إرشاد العقول إلى مباحث الأصول المجلد الأوّل ::: 586 ـ 600
(586)
    الأمر الثامن
تأسيس الأصل في المسألة
    والغرض من تأسيس الأصل هو تعيين المرجع عندما لم يصل الفقيه عن طريق الأدلّة الاجتهادية إلى نتيجة واحدة في وجوب المقدّمة وعدمه ، إذ لا محيص له إلاّ الأصل ، وإلاّ فلو ثبت بفضل الأدلّة الاجتهادية وجوبها أو عدمه فلا موضوع للأصل ، فالبحث عن الأصل بحث إعدادي إذا لم يثبت أحد الطرفين.
    ثمّ إنّ مجرى الأصل إمّا المسألة الأُصولية أو المسألة الفقهية ، والمراد من المسألة الأُصولية هو الملازمة بين الإرادتين أو الوجوبين ، كما أنّ المراد من المسألة الفقهية هو وجوب المقدّمة وعدمه ، فإليك البحث فيهما واحداً تلو الآخر.

    حكم الأصل في المسألة الأُصولية
    ذهب المحقّق الخراساني إلى أنّه لا أصل في المسألة الأُصولية ، بالبيان التالي :
    إنّ الملازمة بين وجوب المقدّمة ووجوب ذي المقدّمة وعدمها ليست لها حالة سابقة ، بل تكون الملازمة أو عدمها أزلية.
    توضيحه : إنّ الاستصحاب يجري في المتيقّن الذي يحتمل أن ينتقض ولا يستمر كحياة الإنسان ، وكونه على الطهارة ، وأمّا الأمر الذي لو ثبت لدام إلى يوم القيامة كالملازمة بين الأربعة والزوجية ، فهذا النوع من الأُمور لا يخضع


(587)
للاستصحاب ، والملازمة بين الوجوبين أو الإرادتين في المقام من هذا السنخ فلا يقبل الشكّ لو ثبت أحد الطرفين.
    هذا ما أفاده المحقّق الخراساني.
    فإن قلت : يمكن استصحاب عدم الملازمة بالنحو التالي :
    لم تكن ملازمة بين وجوب الصلاة ووجوب مقدّمتها عندما لم يكن أيّ تشريع بالنسبة إليها ، ولكن نشك في بقاء عدم الملازمة بعد تشريع الوجوب لذيها وعدمه والأصل بقاؤه.
    قلت : إنّ هذا النوع من الاستصحاب مثبت لم يكتب له الحجّية ، وذلك لأنّ المستصحب هو عدم الملازمة عندما لم يكن أيَّ وجوب للصلاة ، والحال أنّ المشكوك هو بقاء ذلك العدم بعد كتابة الوجوب عليها ، فاستصحاب الأمر الأوّل و إثبات الأمر الثاني من أقسام الأصل المثبت.
    وإن شئت قلت : إنّ المستصحب هو السالبة المحصّلة ، كالتالي :
    لم تكن الصلاة واجبة ، فلم تكن هناك ملازمة بين الوجوبين لعدم الموضوع.
    والمطلوب هو إثبات عدم الملازمة بعد ثبوت الموضوع أي وجوب الصلاة ويعبّر عنها بالموجبة المعدولة المحمول كالتالي :
    كانت الصلاة واجبة ولم تكن ملازمة بين الوجوبين.
    ومن المعلوم انّه ليس للثانية حالة سابقة ، فاستصحاب القضية الأُولى وإثبات القضية الثانية من الأُصول المثبتة.
    وهناك دليل آخر على خروج المسألة الأُصولية عن مجرى الأصل لم يشر إليه المحقّق الخراساني في كفايته وحاصله :
    إنّ الملازمة بما هي هي ليست حكماً شرعياً ولا مبدأ لحكم شرعي ، فلا تقع


(588)
مصبّاً للاستصحاب ، لأنّه يشترط في المستصحب أن يكون حكماً شرعياً كوجوب الشيء أو حرمته أو موضوعاً لحكم شرعي كما في الاستصحابات الموضوعية كاستصحاب الكرّية واستصحاب حياة زيد ، والملازمة بين الوجوبين ليست من قبيل واحد منهما.
    فإن قلت : إنّ الملازمة موضوع لحكم شرعي ، إذ على القول بالملازمة يستكشف منه الحكم الشرعي ، فلو كان المستصحب وجود الملازمة يستكشف وجود الحكم الشرعي ولو كان عدمها يستكشف منه عدمه.
    قلت : ما ذكرته وإن كان صحيحاً لكن يعوزه أنّ الحاكم بترتّب النتيجة في المقام على المقدّمة ، هو العقل القاطع بالملازمة بين حكمي العقل والشرع ، ومثل هذا لا يخضع للاستصحاب ، وإنّما يخضع له إذا كان الحاكم بالترتّب هو الشرع ، فالمستصحب ( الملازمة ) واستكشاف الحكم الشرعي ، والحاكم بالاستصحاب ، كلّها من أفعال العقل ، وما هذا حاله لا يصلح لأن يستصحب.
    بخلاف ما إذا كان الحاكم بالترتّب هو الشرع كما في استصحاب الكرّية ، يترتب عليها طهارة ما غُسِل فيه ، لأنّ الحاكم بالترتّب هو الشرع الذي قال : الماء إذا بلغ قدر كر لا ينجسه شيء.

    إجراء حكم الأصل في المسألة الفقهية
    قد عرفت عدم جريان الأصل في المسألة الأُصولية ، وحان البحث في حكمه في المسألة الفقهية ، أي وجوب المقدّمة ، وعدمه.
    والأُصول المتوهّم جريانها في المقام ثلاثة :
    1. البراءة العقلية ، أي قبح العقاب بلا بيان.


(589)
    2. البراءة الشرعية ، كقوله ( صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ) : « رفع عن أُمّتي ما لا يعلمون ».
    3. الاستصحاب ، نظير قوله ( صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ) : « لا تنقض اليقين بالشك ».
    وإليك الكلام في كلّ واحد تلو الآخر.
    أمّا البراءة العقلية فلا تنفع في المقام ، لأنّ مجراها هو احتمال العقاب ، وفي المقام نقطع بعدم العقاب ، سواء أكانت المقدّمة واجبة أم لا ، لما قلنا من أنّ امتثال الأمر الغيري يوجب الثواب ولكن تركه لا يوجب العقاب ، فمع القطع بعدم العقاب فلا موضوع للبراءة العقلية.
    وأمّا البراءة الشرعية فلا موضوع لها أيضاً ، لأنّ شرط جريانها هو وجود الكلفة في الإيجاب ، والامتنان في الرفع ، وكلاهما منفيّان ، إذ لا كلفة في إيجاب المقدّمة لعدم ترتّب العقاب على تركها ، كما لا امتنان في رفعها ، لحكم العقل بوجوبها ولزوم الإتيان بها.
    وأمّا الاستصحاب فقد ذهب المحقّق الخراساني إلى أنّ المرجع هو الاستصحاب فقال : نعم نفس وجوب المقدّمة مسبوق بالعدم حيث يكون حادثاً بحدوث وجوب ذي المقدّمة ، فالأصل عدم وجوبها. (1)
    يلاحظ عليه : أنّ الاستصحاب أصل عملي يجري فيما إذا كان هناك أثر عملي في مجراه ، ولكنّه مفقود في المقام ، إذ لا يترتّب على استصحاب وجوب المقدّمة أثر عملي لحكم العقل بلزوم الإتيان بها وإن لم يحكم الشرع بوجوبها.
    وإن شئت قلت : إنّ الحكم بعدم وجوبها شرعاً ـ بعد حكم العقل بوجوبها ـ يجعل الاستصحاب عقيماً بلا أثر ، والاستصحاب من الأُصول العملية المجعولة لتعيين وظيفة المكلّف من حيث العمل ، فإذا لم تكن هناك فائدة في مورد العمل
1 ـ كفاية الأُصول : 1/199.

(590)
فجريانه لغو.
    نعم لو كان المستصحب وجوب المقدّمة فله أثر عملي وثمرات فرغنا عن ذكرها. ولكن المفروض أنّ المستصحب هو عدم الوجوب.
    هذا هو الإشكال الواقعي المتوجّه على جريان الاستصحاب في المقام.
    ثمّ إنّ المحقّق الخراساني ذكر اعتراضين لهذا الاستصحاب وأجاب عنهما ، ولا بأس بالتعرّض لهما :
    الأوّل : يشترط في الاستصحابات العدمية أن يتعلّق العدم بالحكم الشرعي كالوجوب والحرمة ، أو متعلّقه كالزوجية والكرّية وغيرهما ، ووجوب المقدّمة ليس موضوعاً لحكم شرعي كما هو واضح ، كما أنّه ليس حكماً شرعياً مجعولاً حتى يتعلّق به العدم ، وذلك لأنّ وجوب المقدّمة على فرض وجوبها من لوازم وجوب ذيها ، واللازم ليس من المجعولات ، فإذا لم يكن مجعولاً شرعياً فلا يجوز استصحاب عدم ذلك الأمر غير المجعول ، وقد أشار المحقّق الخراساني إلى الإشكال بقوله :
    وتوهّم عدم جريانه لكون وجوبها على الملازمة من قبيل لوازم الماهية غير مجعولة ، ولا أثر آخر مجعول مترتّب عليه ، ولو كان لم يكن بمهم هاهنا. (1)
    ثمّ أجاب عنه بما حاصله : انّ وجوب المقدّمة وإن لم يكن موضوعاً لحكم شرعي لكنّه حكم شرعي مجعول بالعرض ، فالمجعول بالذات هو وجوب ذيها ، والمجعول بالعرض هو وجوب نفسها ، وكفى في جريان استصحاب العدم كون المتعلّق مرتبطاً بالشارع بنحو من الارتباط ، وعندئذ إذا تعلّق به العدم تتم أركان الاستصحاب ، وإلى هذا الجواب أشار المحقق الخراساني بقوله :
1 ـ كفاية الأُصول : 1/199.

(591)
    بأنّه وإن كان غير مجعول بالذات ، لا بالجعل البسيط الذي هو مفاد كان التامة ، ولا بالجعل التأليفي الذي هو مفاد كان الناقصة ، إلاّ أنّه مجعول بالعرض ويتبعُ جعلَ وجوب ذي المقدّمة ، وهو كاف في جريان الأصل. (1)
    الثاني : كيف يجري استصحاب عدم وجوب المقدّمة مع أنّه لو كانت هناك ملازمة بين الوجوبين للزم تفكيك اللازم عن الملزوم ، واحتمال التفكيك بين المتلازمين كما هو مقتضى الاستصحاب كالقطع بالتفكيك محال ؟
    وبعبارة أُخرى : لو لم يكن هناك ملازمة بين الوجوبين كان استصحاب عدم الوجوب موافقاً له ولو كان بينها ملازمة فيكون استصحابه مخالفاً له ، فبما انّ الواقع مستور عنّا ، فنحتمل وجود الملازمة وبالتالي نحتمل انّ لازم استصحاب عدم وجوب المقدّمة احتمالُ التفكيك بين المتلازمين لا يصحّ استصحاب عدمها ، إذ من المعلوم انّ احتمال التفكيك كالقطع به ، محال.
    وأجاب عنه بأنّ لزوم التفكيك بين المتلازمين محال واقعاً وليس بمحال ظاهراً.
    وبعبارة أُخرى : لزوم التفكيك بين الوجوبين مع الشكّ لا ينافي الملازمة الواقعية وإنّما ينافي الملازمة الفعلية.
    نعم ، لو كانت الدعوى هي الملازمة المطلقة حتى في المرتبة الفعلية لصحّ التمسّك بذلك الأصل في إثبات بطلان الملازمة الفعليّة.
    وما أشار إليه من الجواب مبني على ما أفاده الشيخ الأنصاري في آخر الاستصحاب من أنّه لا بأس بالتفكيك بين المتلازمين في الظاهر دون الواقع ، ولذلك لو توضّأ بماء أحد الإناءين المشتبهين يحكم على الأعضاء بالطهارة ، وعلى
1 ـ كفاية الأُصول : 1/199.

(592)
النفس بالحدثية ، مع أنّه تفكيك بين المتلازمين ، فانّه إن كان الماء طاهراً فالحدث مرتفع أيضاً وإن كان غير طاهر فالأعضاء نجسة أيضاً. (1)
    وعلى ضوء ذلك لا بأس بأخذ أحد المتلازمين في الظاهر ، أي وجوب ذيها دون الآخر كوجوب مقدّمتها ، وإن كان بين الوجوبين في مقام الجعل في الواقع تلازم والملازمة الواقعية لا تنافي عدمها في الظاهر.

    إشكال المحقّق البروجردي على صاحب الكفاية
    ثمّ إنّ المحقّق البروجردي لم يرتض هذا الجواب من أُستاذه وأشكل عليه بما هذا حاصله :
    إنّ وجوب المقدّمة على فرض ثبوته ليس وجوباً مستقلاً بملاك مستقل حتى يكون تابعاً لملاك نفسه ، بل هو من اللوازم غير المنفكة لوجوب ذيها فتفكيكهما غير ممكن لا في الفعلية ولا في غيرها من المراتب.
    توضيحه : انّ ما ذكره المحقّق الخراساني إنّما يصحّ إذا كان التلازم أمراً جعلياً في مراحل التكليف كما في التوضّؤ بواحد من الإناءين المشتبهين ، دونما إذا كان التلازم عقلياً كالزوجية بالنسبة إلى الأربعة ففيه لا يصحّ التفكيك بينهما في الواقع والظاهر. وعلى ضوء ذلك فلو كانت هناك ملازمة فانّ معناها أنّ الأمر بذي المقدّمة يستتبع الأمر بها في عامّة المراحل الواقعية والظاهرية ، كما أنّ إرادته تستتبع إرادتها في عامة المجالات ، وعندئذ فلو كانت هناك ملازمة في عامة المراحل فالأمر بالمقدّمة فعليّ منجّز لا يمكن جعل حكم مخالف في موردها ، ومع هذا الاحتمال كيف يمكن جعل حكم مضاد له ، إذ جعل الحكم المخالف ، فرع إحراز إمكانه
1 ـ الفرائد : 428 ، ط رحمة اللّه في تعارض الاستصحابين.

(593)
وهو بعدُ غير محرز ؟!
    وإن شئت قلت : إنّ إجراء الأصل فرع إحراز الإمكان الواقعي وهو بعدُ لم يحرز إلاّ بنسبة خمسين بالمائة ، لاحتمال عدم وجود الملازمة ، لا مائة بالمائة لاحتمال وجود الملازمة ومع التردد ، فالإمكان الذاتي غير محرز ، ومعه لا يمكن جعل الحكم الظاهري على خلافه.
    وعلى هذه الضابطة أخرج الشيخ الأنصاري الموارد الثلاثة من مجرى البراءة ، أعني : موارد النفوس والأعراض والأموال المحتملة إباحتها وحرمتها ، وذلك لأنّه لو كان هناك حكم في حرمتها فهو فعليّ واقعاً وظاهراً ، ومع هذا العلم الجزمي ولو على وجه التعليق لا يمكن الحكم بالبراءة ، لأنّ لازمه جعل حكم ظاهري يخالف الحكم الواقعي الذي لو كان واقعاً كان فعلياً قطعاً.
    وبهذا تمتاز هذه الأُمور الثلاثة عن شرب التتن ، إذ يمكن جعل الإباحة في شربه ، فانّه لو كان هناك حكم واقعي كالحرمة فهو ليس بفعلي قطعاً ، بخلاف الأُمور الثلاثة إذ لو كان هناك حكم باسم الحرمة لكان فعلياً بلا ريب.
    وإن شئت قلت : إنّ مفاد جريان الاستصحاب هو نفي الوجوب الفعلي حتى على فرض الملازمة بين الوجوبين ، وهو خلف ، لأنّ جريان الأصل إنّما يصحّ على فرض عدم الملازمة.
    هذا غاية توضيح مرام السيد المحقّق البروجردي ، وقد ناقش فيه شيخنا الأُستاذ ـ مد ظله ـ بما هذا بيانه :
    أوّلاً : بأنّ العلقة التكوينية موجودة بين الإرادتين ، وأمّا العلقة بين الوجوبين فليست تكوينية ، إذ من الممكن إيجاب ذي المقدّمة دون إيجابها ، بخلاف الإرادتين فانّ التوالي هناك أمر لا يمكن التخلّص عنه.
    وثانيا : انّ ما ذكره مبني على شرطية إحراز الإمكان الذاتي في جريان الأصل ،


(594)
أو إحراز الإمكان الوقوعي ، وهو مساوق للقطع بعدم فعلية الحكم الواقعي ولكنّهما غير محرزين ، ولكن من المحتمل كفاية الإمكان الاحتمالي ، وهو أعمّ من الإمكان الذاتي وموضوع الإمكان الاحتمالي هو عدم العلم بالامتناع ، والمقام من هذا القبيل ، فلو كان في الواقع ملازمة لا يصحّ جعل حكم ظاهري على خلاف مقتضى الملازمة ، بخلاف ما إذا لم تكن ملازمة فانّه يصحّ ، وبما انّ الملازمة غير محرزة فالإمكان الاحتمالي موجود وهو كاف في إجراء الأصل.
    وثالثاً : إنّ لزوم الاحتياط في الموارد الثلاثة التي حكم فيها الشيخ بالاحتياط مع كون الشكّ شبهة بدوية ليست لأجل كون الحكم فعلياً على فرض الوجود كي تكون العلة موجودة في المقام أيضاً ، بل المانع هناك العلم بمذاق الشارع في عظائم الأُمور ، وهو عدم التهجّم على الدماء والأعراض والأموال بصرف الاحتمال ، وهذا المناط غير موجود في المقام ، إذ ليس ترك المقدّمة من عظائم الأُمور لعدم إضرار البراءة عن الوجوب مع حكم العقل بوجوب الإتيان.
    وإن شئت قلت : إنّ عدم جريان البراءة في الأُمور الثلاثة ، لأنّ الحكم الطبيعي في الدماء والأعراض والأموال هو الحرمة والمصونية والخروج عنه يحتاج إلى الدليل بخلاف المقام.
    إلى هنا تمّت المباحث التمهيدية ، وحان البحث عن صلب الموضوع وهو الدليل على وجوب المقدّمة وعدمه.

    أدلّة القائلين بوجوب المقدمة
    قد عرفت حكم الأصل في المقدّمة إذا لم يكن هناك دليل اجتهادي على أحد القولين ، فلنذكر ما استدلّ به من العقل والنقل على وجوب المقدمة ، و قبل


(595)
الخوض في بيان أدلّتهم ينبغي تحرير محل النزاع وانّ النزاع في أيّ نوع من الوجوب ، فهناك احتمالات :
    1. الوجوب العقلي ، بمعنى اللابدية العقلية.
    يلاحظ عليه : بأنّه ليس شيئاً قابلاً للنزاع لاتّفاق العقلاء عليه.
    2. الوجوب العرضي ، بمعنى انّ هنا وجوباً واحداً منسوباً لذيها بالحقيقة. وللمقدّمة بالعرض والمجاز ، وهذا كنسبة الجريان إلى الماء والميزاب.
    يلاحظ عليه : بأنّ البحث يصبح عندئذ بحثاً أدبياً لا أُصولياً ، وبالتالي غير قابل للنزاع ، لأنّ النسبة المجازية تابعة لوجود المناسبة وعدمها.
    3. الوجوب المولوي الغيري الاستقلالي.
    يلاحظ عليه : انّ إيجاب المقدّمة بصورة الوجوب الاستقلالي يتوقّف على الالتفات إلى المقدّمة وربّما يكون الآمر غافلاً عن المقدّمة وعن عددها ، ولو صحّ ذلك لزم اختصاص النزاع بصورة التفات المولى و هو كما ترى.
    4. الوجوب المولوي الغيري التبعي ، بمعنى انّه لو التفت المولى إلى المقدّمة لأمر بها وهذا هو اللائق لأن يقع موضعاً للبحث.
    إذا عرفت هذا فلنذكر ما استدلّ به على وجوب المقدمة :

    الأوّل : لزوم التكليف بما لا يطاق لو لم تجب
    استدلّ أبو الحسين البصري مؤلف « المعتمد في أُصول الفقه » من مشايخ المعتزلة (1) بأنّه لو لم تجب المقدّمة لجاز تركها وحينئذ فإن بقي الواجب على وجوبه
1 ـ توفّي عام 436 هـ ، وهو غير أبي الحسن البصري إمام الأشاعرة ( المتوفّى عام 324 هـ ) وهما غير الحسن البصري التابعي ( المتوفّى عام 89 هـ ) كما أنّ الثلاثة غير أبي موسى الأشعري الصحابي ( المتوفّى عام 43 هـ ). من إفادات شيخنا الأُستاذ مدّ ظلّه.

(596)
لزم التكليف بما لا يطاق وإلاّ خرج الواجب المطلق عن كونه واجباً مطلقاً.
    يلاحظ عليه أوّلاً : بالنقض بالمتلازمين إذا كان في أحدهما ملاك الوجوب دون الآخر ، فيجب أحدهما دون الآخر ، ولو وجب الآخر للزم الإيجاب بلا ملاك ويجري فيهما ما ذكره من الاستدلال ، فيقال : إذا لم يجب الملازم جاز تركه ، وحينئذ فإمّا أن يبقى الملازم الآخر على وجوبه ، فيلزم التكليف بما لا يطاق ؛ أو لا ، فيلزم خروج الواجب عن كونه واجباً مطلقاً.
    وثانياً : أنّه لو أراد من قوله : « لجاز تركها » الإباحة الشرعية فالملازمة باطلة ، لأنّ رفع الوجوب المولوي لا يلازم ثبوت أحد الأحكام الخمسة ، إذ من الممكن أن يكون المورد من قبيل عدم الحكم ، لا الإباحة الشرعية ، والفرق بينهما واضح ، فالإباحة الشرعية عبارة عن اقتضاء المورد التساويَ فيكون المجعول هو الإباحة الشرعية التي هي أحد الأحكام الخمسة بخلاف عدم الحكم ، فانّه بمعنى عدم الاقتضاء لواحد من الأحكام.
    وثالثاً : ماذا يريد من قوله : « حينئذ ».
    فإن أراد « جواز الترك » لما ترتّب عليه التاليان من لزوم التكليف بما لا يطاق أو خروج الواجب عن كونه واجباً مطلقاً ، وذلك لأنّ جواز الترك لا يلازم الترك ، إذ ربّما يكون جائز الترك ولكن المكلّف يأتي به.
    وإن أراد نفس الترك « لا جواز الترك » فيترتّب عليه أمر ثالث ، وهو سقوط الوجوب لأجل العصيان لكونه متمكّناً من الإطاعة وقد تركها عالماً عامداً ، فانّ الشرع وإن لم يُوجِب المقدمة ولكنّه لم يُحرّمها ، والرسول الباطني يبعث الإنسان إلى الإتيان بها فيكون الترك معصية بلا ريب.


(597)
    الثاني : قضاء الوجدان بالوجوب
    إنّ الوجدان أقوى شاهد على أنّ الإنسان إذا أراد شيئاً له مقدّمات أراد تلك المقدّمات لو التفت إليها ، بحيث ربّما يجعلها في قالب الطلب مثله ويقول مولويّاً : ادخل السوق واشتر اللحم مثلاً ، بداهة انّ الطلب المنشأ بخطاب : ادخل مثل المنشأ بخطاب : « اشتر » في كونه بعثاً مولويّاً وانّه حيث تعلّقت إرادته بإيجاد عبده الاشتراء ترشحت منها له إرادة أُخرى بدخول السوق بعد الالتفات إليه وأنّه يكون مقدّمة له. (1)
    يلاحظ عليه : بأنّ الوجدان يشهد على خلافه ، فانّ الإنسان لا يجد في أعماق نفسه إلاّ إرادة واحدة متعلّقة باشتراء اللحم ، وأمّا أمره بدخول السوق إمّا إرشاد إلى المقدمية إذا كان العبد غير عارف على محل شرائه ، أو تأكيد لطلب الاشتراء.
    والشاهد على ذلك انّه لو جعل المولى جعالة لامتثال أوامره وقال : أدخل السوق واشتر اللحم ، فدخل العبد السوق واشترى اللحم فلا يراه العقلاء إلاّ مستحقاً لجعل واحد في مقابل شراء اللحم.

    الثالث : وزان الإرادة التشريعية كالتكوينية
    وحاصله : انّه لا فرق بين الإرادة التكوينية والتشريعية في جميع لوازمهما ، غير أنّ التكوينية تتعلّق بفعل نفس المريد ، والتشريعية تتعلّق بفعل غيره ، ومن الضروري أنّ تعلّق الإرادة التكوينية بشيء يستلزم تعلّقها بجميع مقدّماته قهراً.
    نعم لا تكون هذه الإرادة القهرية فعلية ، فيما إذا كانت المقدّمية مغفولاً
1 ـ كفاية الأُصول : 1/200.

(598)
عنها ، إلاّ أنّ ملاك تعلّق الإرادة بها ، وهو المقدّمية ، على حاله ، فإذا كان هذا حال الإرادة التكوينية فتكون الإرادة التشريعية مثلها أيضاً. (1)
    يلاحظ عليه : أوّلاً : أنّ وصف الإرادة التكوينية بأنّها تتعلّق بفعل النفس والإرادة التشريعية تتعلّق بفعل الغير ، ليس بتام ، بل الإرادة مطلقاً لا تتعلّق إلاّ بفعل النفس ، وذلك لأنّها لا تتعلّق إلاّ بأمر واقع في إطار اختيار المريد ، وليس هو إلاّ فعل نفسه ، وأمّا فعل الغير فهو خارج عن اختيار المريد ، فكيف تتعلّق به إرادته ؟! ولأجل ذلك قلنا بأنّ الإرادة التشريعية تتعلّق بإنشاء البعث وهو أمر صادر عن المريد ، والغاية منه تحريك الغير إلى العمل ، فتحريكه إلى العمل غاية وليس متعلّقاً للإرادة.
    وثانياً : انّ الغاية من الإرادة التكوينية قيام نفس المريد بالفعل ، وإرادته لا تنفك عن إرادة مقدّماته ، فلذلك تتعلّق إرادتان تكوينيتان بالفعل ومقدّماته.
    وهذا بخلاف الأوامر التشريعية فانّ الغاية هناك إيجاد الداعي والباعث في ذهن المكلّف إلى نفس العمل ، وهو حاصل بإيجاب ذيها من دون إيجاب مقدّمته.

    الرابع : وجود الأوامر الغيرية في الشريعة
    إنّ وجود الأوامر الغيرية في الشريعة دليل واضح على وجود المناط في المقدّمة لتعلّق الوجوب فإذا تعلّق الوجوب في مورد بهذا المناط يستكشف وجوده في عامة المقدمات لوجود المناط فيها ، قال المحقّق الخراساني :
    وجود الأوامر الغيرية في الشرعيات والعرفيات لوضوح انّه لا يكاد يتعلّق الأمر الغيري بمقدّمة إلاّ إذا كان فيها مناطه ، فإذا تعلّق الأمر بها ، بهذا المناط ،
1 ـ أجود التقريرات : 1/231.

(599)
يتعلّق في مثلها ممّا لم يلتفت إليه أيضاً. (1)
    يلاحظ عليه : أنّ وجود الأوامر الغيرية في الشريعة أمر غير منكر ولكن غالبها ظاهرة في الإرشاد إلى المقدّميّة لعدم علم المكلّف بالمقدّمة ، لاحظ الآيات التالية :
    1. ( فَإِذا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوف أَوْ فارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوف وَأَشهِدُوا ذَوَيْ عَدْل مِنْكُمْ ). (2)
    2. ( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا قُمْتُمْ إِلى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْديَكُمْ إِلى الْمَرافِقِ وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلى الْكَعْبَيْن ). (3)
    3. ( وَإِنْ كُنتُمْ جُنُباً فَاطّهروا وَإِنْ كُنْتُمْ مَرضى أَوْ عَلى سَفَر أَوْ جاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الغائِطِ أَوْ لامَسْتُمُ النِّساءَ فَلَمْ تَجِدُوا ماءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً طَيِّباً ). (4)
    4. ( إِنْ جاءَكُمْ فاسِقٌ بِنَبَإ فَتَبَيَّنُوا ). (5)
    5. ( إِذا جاءَكُمُ المُؤْمِناتُ مُهاجِرات فَامْتَحِنُوهُنَّ ). (6)
    6. وقوله ( عليه السَّلام ) : اغسل ثوبك من أبوال ما لا يؤكل لحمه. (7)
    فلا نشكّ في ورود الأوامر في هذه المجالات.
    لكن الآيةَ الأُولى مسوقة لبيان شرطية العدلين في صحّة الطلاق ، ولولا الأمر بها لما عُلِمتْ شرطيّةُ الشهادة في صحة الطلاق. فيكون الأمر إرشاداً إلى الشرطيّة.
1 ـ كفاية الأُصول : 1/201.
2 ـ الطلاق : 2.
3 ـ المائدة : 6.
4 ـ المائدة : 6.
5 ـ الحجرات : 6.
6 ـ الممتحنة : 10.
7 ـ الوسائل : 1 ، الباب 8 من أبواب النجاسات ، الحديث 2.


(600)
    والثانية والثالثة مسوقة لبيان كيفية الوضوء والتيمّم ، فيكون الأمر إرشاداً إلى الجزئيّة.
    كما أنّ الآية الرابعة بيان لشرطية التبيّـن للعمل بقول الفاسق.
    كما أنّ الأمر بالامتحان في الآية الخامسة سيق لغاية العلم بإيمانهنّ حتّى لا يرجعن إلى الكفّار.
    وبالجملة : لولا أمر الشارع في هذه الموارد لما حصل العلم بالمأمور به وشرطه وشروطه كما مرّ.
    إلى هنا تمّ ما استدلّ به القائلون بوجوب المقدّمة.

    ما هو المختار في باب المقدّمة ؟
    الأقوى عدم وجوب المقدّمة شرعاً ، لأجل انّ إيجابها مع إيجاب ذيها أمر لغو لا يصدر من العاقل الحكيم ، وذلك لأنّ الغرض من الإيجاب المولوي هو جعل الداعي وإحداثه في ضمير المكلّف ، لينبعث ويأتي بالمتعلق ، فإيجاب المقدّمة إمّا غير باعث ، أو غير محتاج إليه ، فانّ المكلّف إن كان بصدد الإتيان بذي المقدّمة ، فالأمر النفسي الباعث إلى ذيها باعث إليها أيضاً ، ومعه لا يحتاج إلى باعث آخر بالنسبة إليها ، وإن لم يكن بصدد الإتيان بذيها وكان مُعْرِضاً عنه ، لما حصل له بعث بالنسبة إلى المقدّمة.
    والحاصل : انّ الأمر المقدّمي يدور أمره بين اللغوية ـ إذا كان المكلّف بصدد الإتيان بذيها ـ و عدم الباعثية وإحداث الداعوية أبداً إذا لم يكن بصدد الإتيان بذيها.
إرشاد العقول إلى مباحث الأصول المجلد الأوّل ::: فهرس