إرشاد العقول إلى مباحث الأصول الجزء الثاني ::: 16 ـ 30
(16)
    استدلّ القائل بالمقدّمية بالنحو التالي :
    إنّ توقّف الشيء على ترك ضدّه ليس إلا من جهة المضادة والمعاندة بين الوجودين وقضيتهما الممانعة بينهما ، ومن الواضح انّ عدم المانع مـن المقدمات.
    وحاصل الاستدلال : انّ الصلاة مانعة عن الإزالة ، وعدم المانع من أجزاء العلة ، وجزء العلة ككلّ العلّة مقدّمة.
    وقد ناقش صاحب الكفاية هذه المقدّمة بوجوه :
    المناقشة الأُولى : بينهما كمال الملائمة لا المقدمية
    إنّ المعاندة والمنافرة بين الشيئين لا تقتضي إلا عدم اجتماعهما في التحقّق بحيث لا منافاة أصلاً بين إحدى العينين وما هو نقيض الآخر ( كالإزالة وعدم الصلاة ) ، بل كان بينهما كمال الملائمة ، فإنّ إحدى العينين مع نقيض الآخر في مرتبة واحدة من دون أن يكون في البين ما يقتضي تقدم أحدهما على الآخر. (1)
    وحاصل المناقشة : انّ المعاندة بين العينين وكمال الملائمة بين إحدى العينين ونقيض الآخر يقتضي انّ الجميع في رتبة واحدة ، وما يكون في رتبة واحدة
1. الكفاية : 1/206.

(17)
لا يمكن أن يعد إحداهما مقدّمة للآخر. (1)
    ثمّ إنّ المحقّق النائيني نقد هذه المقدمة ، وقال :
    إنّ المانع هو ما يوجب المنع عن رشح المقتضي ، بحيث لولاه لأثر المقتضي أثره من إفاضة الوجود إلى المعلول فيكون الموجب لعدم الرشح والإفاضة هو وجود المانع ، وهذا المعنى من المانع لا يتحقّق إلا بعد فرض وجود المقتضي بما له من الشرائط فانّه عند ذلك تصل النوبة إلى المانع ويكون عدم الشيء مستنداً إلى وجود المانع ، وأمّا قبل ذلك فليس رتبة المانع ، لوضوح أنّه لا يكون الشيء مانعاً عند عدم المقتضي أو شرطه ، فلا يقال للبلّة الموجودة في الثوب أنّها مانعة عن احتراق الثوب إلا بعد وجود النار وتحقّق المجاورة والمماسة بينها وبين الثوب ، وحينئذ يستند عدم احتراق الثوب إلى البلّة الموجودة فيه.
    ويترتب على ذلك عدم إمكان مانعية أحد الضدّين.
    وذلك لأنّه لا يتصوّر المانعية للصلاة إلا بعد تحقّق أمرين متضادين :
    1. وجود العلّة التامة الشاملة للمقتضي لتحقّق الصلاة في الخارج.
    2. وجود المقتضي والشرط للإزالة حتّى تكون الصلاة مانعة.
    وذلك يستلزم وجود المقتضيين للضدّين ، فكما أنّه لا يمكن اجتماع الضدّين ، كذلك لا يمكن اجتماع مقتضي الضدّين لتضاد مقتضيهما أيضاً ، وبعد عدم إمكان اجتماع مقتضي الضدّين لا يمكن كون أحدهما مانعاً عن الآخر. (2)
1. ثمّ إنّ المحقّق الاصفهاني ناقش جواب المحقّق الخراساني كما ناقش السيد الإمام الخميني كلام المحقّق الاصفهاني ، وقد نقلهما شيخنا الأُستاذ ـ مدّ ظلّه ـ في الدورة السابقة كما نقل نظره في كلام الإمام السيد الخميني ، ومن أراد التفصيل فليرجع إلى كتاب « المحصول » لزميلنا السيد الجلالي المازندراني حفظه اللّه.
2. فوائد الأُصول : 1/307 ـ 308.


(18)
    ثمّ إنّ أساس الإشكالين السابقين من المحقّق الخراساني والمحقّق النائيني كان مبنياً على تسليم كون عدم المانع مقدمة ولكن نوقش في خصوص كون عدم الضدّ مقدّمة لترك الضدّ.
    وبعبارة أُخرى : كانت المناقشة في الصغرى مع قبول الكبرى ولكن الحقّ المناقشة في الكبرى وانّ عدم المانع على وجه الإطلاق من غير فرق بين المقام وغيره كعدم الرطوبة بالنسبة إلى الاحتراق ليس مقدّمة.
    وذلك لأنّ الأصل في الخارج هو الوجود ، والعدم ليس له أيّ أصالة فيه وإنّما هو مفهوم ذهني يصنعه الذهن بتعمل ، مثلاً انّ الإنسان إذا دخل القاعة أملاً برؤية زيد ولم يره فيها ، فهو في الواقع لم ير شيئاً ولم يجد فيها شيئاً لا انّه يرى عدمه فيها ، لكن الذهن بالتعمل يصنع من هذا مفهوماً ذهنياً باسم العدم مع خلو صفحة الوجود عنه.
    وعلى ضوء ذلك فلا معنى لجعل عدم المانع من أجزاء العلة ، إذ ليس له شأن التأثير أو التأثر ولا الموقوف ولا الموقوف عليه.
    نعم لما كان وجود الضد مزاحماً لوجود الضد الآخر عُبِّر عن هذا التزاحم بأنّ عدم الضدّ شرط لوجود الضد الآخر ، وكم فرق بين القول بأنّ الضدّ مزاحم ، والقول بأنّ عدمه شرط.
    وبعبارة أُخرى : انّ رطوبة الحطب أو القطن مانعة من تأثير المقتضي أي النار فيهما لا أنّ عدم الرطوبة شرط. فالأحكام كلّها للوجودات ( الرطوبة مانعة ) وينسب إلى الاعدام ( عدم الرطوبة شرط بالعرض والمجاز ) ، وإلى ذلك يشير المحقّق السبزواري في منظومته وشرحه ما هذا لفظه :


(19)
    لا ميز في الاعدام من حيث العدم وهو ، لها إذاً بوهم ترتسم
    كذاك في الأعدام لا عليّة وإن بها فاهوا فتقريبية
    فلو قالوا : عدم العلّة علّة لعدم المعلول ، فهو على سبيل التقريب ، فانّ الحكم بالعلّية عليه ، بتشابه الملكات ، فإذا قيل : عدم الغيم علّة لعدم المطر ، فهو باعتبار انّ الغيم علّة للمطر ، فبالحقيقة قيل : لم تتحقّق العلّية التي كانت بين الوجودين ، وهذا كما تجري أحكام الموجبات على السوالب في القضايا ، فيقال : سالبة ، حملية ، أو شرطية ، متصلة أو منفصلة أو غيرها كلّ ذلك بمتشابه الموجبات. (1)
    وعلى ضوء هذا يظهر ضعف ما أفاده المحقّق الاصفهاني حيث رأى أنّ لاعدام الملكات واقعية لكونها أمراً منتزعاً من الخارج فقال :
    الاستعدادات والقابليات وأعدام الملكات كلّها ، لا مطابَق لها في الخارج ، بل شؤون وحيثيات انتزاعية لأُمور موجودة ، فعدم البياض في الموضوع ـ الذي هو من أعدام الملكات كقابلية الموضوع ـ من الحيثيات الانتزاعية منه « فكون الموضوع بحيث لا بياض له » هو بحيث يكون قابلاً لعروض السواد فمتمم القابلية كنفس القابلية حيثية انتزاعية. (2)
    وجه الضعف : انّ ما ذكره صحيح في الاستعداد والقابلية وحتى الإضافة فانّ القابلية في النواة والنطفة أمر تكويني موجود فيها دون الحجر ، وهكذا الإضافة كالأُبوّة والبنوّة ، فانّهما ينتزعان من حيثية وجودية من تخلّق الابن من ماء الأب ،
1. شرح المنظومة ، قسم الحكمة ، ص 47 ، نشر دار العلم.
2. نهاية الدراية : 1/220.


(20)
فلكلّ واقعية بواقعية مبدأ انتزاعهما ، وأمّا الاعدام فليس لها واقعية سوى واقعية ملكاتها ، فالواقعية في عدم البياض هي لنفس البياض دون عدمه وفي عدم البصر لنفس البصر لا للعدم.
    وما أفاده من أنّ متمّم القابلية كنفس القابلية مشيراً إلى أنّ « عدم المانع » متمم للقابلية ضعيف جداً ، فانّ قابلية الجسم لقبول البياض تامة لا نقص فيها ، وأمّا عدم قبوله له مع وجود السواد ، فليس لأجل نقص في القابلية ، بل لوجود التزاحم بين الوجودين ، فعُبِّر عن التمانع بأنّ عدم المانع شرط.
    وعلى ما ذكرنا فالأولى رفض الكبرى على وجه الإطلاق لا قبولها والمناقشة في الصغرى.
    وبذلك يظهر النظر فيما أفاده السيد العلاّمة الطباطبائي ( قدس سره ) حيث قال : ربما يضاف العدم إلى الوجود ، فيحصل له حظ من الوجود ، ويتبعه نوع من التمايز كعدم البصر الذي هو العمى المتميز من عدم السمع الذي هو الصمم ، وكعدم زيد وعدم عمر المتميز أحدهما عن الآخر. (1)
    يلاحظ عليه : بأنّ التميّز الذهني ، غير كون العدم ذا حظ من الوجود في الخارج ، فكلّ ما ذكره صحيح في الذهن لا في الخارج ، والكلام إنّما هو في الثاني دون الأوّل ، والتميز نوع ارتباط ذهني بين الأمرين الوجوديين فانّ العدم في عدم البصر ، عدم بالحمل الأوّلي ، لكنّه موجود بالحمل الشايع الصناعي.
    ثمّ إنّ للمحقّق الخراساني مناقشتين أُخريين حول المقدّمة الأُولى ، وإليك دراستهما.
1. نهاية الحكمة : 19.

(21)
    المناقشة الثانية : قياس الضدّين بالنقيضين
    إنّ المنافاة بين النقيضين كما لا تقتضي تقدّم ارتفاع أحدهما في ثبوت الآخر كذلك في المتضادين. (1)
    هذه ، هي المناقشة الثانية التي وجّهها المحقّق الخراساني إلى المقدّمة الأُولى ، أعني : كون ترك الضدّ مقدّمة لفعل الضد ، وتوضيحها كالتالي :
    إنّ ارتفاع أحد النقيضين كرفع اللابياض ليس مقدمة لتحقّق النقيض الآخر ( البياض ) مع كمال المنافرة بين النقيضين ( البياض واللابياض ) ، بل رفع أحد النقيضين ملائم لثبوت النقيض الآخر.
    فإذا كان هذا حال النقيضين فليكن حال الضدين أيضاً كذلك لوحدة الملاك وهو المنافرة بين العينين والملائمة بين أحدهما ورفع الآخر ، فلا يكون رفع البياض مقدمة لثبوت الضدّ الآخر.
    وربما تقرّر المناقشة بوجه آخر وهو التمسّك بقانون المساواة ، بيانه :
    إنّ النقيضين كالبياض واللا بياض في رتبة واحدة هذا من جانب ، ومن جانب آخر انّ الضدّين كالبياض والسواد في رتبة واحدة ، فينتج انّ اللا بياض في رتبة الضدّ الآخر أي السواد.
    وذلك لأنّه لو كان اللا بياض في رتبة البياض ، وكان البياض في رتبة السواد ، تكون النتيجة انّ اللا بياض في رتبة السواد لقاعدة التساوي ، فانّ مساوي المساوي للشيء ، مساو لذلك الشيء. (2)
1. كفاية الأُصول : 1/207.
2. المراد من المساوي الأوّل هو اللا بياض ومن الثاني البياض ، والمراد من الشيء هو السواد.


(22)
    يلاحظ عليه : أنّ قانون المساواة إنّما يجري في المسائل الهندسية فيقال : انّ زاوية « أ » مساوية لزاوية « ب » ، وزاوية « ب » مساوية لزواية « ج » ، فينتج انّ زاوية « أ » مساوية لزواية « ج » ، وأمّا التقدّم والتأخّر والتقارن من حيث الرتبة فلا تعمّها القاعدة ، بل ثبوت كلّ تابع لوجود الملاك فيه وقد يوجد الملاك في أحد المساويين دون الآخر ، ولذلك قالوا : إنّ ملازم العلّة ليس متقدماً على المعلول رتبة مع أنّ العلّة متقدمة عليه كذلك وما هو إلا لأنّ ملاك التقدّم وهو نشوء المعلول عن العلّة موجود في العلة لا في ملازمها.
    وعلى ذلك فلو كان البياض متحداً مع السواد رتبة لا يكون دليلاً على أنّ المتحد مع البياض ( اللا بياض ) متّحد مع السواد في الرتبة ، وذلك لفقد الملاك ، لأنّ اتحاد النقيضين في الرتبة لأجل انّه لولا الاتحاد يلزم ارتفاعهما وهو محال مثلاً إذا لم يصدق أحد النقيضين كالبياض فلو قلنا بأنّ النقيضين في رتبة واحدة فلابدّ أن يصدق اللابياض ، ولو نقل ، لا يلزم أن يصدق اللا بياض وعند ذاك يلزم ارتفاع النقيضين ، فظهر انّه لا محيص من القول بوحدة رتبة النقيضين وإلا يلزم ارتفاع النقيضين.
    وهذا بخلاف اللا بياض والسواد فلا يلزم من القول بعدم الوحدة في الرتبة ، سوى ارتفاعهما وعدم صدقهما ولا محذور فيه.
    المناقشة الثالثة : استلزامه الدور
    هذه هي المناقشة الثالثة التي وجهها المحقّق الخراساني إلى كون الضدّ مقدمة للضدّ الآخر ، وبيّنها بالعبارة التالية :
    لو اقتضى التضاد توقّفَ وجود الشيء على عدم ضدّه ، توقّفَ الشيء على


(23)
عدم مانعه ، لاقتضى توقّفَ عدمِ الضدّ على وجود الشيء ، توقّفَ عدم الشيء على مانعه ، بداهة ثبوت المانعية في الطرفين وكون المطاردة من الجانبين ، وهو دور واضح. (1)
    وربما يردّ الدور ـ بما في الكفاية ـ من أنّ توقف وجود أحد الضدين على عدم الآخر فعلي ، ولكن توقّف عدم الآخر على وجود واحد من الضدّين شأني ، مثلاً : انّ وجود السواد في محل متوقف فعلاً على عدم تحقّق البياض فيه ، وأمّا توقّف عدم الضدّ ( البياض ) على وجود الآخر فهو شأني لا فعلي فلا دور.
    أمّا كون التوقّف في جانب الوجود فعلي ، فلوضوح انّ توقّف وجود المعلول على جميع أجزاء علته ومنها عدم المانع فعلي ، لأنّ للجميع دخلاً فعلاً في تحقّقه ووجوده في الخارج ، وأمّا عدم الضدّ فلا يتوقّف على وجود الضدّ الآخر ، لأنّ عدمه يستند إلى عدم المقتضي له لا إلى وجود المانع في ظرف تحقّق المقتضي مع بقية الشرائط ليكون توقّفه عليه فعليّاً.
    وقد أجاب عن الإشكال المحقّق الخراساني (2) بأنّ الدور وإن ارتفع فعلاً لكن لم يرتفع شأناً ، لأنّ عدم الضدّ وإن كان موقوفاً عليه بالفعل ، لوجود الضدّ
1. كفاية الأُصول : 1/207.
2. لا يخفى انّ عبارة الكفاية في هذا المقام لا تخلو من إغلاق وغموض ، وذلك لأجل أمرين :    الأوّل : انّه فصل بين المبتدأ أعني قوله : « وما قيل في التفصي » والخبر أعني قوله : « غير سديد » بفاصل طويل يبلغ مقدار صفحة ، ومثل هذا يخل بالبلاغة.   الثاني : انّه أقحم بين الإشكال على الدور والإجابة عنه سؤالاً وجواباً تحت عنوان « إن قلت ، قلت » ، وزاد هذا تعقيداً على تعقيد.   وذكر شيخنا الأُستاذ ـ مدّ ظلّه ـ انّ السؤال قد طرحه تلميذه الشيخ عبد اللّه الكلبايكاني في درسه الشريف ، وأجاب عنه بما في الكفاية ، فمدّ اللّه عمر شيخنا الأُستاذ فقد أوضح ما في الكفاية بما لا مزيد عليه كما ترى.


(24)
الآخر ، ولكنّه أيضاً موقوف على وجود الضدّ الآخر شأناً ، بحيث لو وجد المقتضي للإيجاد يكون عدمه مستنداً إلى وجود الضدّ وهو أيضاً محال ، ضرورة استلزامه كون شيء مع كونه في مرتبة متقدمة فعلاً ، في مرتبة متأخرة شأناً.
    تحليل المقدّمة الثانية من الاستدلال
    قد عرفت أنّ القائل بأنّ الأمر بالشيء يقتضي النهي عن الضدّ الخاص استدلّ بدليل ذات مقدّمات ثلاث :
    الأُولى : انّ ترك الضدّ مقدّمة لفعل الضدّ الآخر ، وهذا هو الذي تقدّم الحديث عنه.
    الثانية : انّ مقدّمة الواجب واجب ، وقد مرّ الكلام فيه.
    الثالثة : إذا كان ترك الصلاة مقدّمة للإزالة بحكم المقدّمة الأُولى ، وكان ترك الصلاة واجباً بحكم المقدّمة الثانية ، تصل النوبة إلى المقدّمة الثالثة وهي انّ الأمر بالشيء ـ وهو في المقام أمر مقدّمي ، لأنّ ترك الصلاة مقدّمة للإزالة ـ يقتضي النهي عن ضدّه العام أي نقيضه وهو هنا الصلاة ، فتكون الصلاة منهياً عنها.
    وببركة هذه المقدّمات الثلاث يثبت انّ المولى إذا أمر بالإزالة فلا محيص له عن النهي عن الصلاة بحكم هذه المقدّمات.
    أقول : إنّ المقدّمتين التاليتين كالمقدّمة الأُولى باطلتان.
    أمّا الثانية فقد قلنا : إنّ مقدّمة الواجب ليست بواجبة مطلقاً من غير فرق بين المقام وغيره ، لأنّ الهدف من إيجاب المقدّمة هو إيجاد البعث والداعي في ذهن المخاطب ؛ وعندئذ فلو كان المخاطب قاصداً للإتيان بذيها ، فهو يأتي بالمقدّمة


(25)
بحكم العقل من دون حاجة إلى إيجابها ؛ وإن كان صارفاً عن إتيانه ، فلا يبعثه الأمر بالمقدّمة إلى امتثال ذيها لعدم ترتّب العقاب على تركها.
    ومنه يظهر بطلان المقدّمة الثالثة وهو انّه إذا أمر المولى بترك الصلاة بحكم انّه مقدّمة فعليه أن ينهى عن ضدّه العام ـ أعني : ترك ترك الصلاة الذي هو مساو للصلاة ـ فانّ هذا النهي مثل الأمر بالمقدّمة إمّا لغو وإمّا غير باعث ، لأنّه لو كان ناوياً للإزالة فلا حاجة للنهي عن الصلاة ، وإن كان صارفاً عنها فلا يكون النهي عن الصلاة داعياً له إلى امتثال الإزالة.
    وبذلك تمّ الكلام في المسلك الأوّل الذي أسميناه بمسلك المقدّميّة حيث إنّ المستدلّ يتطرق إلى مقصود عن هذا الطريق ، وبدوري أرفع آية الاعتذار إلى القرّاء الأعزاء من الإطناب في هذا البحث ، فانّ طبيعة البحث ألجأتني إليه.


(26)
    قد عرفت أنّ القائل بأنّ الأمر بالشيء يقتضي النهي عن ضدّه العام استدلّ بوجهين :
    أحدهما : مسلك المقدمية وقد مضى الكلام فيه.
    الثاني : مسلك الملازمة والاستدلال عن هذا الطريق مبني على أُمور ثلاثة :
    أ : انّ الأمر بالشيء كالإزالة مستلزم للنهي عن ضدّه العام وهو ترك الإزالة.
    ب : انّ الاشتغال بكلّ فعل وجودي ( الضدّ الخاص ) كالصلاة والأكل ملازم للضدّ العام ، كترك الإزالة حيث إنّهما يجتمعان.
    ج : المتلازمان متساويان في الحكم ، فإذا كان تركُ الإزالة منهياً عنه ـ حسب المقدّمة الأُولى ـ فالضدّ الملازم لها كالصلاة يكون مثلَه. فينتج انّ الأمر بالشيء ـ كالإزالة ـ مستلزم للنهي عن الضدّ الخاص.
    يلاحظ على الأمر الأوّل بما مرّ من المنع عن اقتضاء الأمر النهي عن ضدّه العام ، وانّ مثل هذا النهي المولوي لا يترتّب عليه أي أثر.
    كما يلاحظ على الأمر الثاني بأنّه لا دليل على تساوي المتلازمين في الحكم ، إذ يمكن أن يكون الملاك موجوداً في أحدهما دون الآخر. بأن يكون ترك الإزالة حراماً ولا يكون ملازمة الصلاة حراماً لوجود الملاك في الأوّل دون الثاني.
    نعم يجب أن لا يكون المساوي محكوماً بحكم مضاد لحكم المساوي ، فإذا


(27)
وجب الاستقبال إلى الكعبة لا يجوز أن يحرم الاستدبار إلى الجدي. نعم لا يجب أن يكون الاستدبار واجباً.
    قد فرغنا عن الدليلين اللذين أُقيما على أنّ الأمر بالشيء يقتضي النهي عن ضدّه الخاص ، ولما كانت المقدّمة الأُولى للدليل الأوّل ، هو مقدمية ترك الضدّ ، لفعل الضدّ الآخر ، وقد عرفت بطلانه وكان للمحقّق الخوانساري تفصيلاً في المقام ، أحببت التعرّض له فأقول :
    عود إلى مسلك المقدمية ثانياً
    ذهب المحقّق الخوانساري إلى التفصيل بين الضدّ الموجود والضدّ المعدوم ، فذهب إلى توقّف الضدّ على ارتفاع الضد الموجود ولا يمكن ، فلو كان المحل أسود توقف عروض : البياض على ارتفاع السواد دونما إذا لم يكن أسود.
    وأيّده المحقّق النائيني بقوله : إنّ المحل إذا كان مشغولاً بأحد الضدّين ، فلا يكون قابلاً لعروض الضدّ الآخر إلا بعد انعدامه ، ويكون وجوده موقوفاً على عدم الضدّ الموجود ، وهذا بخلاف ما إذا لم يكن شيء منهما موجوداً وكان المحل خالياً عن كلّ منهما ، فانّ قابليته لعروض كلّ منهما فعلية ، فإذا وجد المقتضي لأحدهما ، فلامحالة يكون موجوداً من دون أن يكون لعدم الآخر دخل في وجوده. (1)
    يلاحظ على أصل الاستدلال بأنّ العدم أنزل من أن يكون موقوفاً عليه أو موقوفاً وحقيقة الأمر انّه يرجع إلى التزاحم بين الوجودين ، فعبّروا عن رفع التزاحم بأنّ ورود أحدهما يتوقّف على عدم الآخر ، ففيما كانت الفاكهة على الشجر سوداء ، وإن كان يمتنع عروض البياض عليها ، لكن لا لأجل كون عدم السواد مقدمة
1. أجود التقريرات : 1/259.

(28)
لعروض البياض ، بل لأجل التزاحم بين الوجودين فعبروا عن التزاحم بكون عدم السواد مقدمة لعروض البياض.
    ويلاحظ على التأييد بأنّه أيضاً كأصل الاستدلال ، إذ لا نقص في قابلية الجسم ، بل هي كاملة سواء أكان الضدّ موجوداً أم لا ، وانّ عروض الضدّ لا يبطل القابلية للجسم ، وعدم قبوله لا للنقص في القابلية بل لأجل وجود التمانع بين الوجودين.
    بحث استطرادي : إنكار المباح أو شبهة الكعبي
    نقل الأُصوليون عن عبد اللّه بن أحمد الكعبي انتفاء المباح وانّ الأحكام تنحصر في الواجب والحرام قائلاً بأنّ ترك الحرام يتوقّف على فعل واحد من أفراد المباح فيجب بوجوبه بحكم كونه مقدّمة.
    وما ذكره من الاستدلال مبنيّ على أُمور ثلاثة :
    الأوّل : انّ النهي عن الشيء يقتضي الأمر بضدّه العام ، فلو كان فعل الشيء حراماً كالكذب كان تركه واجباً ، وهذا نظير ما لو كان فعله واجباً ـ كالإزالة ـ كان تركه حراماً.
    وبالجملة كما يتولد من الأمر بالشيء ، النهي عن الضدّ العام ، فهكذا يتولّد من النهي عنه ، الأمر بالضد العام.
    الثاني : انّ الترك الواجب ( ترك الكذب ) يتوقّف على فعل من الأفعال الاختيارية الوجودية لاستحالة خلو المكلّف عن فعل من الأفعال الاختيارية.
    الثالث : انّ مقدمة الواجب وهي الفعل الاختياري الذي يتوقّف عليه الترك الواجب واجبة فينتفي المباح.


(29)
    يلاحظ على الأمر الأوّل : أنّه لا دليل إذا كان فعل الشيء حراماً أن يكون تركه واجباً لما عرفت من أنّ الأمر بالشيء لا يقتضي النهي عن ضدّه العام ، إذ هو لا يترتّب عليه أيّ أثر.
    ويلاحظ على الأمر الثاني : أنّ الترك الواجب ( ترك الحرام ) لا يتوقّف على فعل من الأفعال الاختيارية الوجودية كالمباح ، وذلك لأنّ ترك الحرام مستند إمّا إلى فقد المقتضي الذي يعبر عنه بالصارف ، أو وجود المقتضي للضد الآخر. مثلاً : انّ ترك الكذب إمّا لأجل الصارف عنه خوفاً من اللّه سبحانه ، أو إلى وجود المقتضي للأضداد الأُخر كالأكل والشرب.
    وعلى كلّ تقدير فالمقدّمة لترك الحرام ( أو للترك الواجب ) أحد الأمرين :
    1. الصارف عن الحرام.
    2. وجود المقتضي لارتكاب الأكل والشرب وبالتالي لا يكون المباح مقدّمة.


(30)
    المحور الثالث
في الثمرة الفقهية
    قد عرفت أنّ الكلام في هذا الفصل يدور على محاور ثلاثة ، وقد مضى الحديث عن المحورين الأوّلين فلا نعود إليهما ، ولنركِّز على المحور الثالث وهو ثمرة البحث ، فنقول :
    إنّ ثمرة البحث هي بطلان الصلاة وصحّتها على القول بالاقتضاء وعدمه ، فلو كان الأمر بالمضيَّق كالإزالة مقتضياً للنهي عن الموسَّع كالصلاة ، فالصلاة تكون محكومة بالبطلان ، ولو نُفِي الاقتضاء فلا تكون منهياً عنها وتكون صحيحة طبعاً.
    نعم مجرّد ثبوت تعلّق النهي بالصلاة لا يكفي في استنتاج المسألة الفقهية بل يجب أن تُضم إليها مسألة أُصولية أُخرى ، وهي انّ النهي في العبادات موجب للفساد.
    وعلى ضوء ذلك فاستنتاج البطلان موقوف على مقدّمتين : صغرى وكبرى.
    فالصغرى أي تعلّق النهي يثبت في المقام.
    وأمّا الكبرى فترجع إلى المقصد الثاني وهو انّ النهي في العبادات يدلّ على الفساد.
    وبذلك يعلم أنّ المسألة الأُصولية تارة تكون علّة تامّة لاستنتاج المسألة
إرشاد العقول إلى مباحث الأصول الجزء الثاني ::: فهرس