إرشاد العقول إلى مباحث الأصول الجزء الثاني ::: 91 ـ 105
(91)
    ثمرة البحث
    تظهر الثمرة في لزوم الكفّارة على من أفطر يوم شهر رمضان مع فقد شرط المأمور به في الواقع ، دون أن يكون المكلّف عالماً به ، كما إذا أفطر ثمّ بدا له السفر قبل الظهر أو مات أو مرض كذلك ، فعلى القول بصحّة التكليف تجب عليه الكفارة بخلاف القول بعدم صحّته ، لفقدان الشرط.
    يلاحظ على الثمرة : أنّ الظاهر لزوم الكفّارة مطلقاً ، إذ ليست الكفّارة دائرة مدار وجوب الصوم وعدمه واقعاً حتّى يقال بأنّ المكلّف لم يكن مكلّفاً بالصوم لفقدان الشرط في الواقع به ، بل تدور على الإفطار بلا عذر والمفروض انّه أفطر بلا عذر ثمّ طرأ عليه العذر.


(92)
    الفصل السابع
هل الأوامر والنواهي تتعلّق بالطبائع أو الافراد ؟
    وقبل الدخول في صلب الموضوع نقدّم أُموراً :
    الأوّل : ليس النزاع في الدلالة اللفظية
    إنّ النزاع لا يختصّ بالأمر والنهي باللفظ بل يعمّ الأمر بالجملة الخبرية أو النهي بمثلها ، كما يعمّ الأمر والنهي بالإشارة فيقع الكلام في الجميع فيما هو المتعلّق للأمر والنهي.
    والذي يعرب عن عمومية محلّ النزاع ما نقل عن السكاكي من اتّفاق علماء العربيّة على أنّ المصدر المجرّد عن اللام والتنوين لا يدلّ إلا على نفس الماهية ، فلو كان النزاع في الدلالة اللفظية لكان اللازم عدم النزاع ، لأنّ المادة في الأمر والنهي هي المصدر المجرّد من اللام والتنوين فلا يدلّ إلا على نفس الماهية ، وهي المتعلّق للأمر ، فيجب على الأُصوليّين الاتّفاق على كون المتعلّق هو الطبيعة ، لكن وجود النزاع يُعرب عن كون محلّه أعمّ من اللفظ والفعل. ومن اللفظ أعم من الإنشاء والإخبار.


(93)
    الثاني : ليس النزاع مبنيّاً على المسائل الفلسفية
    إنّ في الفلسفة مسألتين هامّتين لهما تأثيران في سائر المسائل الفلسفية.
    1. هل الأصل في الخارج ، والمنشأ للأثر هو الوجود أو حدّ الوجود وهو الماهية ؟
    وبعبارة أُخرى : هل المحصّل للغرض هو الوجود وتحقّق الشيء أو المحصّل هو الشيء لكن عند التلبّس بالتحقق ؟
    فربّما يقال بتعلّق الأمر بالفرد على القول الأوّل وبالطبيعة على القول الثاني.
    2. هل الموجود في الخارج هو طبيعي الشيء أو فرده ؟ فعلى الأوّل يكون المتعلّق هو الطبيعة ، وعلى الثاني هو الفرد.
    يلاحظ على كلا الأمرين : بأنّ المسائل الأُصولية مسائل عرفية ، وبتعبير آخر عقلائية لا صلة لها بالمسائل الفلسفية الدقيقة ، فانّ الحاكم في المسائل الفلسفية هو العقل الدقيق ، ولكن الحاكم في المسائل الأُصولية هو العرف الدقيق.
    وعند ذلك لا وجه لابتناء البحوث الأُصولية على البحوث الفلسفية.
    وبذلك يعلم أنّ ما أطنب به المحقّق الاصفهاني ( قدّس اللّه نفسه الزكية ) من أنّ النزاع مبني على أنّ الطبيعي بنفسه موجود أو هو موجود بوجود أفراده تبعيد للمسافة وخروج عن طور البحث في المسائل الأُصولية.

    الثالث : ما هو المراد من الطبيعة ؟
    قد تطلق الطبيعة ويراد بها الماهية الحقيقية التي لو وجدت في الخارج لكانت من إحدى الحقائق الكونيّة وتكون داخلة تحت مقولة واحدة كالإنسان


(94)
الذي هو داخل تحت مقولة الجوهر.
    وقد تطلق على العنوان المنتزع من حقائق متعددة داخلة تحت مقولات مختلفة ، كالصلاة التي هي ليست داخلة تحت مقولة من المقولات ، بل هي عنوان منتزع من حقائق متباينة كالقراءة التي هي من مقولة الفعل ، والجهر والمخافتة اللتين هما من مقولة الكيف ، والركوع والسجود اللذين هما من مقولة الوضع ، ولأجل ذلك توصف الصلاة ، بالماهية المخترعة وهي في الحقيقة عنوان منتزع من ماهيات وحقائق متباينة.
    الرابع : ما هو المراد من الافراد في عنوان البحث ؟
    هذا هو بيت القصيد في المقام وهناك احتمالات :
    1. المراد من الافراد هو المصاديق الخارجية من أفراد الطبيعة بحيث يتعلّق الأمر أوّلاً وبالذات بنفس الفرد لا على العنوان حتّى يكون مرآة لها.
    يلاحظ على ذلك : أنّ الغرض من الأمر هو تحصيل ما ليس بموجود ، ولو تعلّق الأمر بالفرد الخارجي ، يلزم تحصيل الحاصل ، إذ بعد وجود الفرد الذي هو متعلّق الأمر لا معنى للبعث إليه ، فانّ ظرف الفرد بهذا المعنى ظرف سقوط الأمر لا تعلّقه.
    2. أن يراد من الفرد ، المشخّصات الكلّية والضمائم التي لا تنفك الطبيعة عنها فالمتعلّق والضمائم عناوين كلّية يتعلّق بهما الأمر أيضاً ، فبما انّ الطبيعة والمشخّصات عناوين كلّية والمفروض تعلّق الأمر بكليهما ، فيُصبح الفرد الخارجي مصداقاً للواجب بكلتا الحيثيتين : فيكون مصداقاً للطبيعة كما أنّه يكون مصداقاً للضمائم والمشخّصات والأعراض التي لا ينفك عنها.


(95)
    وعلى ضوء هذا فالنزاع في أنّ المأمور به هو الطبيعي بما هو هو أو هو مع المشخّصات والأعراض الكلية.
    فمن قال بالأوّل فقد جعل الواجب هو الحيثية الطبيعية ومن قال بالثاني جعل الواجب الحيثيتين الطبيعية والضمائم المقترنة بها.
    فإذا فرضنا انّه توضأ بماء حار في البرد القارص ، فهل متعلّق الأمر هو نفس التوضأ بالماء ، أو أنّ متعلّقه هو الضميمة المقترنة بها كحرارة الماء ؟ فلو افترضنا انّه قصد القربة في أصل الوضوء دون الوضوء بالماء الحارّ ، فعلى القول بأنّ متعلّقه هو الطبيعة يصحّ وضوؤه دون القول الثاني لأنّه لم يقصد القربة في الضمائم.
    ثمّ إنّ المحقّق الخوئي اعترض على تفسير الفرد بهذا المعنى فقال ما هذا لفظه :
    إنّ تشخّص الطبيعي بنفس وجوده ، وتشخّص الوجود بذاته ، وأمّا الأُمور الملازمة للوجود الجوهري خارجاًً التي لا تنفك عنه ، كأعراضه من الكم والكيف والأين والوضع وغيرها ، فهي موجودات أُخرى في قبال ذلك الموجود ومباينة له ذاتاً وحقيقة ، ومتشخّصات بنفس ذواتها ، وافراد لطبائع شتّى ، لكلّ منها وجود وماهية فلا يعقل أن تكون الأعراض مشخّصات لذلك الوجود لما عرفت من أنّ الوجود هو نفس التشخّص ، فلا يعقل أن يكون تشخّصه بكمه وكيفه وأينه ووضعه. (1)
    يلاحظ عليه : بأنّه خلط بين المصطلحين : مصطلح الفلاسفة وما اصطلح عليه الأُصوليون.
    توضيح ذلك : قد كان الرأي السائد قبل الفارابي ( المتوفّى 339 هـ ) على أنّ
1. المحاضرات : 4/19.

(96)
التشخّص بالاعراض وانّ الجواهر تتشخّص بالكم والكيف وسائر الاعراض ، فالإنسان الطبيعي بالبياض والسواد يتميّز عن الآخر ، كما أنّه بطول قامته وقصرها يتميّز عن الآخر وهكذا.
    ولكن انقلب الرأي السائد في عصر الفارابي إلى يومنا هذا بأنّ تشخّص الإنسان بوجوده ، ومع قطع النظر عن الوجود فالإنسان كلّي ، وضم كلي ( العرض ) إلى كلي آخر لا يفيد التشخّص ، فإذاً التشخّص الخارجي ، يتحقق بنفس وجود الجوهر فله طبيعة ووجود ، كما أنّ للعرض طبيعة ووجوداً ، فالوجود هو الذي يضفي التشخّص على الجوهر وعلى العرض ، فتعيّن الجوهر بوجوده كما أنّ تعيّن العرض به ولا يتشخّص الجوهر لا بطبيعة العرض ولا بوجوده.
    هذا هو مصطلح الفلاسفة المتأخرين عن الفارابي ولكنّ للتشخّص اصطلاحاً آخر عند الأُصوليين وهو مبنيّ على الفهم العرفي ، حيث إنّ تميّز فرد عن فرد آخر عند العرف بعوارضه واعراضه ككون زيد أبيض وأطول من عمرو الذي هو أسود وأقصر ، أو كون زيد ابن فلان وعمرو ابن فلان آخر ، فهذه الاعراض تميّز الجواهر بعضها عن بعض. وكلّ من المصطلحين صحيح في موطنه ، ففي الدقّة العقلية التشخّص مطلقاً بالوجود لا بالاعراض ولكن التشخّص بين الناس إنّما هو بالاعراض ولكل قوم مصطلحهم ومشربهم.
    الثالث : ما اختاره سيدنا الأُستاذ ( قدس سره ) وهو انّ المراد من الافراد هو المصاديق المتصوّرة بنحو الإجمال كما هو الحال في الوضع العام والموضوع له الخاص فيكون معنى « صلّ » أوجد فرد الصلاة ومصداقها ، لا بمعنى انّ الواجب هو الفرد الخارجي أو الذهني بما هو كذلك ، بل ذات الفرد المتصوّر إجمالاً ، فانّ الافراد قابلة للتصوّر إجمالاً قبل وجودها كما انّ الطبيعة قابلة للتصوّر كذلك. (1)
1. تهذيب الأُصول : 1/343.

(97)
    دليل القول المختار
    إذا عرفت هذه الأُمور فالظاهر انّ المراد من الفرد هو المعنى الثاني ، وعلى ذلك فالأمر يتعلّق بنفس الطبيعة لا بالمشخّصات التي نعبّر عنها بالضمائم أو الجهات الفردية ، ودليله واضح وهو انّ البعث لا يتعلّق إلا بما هو دخيل في غرض المولى ولا يتعلّق بما ليس له دخل فيه ، ومن المعلوم أنّ المؤمِّن لغرض المولى هو نفس الطبيعة مع قطع النظر عن الضمائم والمشخّصات الفردية بحيث لو أمكن أن توجد الطبيعة مجرّدة عن الضمائم والمشخّصات لكان صالحاً للامتثال ، غير أنّ الطبيعة لا تتحقّق في الخارج بلا ضمائم.

    أدلّة القول بتعلّقه بالافراد
    استدلّ القائل بتعلّق الأوامر بالافراد بأُمور فلسفية غير مفيدة في المقام ، وإليك بيانها ضمن أُمور :
    1. انّ الطبيعة ليست موجودة في الخارج وإنّما الموجود هو الفرد ، فكيف يكون ما ليس موجوداً في الخارج متعلقاً بالأمر ؟
    يلاحظ عليه : أنّ الاستدلال بما ذكر غفلة عن تفسير قولهم : « الحقّ انّ الطبيعي موجود بوجود أفراده » وذلك لأنّ تحقق الفرد عين تحقّق الطبيعة وهي تتحقّق في ضمن كلّ فرد مع تكثّر الأفراد. فإذا كان في مجلس عشرة أشخاص فهناك طبائع كثيرة حسب تكثّر الأفراد ، فزيد إنسان تام كما أنّ عمرو إنسان تام آخر وهكذا ، والتفصيل في محلّه.
    2. قد اشتهر بين الفلاسفة أنّ الطبيعة بما هي هي ليست إلا هي ، فهي لا موجودة ولا معدومة ، ولا مطلوبة ولا مبغوضة ، فإذا كان هذا مقام الطبيعة وشأنها


(98)
فكيف تكون متعلّقة للأمر وموضوعاً للبعث ؟
    يلاحظ عليه : بأنّ الاستدلال بهذه الكلمة المأثورة من الفلاسفة نابع من تفسير خاطئ لها فانّ المراد من سلب الوجود والعدم أو المطلوبية والمبغوضية عن الماهيّة هو عدم كون هذه الأُمور في مرتبة الماهية ، إذ لو كان الوجود أو العدم مأخوذين في مرتبتها لأصبحت واجبة الوجود أو ممتنعة فلا محيص عن توصيف الماهية بالإمكان بمعنى سلب الوجود والعدم عن حدّها وكونهما غير مأخوذين في تلك المرحلة ، وهكذا المطلوبية والمبغوضية فليستا في حد الماهية ، إذ لو كانت الأُولى مأخوذة لما صحّ السلب عنه في ظرف من الظروف ، وهكذا العكس.
    ومع هذا الاعتراف تكون الماهية في مرتبة دون حدها موجودة معدومة مطلوبة ومبغوضة.
    وإن شئت قلت : إنّ الماهية بالحمل الأوّلي ليست واجدة لهذه الأُمور بشهادة انّ مفهوم الإنسان غير مفاهيم هؤلاء ، وأمّا بالحمل الشائع الصناعي فلا شك انّ الإنسان موجود والعنقاء معدوم والصلاة مطلوبة وشرب الخمر مبغوض.
    3. انّ الطبيعي الصرف لا يقضي حاجة الإنسان وإنّما القاضي لها هو وجوده الخارجي ومعه كيف يكون الطبيعي الصرف متعلقاً للبعث والزجر ؟
    يلاحظ عليه : بأنّ المستدل خلط بين متعلّق البعث وما هو غاية البعث المفهومة من القرينة ، فالبعث يتعلّق بالطبيعي الصرف من كلّ قيد ولكن الغاية من البعث إليه هو إيجادها ، فإذا قال : إسقني ، فقد بعثه إلى السقي من دون تجاوز الطلب عن السقي إلى شيء آخر لكن الغاية هو إيجادها.
    ثمّ إنّ المحقّق الخراساني لما وقف على الاستدلال حاول أن يجيب عنه بالتفريق بين متعلّق الأمر ومتعلّق الطلب ، فقال : إنّ الأمر يتعلّق بالطبيعة وأمّا


(99)
الطلب فهو يتعلق بوجودها وإليك نصّه ، يقول :
    إنّ المراد بتعلّق الأوامر بالطبائع دون الافراد هو انّ الطبائع بوجودها السعي بما هو وجودها ( قبالاً لخصوص الوجود ) متعلّقة للطلب لا أنّها بما هي هي ، كانت متعلّقة لها كما ربما يتوهّم فانّها كذلك ليست إلا هي ، نعم هي كذلك تكون متعلّقة للأمر فانّه طلب الوجود. (1)
    يلاحظ عليه : بأنّ كلامه مبني على أنّ الهيئة تدلّ على أخذ الوجود في متعلّق الطلب ، فإذا قال : اسقني ، فمعنى ذلك : اطلب منك وجود السقي ، لكنّه كلام غير تام ، لأنّ الهيئة وضعت للبعث أو الطلب المجرّدين عن الوجود.
    فالأولى في الإجابة ما قلنا من أنّ البعث إلى الطبيعة لغاية الإيجاد ، فبما انّ المؤمِّن للغرض هو الوجود فهذا يشكِّل قرينة على أنّ البعث لتلك الغاية.
    وربما يجاب عن الإشكال بأنّ الطبيعة تؤخذ مرآة للخارج شأن كلّ المفاهيم فإذا قال : اسقني ، فقد جعل السقي مرآة إلى الحيثية الوجودية والجهة العينية من الطبيعي فيطلب الطبيعي بما هو حاك عن الخارج ومرآة له.
    يلاحظ عليه : بما سبق في مبحث الوضع من أنّ الطبيعة لا يمكن أن تكون مرآة إلى الافراد ، لأنّ اللفظ لا يحكي إلا عن معناه ، والمفروض انّ الخصوصيات الفردية خارجة عن الموضوع له ، فكيف تدلّ عليها الطبيعة ؟ ومجرّد اتحاد الطبيعة مع المشخّصات الفردية لا يكون سبباً لحكاية الطبيعة عن الملازمات فلابدّ من إرادة المشخّص من لفظ ودالّ آخر ، والمفروض عدمه.
    4. انّ المتلازمين يجب أن يكونا متّحدين في الحكم ، فإذا تعلّق البعث بالطبيعة ، يجب أن يتعلّق بلوازمها وضمائمها.
1. كفاية الأُصول : 1/222 ـ 223.

(100)
    يلاحظ عليه : ما مرّ في مبحث وجوب المقدمة من أنّ المتلازمين يجب أن يكونا غير متضادين في الحكم كأن يكون أحدهما واجباً والآخر محرّماً ، أمّا اتحادهما في الحكم فلا.

    ثمرة البحث
    تظهر ثمرة البحث في موارد نشير إلى موردين :
    الأوّل : إذا توضأ في الصيف بماء بارد وقصد القربة في أصل الوضوء لا في الضمائم ، فلو قلنا بتعلّق الأمر بالطبائع يكفي وجود القربة في أصل التوضّؤ بالماء ، وأمّا لو قلنا بتعلّقها مضافاً إلى الطبائع بالافراد أي اللوازم والمقارنات يبطل الوضوء لعدم القربة فيها ، بل الغاية منها هو التبرّد.
    الثاني : فيما إذا صلّى في دار مغصوبة فعلى القول بأنّ متعلّق الأمر والنهي هو نفس الطبيعة لا المشخّصات الفردية يكون متعلّق الأمر غير متعلّق النهي ، لأنّ الصلاة تتشخّص تارة بالمباح وأُخرى بالمغصوب والكلّ من الملازمات المتّحدة معها في الوجود فلا يتجاوز الأمر عن متعلّقه إلى ملازماته ومتشخّصاته ، بخلاف ما لو قلنا بتعلّق الأمر بالأفراد حيث تكون الملازمات المتّحدة متعلقة للأمر فيلزم أن يتعلّق الأمر بنفس ما تعلّق به النهي وهو غير جائز.
    وأورد عليه المحقّق الخوئي بما هذا حاصله : بأنّ الأمر على كلا القولين تعلّق بالصلاة أو بفرد ما منها ، ولم يتعلق بفرد ما من هذه الطبيعة وفرد ما من الطبائع الأُخرى الملازمة لها في الوجود الخارجي ، وعلى ذلك فالقائل بتعلّق الأمر بالطبائع يدّعي تعلّقه بطبيعة الصلاة مع عدم ملاحظة أيّة خصوصية من الخصوصيات ، والقائل بتعلّقه بالافراد يدّعي انّه تعلّق


(101)
بفرد ما من أفرادها ، ولا يدّعي انّه تعلّق بفرد ما من أفرادها وفرد ما من الطبائع الأُخرى كالغصب أو نحوه ، فالخصوصيات من الاعراض خارجة عن مصب الأمر. (1)
    يلاحظ عليه : أنّ ما ذكره مبني على تفسير الفرد بالمعنى الأوّل وانّ مدار القولين هو تعلّق الأمر بالطبيعي أو فرد ما من ذلك الطبيعي ، فعندئذ يصحّ ما يقول من أنّ المقصود من تعلّق الأمر بالفرد ، هو الفرد من طبيعي واحد لا الفرد من طبيعة أُخرى أيضاً كالغصب.
    ولكنّك عرفت أنّ هذا التفسير تفسير خاطئ ، لأنّ الفرد بهذا المعنى ظرف سقوط الوجوب لا ظرف ثبوته وتعلّقه ، بل المراد من الفرد هو الضمائم واللوازم التي لا تنفك عن الطبيعة مطلقاً أو تقارنها أحياناً ، وعندئذ يقع البحث في أنّ متعلّق الأمر هو ذلك الطبيعي أو الطبيعي مع ضمائمه الكلية ولوازمه غير المنفكة عند التحقّق ، فعلى القول الأوّل ، يجوز اجتماع الأمر والنهي ، لأنّ متعلّق الأمر الحيثية الصلائية ومتعلّق النهي هو الحيثية الغصبية وكلّ ثابت على متعلّقه ، وهذا بخلاف القول بتعلّق الأمر بالفرد ، أي اللوازم والضمائم الكلّية ، فبما انّ الصلاة تارة تقام في مكان مباح وأُخرى في مكان مغصوب فالأمر يتعلّق بالصلاة في المكان المباح أو بالصلاة في مكان مغصوب ، فعندئذ تكون الحيثية الغصبيّة متعلّقة بالأمر كما تكون نفس الصلاة كذلك ، فيلزم من القول باجتماع الأمر والنهي اجتماعهما في عنوان واحد.
    إلى هنا ظهر انّ الأمر كالنهي يتعلّقـان بالطبائع دون الخصوصيـات الفردية.
1. المحاضرات : 4/20.

(102)
تكميل
    للطبيعة أفراد لا حصص
    إنّ الدائر في ألسن كثير من المحقّقين كالشيخ النائيني وضياء الدين العراقي والسيد الخوئي وجود الحصص للطبيعة ، والحقّ انّ للطبيعة أفراداً لا حصصاً ، وإليك التفصيل :
    إنّ الكلّي ينقسم إلى كلي منطقي وطبيعي وعقلي.
    أمّا الأوّل : فهو مفهوم الكلي في مقابل مفهوم الجزئي ، فالأوّل ما لا يمتنع فرض صدقه على كثيرين ، والثاني ما يمتنع فرض صدقه كذلك.
    وأمّا الثاني : فهو عبارة عن معروض الكلي أي المفهوم الذي يصدق عليه انّه كلي كالإنسان والحيوان والشجر ، فالطبيعي عبارة عن المفهوم الذي ينطبق عليه عنوان الكلي.
    وأمّا الثالث : فهو عبارة عن لحاظ العارض والمعروض معاً ، أي الإنسان بما انّه كلي فعندئذ يطلق عليه انّه كليّ عقلي ، وليس للأوّل ولا للثالث موطن إلا العقل ، إنّما الكلام في الثاني أي ذات الطبيعي ، والحقّ انّه موجود في الخارج متكثّر بتكثّر الأفراد.
    وذلك لأنّ مفهوم الإنسان لما كان معرىً عن كلّ قيد حتّى قيد كونه في الـذهن يتكثّر في الخـارج بتكثّر الأفـراد فلـو كان على أديم الأرض إنسـان واحد فهناك طبيعـة واحدة ، وإذا كـان عليه أفراد كثيرة فهنـاك طبائـع كثيـرة محققـة في


(103)
الخارج.
    والذي يوقع الإنسان غالباً في الاشتباه هو الخلط بين ذات الطبيعي والطبيعي بقيد الكلية ، فالثاني غير موجود لأنّ ظرف الكلية هو الذهن دون الخارج ، بخلاف ذات الطبيعي فانّه معرّى عن كلّ قيد فيوجد في الذهن كما يوجد في الخارج ، فلو وجد في الذهن يوصف بالكلية ، ولو وجد في الخارج يتكثر بتكثر أفراده ، ولذلك اشتهر عن الشيخ الرئيس انّه قال : إنسانية زيد غير إنسانية عمرو وإنسانيته غير إنسانية بكر ، وكلّ واحد إنسان ، تام الإنسانية ، لأنّها تقبل الكثرة في الخارج.
    وعلى ضوء ذلك فمثل الطبيعي إلى أفراده كمثل الآباء إلى الأبناء لا كمثل أب واحد إلى الأبناء ، وهذا ما يقال انّ الطبيعي واحد نوعي والفرد واحد شخصي ، فلو وجد فرد في الخارج فقد وجد الطبيعي بعامّة حقيقته وهو لا يمنع أن يوجد في ضمن فرد آخر بعامّة حقيقته ، وذلك لأنّه واحد نوعي فلا تمنع الوحدة النوعية عن الكثرة العددية.
    ومن هنا يعلم أنّ كلّ فرد من أفراد الإنسان تمام الإنسان لا حصة منه ، كما أنّ كلّ فرد من أفراد الصلاة نفس الصلاة لا حصة منها ، فإذا كان الإنسان يقبل التكثّر حسب تكثّر الأفراد فلا معنى لكون الفرد حصة من الإنسان ، بل الفرد كلّ الإنسان ، لا جزء منه.
    وأمّا من قال بأنّ الطبيعي واحد بالشخص وانّه موجود خاص جزئي ، فالأفراد تكون حصصاً بالنسبة إليه ، وبالتالي يكون كلّ إنسان ناقصاً في إنسانيته ، بل جميع الأفراد تشكل إنساناً تاماً ، وهذه هي نظرية الشيخ الهمداني الذي رآه الشيخ الرئيس في مدينة همدان وكان يقول : إنّ الطبيعي واحد بالشخص ، فألّف


(104)
رسالة مستقلة في ردّه وكان في التعبير بالحصة شيئاً من التأثر بتلك النظرية المردودة.
    وقد اعتذر شيخنا الأُستاذ ( مد ظله ) عن الورود في هذه المسألة التي ليس لها مسيس بالمسائل الأُصولية وإنّما ألجأته إليه كثرة استعمال الحصة والحصص في كلمات المتأخرين من الأُصوليين.


(105)
    الفصل الثامن
بقاء الجواز عند نسخ الوجوب
    إذا استعقب وجوبَ الشيء نسخُه فهل يبقى الجواز بعد نسخ الوجوب أو لا ؟ مثلاً إنّه سبحانه أمر المؤمنين إذا أرادوا النجوى مع رسول اللّه أن يُقدِّموا صدقة قبل نجواهم حتّى يُصان بذلك وقتُ النبي الثمين ، حيث كان الأكثر راغبين في النجوى والمسارّة مع النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) في أُمور تافهة غير ناجعة ، فلأجل الحيلولة دون فوات وقت النبي أمرهم بإعطاء دينار ، وقد حكاه سبحانه في الذكر الحكيم بقوله : ( يا أَيُّهَا الَّذينَ آمَنُوا إِذا ناجَيْتُمُ الرَّسُولَ فَقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْواكُمْ صَدَقةً ذلِكَ خَيْرٌ لَكُمْ وَأَطْهَرُ فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا فَإنّ اللّهَ غَفُورٌ رَحيم ). (1)
    ولمّا نُهوا عن المناجاة إلا بالصدقة ضنّ كثير من الناس بماله فلم يناجه أحد إلا علي بن أبي طالب ( عليه السَّلام ) حيث تصدّق بدينار وناجى ، وبذلك امتحن المؤمنون امتحاناً في ذلك المجال. ولمّا حصلت الغاية المتوخّاة من فرض الصدقة وعلم أنّ الدينار عند الأكثر أثمن من وقت النبي فاجأهم النسخ بقوله سبحانه : ( أأشْفَقْتُمْ أَنْ تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدقات فَإِذْ لَمْ تَفْعَلُوا وَتابَ اللّهُ عَلَيْكُمْ فَأَقِيمُوا الصَّلاَةَ وَآتُوا الزَّكاةَ وَأَطيعُوا اللّهَ وَرَسُولَهُ وَاللّهُ خَبيرٌ بِما تَعْمَلُون ). (2)
1. المجادلة : 12.
2. المجادلة : 13.
إرشاد العقول إلى مباحث الأصول الجزء الثاني ::: فهرس