إرشاد العقول إلى مباحث الأصول الجزء الثاني ::: 106 ـ 120
(106)
فعندئذ يقع الكلام في أنّه هل يبقى الجواز بعد النسخ على نحو يصحّ لمن يناجي النبي أن يدفع الصدقة قبل النجوى بنيّة العمل بالآية لا بنيّة مطلق الصدقة ؟
    إذا علمت ذلك فاعلم أنّ الكلام يقع في موضعين :
    الأوّل : إمكان بقاء الجواز بعد النسخ وعدمه.
    الثاني : الدليل على بقائه إذ ليس كلّ ممكن واقعاً.
    ثمّ إنّ المحقّق الخراساني استسهل البحث في المقام الأوّل وسلم إمكانه بعد نسخ الوجوب وقال : ضرورة انّ ثبوت كلّ واحد من الأحكام الأربعة الباقية بعد ارتفاع الوجوب واقعاً ممكن. (1)
    إذا عرفت هذا فلنبحث في الموضعين واحداً تلو الآخر.

    الموضع الأوّل : إمكان بقاء الجواز
    إنّ إمكان بقاء الجواز رهن ثبوت أمرين :
    الأوّل : انّ الوجوب مجعول شرعي ومفاد للأمر ، وليس أمراً انتزاعياً من أمر المولى مع سكوته عن جواز تركه.
    الثاني : انّ الوجوب مركب من أُمور ثلاثة : الجواز ، الرجحان ، اللزوم.
    وعلى ضوء ذينك الأمرين فإذا نسخ الوجوب فيمكن أن يتعلق النسخ بالفصل الأخير ـ أي اللزوم ـ ويبقى الجواز والرجحان ضمن فصل آخر أي جواز الترك.
    فإن قلت : إنّ بقاء الجنس مع ذهاب الفصل أمر غير ممكن فانّ الفصل
1. كفاية الأُصول : 1/224.

(107)
علّة تحقق الجنس فالجنس حقيقة مغمورة ومبهمة لا تخرج من الإبهام إلا بفضل الفصل فالفصل والجنس متّحدان زماناً اتحاد المتقوم مع المقوّم ، وعندئذ كيف يمكن أن يبقى الثاني مع ذهاب الأوّل ؟
    قلت : ما ذكرته صحيح في عالم التكوين دون الاعتبار فلا مانع من قيام الجنس بفصلين متتاليين كالخيمة التي تقوم بدعامة بعد زوال دعامة.
    ولكنّ الأمرين غير ثابتين.
    أمّا الأوّل : فلأنّ الوجوب أمر بسيط ربما ينحل إلى المفاهيم الثلاثة ، فالجواز والرجحان والالزام يفهم من الوجوب عند التحليل ، فهذه المفاهيم الثلاثة تنضوي تحت لواء الوجوب انضواء الكثرات في الواحد البسيط.
    وأمّا الثاني : فلأنّ الوجوب ليس مفاد الأمر فانّ مفاده هو البعث ، وأمّا الوجوب والاستحباب فإنّما يستفاد من القرائن أو من حكم العقل ، فإذا أمر وسكت يحكم العقل بلزوم إطاعة أمر المولى ، لأنّه لا يترك أمر المولى بلا جواب.
    كما أنّه إذا أمر ورخّص يستفاد منه الاستحباب ، فالوجوب والاستحباب مفاهيم انتزاعية من الأمر بالشيء حسب ظروف مختلفة.
    فاتضح بذلك انّ إمكان البقاء رهن أمرين وكلاهما منتفيان ، لأنّ الوجوب بسيط ، وليس بمركب ، كما أنّ الوجوب والاستحباب ليسا من المجعولات الشرعية بل من المفاهيم الانتزاعية.
    ثمّ إنّ للمحقّق الخوئي كلاماً في تفسير الوجوب والحرمة وهو انّ المجعول في الواجبات والمحرّمات ليس إلا اعتبار الفعل على ذمّة المكلّف أو محروميته.


(108)
    ورتب على ذلك أنّ الوجوب والحرمة ليسا مجعولين شرعاً ، بل منتزعان من اعتبار الشارع شيئاً في الذمة فينتزع منه الوجوب ، ومن اعتبار محرومية المكلف من الفعل فينتزع منه الحرمة ، فالمجعول إنّما هو نفس ذلك الاعتبار ( اعتبار الشيء في ذمة الإنسان أو محروميته عن الشيء ) لا الوجوب والحرمة إلى أن قال : وعلى ذلك لا يعقل القول بأنّ المرفوع هو نسخ الوجوب دون جنسه ضرورة انّ الوجوب ليس مجعولاً شرعيّاً ليكون هو المرفوع بتمام ذاته أو بفصله. (1)
    يلاحظ عليه أوّلاً : بأنّ ما أفاده من أنّ الوجوب من الأُمور المنتزعة وإن كان صحيحاً لكن تفسير الوجوب بجعل الفعل في ذمة المكلّف والحرمة بحرمان المكلف عن الفعل تفسير غير تام وذلك لتغاير الاعتبار في المثالين التاليين :
    أ. له عليه دين كذا أو له على زيد عمل يوم.
    ب. أدِّ دينك أو اعمل في هذا اليوم.
    فانّ الاعتبار في المورد الأوّل هو جعل الفعل في ذمّة المكلّف بخلاف الاعتبار في الثاني ففيه البعث إلى أداء الدين ، والعمل في اليوم ، فإرجاع أحد الاعتبارين إلى الآخر أمر غير تام.
    وثانياً : أنّ الالتزام بكون الحرمة غير مجعولة وانّه ينتزع من حرمان المكلّف عن الفعل أمر لا يساعده الكتاب العزيز فانّ الظاهر منه إنشاء نفس الحرمة بالمصطلح الدارج فلاحظ الآيات التالية :
    قوله تعالى : ( إِنّما حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ ). (2)
    وقوله تعالى : ( وَأَحلَّ اللّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبا ). (3)
1. المحاضرات : 4/23.
2. البقرة : 173.
3. البقرة : 275.


(109)
    وقوله تعالى : ( قُلْ إِنّما حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَواحِشَ ما ظَهَرَ مِنْها وَما بَطَن ). (1)
    وثالثاً : لو صحّ ما ذكر فإنّما يصحّ في الأحكام الأربعة دون الإباحة ، إذ ليس فيه أيُّ واحد من الاعتبارين : اعتبار جعل الفعل في ذمة المكلّف أو حرمانه منه ، بل مفاده فسح المجال للمكلّف وكونه مخيّراً بين الفعل والترك إلا أن يكون كلامه في غير الإباحة.
    إلى هنا تمّ الكلام في الموضع الأوّل ، وقد عرفت عدم إمكان بقاء الجواز لفقد الشرطين ، فليس الوجوب أمراً مركباً ولا مجعولاً شرعياً.
    وإليك البحث في الموضع الثاني وهو بحث افتراضي أي لو فرضنا إمكان بقاء الجواز نبحث في الدلالة عليه.

    الموضع الثاني : فيما يدلّ على بقاء الجواز
    لو افترضنا إمكان بقاء الجواز بعد نسخ الوجوب ، فيقع الكلام في فعلية الجواز وانّه هل هنا دليل على بقائه أو لا ؟
    ثمّ الدليل إمّا داخلي أو خارجي ، والمراد من الداخلي هو دلالة كلّ من الناسخ والمنسوخ على البقاء ، كما أنّ المراد من الخارجي هو الاستصحاب.
    أمّا الأوّل فيستدلّ عليه بأمرين :
    1. انّ القدر المتيقّن من دليل الناسخ هو رفع خصوص الإلزام ، وأمّا ما عداه فيؤخذ من دليل المنسوخ.
    2. انّ المقام نظير ما لو دلّ دليل على وجوب شيء ، ودلّ دليل آخر على عدم وجوبه ، كما إذا ورد أكرم زيداً وورد « لا بأس بترك إكرامه » ، فيحكم ـ
1. الأعراف : 33.

(110)
بأظهرية الدليل الثاني ـ ببقاء الجواز والرجحان.
    يلاحظ على الأوّل : أنّه ليس للأمر إلا ظهور واحد وهو البعث نحو المأمور به ، فإذا دلّ الناسخ على أنّ المولى رفع اليد عن بعثه فلا معنى للالتزام ببقاء الجواز والرجحان ، إذ ليس له إلا ظهور واحد لا ظهورات متعددة حتّى يؤخذ بالباقي.
    وأمّا الثاني : فانّ قياس المقام بالدليلين المتعارضين قياس مع الفارق ، لأنّ استكشاف الجواز هنا إنّما هو لاتفاق الدليلين عليه ، وذلك لأجل تحكيم الأظهر ( لا بأس بترك إكرامه ) على الظاهر ( أكرم زيداً ) ، وأمّا المقام فليس من هذا القبيل بل هو من قبيل نفي الدليل الأوّل بالدليل الثاني.
    وبكلمة مختصرة ليس هنا أيُّ دليل على بقاء الجواز ، أمّا المنسوخ فالمفروض ارتفاعه ، وأمّا الناسخ فالمفروض انّ مفاده منحصر في رفع البعث أو الوجوب ( على القول بكونه مدلولاً لفظياً لا إثبات أمر آخر ).
    هذا كلّه حول القرينة الداخلية ، وأمّا القرينة الخارجية فليس هناك دليل إلا الاستصحاب بأن يقال كان التصدّق قبل النجوى جائزاً والأصل بقاؤه حتّى بعد النسخ.
    يلاحظ عليه أوّلاً : أنّه يشترط في المستصحب أن يكون حكماً شرعياً أو موضوعاً لحكم شرعي ، ولكن الجواز ليس حكماً شرعياً ، لأنّ المراد من الجواز في المقام هو الجواز الجامع بين الأحكام الأربعة ومن المعلوم أنّه أمر عقلي ينتزعه العقل من البعث إلى المأمور به الكاشف عن الإرادة الحتمية ، الكاشفة عن جوازه عند المولى فلا يكون عندئذ حكماً شرعياً قابلاً للاستصحاب.
    وثانياً : انّ الاستصحاب في المقام أشبه بالقسم الثالث من أقسام


(111)
استصحاب الكلي ، لأنّ المتيقن هو الجواز في ضمن الوجوب ، والمفروض انتفاؤه ، فلو بقي الجواز فانّما يبقى ضمن إقامة فرض آخر كالاستحباب مكانه ، ومن المعلوم أنّ استصحاب الكلي بهذه الصورة غير جار لعدم اتحاد القضيتين.
    فإن قلت : إنّ نسبة الوجوب إلى الاستحباب نسبة الشديد إلى الضعيف فيرجع الشك إلى انتفاء البعث الشديد من رأس أو تبدّله إلى فرد ضعيف كالاستحباب وقد استثناه بعضهم من هذا القسم.
    قلت : ما ذكرته وإن كان صحيحاً عند العقل لكنّهما عند العرف متباينان.


(112)
    الفصل التاسع
الواجب التخييري
    عُرِّف الواجبُ التعييني بما لابدل له ولا يسقط بإتيان شيء آخر ، إذ لا بدل له ، بخلاف التخييري فللواجب بدل ويسقط بإتيان بدله ، وقد وقع في الشرع كخصال كفّارة الصوم ودية قتل العمد وغيرهما.
    إنّما الكلام في بيان ما هو واقع الواجب التخييري حيث اختلفوا في المأمور به إلى أقوال :
    1. ذهب أصحابنا وجمهور المعتزلة إلى أنّ كلّ واحد واجب على البدل ، وأيّاً منها أتى فقد أتى بالواجب لا البدل.
    2. ذهب الأشاعرة إلى أنّ أحد الأبدال واجب لا بعينه.
    3. انّ الواجب هو الجميع ويسقط بفعل البعض.
    4. انّ الواجب معيّن عند اللّه ولكن يسقط به وبالآخر وقد نُسِبَ هذان القولان إلى المعتزلة.
    5. ما يفعله المكلّف ويختاره هو الواجب عند اللّه فيختلف باختلاف المكلّفين. (1)
1. لاحظ القوانين : 1/116.

(113)
    شبهات مثارة حول تصوير الواجب التخييري
    قد عرفت أنّ الأصحاب ذهبوا إلى أنّ الواجب كلّ واحد منها على البدل ، فقد طرأت هناك عدّة إشكالات نطرحها على طاولة البحث.
    1. الإرادة والبعث لا تتعلّقان بالأمر المردّد
    وحاصل هذا الإشكال : انّ الإرادة الفاعلية إنّما تتعلّق بالأمر المعيّن لا بالأمر المردد ، وهو أمر واضح ومثله الإرادة الآمرية فلا تتعلّق إلا بأمر معيّن ، ووجه ذلك انّ تشخّص الإرادة في كلا المقامين بالمراد.فإذا كان المراد مردداً لا تتعلّق به الإرادة ، وظاهر كون كلّ واحد واجباً على البدل ، تعلّق الإرادة بالأمر المردد ، ونظيره البعث ، إذ لا معنى للبعث إلى المردد.
    2. كيف يكون واجباً ويجوز تركه ؟
    وهذا هو الإشكال الثاني ، فانّ كلّ واحد من أطراف الواجب التخييري واجب ولكن يجوز تركه إلى بدل وهذا ينافي كون الشيء واجباً.
    3. وحدة العقاب مع كثرة الواجب
    وهذا هو الإشكال الثالث حيث إنّه إذا ترك الكلّ يعاقب بعقاب واحد ، مع كون الواجب متعدداً.
    هذه الأُمور هي التي دعت المتأخرين إلى البحث عن ماهية الواجب التخييري وواقعه حتّى يتيسر لهم الذب عن هذه الإشكالات.
    وسنتناولها بالتفصيل واحداً تلو الآخر.


(114)
    أمّا تعلّق الإرادة بالأمر المردد وهو المهم بين الإشكالات فقد أجيب عنه بوجوه.

    1. نظرية المحقّق الخراساني
    وحاصل هذه النظرية : انّ الواجب التخييري على قسمين :
    فقسم منه يكون التخيير فيه تخييراً عقلياً ، والقسم الآخر يكون التخيير تخييراً شرعياً.
    أمّا الأوّل : ففيما إذا كان الغرض واحداً يقوم به كلّ من الطرفين ، كما إذا كان الغرض هو إنارة الغرفة وهي تتحقّق بإسراج المصباح أو إيقاد النار في الموقد فيأمر المولى ويقول : اسرج المصباح أو أوقد النار.
    فهاهنا غرض واحد يحصل بكلا الأمرين ، وبما انّ الواحد لا يصدر إلا من الواحد فلابدّ من القول بأنّ إنارة الغرفة معلولة للجامع بين الفعلين ، لامتناع صدور الواحد عن الكثير فيكون الواجب هو الجامع ، فجعلهما متعلّقين للخطاب الشرعي كما عرفت تبيان انّ الواجب هو الجامع بين الاثنين. فعلى المكلّف إيجاده في الخارج لتحصيل الغرض الواحد ، وفي هذا القسم تتعلّق الإرادة بأمر معين وهو الجامع بين الفعلين.
    وأمّا الثاني : أعني ما إذا كان التخيير شرعياً ، فهناك أغراض متعددة للمكلّف لكن بينها تزاحم في مقام الإتيان بأن تكون الأغراض غير قابلة للتحصيل والجمع فلا يمكن للمولى الأمر بتحصيلها.
    فعندئذ يكون كلّ واحد واجباً لكن بنحو من الوجوب تَكشف عنه تبعاتُه وآثارُه ، أعني :


(115)
    أ. عدم جواز ترك كلّ واحد إلا إلى الآخر.
    ب. ترتّب الثواب على فعل الواحد منهما.
    ج. العقاب على تركهما لا على ترك واحد منهما.
    ففي هذه الصورة يكون الواجب كلّ واحد لكن بنحو من الوجوب يتفاوت سنخه مع وجوب الواجب التعييني.
    فالصلاة والصوم في شهر رمضان واجبان تعيينيان والحمد أو التسبيحات واجبان تخييريان في الركعتين الأخيرتين.
    لكن سنخ الوجوب في الأوّل غير سنخه في الثاني ، مع اشتراك الجميع في تعلّق إرادة مستقلة بكلّ واحد كتعلّق البعث المستقل بكلّ واحد.
    إلى هنا تمّ تقرير نظرية المحقّق الخراساني. (1)
    ثمّ إنّ المحقّق الخراساني استطاع أن يذب عن الإشكالات الثلاثة بما اختاره في حقيقة الواجب التخييري.
    أمّا التخيير العقلي فلأنّ الواجب هو الجهة الجامعة التي تؤمّن غرض المولى فالواجب واحد والإرادة واحدة.
    وأمّا التخيير الشرعي فلما كانت الأغراض متعددة ، وبتبعها تتعدد الإرادة ، وكلّ إرادة متعلّقة بموضوع خاص وهو محصّل لغرض خاص.
    ومثلها البعث فليس هنا بعث متعلّق بالمردد ، بل لكلّ بعث خاص دون أن يكون هناك تردد في المتعلّق.
    هذا كلّه حول الإشكال الأوّل الذي هو المهم.
1. لاحظ كفاية الأُصول : 1/226.

(116)
    وأمّا الثاني : أعني كون الشيء واجباً مع جواز تركه والإتيان بالآخر.
    فقد أجاب عنه انّ هذا خصيصة نحو هذا الوجوب ، فانّ الوجوب على قسمين : تارة يكون الإتيان بأحد الفعلين لا يجزي عن الفعل الآخر كالصلاة والصوم في شهر رمضان ، وأُخرى يكون الوجوب على نحو لو أتى بواحد ممّا تعلّق به الوجوب يغني عن إتيان الآخر وذلك نتيجة تزاحم الأغراض وعدم اجتماعها.
    وإلى ذلك يشير المحقّق الخراساني بقوله :
    كان كلّ واحد واجباً بنحو من الوجوب يُستكشف عنه تبعاتُه من عدم جواز تركه إلا إلى الآخر. (1)
    هذا كلّه حول الإشكال الثاني.
    وأمّا الإشكال الثالث : وهو أنّ تعدد الواجب يقتضي تعدد العقاب عند ترك عامّة الأطراف مع أنّهم اتفقوا على وحدة العقاب.
    والإجابة عنه واضحة ، وذلك لأنّ تعدد العقاب إمّا لأجل تفويت المصلحتين الملزمتين أو لأجل مخالفة التكليفين الفعليين.
    أمّا الأوّل : فلأنّ المفروض عدم إمكان الجمع بين الغرضين وتنافيهما في مقام التأثير في الغرض ، فإذا كان كذلك فليس عليه إلا تحصيل غرض واحد وبفوته يستحقّ عقاباً واحداً.
    وأمّا الثاني : فلأنّ الحكمين وإن كانا فعليين ولكن مخالفة التكليفين الفعليين إنّما توجب كثرة العقاب إذا لم يكتف المولى في مقام الامتثال بواحد منهما. ومع هذا التصريح لا ملاك لتعدد العقاب.
1. كفاية الأُصول : 1/226.

(117)
    والحاصل : انّ الكبرى أي مخالفة كلّ حكم فعلي توجب العقاب ممنوعة ، وإنّما توجبه إذا لم يصرح المولى بأنّه يكفي إتيان واحد منهما ، ففي مثله لا يتعدد العقاب.
    فاتّضح بما ذكرنا انّ نظرية المحقّق الخراساني خصوصاً في التخيير الشرعي نظرية صالحة لدفع الإشكالات الثلاثة ، والمؤثر في دفعها هو تعدد الغرض الموجب لتعدد الإرادة والتزاحم بين الأغراض في مقام الامتثال.
    نعم يرد على هذه النظرية إشكالان يرجع أحدهما إلى التخيير العقلي والثاني إلى التخيير الشرعي.
    أمّا الأوّل : أي التخيير العقلي ، فقد أسس نظريته على قاعدة : « لا يصدر الواحد إلا من واحد » وبما انّ الغرض واحد فلا يصدر إلا من واحد وهو الجهة الجامعة بين إيقاد النار وإسراج المصباح ولا يصدر من كلّ واحد منهما لاستلزامه صدور الواحد عن الكثير.
    ولكن القاعدة صحيحة إلا أنّ تطبيقها على المورد تطبيق خاطئ.
    أمّا صحّة القاعدة فتظهر بملاحظة أمرين :
    الأوّل : انّ صدور شيء عن شيء رهن وجود صلة بينهما ، وإلا يلزم أن يكون كلّ شيء علّة لكلّ شيء ، وهذا ما يعبّر عنه في الفلسفة بقانون السنخية.
    مثلاً انّ شرب الماء يزيل العطش دون أكل الخبز ، وهذا يدلّ على وجود صلة بين الأوّلين وعدمها في الآخر.
    نعم السنخية المعتبرة هي سنخية ظلية لا سنخية توليدية ( انتاجية ) كالسنخية الموجودة بين المطر والندى.
    الثاني : انّ مصب القاعدة هو المعلول البسيط من كلّ الجهات كالعقل


(118)
الأوّل فانّه عند الفلاسفة إنّي الوجود فلا يصدر إلا من سبب واحد ، فلو صدر من كثير يلزم أن يكون مشتملاً على أكثر من جهة حتّى تكون كلّ جهة سبباً لصدوره عن السبب المحتمل عليها أخذاً بما تقدّم من اشتراط السنخية بين العلة والمعلول ، وعندئذ ( تعدد السنخية والرابطة ) يلزم أن يكون الواحد كثيراً لكثرة الجهات وهذا خلف.
    هذا إجمال ما عليه الفلاسفة في مفاد القاعدة وهو كما ترى يجري في المعلول البسيط من جميع الجهات ، وأين هذا من النور الصادر من إيقاد الموقد وإسراج المصباح ؟ فهناك نوران مختلفان وإن كانا يتحدان في الاسم أي النور ، فإعمال القاعدة في المتكثّر بالذات إعمال لها في غير محلّه.
    وقد استند المحقّق الخراساني إلى هذه القاعدة في محل آخر حيث قال : بوجود الجامع بين أفراد الصلاة الصحيحة ونستكشف وجود الجامع من وحدة الأثر ، فانّ اشتراك جميع الصلوات الصحيحة في الأثر كاشف عن وجود جامع بين الصلوات يؤثر الكلّ فيه بذاك الجامع ، مثلاً : النهي عن الفحشاء أثر واحد مشترك بين الجميع فيحكم بوحدة الأثر على وجود الجامع الذي هو المؤثر في ذلك الأثر وإلا يلزم صدور الكثير عن الواحد. (1)
    يلاحظ عليه : بأنّ الأثر واحد بالنوع ولكنّه متعدد في الخارج ومصب القاعدة هو الواحد الشخصي لا الواحد النوعي ، فكلّ من أقام صلاة صحيحة يترتب عليه النهي عن الفحشاء وهو في كلّ مورد يغاير الفرد الآخر في مورد آخر.
    أضف إلى ذلك انّ أثر الصلاة متعدد لا واحد ، فأين قربان كلّ تقي ، من الناهية عن الفحشاء والمنكر ؟ وأين كلاهما من عمود الدين ؟ إلى غير ذلك.
1. كفاية الأُصول : 1/36.

(119)
    هذا كلّه حول التخيير العقلي وأمّا التخيير الشرعي فقد بنى نظريته على أنّ الأغراض متنافية غير قابلة للجمع ، فعندئذ يتوجّه إليه السؤال الثاني وهو : انّ مصب التزاحم إمّا مقام الامتثال وإمّا ملاكات الأحكام :
    أمّا الأوّل فلا تزاحم فيه ، إذ لا مانع من أن يقوم المفطر بعتق رقبة وإطعام ستين مسكيناً وصوم ستين يوماً.
    وأمّا الثاني ـ أي التزاحم في مقام الملاكات ، أعني : التزاحم في المرتبة المتقدمة على الخطاب ـ فهو أيضاً منتف بشهادة انّه لو أفطر بالمحرّم وجب عليه الخصال جميعاً من دون أن يكون أيّ تزاحم بين الملاكات ، والظاهر انّ ملاك التخيير هو التسهيل على العباد ورفع الحرج عنهم لا التزاحم بين الملاكات كما يدور عليه كلام المحقّق الخراساني.
    إلى هنا تمت نظرية المحقّق الخراساني نقلاً وتحليلاً.

    2. نظرية المحقّق النائيني
    ذهب المحقّق النائيني إلى أنّ الواجب هو العنوان المردّد ، أعني : أحد الفعلين أو أحد الأفعال قائلاً : بأنّ الخصوصيات المعتبرة في الإرادة على قسمين ، فتارة تعتبر فيها لا لخصوصية كونها تكوينية ، بل لكونها إرادة ، فهذا النوع من الخصوصية معتبرة في التشريعية أيضاً ، وأُخرى يكون اعتبارها فيها لأجل كونها تكوينية فلا يعم التشريعية قطعاً.
    وعلى ضوء هذا لا مانع من تعلّق الإرادة التشريعية بالأمر الكلي بين الفردين بخلاف الإرادة التكوينية ( الفاعلية ) فانّها لكونها علّة لإيجاد المراد لا


(120)
تتعلّق إلا بالشخص لامتناع ايجاد الكلّي في الخارج إلا في ضمن فرده.
    ثمّ قال : إنّ امتناع تعلّق الإرادة التكوينية بالمردّد وما له بدل من لوازمها خاصة ولا يعم التشريعية فانّ الغرض المترتب على كلّ من الفعلين ، إذا كان أمراً واحداً ، كما هو ظاهر العطف بكلمة « أو » سواء كان عطف جملة على جملة كما هو الغالب أو عطف مفرد على مفرد انّه حسب مقام الإثبات الموافق لمقام الثبوت يدل على أنّ هناك غرضاً واحداً يترتّب على واحد من الفعلين على البدل ، فلابدّ وأن يكون طلب المولى بأحدهما على البدل أيضاً لعدم الترجيح بينهما.
    والحاصل : انّ امتناع تعلّق الإرادة بالمبهم والمردد من خصائص الإرادة التكوينية لكونها علّة للمراد ولا معنى لتعلّق العلّة بالكلي بخلاف الإرادة التشريعية. (1)
    ثمّ إنّ هذه النظرية هي خيرة تلميذه المحقّق الخوئي في تعليقته على أجود التقريرات وفي محاضراته التي دوّنها بعض تلاميذه.
    قال ما هذا حاصله :
    الذي ينبغي أن يقال في هذه المسألة تحفظاً على ظواهر الأدلّة هو انّ الواجب أحد الفعلين أو الأفعال لا بعينه ، وتطبيقه على كلّ منها في الخارج بيد المكلّف ، كما هو الحال في موارد الواجبات التعيينية غاية الأمر انّ متعلّق الوجوب في الواجبات التعيينية الطبيعة المتأصّلة والجامع الحقيقي ، وفي الواجبات التخييرية الطبيعة المنتزعة والجامع العنواني ، فهذا هو الفارق بينها وتخيّل انّه لا يمكن تعلق الأمر بالجامع الانتزاعي وهو عنوان أحدهما في المقام ، ضرورة انّه ليس
1. أجود التقريرات : 1/183 ، ولاحظ فوائد الأُصول : 1/235 فالتقريران يهدفان إلى أمر واحد في هذه الدورة وقال : والاختلاف بين التقريرين طفيف.
إرشاد العقول إلى مباحث الأصول الجزء الثاني ::: فهرس