إرشاد العقول إلى مباحث الأصول الجزء الثاني ::: 121 ـ 135
(121)
له واقع موضوعي غير تحقّقه في عالم الانتزاع والنفس فلا يمكن أن يتعدّى عن أفق النفس إلى ما في الخارج ، ومن الواضح انّ مثله لا يصلح أن يتعلّق به الأمر ، خيال خاطئ جداً ، بداهة انّه لا مانع من تعلق الأمر به أصلاً بل تتعلّق به الصفات الحقيقية كالعلم والإرادة وما شاكلهما فما ظنك بالحكم الشرعي الذي هو أمر اعتباري محض. (1)
    إنّ الأُستاذ والتلميذ قد نجحا ـ لو قلنا بصحّة المعنى ـ في الذب عن الإشكالات الآنفة الذكر ، أمّا تعلّق الإرادة بالفرد المردد مفهوماً فلأجل الفرق بين الإرادة الفاعلية والإرادة الآمرية. والامتناع من خصائص الإرادة الفاعلية دون الآمرية ، وأمّا ترك أحد الأطراف عند الإتيان بالآخر فذلك لازم كون الواجب أحد الأفعال لا جميعها.
    وبه يُعلم دفع الإشكال الثالث ، لأنّ وحدة العقاب لأجل وحدة الواجب المتحقّق بإنجاز واحد من الأطراف.
    نعم يرد على تلك النظرية انّها لم تتحفظ على ظواهر النصوص فانّ ظاهرها على أنّ الواجب هو نفس تلك العناوين لا العنوان المنتزع عنها باسم أحدهما ، فانّ العنوان المنتزع أمر عقلي ينتزعه من تعلّق الحكم بالعناوين الأصلية على وجه التخيير وإن كنت في شكّ فلاحظ الآيتين التاليتين.
    قال سبحانه : ( لا يُؤاخِذُكُمُ اللّهُ بِاللَّغوِ فِي أَيْمانِكُمْ ولكن يُؤاخِذُكُم بِما عَقَّدْتُّم الأَيْمانَ فَكَفّارَتُهُ إِطْعامُ عَشرةِ مَساكِينَ مِنْ أَوسَطِ ما تُطْعِمُونَ أَهلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَة ). (2)
1. المحاضرات : 4/42 و44.
2. المائدة : 89.


(122)
    فانّ المتبادر من الآية أنّ الواجب هو نفس العناوين لا عنوان أحدها ، ومثلها الآيات التالية :
    ( فَلا اقْتَحَمَ الْعَقبة * وَمَا أَدْراكَ مَا الْعَقَبَة * فَكُّ رَقَبة * أَو إِطْعامٌ فِي يَوم ذِي مَسْغَبة * يَتيماً ذا مَقْرَبة * أَوْ مِسكيناً ذا مَتْرَبة ). (1)
    فانّ المتبادر من الآيات انّ الواجب ، هو كلاً من الفك والإطعام في يوم ذي مسغبة لا عنوان أحدهما ، وهو ( قدس سره ) أبدع تلك النظرية ليتحفظ بها على ظواهر الأدلة ، ولكن كانت النتيجة هي العكس.

    3. نظرية المحقّق الإصفهاني
    وللمحقّق الإصفهاني نظرية أُخرى ، حاصلها : أن يكون كلّ واحد منها واجباً تعيينياً ويكون الإتيان بواحد منهما في الخارج موجباً لسقوط الآخر أيضاً بحكم المولى إرفاقاً وتسهيلاً على المكلّفين.
    هذا ما لخّصه تلميذه المحقّق الخوئي (2) وإليك نصّ عبارة صاحب النظرية قال : يمكن أن يفرض غرضان ، لكلّ منهما اقتضاء إيجاب محصَّله ، إلا أنّ مصلحة الإرفاق والتسهيل تقتضي الترخيص في ترك أحدهما ، فيوجب كليهما لما في كلّ منهما من الغرض الملزم في نفسه ، ويرخِّص في ترك كلّ منهما إلى بدل ، فيكون الإيجاب التخييري ، شرعيّاً ، محضاً من دون لزوم الإرجاع إلى الجامع. (3)
    إنّ هذه النظرية قريبة من نظرية المحقّق الخراساني ـ وليست عينها ـ غير أنّ الأُستاذ علل عدم وجوب الإتيان بسائر الابدال لأجل التزاحم في الملاك ولكن
1. البلد : 11 ـ 16.
2. تعاليق الأجود : 1/182.
3. نهاية الدراية : 1/254.


(123)
التلميذ علله بالتسهيل والإرفاق.
    ثمّ إنّ المحقّق الخوئي اعترض على تلك النظرية في تعاليق الأجود وفي المحاضرات بإشكالين :
    الأوّل : انّه يستلزم تعدد العقاب عند عصيان الوجوب التخييري وعدم الإتيان بشيء من الفعلين ضرورة انّ الجائز هو ترك كلّ منهما إلى بدل لا مطلقاً.
    الثاني : انّه لا طريق لنا إلى إحراز الملاك في كلّ من الطرفين إلا بالأمر ، وحيث إنّ الأمر فيما نحن فيه تعلّق بأحد الطرفين أو الأطراف فلا محال لا نستكشف إلا قيام الغرض به. (1)
    يلاحظ على الإشكال الأوّل : أنّ تعدد العقاب رهن أحد أمرين :
    1. تفويت المصلحتين الملزمتين.
    2. عصيان الخطابين العقليين المطلقين.
    أمّا الأوّل : فهو خلاف الفرض ، لأنّ المفروض انّ المولى رخص في ترك أحد الغرضين لأجل التسهيل.
1. أجود التقريرات : 1/182 ؛ المحاضرات : 4/28.

(124)
    وأمّا الثاني : انّ عصيان الخطابين الفعليين المطلقين إنّما يُصحح تعدّد العقاب إذا لم يصرّح المولى بأنّه يجوز ترك أحدهما عند الإتيان بالآخر ، فانّ معنى ذلك انّ المطلوب الجدّي المصحح للعقاب هو واحد لا كثير ، ومعه كيف يوجب تعدد العقاب ؟
    وإن شئت قلت : إنّ دائرة التكليف لا تكون أوسع من الملاك اللازم تحصيلُه ، والمفروض انّ اللازم تحصيله هو أحد الملاكين لا كلاهما.
    وأمّا الإشكال الثاني : فظاهره انّه لا ملاك في كلّ واحد من أحد الأطراف ، بل الملاك في واحد منها غير معيّن ، وهذا خلاف فرض المحقّق الاصفهاني حيث قال : فيوجب كليهما لما في كلّ منهما من الغرض الملزم في نفسه قطعاً ، إذ لو لم يكن كلّ واحد منها مشتملاً على الملاك ، لما صحّ الأمر بأحدها.
    نعم تعدّد الأمر لا يلازم تعدّد الغرض ، بل يجتمع مع وحدة الغرض ، المتحقّق بكلّ من الأطراف.

    4. نظرية بعض القدماء
    إنّ الواجب هو الواحد المعيّن الذي يعلم اللّه انّ العبد يختاره.
    يلاحظ عليه : أوّلاً : بأنّ لازم ذلك عدم الاشتراك في التكليف وانّ تكليف من يختار العتق هو العتق وتكليف من يختار الصوم هو الصوم ، وهذا ممّا اتّفق العلماء على بطلانه.
    وثانياً : أنّ لازم ذلك عدم العقاب على من ترك التكليف رأساً ، لأنّ الواجب هو ما يختاره العبد في علم اللّه ، فإذا لم يختر واحداً منهما كشف عن عدم موضوع للتكليف في علم اللّه ومع فقد الموضوع لا عقاب.
    5. ما هو المختار في تفسير الوجوب التخييري ؟
    هذا ما ذكره القوم في المقام وهناك نظرية خامسة هي أقرب إلى الواقع وما هو الدارج بين الموالي والعبيد في الواجبات التخييرية.
    وحاصله : انّه إذا كان للمولى غرض واحد يتحقّق بأُمور متعددة وليس بينهما جامع أصيل كما في المثالين التاليين :


(125)
    أ. إذا تخلّف السائق عن مراعاة قوانين المرور ، فيمكن للحاكم تأديبه بأحد أمرين :
    1. الحكم عليه بتأدية غرامة نقدية.
    2. الحكم عليه بزجّه في السجن.
    ب : من أفطر في شهر رمضان متعمداً فللمولى أن يوبخ المكلّف بأحد الأُمور الثلاثة المعروفة بخصال الكفارة.
    إلى غير ذلك من الأمثلة.
    فبما انّ إيجاب واحد معيّن خال عن الوجه ، وكلّ منهما محصّل للغرض فعندئذ يخاطب المكلّف بإيجاب الجميع لكن على وجه التخيير لأجل وحدة الغرض ، وهذه النظرية تشارك نظرية المحقّق الخراساني من جهة ، وتفارقها من جهة أُخرى. أمّا المشاركة فهي إيجاب الجميع لكن على وجه التخيير. وانّ الوجوب التخييري نحو من الوجوب.
    وأمّا المفارقة فتفارقها بوحدة الغرض على هذه النظرية وكثرتها على نظرية المحقّق الخراساني.
    وكلتا النظريتين تستمدان من أنّ الوجوب التخييري نحو من الوجوب كالتعييني ولكن يفارق التخييريُ ، التعيينيَ باكتفاء المولى بالإتيان بأحد الأطراف في الواجب التخييري دون الواجبات التعيينية ، ويعود وجهه إلى وحدة الغرض في الأوّل وتعدّده في الثاني حسب ما بيّناه.
    وأمّا على مختار المحقّق الخراساني فالاكتفاء في الأوّل بأحد الأطراف لأجل امتناع الجمع بين الغرضين في التخييري ، وإمكانه في الواجبات التعيينيّة.
    وبذلك تقدر على الذبّ عن الإشكالات الثلاثة.


(126)
    أمّا الإرادة فلم تتعلّق بالمراد ، بل تعلّقت بالمعيّن ، حيث إنّ المراد متعدد كالإرادة والمبعوث إليه متعدد كالمراد.
    وأمّا الإشكال الثاني ـ أي جواز ترك أحدهما عند الإتيان بالآخر ـ فانّه مقتضى وحدة الغرض.
    وأمّا وحدة العقاب عند ترك الجميع فلما عرفت من أنّ تعدد العقاب رهن أحد أمرين وكلاهما منتفيان.
    1. كون الغرض متعدداً والمفروض في المقام خلافه.
    2. مخالفة الخطابين الفعليين المطلقين ، وقد عرفت عدم كلّية هذه الضابطة في تعدد العقاب وإنّما هو إذا لم يكن هناك تصريح أو تلويح من المولى بكفاية أحد الأطراف دون الآخرين.
    إلى هنا تمّ الكلام في الواجب التخييري.


(127)
التخيير بين الأقل والأكثر
    لا شكّ في التخيير بين المتباينين أو الأُمور المتباينة كما في خصال الكفّارة ، إنّما الكلام في جوازه بين الأقلّ والأكثر كتخيير المصلّي بين تسبيحة أو ثلاث تسبيحات.
    وجه الإشكال هو انّ المكلّف إذا أتى بالأقلّ يحصل الامتثال ويسقط الأمر ولا تصل النوبة إلى امتثال الأمر بالأكثر وبذلك يكون الأمر بالأكثر لغواً ، ولذلك حمل القائلون بكفاية التسبيحة الواحدة على أنّ الزائد أمر مستحبّ.

    تصحيح التخيير بين الأقل والأكثر
    ذهب المحقّق الخراساني إلى التفصيل ، وانّ التخيير غير جائز في صورة وجائز في صورة أُخرى. فلو كان الغرض مترتباً على ذات الأقل ولو في ضمن الأكثر لامتنع التخيير بين الأقل والأكثر ، لأنّ الأقلّ حاصل مطلقاً قبل حصول الأكثر وكان الزائد على الأقل زائداً على الواجب.
    وأمّا إذا ترتّب الغرض لا على مطلق الأقل ولو في ضمن الأكثر ، بل على خصوص الأقل الذي لم يكن معه الأكثر ، فعندئذ يحصل الامتثال بكلا الطرفين.
    أمّا الأقلّ الذي لم يكن معه الأكثر فهو أحد الواجبين ، وأمّا الأكثر الذي في ضمنه الأقل فالغرض قائم بالأكثر لا بالأقل الذي في ضمنه ، لماعرفت من أنّ الأقل إنّما يحصِّل الغرض إذا انقطع عن الأكثر وصار فرداً مستقلاً ، وأمّا إذا انضمّ


(128)
إليه شيء فلا يكون مصداقاً للواجب.
    ويمكن تصويره بالمثال التالي :
    إذا أمر المولى برسم خط طولي إمّا متراً أو مترين ، فلو كان الغرض حاصلاً بمطلق الأقل سواء كان الأقل منفكّاً عن الأكثر أو في ضمن الأكثر ففي مثله لا يصحّ التخيير ، لأنّه إذا أتى بالأكثر فبالأقل الموجود في ضمنه يحصل الامتثال ويكون الزائد أمراً زائداً على الواجب.
    وأمّا إذا ترتّب الغرض على الأقل التام المنفصل عن الأكثر ، أو نفس الأكثر دون الأقل الذي في ضمنه ، فعندئذ يصحّ الأمر بترسيم أحد الخطين ، فالمكلّف إمّا يأتي بالواجب الأقل أو يأتي بالواجب الأكثر وليس في ضمن الأكثر إلا ذات الأقلّ لا الأقلّ الواجب.
    يلاحظ عليه : أمّا ما ذكره من المحاولة يخرج المورد من التخيير بين الأقل والأكثر فانّ البحث دائر على إمكان التخيير بين الأقل والأكثر لا بين المتباينين ، وما فرضه من جواز التخيير بين الأقل والأكثر فإنّما هو من قبيل المتباينين وإن كان في نظر العرف الساذج تخييراً بين الأقل والأكثر. إذ على ما فرضه يكون الموضوع أحد الأمرين :
    أ. الأقل بشرط لا ، أي الخط الذي بلغ طوله متراً بشرط أن لا يَضمّ إليه الأكثر.
    ب. الأكثر بشرط شيء ، أي ذات الأقل الذي يضاف إليه متر آخر ، ففي مثله يكون التخيير بين الأقل بشرط لا والأكثر بشرط شيء وهو خارج عن الموضوع.
    نعم يصدق عليه عرفاً التخيير بين الأقل والأكثر.


(129)
    ثمّ إنّه ( قدس سره ) استشكل على نفسه وقال :
    إنّ ما ذكرته من المحاولة إنّما يصحّ إذا كان الأقل مندكّاً في الأكثر ولم يكن للأقل في ضمنه وجود مستقل.
    وأمّا الأقلّ الذي يكون له وجود مستقل مطلقاً ـ سواء زيد عليه أم لا ـ غير مندك في ضمن الأكثر كالتخيير بين تسبيحة أو ضمن ثلاث تسبيحات أو التخيير بين نزح 30 دلواً و40 دلواً ، ففي مثله يسقط الأمر بالواجب بالأقل مطلقاً ولا تصل النوبة إلى الامتثال بالأكثر.
    وهذا نظير ما إذا خيره بين ترسيم خط طوله متر أو مترين بشرط تخلل العدم بعد رسمه متراً ، فعندئذ يحصل الامتثال بالأقل مطلقاً ولا تصل النوبة إلى الأكثر.
    ثمّ إنّه ( قدس سره ) أجاب عن الإشكال بأنّ التخيير في مثل هذه الموارد إنّما يتحقّق إذا أخذ الأقل بشرط لا ـ أي عدم انضمام شيء إليه ـ والأكثر بشرط شيء ـ أي بشرط الانضمام ـ فعندئذ لو أتى بالأقل ولم ينضم إليه شيء يسقط الأمر بالأقل ، وأمّا إذا أضاف إلى التسبيحة الواحدة تسبيحتين أُخريين ، ففي مثله لا يسقط الأمر بالأقل ، لأنّ الأقل يفقد شرطه ، وإنّما يحصل بالأكثر.
    يلاحظ عليه : بمثل ما ذكرناه في البحث السابق فانّ أخذ التسبيحة الواحدة بشرط لا ، والأكثر بشرط شيء ، يخرج المورد عن الأقل والأكثر ويدخله في التخيير بين المتباينين ، ومثله التخيير بين ثلاثين دلواً أو أربعين ، فإذا أخذ الثلاثين بشرط لا ، والعِدْل الآخر بشرط شيء ، فلا يكون فيه الأقل موجوداً في ضمن الأكثر.
    ثمّ إنّ المحقّق الخراساني عاد في آخر البحث إلى ذكر النتيجة ، فقال : إذا كان الغرض الواحد مترتّباً على الأقل والأكثر فالواجب هو الجامع بين الفردين ، لما عرفت من امتناع صدور الواحد عن الكثير فيكون التخيير عقلياً.


(130)
    وأمّا إذا كان هناك غرضان مختلفان متزاحمـان فيكـون التخيير تخييراً شرعيـاً.
    نعم لو كان الغرض مترتّباً على الأقلّ مطلقاً سواء أكان له وجود مستقلّ أو في ضمن الأكثر فالواجب يسقط بالأقل والزائد عليه مستحب لحصول الأقل مطلقاً قبل الأكثر. (1)
    وقد عرفت عدم تمامية نظره ، فلاحظ.
1. الكفاية : 1/228.

(131)
    الفصل العاشر
الواجب الكفائي
    وقبل الخوض في المقصود نقدّم أُموراً :
    1. لا شكّ في وجود الواجبات الكفائية بين العقلاء والشريعة الإسلامية المقدسة حيث إنّ الوالد يأمر أولاده بتنظيف البيت ، وشراء اللحم والخبز إلى غير ذلك من الأُمور ، فلو قام واحد منهم بهذا الواجب لسقط عن الجميع ، ولو عصوا يُعاقب الكلّ ؛ ونظيره ما في الشريعة من الأمر بإجراء الحدود والأمر بالمعروف وإقامة النظام فانّها واجبات كفائية. فلو قام واحد من المكلّفين بهذه الأُمور لسقط عن الجميع ، ولو عَصوا لعوقبوا.
    2. تقسيم الواجب إلى العيني والكفائي ، تقسيم للوجوب باعتبار إضافته إلى المكلَّف ، كما أنّ تقسيمه إلى التعييني والتخييري تقسيم له بالإضافة إلى المكلَّف به ، وذلك لأنّ التكليف من الأُمور ذات الإضافة ، فله إضافة إلى المكلِّف وفي الوقت نفسه إضافة إلى متعلّق التكليف الذي يطلق عليه المكلّف به ، كما أنّ له إضافة إلى المكلَّف الذي ربما يطلق عليه الموضوع في مصطلح المحقّق النائيني ( قدس سره ).
    فباعتبار كون المكلَّف به واحداً أو متعدداً على وجه التخيير ينقسم الواجب إلى التعييني والتخييري ، كما أنّ باعتبار كون امتثال بعض مسقطاً عن الآخرين أو


(132)
غير مسقط ، ينقسم الواجب إلى العيني والكفائي.
    وإن شئت قلت : إمّا أن يكون لصدور الفعل من مكلّف مشخص مدخلية في حصول الغرض أو لا ، بل الغرض يحصل بصدور الفعل من مكلّف ما ، فالأوّل هو الواجب العيني ، والثاني هو الواجب الكفائي. ولبّ الفرق بينهما يرجع إلى أنّ المكلّف في العيني آحاد المكلّفين مستغرقاً ، وفي الكفائي صرف المكلّف ، فالفـرق بين العيني والكفائي يرجع إلى جانب المكلَّف ، خلافاً للمحقّق البروجـردي حيث أرجع الفرق بينهما إلى جانب المكلّف به فقـال : إنّ متعلّق الكفائي هـو نفس الطبيعة ، كما أنّ متعلّق العيني هو الطبيعة بقيد مباشرة كلّ مكلف بالخصوص.
    يلاحظ عليه : أنّ جعل متعلّق التكليف في الكفائي نفس الطبيعة وفي العيني الطبيعة بقيده صدورها من كلّ مكلف بالخصوص ، عبارة أُخرى عن لحاظ المكلف في العيني بصورة العام الاستغراقي وفي الكفائي بصورة العام البدلي.
    3. على ضوء ما ذكرنا عرف الواجب الكفائي بأنّه : عبارة عن الواجب الذي لو أتى به فرد من المكلّفين لسقط عن الباقي ، وإن تركه الجميع لعوقبوا ، فعندئذ يجري الإشكال المذكور في الواجب التخييري في المقام أيضاً حيث إنّ كلاً من الواجب التخييري والكفائي واضحان مفهوماً ولكن مبهمان كنهاً حيث إنّ مشكلة كيفية تعلّق الإرادة بالأمر المردد قائمة في كلا الواجبين ، وقد عرفت كيفية دفع الإشكال في الواجب التخييري.
    وأمّا المقام فيقرر الإشكال بالنحو التالي :


(133)
    إنّ المكلّف إن كان هو الفرد المردد يلزم تعلّق الإرادة والوجوب بالفرد المردد ، والإرادة لا تتعلّق بالمردد ، سواء أكانت فاعلية أم آمرية.
    وإن كان هو جميع الأفراد فلماذا يسقط بفعل واحد منهم ؟ وقد أجاب الأُصوليون عن الإشكال بنظريات :
    النظرية الأُولى : تعلّق التكليف بعموم المكلّفين
    إنّ الواجب الكفائي سنخ من الوجوب وله تعلّق بكلّ واحد ، بحيث لو أخلّ الكلّ بامتثاله لعوقبوا على مخالفته جميعاً ، وإن أتى به بعضهم لسقط عنهم ، وذلك لأنّه قضية ما إذا كان هناك غرض واحد يحصل بفعل واحد صادر عن الكلّ أو البعض. (1)
    وحاصل هذه النظرية : انّ الوجوب يتعلّق بعامّة المكلّفين فلا يكون متعلّق الإرادة والوجوب أمراً مردداً ، غير أنّ تعلّقه بالجميع على قسمين :
    تارة يكون الغرض متعدداً ويتوقّف حصوله على قيام كلّ واحد من المكلّفين بالواجب كالصلوات اليومية ، فلا يسقط تكليف مكلّف ، بفعل مكلّف آخر ، وأُخرى يكون الغرض واحداً يحصل بقيام واحد منهم ، ومقتضى هذا ، سقوط الواجب بفعل أحد المكلّفين ، ومعاقبة الجميع حين تركهم.
    هذا هو ما يركّز عليه صاحب الكفاية ، وكان الأولى أن يضيف إليه شيئاً آخر ويقول : الفرق بين الواجب العيني والكفائي أمران :
    الأوّل : ما صرح به صاحب الكفاية من تعدد الغرض في العيني ووحدته في الكفائي.
1. كفاية الأُصول : 1/229.

(134)
    الثاني : مدخلية قيام مكلّف خاص بالمأمور به في تحصيل غرض المولى في العيني دون الكفائي ، بل يكفي صدور الفعل عن أيّ واحد من المكلّفين ، كالصلاة على الميت.
    فإن قلت : إذا كان الغرض واحداً حاصلاً بإنجاز فرد من المكلّفين فلماذا وجّه التكليف إلى عامّة المكلّفين ؟
    وبعبارة أُخرى : لو كان الغرض حاصلاً بفعل الواحد فلماذا وجّه التكليف إلى عامّتهم ؟ وإن لم يكن حاصلاً إلا بفعل الجميع فكيف يسقط بفعل الواحد ؟
    قلت : نختار الشق الأوّل ، وهو انّ الغرض واحد يحصل بفعل واحد من المكلّفين ، لكن عدم تخصيصه بمكلف خاص لأجل رعاية أمرين :
    أ. ما تقدّم من عدم مدخلية صدور الفعل عن مكلَّف خاص ، فلذلك لم يوجهه إلى واحد معيّن ، بل إلى الجميع.
    ب. انّ توجيه التكليف إلى الجميع بهذا النحو يؤمِّن غرض المولى في الإتيان به ، إذ لو وجّهه إلى فئة خاصّة ربما يتساهلون في القيام بواجبهم لعذر أو لغير عذر ، بخلاف ما لو جعل التكليف في ذمة الجميع وحذّرهم من مخالفته فعندئذ لقام الأمثل فالأمثل بامتثال التكليف قطعاً.
    سؤال وإجابة
    فإن قلت : إذا كان الخطاب في الواجب الكفائي متوجّهاً إلى عامة المكلّفين فلماذا جعل سبحانه فريضة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر التي هي من الواجبات الكفائية على عاتق طائفة من الأُمّة ، لا على نفسها ، قال سبحانه :


(135)
( وَلْتَكُنْ مِنكُمْ أُمّةٌ يَدْعُونَ إِلى الخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَونَ عَنِ الْمُنكَرِ وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُون ) ؟ (1)
    قلت : أوّلاً : يحتمل أن تكون لفظة « من » نشأوية لا تبعيضيّة ، مثل قول القائل : « وليكن لي منك صديق » : أي كن صديقاً ، والمراد كونوا أُمّة يدعون إلى الخير.
    وثانياً : نفترض انّ « من » تبعيضيّة ، لكن الآية ناظرة إلى حال الامتثال وتجسيد التشريع المتوجّه إلى الكل وانّه يكفي في تحقيقه قيام أُمّة من المسلمين بهذه الفريضة الحيويّة ، بشهادة انّ الأمر بالمعروف فُرض في بعض الآيات على قاطبة المؤمنين ، لا إلى لفيف منهم يقول سبحانه : ( وَالْمُؤْمِنُونَ والمُؤْمِناتُ بَعْضُهُمْ أَولياءُ بَعْض يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَر ). (2)
    ثالثاً : انّ للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، مراتب :
    مرتبة يشمل وجوبها عامّة المؤمنين وذلك كالإنكار بالقلب واللسان وإظهار الاشمئزاز بالوجه ، قال أمير المؤمنين ( عليه السَّلام ) : « أمرنا رسول اللّه ( صلى الله عليه وآله وسلم ) أن نلقى أهل المعاصي بوجوه مكفهرّة ». (3)
    ومرتبة منها تختص بأصحاب القدرة ، كقطع يد السارق ، وحدّ الزاني ، روى مسعدة بن صدقة عن أبي عبد اللّه ( عليه السَّلام ) قال : سمعته يقول : وسئل عن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، أواجب على الأُمّة جميعاً ؟ فقال : « لا » فقيل له : لم ؟ قال : « إنّما هو على القوي المطاع ، العالم بالمعروف من المنكر ، لا على الضعيف الذي لا يهتدي سبيلاً إلى أيّ من أيّ ، يقول في الحقّ إلى الباطل ، والدليل على ذلك
1. آل عمران : 104.
2. التوبة : 71.
3. الوسائل : 11 ، الباب 6 من أبواب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، الحديث 1.
إرشاد العقول إلى مباحث الأصول الجزء الثاني ::: فهرس