إرشاد العقول إلى مباحث الأصول الجزء الثاني ::: 136 ـ 150
(136)
كتاب اللّه عزّوجلّ قوله ( ولتكن منكم أُمّة يدعون إلى الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر ) فهذا خاص غير عام ». (1)
    وعلى ضوء هذا الحديث : انّ إجراء الحدود ، والأحكام التأديبية ، واجبة على عامّة القضاة والحكام لا على صنف منهم لكن على نحو لو قام واحد منهم بإجراء الحكم أو تصدّى أحد القضاة للقضاء في موضوع ، سقط عن الآخرين.
    نقد النظرية والإجابة عنه
    إنّ السيد الأُستاذ ( قدس سره ) تناول تلك النظرية بالنقد وقال : ما هذا حاصله :
    كيف يتعلق الوجوب بعامّة المكلفين مع أنّ الواجب الكفائي على أقسام :
    1. ما لا يقبل التعدد وما لا يمكن امتثاله إلا مرّة واحدة كقتل ساب النبي.
    2. ما يقبل التكثّر ، ولكن الفرد الثاني مبغوض ممنوع كمواراة الميت.
    3. ما يقبل التكثّر وليس الفرد الثاني مبغوضاً ، ولكنّه ليس مطلوباً أيضاً كتكفين الميّت ثانياً.
    4. ما يقبل التكثر ويكون مطلوباً كالصلاة على الميت.
    أمّا الشقّ الأوّل ، فيمتنع بعث عامّة المكلّفين إليه ، لأنّه فرع إمكان التكثّر ، وأمّا الثاني والثالث اللّذان يقبلان التكثر لكن الفرد الثاني إمّا مبغوض أو غير مطلوب ، فبعث عامة المكلّفين إليه الملازم للتكثر إمّا نقض للغرض أو بعث إلى ما ليس بمطلوب.
1. الوسائل : 11 ، الباب 2 من أبواب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، الحديث 1.

(137)
    وأمّا الرابع فإمكان بعث الجميع إليه وإن كان لا يُنكَر ، إلا انّ لازمه هو لزوم اجتماعهم في إيجاد صرف الوجود ، على نحو لو لم يحضر ، عُدّ المتخلف عاصياً لترك الأمر المطلق. (1)
    يلاحظ عليه : بأنّ دعوة عامة المكلّفين إلى إيجاد الطبيعة في الواجب الكفائي ليس مثل دعوتهم إلى إيجادها في الواجب العيني ، بأن يقوم كلّ مكلّف في زمان واحد بإيجادها حتّى يقال بأنّ الطبيعة ربّما لا يكون قابلاً للتكرار أو يكون قابلاً له ولكن يكون مبغوضاً ، أو غير مطلوب ، بل دعوة الجميع إلى إيجاد الطبيعة على نحو البدلية مثلها في الواجب التخييري الذي قد مرّ انّ الكلّ واجب على البدل ، فإذا قام أحد الأفراد بامتثال التكليف سقط الواجب ولا تصل النوبة إلى التكرار بأنواعه الثلاثة.
    وقد عرفت أنّ النكتة لتوجيه الخطاب إلى عامّة المكلّفين مع أنّه يكفي في حصول الغرض قيام فرد منهم بالواجب ، هو أمران :
    1. عدم قيام الغرض بقيام مكلّف خاص.
    2. التحفّظ عليه ، إذ احتمال التسامح وترك الامتثال أمر محتمل في فرد منهم ، لا في جميعهم.
    وأمّا الصورة الرابعة التي يكون الفعل قابلاً للتكرار ومطلوباً ، لا يلازم كون المتخلّف عاصياً ، لأنّ الأمر وإن كان في الظاهر مطلقاً غير مقيد ، لكنّه بشهادة القرائن مقيّد بالبدلية ، ومعه لا يعد تركه عصياناً ، كأخذها في جانب المكلف به في الواجب التخييري.
1. تهذيب الأُصول : 1/366 ـ 367.

(138)
    النظرية الثانية : التكليف على ذمّة واحد من المكلّفين
    هذه هي النظرية الثانية التي تؤكد على أنّ التكليف على ذمّة واحد من المكلّفين لا بعينه نظير الواجب التخييري ، غير أنّ الواحد لا بعينه في الواجب التخييري في ناحية متعلّق التكليف ، وفي الكفائي في جانب موضوعه ، وهذا واقع في العرف كما إذا أمر الوالد أولاده ، بقوله : فليقم واحد منكم بالعمل الفلاني. (1)
    واختاره السيد الأُستاذ لكن بتفصيل خاص ، وهو انّ المكلّف أحد المكلّفين بشرط لا في الثلاثة الأُولى ، أعني : ما لا يقبل التكثّر ، أو يقبل لكن يكون مبغوضاً أو غير مطلوب ، أو أحد المكلّفين لا بشرط في الصورة الرابعة ، أعني : ما يقبل التكثر ويكون مطلوباً. (2)
    أقول : هذه النظرية لبعض القدماء من الأُصوليين. (3) ولذلك تناولها السيد البروجردي بالنقد ، وقال : هل المراد من توجه التكليف إلى أحد المكلفين ، هو أحدهم المردد مفهوماً ، أو أحدهم المردد مصداقاً وخارجاً ؟ أمّا الأوّل فهو غير قابل لتوجه التكليف إليه ـ كما هو معلوم ـ وأمّا الثاني فليس له مصداق في الخارج ، لأنّ كلّ فرد من آحاد المكلّفين فرد معين ، والوجود يلازم التشخّص والتعيّن ، فكيف يكون الفرد موجوداً ومع ذلك مردداً ؟ (4)
    يلاحظ عليه : بأنّا نختار الشقّ الثاني ، وانّ المراد من قولهم بأنّ التكليف يتوجه إلى الفرد المردد ، هو ذات الفرد الخارجي ، ولكن ليس التردد قيداً له ، حتّى
1. تعليقة العلاّمة الطباطبائي على الكفاية : 137 ، والمحاضرات : 4/53.
2. تهذيب الأُصول : 1/367.
3. انظر للوقوف على الأقوال : المعالم وتعليقة المشكيني على المقام.
4. نهاية الأُصول : 228.


(139)
يمنع تشخصه ، بل المردد عنوان مشير إلى أحد المكلّفين وانّه لا خصوصية لمكلف دون مكلف.
    ولك أن تقول مكان الفرد المردد ، أحد المكلّفين ، وكلّهم مصاديق لهذا العنوان على نحو البدلية.
    نعم يرد على تلك النظرية أنّه مخالف لظاهر الأدلّة في الواجب الكفائي فلاحظ.
    النظرية الثالثة : تعلّق الوجوب بمجموع المكلّفين
    إن هناك تكليفاً واحداً يتعلّق بمجموع المكلّفين من حيث المجموع ، فالمكلّف هو مجموع الأشخاص على نحو العام المجموعي ، غاية الأمر انّه يتحقّق فعل المجموع بفعل الواحد منهم وتركه بترك المجموع ، نسبه في حاشية القوانين إلى قطب الدين الشيرازي.
    وأورد على هذه النظرية بأنّ المجموع أمر اعتباري لا وجود له في الخارج وإنّما الموجود ذوات الأفراد فلا معنى لتكليف المجموع. (1)
    يلاحظ عليه : بأنّ ما ذكره صحيح على الأُصول العقلية الفلسفية ، إذ لا وجود للهيئة الاجتماعية ، بل الوجود للأفراد ، وأمّا النظر إلى الموضوع من منظار العرف فللهيئة واقعية تصحّح تعلّق التكليف بها ، ولذلك نرى أنّ الأُمّة وقعت موضوعاً لأوصاف أو أحكام في القرآن والسنّة كما سيوافيك بيانه.
    نعم يرد على تلك النظرية التي جعل المكلّف عنوان مجموع المكلّفين انّ لازمه لزوم اشتراك الجميع في التكليف لا سقوط التكليف بفعل واحد منهم ، لأنّ
1. نهاية الأُصول : 228.

(140)
المفروض هو توجّه التكليف إلى المجموع من حيث المجموع لا إلى البعض ، وعندئذ كيف يسقط عن المجموع بفعل الواحد أوّلاً وعدم إمكان اشتراك المجموع في كثير من الواجبات الكفائية كغسل الميت ومواراته ثانياً ؟
    نعم يمكن إصلاح تلك النظرية ببيان آخر بأن يقال : انّ الفرق بين الواجبات العينية والكفائية هو انّ الأوّل يتعلّق بذوات الأفراد فكلّ فرد محكوم بحكم خاص غير حكم الفرد الآخر ، وأمّا الواجبات الكفائية فهي عبارة عن الأحكام التي تتعلّق بالأُمة وبالمجتمع ، فالمولى يطلب من المجتمع إقامة النظام وجهاد العدو ، وتجهيز الميّت والقضاء بين الناس والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، فإذا كان المسؤول هو المجتمع فيجب عليهم تنظيم الأُمور من خلال تقسيم الوظائف فيما بينهم.
    وهذه النظرية قريبة من النظرية الأُولى ، فانّ الأُولى تركّز على تعلّق الأحكام بذوات الأفراد ، وأمّا هذه النظرية فهي تركِّز على تعلّق الأحكام بذات المجتمع والأُمّة ، ومن الواضح انّ واقع الأُمّة بواقعية أفرادها ، نعم في مقام تعلّق الأمر يظهر التغاير بين الموضوعين.
    وممّا يدلّ على إتقان تلك النظرية أنّ القرآن يخاطب الأُمّة مكان مخاطبة الأفراد ويقول : ( كُنْتُمْ خَيْرَ أُمّة أُخرِجَتْ لِلنّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَر ). (1)
    وفي آية أُخرى تعدّ إقامة الصلاة وإيتاء الزكاة ، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من وظائف الأُمّة المتمكنة لا الفرد المتمكن ، ويقول : ( الَّذِينَ إِنْ مَكَّنّاهُمْ فِي الأَرْضِ أَقامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكاة وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَللّهِ عاقِبَةُ
1. آل عمران : 110.

(141)
الأُمُور ). (1)
    فجعل إقامة الصلاة وما تلاه في ذمّة الأُمّة المتمكّنة وهو روح الواجبات الكفائية.
    هذا وقد بسط الكلام شيخنا الأُستاذ ـ مدّ ظلّه ـ في تبيين هذه النظرية في موسوعته المسمّاة بـ « مفاهيم القرآن ». (2)
    النظرية الرابعة : تعلّق الوجوب بواحد معيّن
    وحاصل هذه النظرية انّ التكليف منصبٌّ على واحد معيّن عند اللّه سبحانه ، فإن قام هو بالفريضة وإلا يسقط عنه بفعل غيره ، لأنّ المفروض انّ الغرض واحد ، فإذا حصل في الخارج فلا محالة يسقط الأمر.
    يلاحظ عليه : أوّلاً : ما هو السبب لتعلّق التكليف بشخص معين عند اللّه دون إعلامه.
    وثانياً : انّه خلاف ظواهر الأدلّة فانّ التكليف إمّا متوجّه إلى عامّة المكلّفين استغراقاً ، أو إلى الفرد غير المعيّن أو مجموع المكلّفين.
    إكمال فيه أمران :
    1. ربّما يظهر من المحقّق الخراساني عند البحث فيما إذا دار أمر الواجب بين العينية والكفائية ، كون الواجب الكفائي من قبيل الواجب المشروط ، حيث قال في وجه الحمل على كون الواجب واجباً عينياً بأنّ الحكمة تقتضي كونه مطلقاً
1. الحج : 41.
2. مفاهيم القرآن : 2/198 ـ 203.


(142)
سواء أتى به آخر أو لا. (1)
    ومفاد ذلك انّ الواجب الكفائي مشروط بعدم إتيان الآخر به ، بخلاف العيني ، وهو كما ترى ، لأنّ الترك إمّا شرط للوجوب أو شرط للواجب. فعلى الأوّل يلزم على الجميع وجوب القيام بالفعل ، دفعة واحدة لحصول الشرط. وعلى الثاني يلزم عدم حصول الامتثال إذا أتى به الجميع لعدم الإتيان بالواجب مع شرطه.
    وبما انّ هذه النظرية مستوحاة من عبارة الكفاية ولا نص عليها ، فلم نردفها بسائر النظريات.
    2. إذا قلنا بأنّ الواجب الكفائي ما له بدل فإذا قام أحد يسقط الحكم عن الأبدال الأُخر ، فالمقصود البدل الذي يكون مثل الأبدال الأُخر في توجّه الوجوب إليه ، فخرج وجوب أداء الدين عن التعريف فانّه وإن كان يسقط بأداء البريء ، لكنّه ليس بدلاً بهذا المعنى ، إذ ليس الأداء عليه واجباً وإنّما هو متبرّع له أن يؤدي وله أن لا يؤدي. (2)

    ثمرات البحث
    ثمّ إنّه يقع الكلام في ثمرات الاختلاف في واقع الواجب الكفائي فنقول :
    إنّ هناك ثمرات فقهية وكلامية على تلك النظريات ، وإليك الفقهية ثم الكلامية.
    1. لو نذر أحد أن يعطي عشرة رجال لكلّ درهماً إذا أتى كلّ واحد منهم بواجب ، فلو قام الكلّ بالصلاة على الميّت ودفع الشخص لكلّ واحد درهماً ، فهل
1. الكفاية : 1/116.
2. الفصول : 107.


(143)
برَّ نذره أو لا ؟ يختلف حسب اختلاف الأنظار.
    أمّا على الأوّل فقد امتثل نذره ، لأنّ المفروض انّ الوجوب يتعلّق بآحاد المكلّفين فكلّ واحد من هذه العشرة كان مخاطباً بتجهيز الميّت والصلاة عليه غاية الأمر لو سبق أحد منهم إلى الواجب لسقط عن الآخر ، وأمّا إذا شارك الكلّ دفعة واحدة ، أو كان التكثّر والتعدد مطلوباً فقد أتى كلّ بواجبه ، فيكون إعطاء الدرهم إعطاءً لمن أتى بواجبه.
    ويمكن أن يقال بصدق الطاعة والامتثال على النظرية الثانية أيضاً لما عرفت من أنّ متعلّق التكليف هو الفرد الخارجي أو الفرد الذي يصدق عليه عنوان المكلّف ، والمفروض انّ كلّ واحد من المصلّين مصداق للفرد ، وينطبق عليه عنوان المكلّف.
    نعم على القول بأنّ المتعلّق هو المجموع فالوجوب تعلّق به لا بكلّ واحد من آحاد المكلّفين فليس هناك إلا امتثال واحد لا امتثالات.
    ومثلها النظرية الرابعة فانّ التكليف تعلّق بفرد مشخّص عند اللّه فليس هناك إلا تكليف واحد ومكلّف معيّن والباقي من العشرة غير مكلّفين.
    وحصيلة البحث : انّه إذا دفع لكلّ واحد من المصلّين درهماً فقد أبرّ نذره على النظريتين الأُوليين دون الأُخريين.
    2. جواز قصد الأمر لكلّ واحد من المكلّفين إذا كان المتعلّق قابلاً للتكرار ومطلوباً غير مبغوض كتحصيل علم الدين مع قيام عدّة معه بالتحصيل ، فعلى النظريتين الأُوليين يصحّ لكلّ واحد قصد الأمر لما عرفت من أنّ النظرية الثانية تتحد نتيجة مع الأُولى وإن كانت تختلف عنها في كيفية التحليل.
    وأمّا الثالثة فالأمر متوجّه إلى المجموع وليس الفرد نفس المجموع ، فكيف


(144)
يتقرب بالأمر غير المتوجّه إليه ؟ ومثلها النظرية الرابعة حيث إنّ المكلّف فرد معيّن عند اللّه ، لا كلّ من بلغ وعقل.
    3. إذا كان رجلان متيمّمين فوجدا ماءً لا يفي إلا بوضوء واحد منهما فهل يبطل تيمم كلّ منهما أو لا يبطل واحد منهما ، أو يبطل واحد منهما على البدل ؟ فاختار المحقّق النائيني ( قدس سره ) الوجه الأوّل ، وذلك لأنّ بطلان التيمّم مترتّب على وجدان الماء ، المحقّق في ظرف القدرة على الحيازة ، فيبطل التيمّمان معاً ، وليس بطلانه مترتباً على الأمر بالوضوء حتّى يقال بوجود التزاحم في تلك الناحية حيث إنّ الأمر بواحد منهما بالتوضّؤ يزاحم الأمر بالآخر.
    وفصّل تلميذه الجليل في التعليقة بين صورة سبق أحدهما إلى الحيازة وعدمه ، ففي الأُولى يبطل تيمم السابق فقط ويستكشف به عدم قدرة الآخر على الوضوء وبقائه على ما كان عليه من عدم وجدانه الماء ، وأمّا الصورة الثانية فيبطل كلّ من التيمّمين لتحقّق ما ترتّب عليه بطلانه وهو وجدان الماء ، فإذا تحقّق يترتّب عليه كلّ من الأمرين. (1)
    وقال السيد الطباطبائي : إذا وجد جماعة متيمّمون ماءً مباحاً لا يكفي إلا لأحدهم بطل تيمّمهم أجمع إذا كان في سعة الوقت وإن كان في ضيقه بقى تيمّم الجميع. (2)
    أقول : إنّ المتبادر من قوله : ( فَلَم تَجِدُوا ماءً فَتَيَمَّمُوا صَعيداً طَيِّباً ) (3) هو الوجدان العرفي الملازم مع التمكّن من استعماله بلا نزاع ، وعلى ذلك يختلف
1. أجود التقريرات : 1/189.
2. العروة الوثقى : أحكام التيمم ، المسألة 22.
3. المائدة : 6.


(145)
حكم الصور.
    1. إذا تسابقوا عليه فسبق واحد منهم لحيازته بطل تيمّمه خاصّة ، لأنّه وجد الماء عرفاً متمكّناً من استعماله بالانتزاع دون الآخرين فانّهم وإن وجدوا ماءً ولكن غير متمكّنين من استعماله.
    2. تلك الصورة ولكن كان المسبوق قادراً على التغلّب فتسامح ، ففي تعليقة السيد الحكيم بطل تيممه أيضاً ، والحقّ صحته لما عرفت من أنّ المراد هو التمكّن العرفي بلا مغالبة ومصارعة ، والمفروض هنا عدمه.
    3. إذا وجدا ماءً مع الانصراف عن الحيازة فهل يبطل تيمم الكلّ لتحقّق شرط البطلان في كلّ واحد لصدق وجدان الماء والتمكّن منه بلا نزاع ، لأنّ المفروض انصرافهما عن حيازته ؟


(146)
    الفصل الحادي عشر
تقسيم الواجب إلى المطلق والمؤقّت
و
تقسيم المؤقت إلى الموسّع والمضيّق
    قُسِّم الواجب إلى المطلق والمؤقّت ، والمطلق إلى فوري وغير فوري ، والمؤقّت إلى موسّع ومضيّق ، وإليك بيان كلا التقسيمين.
    لا شكّ انّ الفعل لا ينفك عن زمان فالإنسان المادّي بما هو يعيش في عالم المادة لا يفارق فعلُه الزمانَ بل فعلُه يولِّد الزمان ، ومع ذلك كلّه فنسبة الفعل إلى الزمان على قسمين :
    أ. تارة لا يكون للزمان تأثير في وصف الفعل بالمصلحة أو المفسدة وإنّما يكون الزمان ظرفاً للفعل ، وأُخرى يكون للزمان دور ـ وراء كونه ظرفاً للفعل ـ في وصف الفعل بالملاك ، ويكون له مدخلية في تحقّق الغرض ، وعندئذ ينقسم الواجب إلى مطلق ـ مرسل من مدخلية الزمان فيه ـ ومؤقّت قُيّد الفعل بالوقت والزمان.
    ثمّ إنّ المطلق أي الواجب الذي لا دور للزمان فيه ، تارة يكون واجباً فورياً


(147)
لا يجوز تأخيره كصلاة الآيات ، وأُخرى يكون غير فوري كقضاء الفوائت الذي يجوز تأخيره.
    كما أنّ المؤقت وهو الواجب الذي للزمان فيه دور ، تارة يكون مضيّقاً كصوم رمضان وأُخرى موسّعاً كالصلوات اليومية بالنسبة إلى أوقاتها.
    فعلى ذلك فالمؤقت على قسمين : تارة يكون الوقت بمقدار الفعل لا أوسع ولا أضيق كصوم رمضان ، وأُخرى يكون الزمان أوسع من الفعل كالصلوات اليومية ، وأمّا عكس الثاني فغير صحيح أي كون الفعل أكثر من الزمان ، لأنّه يستلزم التكليف بما لا يطاق.
    إذا عرفت تقسيم الواجب إلى المطلق والمؤقّت ، والأوّل إلى فوري وغير فوري ، والثاني إلى الموسّع والمضيّق ، فلنذكر أُموراً لها صلة بالمقام :
    1. إذا وجبت الصلاة بين الزوال والمغرب فللطبيعة أفراد عرضية كالصلاة في المسجد أو البيت ، كما أنّ لها أفراداً طولية كالصلاة في الساعة الأُولى والثانية وهكذا ، فالتخيير بين تلك الأفراد تخيير عقلي لا شرعي فالعقل يخيّر بين هذه الأفراد في مقام الامتثال. نعم لو قال الشارع : صلِّ في المسجد أو في البيت أو في الوقت الأوّل أو في الوقت الثاني ، يكون التخيير شرعيّاً كخصال الكفّارة ، والمفروض انّه فرض الصلاة بين الحدين فقط.
    2. إذا أخر المكلّفُ الواجبَ الموسّع حتّى ضاق الوقت فلا يخرج الواجب عن كونه موسّعاً ولا يدخل في المضيّق ، نعم يكون مضيقاً بالعرض ، وعدم تأخيره لكونه مفوِّتاً للواجب لا لكونه مضيَّقاً بالذات.
    3. أشكل على الواجب الموسّع بأنّه ما يجوز تركه في بعض الأوقات ، فكيف يكون واجباً ويجوز تركه ؟


(148)
    يلاحظ عليه : بأنّ الواجب عبارة عمّا لا يجوز تركه بتاتاً ، والموسّع كذلك ، ولا ينافيه تركه في بعض الأوقات.
    4. عُرِّف الواجبُ المضيّق بأنّه عبارة عمّا يكون وقت الوجوب والواجب ( المكلّف به ) واحداً مع أنّ مقتضى القاعدة أن يكون وقت الوجوب أوسع من وقت الواجب ولو بلحظة ، لأنّ الإتيان بالواجب انبعاث وهو معلول البعث والوجوب فيجب أن يكون الوجوب متقدّماً على الانبعاث تقدّمَ العلّة على المعلول فيكون وقت الوجوب أوسع من وقت الواجب الذي يعبّر عنه بوقت الانبعاث.
    يلاحظ عليه : بأنّ تقدّم العلّة على المعلول ترتبيّ لا زماني كتقدّم حركة اليد على حركة المفتاح ، وأقصى ما يمكن أن يقال انّه يجب تقدّم بيان الوجوب على زمان الواجب حتّى يتمكّن المكلّف من امتثاله ، وأمّا تقدّم زمان الوجوب على الواجب فليس بلازم.

    هل القضاء تابع للأداء أو بأمر جديد ؟
    هذه مسألة أُصولية يعبّر عنها تارة بما ذكر ، وأُخرى بأنّ القضاء بالأمر الأوّل أو بأمر جديد.
    وحاصله : انّه إذا مضى وقت الفعل هل الأمر الأوّل كاف في وجوب قضائه خارج الوقت أو يتوقّف على وجود أمر جديد وإلا فالأمر الأوّل قد سقط؟ قولان :
    فمنهم من يقول بكفاية الأمر الأوّل في إيجاب القضاء ، ومنهم من يقول بلزوم أمر جديد متعلّق بالفعل خارج الوقت أيضاً.
    وتحقيق المقام يتوقّف على البحث في مقامين :
    الأوّل : في مقام الثبوت.
    الثاني : في مقام الإثبات.


(149)
    أمّا الأوّل : فحاصله انّه لو قلنا بتعدّد المطلوب وأنّ إيجاد الفعل مطلوب وإيجاده في وقته مطلوب آخر فالقضاء بالأمر الأوّل ، وأمّا لو قلنا بوحدة المطلوب وانّ هنا مطلوباً واحداً وهو إيجاد الفعل في وقته ، فإيجاده خارج الوقت رهن أمر جديد.
    وأمّا الثاني : أي البحث إثباتاً فهو فرع استظهار التعدد أو الوحدة من لسان الدليل ، فالحقّ انّ الدليل قاصر عن إفادة تعدد المطلوب ، فإذا أمر بالوقوف في عرفات من الزوال إلى الغروب فلو فات الموقف من المكلّف فإيجاب القضاء عليه بوقوفه فيها في خارج الوقت الذي يعبّر عنه بالوقوف الاضطراري يحتاج إلى الدليل ، وذلك لأنّ الأمر متعلّق بالمقيّد بالوقت ، فالواجب هو الفعل المحدد بالوقت فلا دلالة للأمر على إيجاب الفعل المجرّد عن الوقت.
    نعم استثنى المحقّق الخراساني ممّا ذكرنا مورداً خاصّاً بالشروط الثلاثة :
    1. أن يكون لدليل الواجب إطلاق بالنسبة إلى خارج الوقت.
    2. أن يكون التقييد منفصلاً لا متّصلاً.
    3. أن لا يكون في الدليل المقيّد إطلاق حاك عن كون الوقت دخيلاً في أصل المصلحة ( الركن ) وانّ المولى يطلبه مطلقاً متمكناً كان أو عاجزاً غاية الأمر إذا عجز المكلّف منه سقط وجوب الباقي ، فعندئذ يجب قضاء الفعل بنفس الأمر الأوّل ، قال :
    نعم لو كان التوقيت بدليل منفصل ولم يكن له إطلاق على التقييد بالوقت وكان لدليل الواجب إطلاق لكان قضية إطلاقه ثبوت الوجوب بعد انقضاء الوقت وكون التقييد به بحسب تمام المطلوب لا أصله. (1)
1. كفاية الأُصول : 1/230.

(150)
    مثلاً إذا قال المولى : اغتسل من دون تحديد ، ثمّ قال في دليل آخر : اغتسل يوم الجمعة ، فلو افترضنا وجود الإطلاق في دليل الواجب والإهمال في دليل القيد بالنسبة إلى خارج الوقت ، فعندئذ يكون إطلاق دليل الواجب محكّماً خارج الوقت ، فعليه الغسل بعد غروب الجمعة.
    يلاحظ عليه : بأنّ ما ذكره خارج عن محل النزاع ، فإنّ البحث فيما إذا لم يكن في المقام دليل اجتهادي بالنسبة إلى تعدد المطلوب أو وحدته ، وإلا فالمتبع هو الدليل الاجتهادي ، ولو افترضنا كون البحث في نطاق وسيع ، فعليه أن يطرح الصور الأربع في المقام :
    أ. أن يكون لكلّ من دليلي الواجب والتوقيت إطلاق والمراد من وجود الإطلاق في دليل الواجب كونه بذاته مطلوباً ، سواء أُتي به في الوقت أو خارجه ، كما أنّ المراد من الإطلاق لدليل التوقيت كون الوقت دخيلاً في أصل المصلحة وانّه مطلوب في حالتي التمكن وعدمه.
    ب. أن يكون كل من الدليلين مهملاً من هذه الناحية فلا يدلّ دليل الواجب على كون الفعل بذاته مطلوباً مع قطع النظر عن القيد كما لا يدلّ دليل التوقيت على مدخلية الوقت في أصل المصلحة وكونه مطلوباً في حالي التمكّن وعدمه.
    ج. أن يكون لدليل الواجب إطلاق دون دليل التوقيت.
    د. عكس الثالث.
    أمّا الأوّل : فيؤخذ بإطلاق دليل التقييد لأظهريته من إطلاق دليل الواجب ، ويكون المراد انّ الوقت دخيل في أصل المصلحة لا في كمالها.
    كما أنّ المرجع في الثاني هو الأُصول العملية لفقدان الدليل الاجتهادي ،
إرشاد العقول إلى مباحث الأصول الجزء الثاني ::: فهرس