إرشاد العقول إلى مباحث الأصول المجلد الأوّل ::: 601 ـ 608
(601)
    إكمال
تفصيلان في مقدّمة الواجب
    الأوّل : التفصيل بين السبب وغيره
    ربّما يفصّل بين السبب والشرط ، فيقال : انّ السبب واجب عند الأمر بالمسبّب ، لأنّ المقدور هو السبب دون المسبب ، ففي مسألة الإحراق ، المقدور هو الإلقاء ، فلو أمر المولى بالإحراق ينصرف الأمر إلى السبب ، أعني : الإحراق.
    يلاحظ عليه : أوّلاً : أنّ المسبب مقدور بواسطة السبب ، وقد قرّر في محلّه انّ المقدور ربّما يكون مقدوراً بالمباشرة وأُخرى بسببه.
    وثانياً : أنّ لازم ما ذكره كون السبب ( الإلقاء ) واجباً نفسياً لا غيرياً ، وهو خلاف المفروض.

    الثاني : التفصيل بين الشرط الشرعي والعقلي
    ربّما يفصّل بين الشرط الشرعي كالوضوء ، والشرط العقلي كمحاذاة القطن للنار عند الأمر بالإحراق ، فيحكم بوجوب الأوّل دون الثاني قائلاً بأنّه لولا وجوبه لما كان شرطاً.
    يلاحظ عليه : ماذا يريد من قوله « لولا الوجوب لما كان شرطاً » ؟ ، فإن أراد انّه لولا الوجوب لما كان شرطاً في الواقع ، فهو يستلزم الدور ، لأنّ الوجوب فرع كون


(602)
الشيء شرطاً في الواقع ، ولو توقّفت شرطيته في الواقع على الوجوب ، لزم الدور.
    وإن أراد انّه « لولا الوجوب لما عُلمت شرطيته » فيلاحظ عليه بانّ العلم بالشرطية لا ينحصر بالإيجاب ، بل يعلم بالأمر الإرشادي أوّلاً كما في آية الوضوء ، وبالتصريح بالشرطية ثانياً كما في قوله « لا صلاة إلاّ بطهور » ، وبالأمر بالمقيّد ثالثاً كما إذا قال : صل متطهّراً.

    مقدّمة المستحب والمكروه والحرام
    قد عرفت عدم الملازمة بين وجوب مقدّمة الواجب ووجوب ذيها ، فتكون مقدّمة المستحب والمكروه والحرام مثل مقدّمة الواجب في عدم الحكم عليها بالاستحباب والكراهة والحرمة ، لكن يقع الكلام على القول بالملازمة بين وجوب المقدّمة ووجوب ذيها ـ في مقدّمة المستحب والمكروه والحرام ـ فهل هناك ملازمة ، فيكون المشي إلى المسجد أو إلى الطلاق المكروه أو شرب الخمر الحرام ، مستحباً أو مكروهاً أو حراماً حسب حكم ذيه ، أو لا ؟ هناك أقوال :
    1. القول بالسريان مطلقاً على القول بالملازمة.
    2. التفصيل بين المقدّمة التوليدية التي لا تتوسط بين المقدّمة وذيها إرادة الإنسان ، والمقدّمة الإعدادية كالسبب والشرط ، والمُعدّ ، وعدم المانع ، التي تتوسط بينها و بين ذيها إرادة الإنسان فلا يسري الحكم ، وهذا هو الظاهر من المحقّق الخراساني.
    3. التفصيل في نفس المقدّمات الإعدادية بين ما لا يتوسط بين المقدّمة وذيها اختيار الفاعل وارادته فيسري الحكم ، وما تتوسط فيه بين المقدّمة وذيها إرادة


(603)
الفاعل فلا يسري ، وهو الظاهر من المحقّق النائيني.
    4. سريان الحكم إلى الجزء الأخير من العلة التامّة ، وهو ما ينتقض به العدم إلى الوجود ، وهو الظاهر من السيد الإمام الخميني قدَّس سرَّه ، وإليك دلائل الأقوال :

    الأوّل : السريان مطلقاً
    لو قلنا بوجوب المقدّّمة ، أو المقدّمة الموصلة ، لا محيص من القول به في مقدّمات الأحكام الثلاثة ، لوحدة الملاك في الجميع ، فانّ ملاك السريان في مقدّمة الواجب إمّا التمكّن ورفع الإحالة ، أو كونه في طريق المطلوب ، وهذا الملاك بعينه موجود في مقدّمات الأحكام الثلاثة ، فكلّ جزء من مقدّمات المستحب أو المكروه أو الحرام يُمكِّن المكلّفَ من الإتيان بذيه ، كما أنّ كلّ جزء منه يقع في طريق المطلوب ( المستحب ) أو المكروه أو الحرام. وعلى ذلك فلا معنى للتبعيض مع أنّ الجميع من باب واحد.
    فإن قلت : فرق بين الواجب والحرام ، فانّ الفعل الواجب لمّا كان متوقّفاً على كلّ جزء من أجزائه ، يسري الحبُّ إلى أجزاء المقدّمة كلّها وتوصف بالوجوب ، بخلاف الحرام فانّه يتوقف على محقّق المبغوضية ، ربّما انّ جميع الأجزاء ليس محقّقاً ، بل المحقّق هو المخرج للمبغوض إلى حيز الوجود لا يسري إلى كلّ جزء من أجزاء المقدّمة ، بل يتعلّق بخصوص المخرج للمبغوض عن العدم إلى الوجود.
    قلت : السؤال مبني على الخلط بين مقام التشريع ومقام الامتثال والعصيان ، فالكلام إنّما هو في المقام الأوّل والحكم يتبع ملاكه فالملاك في جميع الأجزاء واحد وهو إمّا التمكّن أو الإيصال ، فتجب المقدّمة المطلقة على الأوّل ، والموصلة على الثاني.


(604)
    وأمّا كون الامتثال في الواجب متوقّفاً على عامّة المقدّمات والامتثال في باب المحرّمات يتوقّف على ترك واحدة منها إذا لم تكن المقدّمات متحقّقة ، وعلى ترك الأخيرة إذا كانت متحقّقة ، وإن كان صحيحاً لكنّه لا يرتبط بباب تعلّق الأحكام بصلة ، فالبحث ليس في كيفية الامتثال ، وإنّما البحث في سريان الحب والبغض في مقام التشريع إلى المقدّمة ، والملاك موجود في عامة المقدّمات إمّا مطلقة وإمّا موصلة.

    الثاني : السريان في المقدّمة التوليدية
    ذهب المحقّق الخراساني إلى سراية التحريم من ذي المقدّمة إلى المقدّمة التوليدية ، أعني : ما لا تتوسط بين المقدّمة وذيها إرادة المكلّف ، كالإلقاء بالنسبة إلى الإحراق (1) ، وأمّا في العلل الإعدادية من السبب والشرط والمعد فبما انّ الإتيان بغير الجزء الأخير ( الإرادة ) لا يسلب الاختيار من المكلّف ويتمكّن المكلّف معه أيضاً من ترك الحرام فلا يترشّح التكليف إلى ما عدا الجزء الأخير.
    وأمّا الجزء الأخير ، أعني : الإرادة ، فهو وإن كان لا يتمكّن معه من ترك الحرام لكنّه أمر خارج عن الاختيار لا يتعلّق به التكليف.
    وحاصل كلامه : انّه يسري الحكم في العلل التوليدية لكونها ملازمة مع المبغوض في المكروه والحرام ، وأمّا في غيرها فالذي يقع في إطار الاختيار كما هو الحال قبل تعلّق الإرادة فهو لا يلازم المبغوض ، بل يتمكّن المكلّف معه من ترك
1 ـ وإلى هذا يشير في كتابه بقوله : « فلو لم يكن للحرام مقدّمة لا يبقى معه اختيار تركه » أي علّة تامّة لا يتمكّن معها من ترك ذيها. و ما في النسخة المحشّاة بتعليقة العلاّمة المشكيني من قوله : « فلم لم يكن » تصحيف.

(605)
المبغوض ، وما هو يلازم إتيانه إتيان المبغوض ولا يتمكّن المكلّف معه من تركه فهو أمر خارج عن الاختيار لا يتعلّق به التكليف.
    يلاحظ عليه أوّلاً : أنّ ما ذكره من العلل التوليدية وإن كان صحيحاً ، لكن ما ذكره في العلل الإعدادية مجرّدة عن الإرادة غير تام ، لأنّ ملاك السريان ليس هو الملازمة أو عدم التمكّن حتّى يقال بأنّ المكلّف يتمكّن من ترك المبغوض في العلل الإعداديّة مجردة عن الإرادة ، بل الملاك هو كون كلّ واحد من أجزاء العلل الإعدادية ممّا يتوقّف عليه المبغوض أو يقع في طريقه فيسري حكم المبغوض أو المحبوب إليه.
    وثانياً : أنّ ما ذكره من أنّ الجزء الأخير ـ أعني : الإرادة خارجة عن الاختيار ـ مبني على أساس غير صحيح ، وهو أنّ الميزان في الفعل الاختياري أن يكون مسبوقاً بالإرادة ، وأمّا الإرادة فبما أنّها ليست مسبوقة بها ـ و إلاّ لزم التسلسل ـ فهو خارج عن الاختيار.
    لكنّك عرفت أنّ الميزان في كون الفعل اختيارياً أحد أمرين :
    أ. أن يكون مسبوقاً بالإرادة ، كما في الأفعال الصادرة عن الجوارح ، المسبوقة بالإرادة.
    ب. أن يكون صادراً من فاعل مختار بالذات كالإنسان والإرادة اختيارية بالمعنى الثاني نظير أفعاله سبحانه والتفصيل في محلّه. (1)
1 ـ لاحظ رسالة الأمر بين الأمرين لشيخنا الأُستاذ ـ مدّ ظله ـ.

(606)
    الثالث : التفصيل بين ما لا يتوسط بين المقدّمة وذيها اختيار الفاعل
    وهذا التفصيل غير التفصيل السابق ، لأنّ السابق كان يركّز على الفرق بين العلل التوليدية والإعدادية ، وأمّا هذا فإنّما يركز على خصوص العلل الإعدادية ، لكنّه يفصّل فيه بين ما لا يبقى للمكلّف بعد العلل الإعدادية اختيار فيسري فيه ، و بين ما لا يسلب منه الاختيار فلا يسري فيه.
    أمّا الأوّل : فكما لو علم أنّه لو دخل المكان الفلاني لاضطرّ إلى ارتكاب الحرام قهراً دونما إذا لو دخله لا يكون مضطرّاً إلى ارتكابه ، فالسراية متحقّقة في الأوّل دون الثاني.
    نعم فلو أتى ـ في الثاني ـ بالمقدّمة بقصد التوصّل إلى الحرام تحرم للتجرّي ، وأمّا إذا أتى من دون ذلك القصد فلا دليل على الحرمة.
    يلاحظ عليه : أنّ ما ذكره في الصورة الأُولى صحيح ، وأمّا الصورة الثانية فقسّمه إلى ما أُتي بالمقدّمة بقصد التوصّل فحكم بالحرمة ، دون ما إذا لم يكن بذلك القصد ، فنقول :
    أمّا أوّلاً فانّه إذا أتى بالمقدّمة التي يتمكّن مع الإتيان بها عن ترك ذيها بقصد التوصّل يكون تجرّياً ، والتجرّي لو قلنا بحرمته حرام نفسي لا غيري ، والكلام في الحرمة الغيرية.
    وثانياً : فانّه إذا لم يأت بتلك المقدّمات بقصد التوصّل يكون محكوماً بحكم ذيها أيضاً ، وذلك لأنّ الميزان للسراية ليس هو عدم التمكّن من ذيها ، بل الميزان كونه ممّا يتوقّف عليه المكروه والحرام ، أو ممّا يقع في طريقه ، والملاكان موجودان في هذا القسم أيضاً ، أي القسم الثاني من الصورة الثانية.


(607)
    الرابع : انّ الحرام هو الجزء الأخير إذا كانت الأجزاء مترتّبة
    ذهب السيد الإمام الخميني إلى أنّ الحرام هو الجزء الأخير إن كانت الأجزاء مترتبة ، أو مجموع الأجزاء إذا كانت عرضية ، قائلاً :
    فانّ الزجر عن الفعل مستلزم للزجر عمّا يخرج الفعل من العدم إلى الوجود ، لا إلى كلّ ما هو دخيل في تحقّقه ، والمبغوض هو انتقاض العدم بالوجود ، والسبب لذلك هو الجزء الأخير في المترتّبات ، وفي غيرها يكون المجموع هو السبب وعدمه بعدم جزء منه. (1)
    يلاحظ عليه : بأنّ الملاك في السريان هو التوقّف ـ على القول بوجوب مطلق المقدّمة ـ والوقوع في مسير المحبوب والمبغوض على القول بوجوب المقدّمة الموصلة.
    فعلى كلا القولين يكون الحرام أو المكروه والمستحب هو جميعُ الأجزاء ، غاية الأمر يكون الموضوع على القول بالموصلة أضيق من القول الأوّل.
    فالبغض كما يسري إلى ناقض العدم ومحقّق وجود المبغوض ـ أعني : الجزء الأخير ـ كذلك يسري إلى كلّ ما يمكّن المكلّف من المبغوض أو ما يقع في طريقه ومسيره.
    وممّا يؤيّد حرمة المقدّمة وأجزائها من ورود اللعن على عشرة أصناف في مورد الخمر ، فعن جابر لعن رسول اللّه ( صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ) في الخمر عشرة : « غارسها ، وحارثها ، وعاصرها ، وشاربها ، وساقيها ، وحاملها ، والمحمولة إليه ، وبائعها ، ومشتريها ، وآكل ثمنها ». (2)
1 ـ تهذيب الأُصول : 1/284.
2 ـ الوسائل : 12 ، الباب 55 من أبواب ما يكتسب به ، الحديث 4و 5.


(608)
    فالظاهر حرمة غاية المقدمات ، اللّهمّ إلاّ أن يقال : بأنّ المتبادر من الرواية هو الحرمة النفسية لهذه المقدّمات ، والكلام في الحرمة المقدمية.
    ومنه يظهر حال حرمة السفر إذا كانت الغاية محرّمة ، وما هذا إلاّ لأنّ نفس السفر يكون حراماً إذا كانت الغاية محرّمة ، اللّهمّ إلاّ أن يحمل على الحرمة النفسية.
نجز الكلام ـ بحمد اللّه ـ في الجزء الأوّل من مباحث الألفاظ
ويليه الجزء الثاني من هذه المباحث بعون اللّه وفضله
وتمّ تحرير تلك المحاضرات
سادس شعبان المعظم من شهور عام 1416
مصلّياً مستغفراً راجياً
إرشاد العقول إلى مباحث الأصول المجلد الأوّل ::: فهرس