إرشاد العقول إلى مباحث الأصول الجزء الثاني ::: 31 ـ 45
(31)
الفقهية كما هو الحال في حجّية خبر الواحد ، وأُخرى تكون جزء العلّة كما في المقام حيث إنّ الصغرى على ذمّة هذا البحث والكبرى على ذمّة المقصد الثاني ، فبضم الأمرين يُستنتج الحكم الشرعي.
    ثمّ إنّ جماعة أنكروا الثمرة لوجهين :
    الأوّل : انّ النهي ـ على فرض ثبوته ـ نهي غيري ، وهو لا يكشف عن وجوب المفسدة في المتعلّق فلا يكون ملازماً للفساد ، وإنّما يدلّ النهي على الفساد إذا كان كاشفاً عن وجود المفسدة في المتعلّق على نحو يكون مبغوضاً للمولى وهو من خصائص النهي النفسي لا الغيري كما في المقام. (1)
    هذا من غير فرق بين كون النهي مستفاداً من مسلك المقدمية أو مسلك الملازمة.
    أمّا الأوّل فهو واضح ، لأنّ ترك الصلاة مقدّمة لفعل الإزالة فيكون واجباً ويتعلّق به الأمر ، لكن الأمر بترك الإزالة أمر مقدّمي يتولّد منه نهي غيري آخر ، وهو النهي عن الصلاة بذريعة انّ الأمر بالشيء ( ترك الصلاة ) يقتضي النهي عن ضدّه العام أي النقيض وهو الصلاة.
    وأمّا الثاني فقد عرفت أنّ استنباط النهي متوقّف على أنّ الأمر بالإزالة مقتض للنهي عن الضد العام ، أعني : ترك الإزالة ، وهذا النهي غيري يتولّد منه نهي آخر عن الصلاة لكونها ملازمة لترك الإزالة ، والمتلازمان متحدان حكماً.
    ولعلّنا نرجع إلى الإجابة عن هذا الإشكال.
    الثاني : ما ذكره بهاء الدين العاملي من أنّ التكليف لإثبات النهي عن
1. تهذيب الأُصول : 1/300.

(32)
الصلاة أمر لا طائل تحته ، إذ لا نحتاج في الحكم بفساد الصلاة إلى النهي ، بل يكفي عدم الأمر بالصلاة ، وهو أمر متفق عليه لظهور سقوط الأمر بالصلاة بعد الأمر بالإزالة ، فكون الصلاة غير مأمور بها يكفي في فسادها.
    ثمّ إنّ القوم حاولوا الإجابة عن هذا الإشكال بوجوه ثلاث :
    الأوّل : كفاية وجود الملاك في صحّة العبادة ولا يلزم قصد الأمر ، وهذا ما أجاب به المحقّق الخراساني.
    الثاني : كفاية قصد الأمر المتعلق بالطبيعة وإن كان الفرد المزاحَم فاقداً للأمر ، وهو المستفاد من كلمات المحقّق الثاني.
    الثالث : تصحيح الأمر بالصلاة عن طريق الترتب.
    وإليك دراسة الجميع واحداً تلو الآخر :
    الأوّل : كفاية وجود الملاك في صحّة العبادة
    ذهب المحقّق الخراساني إلى أنّ الصحّة ليست رهن تعلّق الأمر بالعبادة فقط ، بل الصحّة أعمّ من الأمر ، ويكفي فيها أيضاً وجود الملاك والرجحان الذاتي في العبادة ، إذ الفرد المزاحم من العبادة وغير المزاحم سيّان في الملاك والمحبوبية الذاتية ، إذ غاية ما أوجبه الابتلاء بالأهم هو سقوط أمره وأمّا سقوط ملاكه ورجحانه الذاتي وكونه معراج المؤمن وقربان كلّ تقي فهو بعد باق عليه.
    فإن قلت : إنّ العلم بوجود الملاك فرع تعلّق الأمر بالصلاة والمفروض سقوطه ، ومعه كيف يعلم الملاك وانّها صالحة للتقرب. وبعبارة أُخرى كما أنّ النهي يكشف عن عدم الملاك ، فكذلك الأمر يكشف عن وجوده ، ومع فقد الأمر فمن أين نستكشف وجود الملاك ؟


(33)
    قلت : إنّ المقام من قبيل المتزاحمين لا المتعارضين ، والملاك في كلّ من المتزاحمين موجود على نحو لولا التزاحم لكان الفرد الموسَّع مأموراً به ، وهذا معنى اشتماله على الملاك وإن لم يكن مأموراً به بالفعل ، حتّى أنّ المحقّق النائيني جعل قصد الملاك أقوى في حصول التقرب من قصد الأمر ، فقال : لم يدل دليل على اعتبار أزيد من قصد التقرب بالعمل في وقوعه عبادة ، وأمّا تطبيقه على قصد الأمر فإنّما هو بحكم العقل ، وقصد الملاك لو لم يكن أقوى في حصول التقرب بنظر العقل من قصد الأمر فلا أقلّ من كونه مثله. (1)
    الثاني : كفاية قصد الأمر المتعلّق بالطبيعة
    وهذا الجواب مستنبط من كلام المحقّق الكركي وإن لم يكن هو بصدد الإجابة على إشكال بهاء الدين العاملي لتقدّم عصره عليه.
    وحاصل ما يستنبط من كلامه انّ البحث عديم الثمرة في المضيقين دون المضيّق والموسّع.
    أمّا الأوّل كإنقاذ الغريقين اللذين أحدهما أهمّ من الآخر ، فإنّ الأمر بالأهم يوجب سقوط الأمر بالمهم مطلقاً عن الفرد والطبيعة ، إذ ليس لها إلا فرد واحد مزاحم بالأهم.
    وأمّا الثاني فتظهر فيه الثمرة ، فأمّا إذا بنينا على عدم تعلّق النهي بالضد كما هو مفروض الإشكال فغايته انّه يوجب سقوط الأمر بالطبيعة المتحقّقة في الفرد المزاحم لعدم القدرة على الإتيان به شرعاً ، وهـو في حكم عـدم القـدرة عقلاً ، لا سقوط الأمر عن الطبيعة بوجودها السعيّ ، بل الأمر بها باق لعدم اختصاص
1. أجود التقريرات : 1/265 ؛ المحاضرات : 3/71 ـ 73.

(34)
تحقّق الطبيعة بالفرد المزاحم.
    إذا عرفت ذلك نقول : إنّ الفرد المزاحم وإن لم يكن من مصاديق الطبيعة المأمور بها ولكنّه من مصاديق مطلق الطبيعة ، وملاك الامتثال إنّما هو انطباق عنوان الطبيعة على الفرد الخارجي لا كون الفرد الخارجي بشخصه مأموراً به ، فهو مصداق الطبيعة وإن لم يكن مصداق الطبيعة المأمور بها.
    وبعبارة أُخرى : انّ الثابت هو سقوط الأمر عن هذا الفرد فواضح ، لا سقوطه عن الطبيعة ، وذلك لأنّ الواجب الموسّع له أفراد غير مزاحمة وإنّما المزاحمة بين المضيق والفرد المزاحم من الموسع ، فيأتي الفرد بنية الأمر بالطبيعة باعتبار انّ لها مصاديق غير مزاحمة.
    هذا هوالمستفاد من كلام المحقّق الكركي في « جامع المقاصد » في كتاب الدين. (1)
    يلاحظ عليه : أنّ الأمر المتعلّق بالطبيعة يتصوّر على أقسام :
    1. أن يكون وجوبها إنشائياً مادام الأهم غير مأتي به.
    2. أن يكون وجوبها فعلياً والواجب استقبالياً ، والمراد من الاستقبالي تعيّن الإتيان بالمهم بعد الإتيان بالأهم.
    3. أن يكون الوجوب والواجب فعليّين.
1. قال فيه : لا نسلم لزوم تكليف ما لا يطاق إذ لا يمتنع أن يقول الشارع : أوجبت عليك كلاً من الأمرين لكن أحدهما مضيق والآخر موسّع ، فإنّ قدّمت المضيّق فقد امتثلت وسلمت من الإثم ، وإن قدّمت الموسّع فقد امتثلت وأثمت بالمخالفة في التقديم. ( جامع المقاصد : 5/12 ). ولم نجد فيه عبارة تصلح سنداً لما ذكره شيخنا الأُستاذ ـ مدّ ظله ـ في المتن ، وهو أعرف بمواقع كلمات الفقهاء.

(35)
    لكن الأمر الإنشائي لا يمكن التقرّب به ، لأنّ المفروض عدم بلوغ إرادة المولى حدّ الطلب الجدّي.
    وعلى الثاني لا يصحّ الإتيان بالفرد المزاحم ، لأنّ المفروض انّ الطبيعة مقيدة بالزمان المتأخّر عن الإتيان بالأهم.
    وأمّا الثالث وهو يستلزم أن يكون كلّ من الوجوب والواجب فعليين ، فهو يستلزم الأمر بالضدين.
    فالإتيان بالمهم في الأمر المتعلّق بالطبيعة لا ينجع ، لأنّه بين كون الأمر إنشائياً أو الواجب استقبالياً وبين استلزامه طلب الضدين.
    أضف إلى ذلك هو انّ الأمر المتعلّق بصرف الوجود أو نفس الطبيعة باعثاً وداعياً بالنسبة إلى هذا الفرد أو لا ؛ فعلى الأوّل يلزم التكليف بالضدّين ، وعلى الثاني لا يصحّ الإتيان بهذا الفرد بنية الأمر المتعلّق بالطبيعة لافتراض عدم باعثيته له.
    هذا فإذا كان الجواب الأوّل ـ أي إتيان الصلاة بملاكها أو إتيانها بلحاظ الأمر المتعلّق بالطبيعة ـ ناجعاً في إضفاء الصحة على الصلاة فهو ، وإلا فلابدّ من سلوك طريق آخر ، وهو تصوير تعلّق الأمر بالمهم مشروطاً بعصيان أمر الأهم وهذا هو البحث المعروف بالترتب ، لترتب الأمر المتعلق بالمهم على عصيان الأمر الأهم.


(36)
الأمر بالضدين على نحو الترتّب
    إنّ الترتّب من المسائل الشائكة التي تضاربت فيه الأقوال والآراء ، وبما انّها من أُمّهات المسائل الأُصولية التي يستنبط بها مسائل مختلفة كما سنشير إليها ، نقدم أُمّوراً قبل الخوض في صلب الموضوع.
    الأوّل : الفرق بين التعارض والتزاحم
    يستعمل لفظ التزاحم في هذا الباب ومبحث اجتماع الأمر والنهي ، فلابدّ من توضيح المراد في المقام فقط ، فنقول :
    لا شكّ انّ التعارض والتزاحم يجمعهما وجود التنافي بين الدليلين وإنّما الاختلاف في مصبِّه ، فنقول :
    إنّ التعارض عبارة عن تنافي الدليلين في الجعل والإنشاء بأن يستحيل من المقنن الحكيم ، صدور حكمين أو جعلين حقيقيين لغاية الامتثال فهو التعارض ويعرف بالتنافي بين مدلولي الدليلين في مقام الجعل والإنشاء.
    مثلاً يستحيل على الحكيم أن يحرّم بيع العذرة وفي الوقت نفسه أن يبيحها فيقول : ثمن العذرة سحت ثمّ يقول : ولا بأس ببيع العذرة ، إذ لا تنقدح الإرادتان المتضادتان في نفس المقنن على وجه الجد ، فيُعلم كذب أحد الدليلين وعدم صدور واحد منهما في مقام التشريع.
    ثمّ إنّ التكاذب بين الدليلين تارة يكون بالذات كما في المثال المذكور ،


(37)
وأُخرى بالعرض ، كما إذا ورد الدليل على وجوب صلاة الظهر وصلاة الجمعة في يومها ، فانّ الدليلين خاليان من التنافي في مقام الجعل ، إذ لا مانع من إيجاب صلاتين في وقت واحد يسع كلاً منهما لكن بعد ما علمنا أنّ الشارع لم يكتب يوم الجمعة على المكلّف إلا فريضة واحدة ، عرضهما التكاذب بالعرض.
    نعم لا يشترط في التعارض التنافي في مقام الامتثال ، بل يمكن أن يكون المتعارضان ممكني الامتثال ، كما إذا دلّ أحد الدليلين على وجوب الشيء والآخر على استحبابه أو إباحته ؛ كما يمكن أن يكون ممتنعي الامتثال ، كما إذا دلّ أحدهما على الوجوب والآخر على الحرمة والجامع بين عامة الأقسام وجود التكاذب في مقام الجعل والإنشاء.
    وأمّا التزاحم فهو عبارة عن وجود التنافي بين الحكمين في مقام الامتثال بمعنى عدم المنافاة في مقام الجعل والتشريع ، بل الحكمان في ذلك المقام متلائمان غير أنّ عجز المكلّف وقصور قدرته صار سبباً لحدوث التنافي بين الدليلين ، كما في قولك « انقذ أخاك » و « انقذ عمّك » فجعل الحكمين والأمر بإنقاذ كلا الشخصين ليس فيه أي تناف في مقام الإنشاء ، ولذلك لو ابتلى المكلّف بهما متعاقباً لا مجتمعاً تمكّن من الامتثال ، وإنّما التنافي في مقام الامتثال عندما ابتلي بهما جمعاً.
    ومثله المقام فإذا قال المولى أزل النجاسة عن المسجد وقال : ( أَقِمِ الصَّلاةَ لدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلى غَسَقِ اللَّيلِ ) (1) فليس هناك أيّ تناف بين الدليلين لا في مقام الجعل كما هو واضح لاختلاف الموضوعين ، بل ولا في مقام الامتثال ، كما إذا ابتلى بأحدهما بعد الآخر ، وإنّما التنافي فيما إذا ابتلى بهما معاً حيث يعجز عن القيام بالأمرين معاً.
1. الإسراء : 78.

(38)
    وهذا هو المسمّى بالتزاحم بمعنى انّ صرف القدرة في أحدهما يمنع المكلّف عن الصرف في الآخر.
    ثمّ اعلم أنّ تفسير التعارض والتزاحم على هذا النحو هو خيرة المحقّق النائيني وتلاميذ مدرسته ، وقد خالف في تفسيره المحقّق الخراساني وسيوافيك تفسيره في باب اجتماع الأمر والنهي عند الكلام في الأمر الثامن والتاسع من مقدّمات البحث.
    الثاني : مرجحات التعارض غير مرجحات التزاحم
    إذا كان التعارض يختلف بجوهره عن التزاحم فمرجّحات الأوّل غير مرجّحات الثاني ، أمّا الأوّل فبما انّ التعارض هناك يرجع إلى مقام الجعل والتشريع فتمييز الصادق عن الكاذب رهن المرجحات التي يذكرها الشارع لتلك الغاية وليس للعقل إليها سبيل ، وستوافيك تلك المرجحات في المقصد الثامن عند البحث عن التعادل والترجيح ، وأمّا مرجحات باب التزاحم فبما انّ التنافي خارج عن مصب التشريع ولا صلة له بالشارع وإنّما يرجع إلى قصور قدرة المكلّف عن الامتثال ، فللعقل سبيل إلى تعيين المرجّحات وهو تقديم الأهم بالذات أو بالعرض على غيره.
    وعناوين تلك المرجّحات عبارة عن الأُمور التالية :
    1. تقديم ما لا بدل له على ما له بدل.
    2. تقديم المضيق على الموسع.
    3. تقديم الأهم بالذات على المهم.
    4. سبق أحد الحكمين زماناً.


(39)
    5. تقديم الواجب المطلق على المشروط.
    وبما انّا قد استوفينا الكلام فيها ـ تبعاً لشيخنا الأُستاذ ـ مدّ ظلّه ـ في باب التعادل والتراجيح نطوي الكلام فيها وإن شئت فراجع « إرشاد العقول ». (1)
    الثالث : في تعريف الترتّب
    إنّ الترتّب عبارة عن تعلّق أمر فعلي بواجب أهم على وجه الإطلاق بلا تقييد بشيء وتعلّق أمر فعلي آخر بضدّه المهم مشروطاً بعصيان ذلك الأمر المتعلّق بالأهم على نحو الشرط المتأخر أو بالعزم على عصيانه ، وتظهر حقيقة الترتّب في المثالين الأخيرين.
    أ. إذا كان الواجبان مضيّقين ، كما إذا قال المولى : انقذ ولدي فإن عصيت فأنقذ الأجنبي.
    ب. إذا كان أحد الواجبين مضيّقاً والآخر موسّعاً كما إذا قال : أزل النجاسة فإن عصيت فصلِّ.
    فعلى كلا التقديرين يكون أحـد الأمرين مطلقاً والآخر مشروطاً بالعصيان.
    الرابع : صحّة الترتّب وعدمها عقلي
    البحث عن صحّة الترتّب وعدمها بحث عقلي لا دخالة للّفظ فيه وذكره في أبواب مباحث الألفاظ كذكر أحكام الملازمات في باب الأوامر مع أنّ البحث فيها عن الملازمة العقلية.
1. إرشاد العقول : 2/310 ـ 314 ، من المباحث العقلية.

(40)
    الخامس : الترتّب يكفي في وقوعه إمكانه
    إنّ مسألة الترتّب من المسائل التي يكفي في وقوعها إمكانها ، وذلك لأنّه إذا ابتلى المكلّف في أوّل الظهر مثلاً بواجبين أحدهما مضيق والآخر موسّع ، فيدور الأمر لأجل رفع التنافي بين أحد الأمرين :
    أ. إمّا رفع اليد عن نفس الأمر بالمهم مطلقاً والقول بسقوطه كما عليه شيخنا بهاء الدين العاملي حيث زعم انّ الأمر بالإزالة موجب لسقوط الأمر بالصلاة مطلقاً.
    ب. رفع اليد عن إطلاق الأمر بالمهم بأن يُقيّد بعصيان أمر الأهم ، فلو كان تقييد الأمر بالمهم كافياً لرفع التنافي فلا وجه لرفع اليد عن أصل الأمر ، لأنّ الضروريات تتقدر بقدرها ، فمن صحّح الترتّب أخذ به ، ومن لم يصحّحه رفع اليد عن الأمر بالمهم أساساً.
    السادس : الأمر بالمهم فعليّ كالأهم
    إنّ واقع الترتّب يقوم على أساس توجه أمرين فعليين إلى المكلّف أحد الأمرين مطلق والآخر مشروط.
    وبعبارة أُخرى ففي الوقت الذي يكون الأمر بالمهم ( الصلاة ) فعلياً يكون الأمر بالإزالة أيضاً فعلياً لم يَسقط بعدُ لا بالامتثال ولا بالعصيان ، فلأجل تصحيح الجمع بين الأمرين الفعليين يبقى الأمر بالأهم على إطلاقه ، ويُقيّد الأمر بالمهمّ بالعصيان على نحو يكون الأمر معه فعليّاً أيضاً. ولذلك لابدّ من الدقة في الشرط الذي يخرج الأمر بالمهم عن إطلاقه ويصيره مشروطاً مع كونه فعلياً أيضاً.


(41)
    فالجمع بين هذه الأُمور :
    أ : كون الأمر بالمهم مشروطاً.
    ب : كون الأمر بالمهم فعلياً.
    ج : كون الأمر بالأهم غير ساقط بعد.
    أمر دقيق يحتاج إلى مزيد من النظر.
    فالذي يمكن أن يجمع بين هذه الأُمور هو عبارة عن جعل الشرط ( العصيان ) بالنحو التالي :
    جعل العصيان شرطاً للأمر بالمهم لكن على نحو الشرط المتأخر لا المتقدم.
    والمراد من الشرط المتأخر للتكاليف هو ما يكون الشرط متقدماً لحاظاً ومتأخراً وجوداً ، وفي المقام انّ المولى يتصور عصيان العبد بالنسبة إلى الأمر بالأهم في المستقبل ، ففي ذاك الظرف الذي يكون العصيان متقدماً لحاظاً ومتأخراً وجوداً يأمر بالمهم ويقول : وإن عصيت فصلِّ.
    فالشرائط الثلاثة الآنفة الذكر محقّقة :
    1. انّ الأمر بالمهم مشروط بالعصيان بنحو الشرط المتأخر.
    2. كون الأمر بالمهم فعلياً لوجود شرطه وهو العصيان لكن بنحو الشرط المتأخر بمعنى تحقّقه لحاظاً لا خارجاً ، وإلا فلو تحقق خارجاً لسقط الأمر بالإزالة ولا يوجد في ظرف التكليف إلا الأمر بالمهم.
    3. والأمر بالأهم غير ساقط ، لأنّه إنّما يسقط بالطاعة أو بالعصيان الخارجي المتقدّم على الأمر بالصلاة والمفروض انتفاؤهما.
    أمّا الامتثال فظاهر ، وأمّا العصيان فالمفروض انّه لم يتحقّق بعدُ كما هو


(42)
مقتضى أخذ العصيان على نحو الشرط المتأخر وجوده ، وبذلك يعلم سرّ أخذ الشرط على نحو الشرط المتأخر لا المتقدّم بوجوده ولا المقارن ، لأنّ العصيان المتقدم بوجوده يوجب سقوط الأمر بالإزالة وانحصار التكليف بامتثال الأمر المهم.
    وأمّا العصيان المقارن فلأنّ الكلام في الأُمور التدريجية ولا يتصوّر فيها العصيان التدريجي ، بل في الأُمور الدفعية كعصيان الأمر بإنقاذ الولد شرطاً مقارنها للأمر بإنقاذ الأجنبي.
    فكما يمكن أن يكون العصيان الخارجي شرطاً للأمر بالمهم لكن بنحو الشرط المتأخر يمكن أن يكون الشرط المأخوذ في المهم هو عزم المكلّف بالعصيان ، والفرق بين الأمرين واضح.
    ففي الأوّل يكون الشرط هو العصيان الخارجي بوجوده المتأخر ومرجعه إلى لحاظ المولى العصيان شرطاً.
    وأمّا الثاني فالشرط هو نية المكلّف وعزمه على العصيان ، ومن المعلوم أنّ التكليف بالأهم لا يسقط بالعزم والنية فيكون الأمران فعليين متجانسين.
    وبذلك تختلف مسألة عزم العصيان مع العصيان المتقدم حيث إنّ الأوّل لا يوجب سقوط التكليف بالأهم بخلاف الثاني.
    إذا علمت ذلك فلنرجع إلى تقرير الترتّب. وقد ذكر له تقريبات مختلفة نأتي بها واحد بعد الآخر.


(43)
    قد قرر صاحب الكفاية دليل جواز الترتّب بالنحو التالي :
    إنّه لا مانع عقلاً عن تعلّق الأمر بالضدّين كذلك أي بأن يكون الأمر بالأهم مطلقاً والأمر بغيره معلقاً على عصيان ذلك الأمر ( على نحو الشرط المتأخر ) أو البناء والعزم عليه بل هو واقع كثيراً عرفاً. (1)
    نقد المحقّق الخراساني دليل القائل بالترتّب
    إنّ المحقّق الخراساني نقد الدليل المذكور بما هذا بيانه :
    إنّ ملاك الامتناع في الأمرين المطلقين متوفر في الأمرين اللذين أحدهما مطلق والآخر مشروط ، فانّ ملاك امتناع الأمريـن العرضيين عبـارة عن استـلزامهما طلب الضدين ، فإذا قال : أزل النجاسة وفي الوقت نفسه صلِّ ، فمعنى ذلك طلب الضدّين مع عدم تمكين المكلّف من صرف القدرة إلا في امتثال أحد الأمرين.
    فإذا كان هذا ( طلب الضدين ) هو الملاك في امتناع الأمرين العرضيين المطلقين ، فهو أيضاً موجود في الأمرين اللذين أحدهما مطلق والآخر مشروط ، وذلك لأنّ الأمر بالمهم وإن لم يكن في مرتبة الأمر بالأهم لكن الأمر بالأهم موجود
1. الكفاية : 1/213.

(44)
في رتبة الأمر بالمهم ، فانّ المفروض انّ الأمر بالأهم لم يسقط بعدُ لا بالامتثال ولا بالعصيان فيكون في رتبة الأمر بالمهم ، فيجتمع أمران فعليان في رتبة الأمر بالمهمّ وإن لم يكونا كذلك في رتبة الأمر بالأهمّ.
    وبعبارة أُخرى : في المرتبة التي للأمر بالأهم دعوة إلى نفسه ليس للأمر بالمهم دعوة إلى امتثال نفسه ولكن في المرتبة التي للأمر بالمهم دعوة إلى متعلّقه فللأمر بالأهم أيضاً دعوة وطلب ، لافتراض انّه بعدُ لم يسقط ، لأنّ الشرط هو العصيان على نحو الشرط المتأخر.
    هذا هو الإشكال الذي اعتمد عليه المحقّق الخراساني في نفي الترتّب ، والذي عاقه عن تصويبه هو اجتماع الأمرين في مرتبة الأمر بالمهم وإن لم يكن اجتماع في مرتبة الأمر بالأهم.
    تحليل نظرية المحقّق الخراساني
    إنّ الملاك في استحالة توجه أمرين مطلقين إلى المكلّف ليس هو طلب الضدّين ، بل طلب الجمع بين الضدّين ، فانّ طلب الضدّين إذا لم يكن هناك طلبُ جمع بينهما فلا مانع منه كما في الأمر بالسكون في ظرف والأمر بالحركة في ظرف آخر ، وإنّما الملاك في الاستحالة هو أن تكون نتيجة الأمرين هو طلب الجمع بينهما في زمان واحد ، وهذا الملاك موجود في الأمرين المطلقين دون المطلق والمشروط ، فهاهنا دعويان :
    الأُولى : انّ نتيجة الأمرين المطلقين هي طلب الجمع بين الضدّين حيث يقول : أزل النجاسة وفي الوقت نفسه صلِّ صلاة الظهر ، فهو يطلب في زمان واحد صدور أمرين متضادين وهما بمعنى الجمع بين الضدين ، لأنّه جعَل ظرف امتثال


(45)
الأمر الأوّل ، نفس ظرف امتثال الأمر الثاني بشهادة انّه قال : وفي الوقت نفسه صلِّ.
    الثانية : انّ نتيجة الأمرين اللذين أحدهما مطلق والآخر مشروط هو طلب الضدين لا طلب الجمع بين الضدين ، وذلك لأنّه يطلب الإزالة بلا قيد وشرط كما هو مقتضى الإطلاق.
    ولكن يطلب الصلاة في ظرف انصراف المكلّف عن امتثال الأمر بالإزالة ، فتكون النتيجة طلب الضدين لا طلب الجمع بينهما ، وإنّما يلزم طلب الجمع بين الضدّين لو طلب الأمر بالمهم حتّى في ظرف إرادته لامتثال الأمر بالأهم والمفروض خلافه.
    وبعبارة أُخرى : انّ المولى يلاحظ انّ للمكلّف حالتين :
    تارة يريد صرف قدرته في الأمر بالأهمّ ، وهذا هو الذي يبعثه الأمر بالأهم إلى امتثاله.
    وأُخرى لا يريد صرف قدرته فيه فلا يبعثه الأمر بالأهم إلى امتثاله لبعض الملابسات ولكن يوجد في نفسه داع إلى امتثال الأمر بالمهم ، ولأجل رعاية كلتا الحالتين يأمر بالأهم وفي ظرف العصيان على نحو الشرط المتأخر يأمر بالمهم.
    وبذلك يظهر انّ شيئاً من الأُمور التالية ليس مانعاً من توجيه أمرين إلى المكلّف على نحو الترتب.
    1. اجتماع أمرين فعليين.
    2. كون الأمر بالأهم في رتبة الأمر بالمهم.
    3. استلزام اجتماعهما في مرتبة الأمر بالمهم طلب الضدين.
إرشاد العقول إلى مباحث الأصول الجزء الثاني ::: فهرس