق الوجوب كذلك ، فالتعلّق بقسم دون قسم يحتاج إلى عنوان يميّز أحد القسمين عن الآخر حتّى يكون القسم الموصل متعلّقاً للإرادة والإيجاب ، وليس هو إلاّ عنوان التوأمة أو الإيصال وهو نفس القول بالمقدّمة الموصلة.
    الثالث : ما نقله شيخنا الأُستاذ ( مد ظله ) عن أُستاذه السيد الإمام الخميني عن شيخه العلاّمة الحائري ونذكر المنقول في مقطعين :
    1. انّ للمعاليل الخارجية ضيقاً ذاتياً من جانب علّتها ، فالحرارة الصادرة عن النار الخارجية وإن كانت غير مقيّدة بعلّتها ـ لامتناع تقييد المتأخّر بالأمر المتقدّم ـ إلاّ أنّها ليست أيضاً مطلقة بالنسبة إليها وإلى غيرها ، وإلاّ يلزم أن تكون
1 ـ أجود التقريرات ، قسم الهامش ، ص 239.

(575)
أوسع من علّتها ، بل هي ـ على وجه ـ لا تنطبق إلاّ على المقيّد أي الحرارة المفاضة من جانب الصلة لا الأعم منها ومن غيرها.
    2. العلة الغائية بما انّها متقدّمة تصوّراً ، متأخرة وجوداً ، فالمعلول ليس مقيّداً بوجود العلّة الغائية لتقدّم المعلول وجوداً على العلّة الغائية في الخارج لكنّه ليس أوسع من الغاية التي هي علّة لفاعلية الفاعل وسبب لبروز الإرادة في لوح النفس ، وإلاّ يلزم أن تكون الإرادة بلا غاية.
    وعلى هذا تكون الإرادة غير مقيّدة بالغاية ، ولكنّها ليست بأوسع منها ، وعليه فالواجب ليس مطلق المقدّمة لما عرفت من أنّ الإرادة والوجوب يتضيق ضيقاً ذاتياً بالنسبة إلى غايتها ، ولا المقيّدة بالإيصال ، لما عرفت من أنّ الإرادة المتقدّمة لا يمكن أن تكون مقيّدة بغايتها المتأخّرة عنها ، ومع ذلك فالإرادة لا تنطبق إلاّ على المقيد. (1)
    يلاحظ على المقطع الأوّل : بأنّ ما ذكره من أنّ وجود المعلول لا يقيّد بوجود العلّة وإن كان صحيحاً ، لكن عدم التقييد ليس لأجل تقدّم العلة وتأخّر المعلول ، فانّ التقدّم والتأخّر فيهما ليس تقدّماً زمانياً بل رتبياً ، ومثل هذا لا يضر بالتقييد ، بل وجهه أنّ مصبّ الإطلاق والتقييد إنّما هو المفاهيم التي يمكن تقييد المفهوم الموسّع بقيد ، وأمّا التكوين فهو غير قابل لتقييد المطلق ، فانّ الشيء يتكوّن في بدو الأمر إمّا مطلقاً إلى الأبد وإمّا مقيّداً كذلك ، ولا يتصوّر فيه الوجود المقيّد بعد تكونه موسعاً.
    وأمّا المقطع الثاني الذي هو بيت القصيد في المقام ، فما ذكره من أنّ الإرادة
1 ـ فوائد ، السيد الإمام الخميني ، المخطوط. وقد حكى شيخنا الأُستاذ ـ مدّ ظله ـ انّه رأى الكتاب بخط الإمام و نقل النصّ عن خطّه قدَّس سرَّه.

(576)
والوجوب الإنشائي يتضيّق تبعاً للعلّة الغائية دون أن تتقيّد بها وإن كان صحيحاً ، والكلام في مورد آخر ، وهو انّ الفاعل إذا حاول أن يظهر إرادته المضيّقة ويضفي الإيجاب على المقدّمة المضيّقة بالذات ، لا محيص له إلاّ بتعليق الوجوب على المقدّمة التي توصل إلى الغاية ، وعندئذ يرجع القول السادس إلى القول الخامس.


(577)
    الأمر السابع
في ثمرات القول بوجوب المقدّمة
    قد عرفت ثمرات القول بوجوب المقدّمة الموصلة ، وحان الكلام عن ثمرات القول بوجوب المقدّمة على الآراء الستة ، وإليك هذه الثمرات :

    الثمرة الأُولى : اتّصاف المقدّمات بالوجوب الغيري
    هذه الثمرة هي التي ذكرها المحقّق الخراساني وجعلها ثمرة للمسألة الأُصولية وقال : إنّه على القول بالملازمة بين الوجوبين يستنتج وجوب المقدّمات في الواجبات وحرمتها في المحرّمات ، وعلى هذا تكون المسألة ( وجوب المقدّمة ) مسألة أُصولية لوقوعها في استنباط الحكم الشرعي الكلّـي.
    وهذه الثمرة لا بأس بها لو قلنا بوجوب المقدمة.

    الثمرة الثانية : تحقّق الوفاء بالنذر
    إذا تعلّق النذر بالإتيان بالواجب ، فلو قلنا بوجوب المقدّمة يكفي الإتيان بها ، وإلاّ فلابدّ من الإتيان بواجب نفسي.
    يلاحظ عليه : أوّلاً : أنّ عد مثل هذا ثمرة لمسألة أُصولية غير خال عن الإشكال ، وقد مرّ نظيره في مبحث الصحيح والأعم.


(578)
    وثانياً : أنّ النتيجة ليست كلّية ، لأنّ الوفاء بالنذر تابع لكيفية النذر ، فإن كان متعلّقه هو الواجب النفسي فلا يتحقّق الوفاء بالنذر وإن قلنا بوجوب المقدمة.
    وإن كان متعلّقه هو الواجب الأعم من الشرعي والعقلي ، يصدق الوفاء بالنذر ، وإن لم نقل بوجوب المقدّمة شرعاً ، وذلك لأنّ الوجوب العقلي للمقدّمة أمر غير منكر ، والمفروض أنّ متعلق النذر أوسع.
    نعم لو كان متعلّق النذر الأعم من الواجب الشرعي والعقلي ومن الشرعي الأعم من النفسي والغيري ، فلو أتى بالمقدّمة فقد وفى بنذره.
    على أنّ تلك الثمرة تترتّب على القول بوجوب مطلق المقدّمة ، وأمّا على القول بوجوب المقدّمة الموصلة فحيث إنّ وصف الإيصال لا ينفك عن الإتيان بالواجب النفسي ، فيصدق الوفاء سواء أقلنا بوجوب المقدّمة أم لا ، لأنّ المفروض انّ الإتيان بالمقدّمة لا ينفك عن الإتيان بذيها.

    الثمرة الثالثة : استحقاق الأجر
    إذا أمر شخص ببناء بيت ، فأتى المأمور بالمقدّمات ثمّ انصرف الآمر ، فعلى القول بأنّ الأمر بالشيء أمر بمقدّمته ، يصير ضامناً لها ، فيجب على الآمر دفع أُجرة المقدّمات و إن انقطع العمل بعدها.
    يلاحظ عليه : ـ مع ما في عدّ هذه ثمرة لمسألة أُصولية نوع من التعسّف ـ أوّلاً : أنّ الآمر ضامن ، وإن لم يكن الأمر بالشيء أمراً بالمقدّمة ، لأنّه لمّا أمر بذيها وصار ذلك الأمر مبدأ لاشتغال العامل بالمقدّمات صار ضامناً ، ويكفي في الضمان كون الأمر بذيها سبباً للاشتغال بالمقدّمة وإن كان الأمر به فاقداً للدلالة على الإتيان


(579)
بمقدّمته.
    وثانياً : انّه لا يتم على القول بوجوب المقدّمة الموصلة ، لعدم الإتيان بالواجب ، فلا يكون القول بوجوبها ملازماً للضمان.
    وثالثاً : ما عرفت من أنّ الاشتغال بما يسمّى بالمقدّمات ، اشتغال بنفس الواجب النفسي فيما إذا كانت المقدّمات داخلية ، كالمثال ، إذ ليس لبناء البيت معنى سوى القيام به على نحو التدريج وإن لم يكن الحال في المقدّمات الخارجية كذلك.

    الثمرة الرابعة : حرمة أخذ الأُجرة على المقدّمة
    ومن الثمرات المترتّبة على وجوب المقدّمة ، حرمة أخذ الأُجرة على إنجازها ، والثمرة مستنبطة من صغرى وكبرى.
    أمّا الأُولى : فهي عبارة عن وجوب المقدّمة وجوباً شرعيّاً.
    وأمّا الثانية : فقد تقرّر في محلّه التنافي بين الوجوب والاستئجار ، أي حرمة أخذ الأُجرة على إنجاز الواجب.
    فيستنتج حرمةُ أخذ الأُجرة على إنجاز مقدّمة الواجب.
    يلاحظ عليه : بأنّه لا ملازمة بين وجوب الشيء وحرمة أخذ الأُجرة ، ولعلّ النسبة بينهما عموم وخصوص من وجه.
    توضيح ذلك : انّ الواجب إمّا توصلي لا يتوقف سقوط أمره على الإتيان به لأمره سبحانه ، وأُخرى تعبّدي لا يسقط إلاّ بالإتيان به لأمره ، أو للّه سبحانه.
    أمّا الأُولى فتارة يكون المطلوب للمولى تحقّقه في الخارج بالمجّان بحيث تكون المصلحة قائمة به ، وهذا كتجهيز الميت من تغسيله تكفينه وتدفينه ، وأُخرى


(580)
يكون المطلوب وجوده فقط ، نظير الواجبات الاجتماعية التي لولاها لاختلّ النظام ، سواء أتى بها بالمجّان أو في مقابل الأُجرة.
    وعلى ضوء ذلك فالوجوب التوصّلي بالمعنى الأوّل ينافي أخذ الأُجرة لا الثاني ، فلو كانت المقدّمة من قبيل القسم الأوّل يحرم أخذ الأُجرة عليه دون الثاني.
    وأمّا الواجبات التعبّدية فهي أيضاً على قسمين : تارة يكون واجباً على الأجير ، وأُخرى يكون واجباً على الغير ، وإنّما يريد الإنسان إتيانه نيابة عنه.
    أمّا الأوّل : فالظاهر بطلان عقد الإجارة بأن يوجر نفسه من الغير ليصلّـي أو يصوم شهر رمضان عن نفسه ، وذلك لأمرين :
    1. عدم تمشّـي قصد القربة ، فلا يتمكّن من إيجاد ما استؤجر له على الوجه الصحيح.
    2. عدم انتفاع الموجر من عمله ، مع أنّه يشترط في صحّة الإجارة انتفاع الموجر من عمل الأجير ، وإلا تكون الإجارة سفهية ، ولذلك قالوا ببطلان ما لو أجّر بلا أُجرة ، أو باع بلا ثمن ، وانتفاعه بعمله عند اللّه ، وإن كان صحيحاً لكنّه لا يصحح العقد ، فمن يريده فليدفع إليه هبة وإحساناً ، لا أُجرة.
    وأمّا الثاني ـ أعني : الاستئجار لإنجاز ما وجب على غيره وفات منه لعجزه أو موته ـ فهو صحيح في مثل الحج ، لأنّه عمل عبادي ماليّ ، وقد تضافرت الروايات عن النبي والأئمّة ( عليهم السَّلام ) على صحة النيابة فيه ، وصحّ عن الصادق ( عليه السَّلام ) أنّه أعطى ثلاثين ديناراً يُحج بها عن إسماعيل ولم يترك من العمرة إلى الحج شيئاً إلاّ اشترط عليه ، ثمّ قال : « يا هذا !! إذا أتيت هذا كان لإسماعيل حجّة بما أنفق من ماله ، وكان لك تسع حجج بما أتعبت من بدنك ». (1)
1 ـ الوسائل : 8 ، الباب 1 من أبواب النيابة في الحج ص 115 ، الحديث 1.

(581)
    وأمّا الاستئجار في غير الحج الذي يعدّ عبادياً محضاً ، كالصلاة والصوم فعقد الإجارة لإتيان ما وجب على الغير من العبادة في مقابل الأُجرة أمر مشكل ، وليس في الأخبار والروايات أثر منه ، وإنّما جرت السيرة على ذلك بين المتأخّرين فانّ قصد القربة مع أخذ الأُجرة متنافيان وإن أصرّ المتأخّرون على صحّتها ، وقد نقل شيخنا الأُستاذ ـ مدّ ظله ـ الوجوه التي ذكرها المشايخ لتصحيح الإجارة التي أهمها ما أشار إليه المحقّق الخراساني من أنّه من قبيل الداعي إلى الداعي ، وانّه يأخذ الأُجرة لأن يصلي للّه سبحانه عن جانب الغير.
    وقد نقد شيخنا الأُستاذ ـ مد ظله ـ هذه الوجوه في بحوثه الفقهية (1) ولكنّه سلك مسلكاً آخر في تصحيح هذا النوع من النيابة ، وهو نفس ما سلكه المشهور في مورد القاضي والمفتي ومعلّم الأحكام الشرعية والمؤذن مما علم من الشرع حرمة أخذ الأُجرة في مقابلها ، فانّ المسلك الحق فيه هو قيام الحاكم بقضاء حوائج هؤلاء بأن يموّلهم حتى يتسنّى لهم القيام بوظائفهم الشرعية من دون شائبة مادية ، وقد كتب الإمام ( عليه السَّلام ) إلى عامله في مصر في حقّ القاضي وقال :
    « وأفْسِحْ له في البذلِ ما يُزيلُ علَّته ، وتَقلُّ معه حاجتُه إلى الناس ». (2)
    وعلى ضوء هذا فمن يريد القيام بفرائض الغير ، فعلى الوليّ أن يسدّ حاجات النائب مدة سنة أو أقل ، حتّى يقوم بفرائض والده ـ مثلاً ـ المتوفّـى ، فيكون العطاء من جانب والعمل من جانب آخر من دون معاوضة ، بل من باب « جزاء الإحسان بالإحسان ».
1 ـ لاحظ المواهب في تحرير أحكام المكاسب ، المطبوع. لاحظ ص 725 ـ 730.
2 ـ نهج البلاغة ، قسم الرسائل ، رقم53.


(582)
    الثمرة الخامسة : حصول الفسق بترك مقدّمة
    لو قلنا بوجوب المقدّمة وكان للواجب مقدمات كثيرة يحصل الفسق بترك مقدّمتين ، لحصول الإصرار بتركهما.
    وأورد عليه المحقّق الخراساني : انّه بترك المقدّمة الأُولى يسقط وجوب ذيها بالعصيان ، ومع سقوطه لا تكون الثانية أو الثالثة من المقدّمات واجبة حتّى يصدق العصيان بتركهما.
    وأورد ـ على تلك الثمرة ـ شيخنا الأُستاذ ـ مدّ ظلّه ـ في الدورة السابقة اشكالاً آخر ، و حاصله : انّه لا ملازمة بين ترك مطلق الواجب الأعم من الغيري والنفسي ، وبين المعصية ، إنّما الملازمة بين ترك الواجب النفسي والمعصية ، لا الغيري كما في المقام ، إذ ليس فعله محبوباً ولا تركه مبغوضاً ، والأمر به من باب اللابدية ومخالفة مثل هذا الأمر لا يوجب المعصية.
    وقد عدل عنه ـ مدّظلّه ـ في هذه الدورة ، وقال : بأنّ ملاك العصيان ، مخالفة الأمر المولوي سواء أكان المأمور به محبوباً أم لا ، فإذا صدر الأمر عن مقام المولوية فعلى العبد الإتيان به ، ولو خالف عدّ عاصياً ، ومبغوضاً عند المولى ، سواء أكان الفعل محبوباً بالذات أم لا ، وهذا يكفي في صدق العصيان.
    وقد مرّ في تصحيح العبادات الثلاث بالأمر الغيري ، ما يفيدك في المقام.

    الثمرة السادسة : جعل المصداق لمسألة الاجتماع
    لو قلنا بوجوب المقدّمة مطلقاً ، يلزم فيما إذا كانت محرّمة اجتماع الأمر النهي ، بخلاف ما لو لم نقل بالوجوب ، فلا يكون في المورد إلاّ النهي.
    وأورد عليه المحقّق الخراساني بوجوه ثلاثة :


(583)
    الف : عنوان المقدّمة تعليلي
    إنّواقع اجتماع الأمر والنهي عبارة عمّا إذا تعلّق كلّ من الأمر والنهي بعنوانين تقييديين على نحو يستقر كلّ من الأمر والنهي على العنوان ، من دون أن يسري الحكم في مقام التشريع إلى موضوع آخر ، وهذا كالصلاة والغصب ، فإذا تطابقا على مورد ، يقع البحث في لزوم تقييد إطلاق أحد الدليلين بالآخر وبالتالي إخراج المورد عن تحت أحدهما أو لا ، فالامتناعي على الأوّل ، والاجتماعي على الثاني.
    وأمّا إذا كان أحد العنوانين تقييدياً ـ كالغصب ـ والآخر تعليلياً ، كعنوان المقدّمة ، فتصادقا في الوضوء بالمغصوب ، فعندئذ لا يستقرّ الوجوب على عنوان المقدّمة لكونه علّة للحكم لا موضوعاً له ، فيسري الحكم من العلّة إلى الموضوع أي الوضوء ، فيكون واقع المسألة هكذا : لا تغصب ، وتوضّأ بالماء المغصوب ، فتكون النسبة بين متعلّق الأمر والنهي ، عموماً وخصوصاً مطلقاً ، ويعدّ من باب النهي في العبادات نظير قولك : صلّولا تصلّ في الحمام. بخلاف باب « الاجتماع » فانّ النسبة بين المتعلّقين هو العموم والخصوص من وجه نظير قولك : صلّ ولا تغصب.
    يلاحظ عليه : بأنّ ما ذكره من أنّ عنوان المقدّمة عنوان تعليلي ، لا يستقر الحكم عليه بل يسري إلى الموضوع ، وإن كان صحيحاً لكن المورد ـ مع ذلك ـ لا يكون من قبيل النهي في العبادات ، وذلك لأنّ النهي تعلّق بالغصب والأمر في الظاهر بالعنوان أي المقدّمة ، ثمّ يسري الحكم منه إلى الموضوع وهو نفس الوضوء ، أو نفس السير أو نفس الركوب ، لا قسم المغصوب منها ، والنسبة بين العنوانين عموم وخصوص من وجه ، ولا يسري الحكم من العنوان إلى الوضوء ، بالماء


(584)
المغصوب ، أو السير بالمركب المغصوب ، وإلاّ لجاز ارتكاب مثل ذلك في قوله : « لا تغصب ، وصلّ ». ويقال أيّ صلّ في المغصوب. وبالجملة ، خصوصية المورد لا يؤخذ في لسان الدليل ، وعلى ذلك فالثمرة صحيحة.

    ب : الوجوب مختص بغير الحرام في صورة عدم الانحصار
    إذا كانت المقدّمة محرّمة ، فإمّا ينحصر التوصّل إلى الواجب بالمقدّمة المحرمة أو لا ، وعلى الصورة الأولى أي انحصار المقدّمة ، فالدور إمّا للحرمة ، إذا قدّمنا النهي ، أو للوجوب إذا قدّمنا الأمر ، فلا يكون هناك اجتماع.
    وعلى الصورة الثانية يكون الواجب هو غير المقدّمة المحرّمة ، كالماء المباح ، والمركب غير المغصوب فلا يكون هنا إلاّ الأمر.
    يلاحظ عليه : أنّ ما ذكره صحيح في الصورة الأُولى إذ على الانحصار يكون الدور لأحد الأمرين ، لئلا يلزم التكليف بالمحال دون الثانية فانّ القائل بالاجتماع لا يقول باختصاص الوجوب بغير المحرم ، بل يقول إنّ كلاً من الإطلاقين محفوظ ومصون من التقييد ، فالأمر بالتوضّؤ مطلق يعم التوضّؤ بالماء المغصوب وغيره ، كما أنّ النهي عن الغصب يعمّ الغصب المقدّمي وغيره.
    وما ذكره المحقّق كأنّه أشبه بفرض مذهبه في مسألة اجتماع الأمر و النهي ، على المقام وعلى كلّ تقدير فالثمرة صحيحة.

    ج : وجوب المقدّمة لا مدخلية له فيما هو المهم في باب المقدّمة
    وحاصله : انّ وجوب المقدّمة وعدمه لا تأثير لهما في الامتثال بالمقدّمة إذا كانت توصّلية ، لأنّ الغاية هو التوصّل بذيها ، ويمكن التوصّل بها إلى ذيها ، على القولين قيل بوجوب المقدّمة أو لا.


(585)
    وأمّا إذا كانت تعبّدية ـ كالوضوء ـ فإن قلنا بالامتناع وتقديم النهي على الأمر ، فلا يمكن التوصّل بها ، قلنا بوجوب المقدّمة أو لا.
    ولو قلنا بالاجتماع ، جاز التوصّل بها ، لأنّ تصحيح العبادة لا يتوقّف على وجوبها حتّى يقال انّ قصد القربة لا يتمشّـى مع كون ما يتقرّب به حراماً ، بل يكفي وجود الملاك والحسن الذاتي ، كانت المقدّمة واجبة أو لا.
    فتلخص أنّ القول بوجوب المقدّمة وعدمه لا دور له في المقام.
    وممّا ذكرنا يظهر الخلل في عبارة الكفاية في بيان الإشكال الثالث حيث قال : « إنّ الاجتماع وعدمه لا دخل له في التوصّل بالمقدّمة المحرّمة » ، والصحيح أن يقال : الوجوب وعدمه لا دخل له في التوصّل الخ.

    الثمرة السابعة : تصحيح العبادات الغيرية
    ومن ثمرات القول بوجوب المقدّمة ، تصحيح التقرّب ببعض العبادات الغيرية ، كالطهارات الثلاث إذا وقعت مقدّمة للصلاة لما تقدّم من أنّ محور التقرّب لا ينحصر بالأمر النفسي (1) ولا بكون المتعلّق محبوباً بالذات (2) بل يكفي في حصول التقرّب كون الحركة والامتثال لأجل الأمر الإلهي ، سواء أكان غيرياً أم نفسياً ، فعلى القول بوجوب المقدّمة يكون قصد أمرها مصححاً للعبادة والتقرّب ، بلا حاجة إلى التمسّك بوجوه أُخرى ، وقد مرّالبحث عنها عند البحث في الطهارات الثلاث.
1 ـ حكاه شيخنا الأُستاذ ـ مد ظله ـ عن درس السيد الإمام الخميني حيث كان يقول باستحباب الطهارات الثلاث بذاتها.
2 ـ كما عليه المحقّق الخراساني.
إرشاد العقول إلى مباحث الأصول المجلد الأوّل ::: فهرس