إرشاد العقول إلى مباحث الأصول الجزء الثاني ::: 196 ـ 210
(196)
    2. إذا قلنا بالامتناع مع تقديم الأمر.
    3. إذا قلنا بالامتناع مع تقديم النهي والالتفات إلى الحرمة.
    4. إذا قلنا بالامتناع مع تقديم النهي ، مع الجهل بالحرمة تقصيراً ونسيانها كذلك.
    5. إذا قلنا بالامتناع مع تقديم النهي مع الجهل بالحرمة جهلاً عن قصور.
    فنذكر هذه الصور وبيان أحكامها من حيث صحّة العمل وبطلانه عبادياً كان أو توصلياً.
    الصورة الأُولى : إذا قلنا بجواز اجتماع الأمر والنهي فلا شكّ في صحّة العمل التوصلي ، وهكذا العمل العبادي ، لأنّه يأتي بالمجمع بداعي الأمر وإن كان عمله معصية أيضاً ، لأنّ الاعتبار إنّما هو بالأمر غير الساقط ، وإلى هذه الصورة أشار المحقّق الخراساني بقوله : « لا إشكال في سقوط الأمر وحصول الامتثال بإتيان المجمع بداعي الأمر على الجواز قطعاً ولو في العبادات وإن كان معصية للنهي أيضاً ».
    وهذه الثمرة هي الثمرة المعروفة للمسألة اعتمد عليها الأُصوليون من سالف الأيام وكانت النتيجة صحة العبادة على القول بالاجتماع وبطلانها على القول بالامتناع.
    غير أنّ كلاً من العلمين : المحقّق البروجردي ، والمحقّق النائيني ـ قدّس اللّه سرّهما ـ أشكلا على صحّة الصلاة ، بل مطلق العبادة على القول بجواز الاجتماع ، لكن كل ببيان خاص.
    أمّا الأوّل فقال بأنّ العمل غير قابل للتقرب ، ومتعلّق كلّ من الأمر والنهي وإن كان متغايراً لكنّهما موجودين بوجود واحد ، فهو موجود غير محبوب ، بل


(197)
مبغوض فكيف يتقرب إلى المولى بأمر مبغوض ؟!
    وبعبارة أُخرى : انّ المكلّف بعمله هذا متمرد على المولى وخارج عن رسم العبودية وزيّ الرقيّة ، فكيف يتقرب إلى ساحته سبحانه ، بما يعدُّ مبعِّداً ولا يكون مقرِّباً ؟!
    يلاحظ عليه : أنّه إذا كان القرب والبعد ، أمراً عقلائياً ، وكان العمل مزيجاً بالمحبوب والمبغوض ، فلا مانع من أن يتقرّب بحيثية دون الأُخرى ، نظير ما إذا أطعم اليتيم بمال حلال في دار مغصوبة ، فيعدّ لأجل الترحم عليه متقرباً ، وإن كان لأجل التصرّف في مال الغير بلا إذن عاصياً ، غير متقرّب.
    والذي يرشدك إلى وجود الفرق بين العملين : انّه لو غصب دار المولى ، وأكرم فيها ابنه ، وما لو غصبها وضرب فيها ابنه ، فلا شكّ انّ بين العملين بعد المشرقين ، وهذا آية إمكان التقرب ، بعمل متحد مع العمل المبغوض.
    وأمّا الثاني فحاصل ما أفاده انّ الصلاة في الدار المغصوبة ليس مصداقاً للمكلّف به ، كما أنّه ليس واجداً للملاك.
    أمّا الأوّل فلأنّ منشأ اعتبار القدرة نفس التكليف لا حكم العقل ، لأنّ الأمر هو جعل داع للمكلّف نحو المكلف به ولا يصح جعله داعياً إلا إلى ما وقع في إطار قدرة المكلّف ، فيكون متعلّق التكليف هو الحصة المقدورة عقلاً ، غير الممنوعة شرعاً ، فتخرج الحصة المحرمة تحت الأمر ، وعلى ضوء ذلك فالصلاة لما كانت ملازمة للمحرم فلا تكون مصداقاً للأمر ولا تكون مأموراً بها ، ولا يمكن الحكم بالصحة لأجل الأمر.
    وأمّا عدم تصحيحها بالملاك ، فلأنّه إنّما يصحّ التقرب به إذا لم يكن ملازماً بالقبح الفاعلي وإلا فلا يكون صالحاً للتقرب ، والصلاة والغصب وإن كانا غير


(198)
متحدين إلا انّهما موجودان بإيجاد واحد ، فلا محالة يكون موجِدهما مرتكباً للقبيح بنفس الإيجاد ويستحيل أن يكون الفعل الصادر منه مقرّباً. (1)
    يلاحظ عليه أوّلاً : أنّ المعروف بين المتكلّمين هو انّ الحاكم باشتراط التكليف بالأُمور العامّة من العقل والقدرة والعلم ، هو العقل دون ذات التكليف ، وما ذكره من « أنّ منشأ اعتباره القدرة نفس التكليف ، وذلك لأنّ الأمر جعل داع للمكلّف نحو العمل ، ولا يصحّ جعله داعياً إلا إلى ما وقع في إطار قدرة المكلّف » ، عبارة أُخرى عن حكم العقل بذلك ، وإلا فلو غضّ النظر عن حاكمية العقل ، فأيّ دليل يمنع عن كون الأمر داعياً إلى الأعم ممّا هو واقع في إطار قدرة المكلّف وما هو خارج عنه ؟
    وبذلك يعلم أنّ متعلّق الأمر هو مطلق الطبيعة ، لا الطبيعة المقدورة ، غير الممنوعة ، فيكون الفرد المحظور مصداقاً لها ، غير خارج عنها.
    أضف إلى ذلك أنّ لازم ذلك هو الخروج عن محلّ البحث ، فانّ المفروض اجتماع الأمر والنهي ، وتصادقهما على المصداق الخارجي ، وتخصيص المورد بالنهي فقط خلف الفرض.
    وثانياً : انّ ما ذكره من كون المجمع فاقداً للملاك بحجّة أنّ موجد الصلاة والغصب مرتكب للقبح بنفس هذا الإيجاد ، « ويستحيل أن يكون العمل الصادر منه مقرِّباً » مبنيّ على سراية القبح الفاعلي إلى الفعل ، وهو بعدُ غير ثابت ، لأنّ الصلاة في الدار المغصوبة نفسها في البيت ، وكون الفاعل مرتكباً للقبيح مقارناً للصلاة ـ كما هو المفروض ـ لا يجعل الصلاة فعلاً قبيحاً.
    إلى هنا تمّ الكلام في الصورة الأُولى وإليك الكلام في الصورة الثانية.
1. المحاضرات : 4/216 ، 217 ، 219.

(199)
    الصورة الثانية : القول بالامتناع وتقديم جانب الأمر وإلى هذه الصورة أشار بقوله : « وكذا الحال على الامتناع مع ترجيح جانب الأمر إلا أنّه لا معصية عليه ، والفرق بين الصورتين هو وجود المعصية في الأُولى دون الثانية ، لكون النهي حكماً اقتضائيّاً لا فعليّاً » وذلك لأنّ القائل بالامتناع يحمل أحد الحكمين على الاقتضائي والآخر على الفعلي ، وظاهر العبارة صحّة العمل عبادياً كان أم توصلياً.
    لكن الموافقة معه مطلقاً مشكلة ، لأنّ الأخذ بالأمر لأجل كونه أقوى ملاكاً عن الحرام مختص بالصورتين التاليتين :
    1. إذا لم يتمكن من الصلاة إلا في المكان المغصوب.
    2. إذا تمكن من الصلاة في المكان المباح لكن دار الأمر بين فوت الواجب ـ لأجل ضيق الوقت ـ وارتكاب الحرام فيقدم الأمر.
    وأمّا إذا كان الوقت وسيعاً ، وكان هناك مندوحة ، فيؤخذ بالنهي دون الأمر لإمكان الجمع بين الامتثالين.
    الصورة الثالثة : إذا قلنا بالامتناع مع تقديم النهي لكونه أقوى ملاكاً مع الالتفات والعلم بالحرمة وإلى هذه الصورة أشار في الكفاية بقوله : « وأمّا عليه ( الامتناع ) وترجيح جانب النهي فيسقط به الأمر به مطلقاً في غير العبادات لحصول الغرض الموجب له ، وأمّا فيها فلا مع الالتفات إلى الحرمة » وما ذكره هو المتعيّن ووجهه واضح.
    الصورة الرابعة : إذا قلنا بالامتناع مع تقديم جانب النهي لكن المكلّف غير ملتفت إلى الحرمة تقصيراً أو نسياناً ، وإلى هذه الصورة أشار في « الكفاية » بقوله : أو بدونه ( الالتفات ) تقصيراً فانّه وإن كان متمكناً مع عدم الالتفات من قصد


(200)
القربة وقد قصدها إلا أنّه مع التقصير لا يصلح لأن يتقرّب به أصلاً ، فلا يقع مقرباً وبدونه لا يكاد يحصل به الغرض الموجب للأمر به عادة.
    وحاصله : انّه يتمكن من قصد القربة ، لكن العمل غير صالح لأن يتقرب به ، ونزيد بياناً بأنّ الصحة رهن أحد أمرين : الأمر والمفروض كونه اقتضائياً ، والملاك وهو بعد غير معلوم ، لأنّ الكاشف عنه هو الأمر والمفروض كونه إنشائياً ، ولأجل ذلك قال الفقهاء بأنّ المقصر والناسي خارجان عن قاعدة « لا تعاد » كما هما خارجان أيضاً عن حديث الرفع.
    الصورة الخامسة : تلك الصورة مع الجهل بالحرمة قصوراً.
    إذا قلنا بالامتناع وقدمنا النهي ولكن كان المصلي جاهلاً بالحرمة حكماً أو موضوعاً عن قصور ، فقد نسب إلى المشهور صحّة الصلاة في الدار المغصوبة إذا كان الجهل عن قصور ، والظاهر انّ قولهم لها لأجل قولهم بجواز الاجتماع ـ وسيوافيك انّ القول المشهور بين الإمامية من عصر الفضل بن شاذان ( المتوفّى 260 هـ ) إلى الأعصار المتأخرة كالمحقّق الأردبيلي وتلميذيه هو القول بجواز الاجتماع ، غير أنّ المحقّق الخراساني لما قال بالامتناع حاول أن يصحح فتوى المشهور بالصحة على مختاره وحاصل ما أفاده من الفرق بين الجهل عن تقصير والجهل عن قصور يتلخص في النقاط التالية :
    1. انّ صحّة العبادة رهن أمرين :
    الف : قصد القربة.
    ب : كون المأتي به صالحاً لأن يتقرّب به.
    والأوّل مشترك بين الجاهلين فيقصدان القربة ، لكن الثاني كون المأتي به صالحاً للتقرب غير متحقّق في المقصّر ، لأنّ الجاهل لما كان كالعامد ، يعد عمله


(201)
تمرّداً وعصياناً للمولى والمفروض انّ الحكم بالحرمة فعلي ، لا اقتضائي ، ولكنّه متحقّق في القاصر ، لعدم فعلية النهي وكونه اقتضائياً ، فلا يكون المأتي به مبغوضاً فيصلح لأن يتقرب به ، وإلى ما ذكرنا أشار بقوله : وأمّا إذا لم يلتفت إليها قصوراً وقد قصد القربة فالأمر يسقط لقصد التقرب بما يصلح أن يتقرب به لاشتماله على المصلحة مع صدوره حسناً لأجل الجهل بحرمته قصوراً.
    2. انّ سقوط الأمر لأجل حصول الغرض من الأمر ، وليس لأجل الامتثال ، لافتراض تقديم النهي على الأمر ، وذلك ( تقديم النهي ) لأنّ الأحكام الشرعية تابعة للجهات الواقعية في المصالح والمفاسد ، لا للجهات المؤثرة فيها فعلاً والمفروض انّ مصلحة النهي ـ وإن لم يكن واصلاً ـ هو الأقوى فيكون العمل محكوماً بالحرمة لا بالوجوب ، ولأجل ذلك قلنا إنّه لا يصدق الامتثال نعم يسقط الأمر لأجل حصول الغرض. وإلى ما ذكرنا أشار بقوله : فيحصل به الغرض من الأمر فيسقط به قطعاً وإن لم يكن امتثالاً بناء على تبعية الأحكام لما هو الأقوى من جهات المصالح والمفاسد.
    3. لو قلنا بأنّ الأحكام الشرعية تابعة للجهات الواصلة ، وانّه لا أثر للملاك الواقعي ، بل التأثير في التقديم والتأخير هو الملاك الواصل ـ وهو ما كان ملتفتاً إليه ـ ينقلب حكم الواقعة من النهي إلى الوجوب فيكون المورد ، امتثالاً للأمر المقدم ، دون النهي ، لكن الفرض غير ثابت عند الإمامية لاستلزامه نوعاً من التصويب وأن يكون حكم اللّه تابعاً لعلم المكلف.
    وإلى ما ذكرنا أشير بقوله : لا لما هو المؤثر منها فعلاً للحسن أو القبح لكونهما تابعين لماعلم منهما ـ كما حقّق في محله ـ.
    4. يمكن أن يقال بحصول الامتثال في المقام حتّى بناءً على تبعية الأحكام


(202)
للملاكات الواقعية من المصالح والمفاسد ، لا للجهات المؤثرة فيها فعلاً ، وذلك لأنّ العقل لا يرى فرقاً بين هذا الفرد والفرد الآخر في الوفاء بالغرض من الأمر بالطبيعة ، وإلى ذلك أشار في « الكفاية » بقوله : مع أنّه يمكن أن يقال بحصول الامتثال مع ذلك ـ كون المؤثر هو الجهات الواقعية لا الواصلة ـ بأنّ العقل لا يرى تفاوتاً بينه وبين سائر الأفراد في الوفاء بفرض الطبيعة المأمور بها وإن لم يعمه بما هي مأمور بها ، لكنّه لوجود المانع لا لعدم المقتضي ، فيكون المورد أشبه بما مرّ في الواجب الموسع المبتلى بواجب مضيق فيأتي بالموسع دونه ، فإنّ الفرد الموسع وإن كان فاقداً للأمر ، لكنّه لا لفقد المقتضي ، بل لأجل وجود المانع ، فيأتي به بنيّة الأمر المتعلّق بالطبيعة بما هي هي لا بما هي مأمور بها.
    5. ثمّ رتّب على ما ذكر بأنّه لو كان دليلا الحرمة والوجوب من قبيل المتعارضين وقُدّم دليل الحرمة ، فلا يكون مجال للصحة ، لفقدان الملاك حتى في الجهل عن قصور بخلاف ما إذا كانا من باب الاجتماع وقيل بالامتناع وتقديم جانب الحرمة ، فيمكن الحكم بالصحة في موارد الجهل والنسيان عن قصور لوجود الملاك وحصول الغرض كما في الفروض الثلاثة الأُولى وإمكان إتيانه بالأمر المتعلّق بالطبيعة كما في الفرض الرابع.
    هذا إيضاح ما في « الكفاية ».
    ثـمّ إنّ السيـد الأُستـاذ ، أورد على صاحب الكفاية بـأنّ الجمـع بيـن القول بالامتناع ، واشتمال الصلاة في الدار المغصوبة على الملاكين ، جمع بين المتضادين.
    توضيحه : انّه لا شكّ في وجود التضاد بين ملاكي الغصب والصلاة ، فإن أمكن رفع التضاد بين الملاكين باختلاف الحيثيتين ، أمكن رفعه في الحكمين مع أنّ


(203)
القائل بالامتناع لا يلتزم به ، ولو قلنا بأنّ اختلاف الحيثيتين ، لا يرفع تضاد الحكمين لكونهما موجودين بوجود واحد فلا يرفع تضاد الملاكين. (1)
    لكن لقائل أن يقول : إنّ اختلاف العنوانين لا يكون مصحِّحاً لتعلّق الوجوب والحرمة بالشيء الواحد وجوداً ، وإن جاز أن يكون مصحِّحاً لاجتماع الملاكين فيه ، وذلك لأنّ العنوانين وإن كانا مختلفين مفهوماً ، لكنّهما متّحدان وجوداً. ولازم اجتماع الحكمين المتضادّين ، طلب إيجاد شيء واحد وتركه ، وهو بمنزلة الأمر بالمحال. وهذا بخلاف الملاكين المختلفين في المصلحة والمفسدة ، فانّهما ليسا قائمين بالمكلّف به حتّى لا يصحّ توصيفه بالصلاح والفساد ، لأنّهما من الأُمور الخارجية الراجعة إلى نفس المكلَّف تارة ، ومجتمعه أُخرى. فالصلاة في الدار المغصوبة ذات صلاح وفلاح وهي التي تدفع الإنسان إلى ذكر ربّه ، الذي هو مفتاح كلّ خير. كما أنّها مبدأ فساد وشرّ ، لاستلزامها التعدّي على حقوق الغير الذي هو قبيح عقلاً ، ومستلزمة لرواج الفوضى في المجتمع واختلال النظام. ولا مانع من اجتماعهما لاختلاف محلّهما. وهو ـ دام ظلّه ـ صرّح بذلك في موضع آخر (2) ، وبذلك صحّح كون الشيء الواحد مقرّباً ومبعداً ، حسناً وقبيحاً.
    إذا عرفت هذه المقدمات يقع الكلام في أدلّة القائل بالامتناع ، وقد هذّبه المحقّق الخراساني في ضمن أُمور :
1. تهذيب الأُصول : 1/288.
2. لاحظ تهذيب الأُصول : 1/316.


(204)
    دليل القائلين بامتناع اجتماع الأمر والنهي
    استدلّ القائل بالامتناع بوجوه أتقنها وأوجزها ما أفاده المحقّق الخراساني بترتيب مقدّمات أربع ، وإليك الإشارة إلى رؤوسها :
    1. الأحكام الخمسة تضاد بعضاً بعض ، والمتضادان لا يجتمعان.
    2. الأحكام تتعلّق بالمصاديق والأفعال الخارجية لا العناوين الكلية.
    3. انّ تعدد العنوان كالغصب والصلاة لا يوجب تعدداً في المعنون.
    4. ليس للوجود الواحد إلا ماهية واحدة.
    ثمّ إنّه ( قدس سره ) شرع ببيان هذه المقدّمات الأربع وخرج بالنتيجة التالية ، وهي امتناع اجتماع الأمر والنهي في شيء واحد بعنوانين.
    والحجر الأساس لاستنباط الامتناع هو الأوّليان من المقدّمات الأربع دون الثالثة والرابعة ، فانّ الثالثة أي إيجاب تعدّد العنوان تعددَ المعنون ـ على القول به ـ إنّما يختصّ بالعناوين الأصلية كالجنس والفصل دون الاعتبارية كالصلاة والانتزاعية كالغصب ، فانّ الصلاة كما سيوافيك أمر اعتباري يطلق على موجود متشكل من أجناس مختلفة كالكيف في القراءة والوضع في الركوع والسجود ، كما أنّ الغصب عنوان انتزاعي ينتزع من استيلاء الأجنبي على ملك الغير سواء كان بالكون فيه كالسكنى في بيت الغير ، أو بالحيلولة بينه وبين المالك وإن لم يتصرف فيه ، وعلى أيّ حال فالبحث في أنّ تعدّد العنوان يوجب تعدّد المعنون أو لا ، مختص بالأُمور التكوينية ولا يعم الاعتبارية والانتزاعية.


(205)
    كما أنّ المقدمة الرابعة خارجة عن محط البحث ، لأنّ البحث في أنّ للوجود الواحد ماهية واحدة لا غير يختص بالماهيات المتأصلة ، وأين هذا من الماهيات الاعتبارية والانتزاعية ؟
    فالمهم في المقام هو المقدّمة الأُولى والثانية ، وإليك تحليلهما.
    تحليل المقدّمة الأُولى
    قال المحقّق الخراساني في إثبات تلك المقدمة : إنّ الأحكام الخمسة متضادة في مقام فعليتها وبلوغها إلى مرتبة البعث والزجر ، ضرورة ثبوت المنافاة والمعاندة التامة بين البعث نحو واحد في زمان ، والزجر عنه في ذاك الزمان فاستحالة اجتماع الأمر والنهي في واحد لا تكون من باب التكليف بالمحال ، بل من جهة انّه بنفسه محال ، فلا يجوز عند من يجوّز التكليف بغير المقدور أيضاً. (1)
    أقول : القول بأنّ الأحكام الخمسة بأسرها متضادة ، رهن انطباق تعريف التضاد عليها مع أنّه غير منطبق عليها ، وقد عُرّف الضدّان بأنّهما أمران وجوديان لا يستلزم تعقّل أحدهما تعقّل الآخر يتعاقبان على موضوع واحد داخلان تحت جنس قريب ، بينهما غاية الخلاف.
    والتعريف مشتمل على قيود خمسة وكلّ قيد يحترز به عمّا ليس واجداً للقيد.
    1. أمران وجوديان ، خرج المتناقضان والعدم والملكة.
    2. لا يستلزم تصوّر أحدهما تصوّر الآخر ، خرج المتضائفان ، كالأُبوة والبنوة.
1. كفاية الأُصول : 1/249.

(206)
    3. يتعاقبان على موضوع واحد ، خرج ما يجتمع من الأعراض كالحلاوة والحُمْرة.
    4. داخلان تحت جنس قريب ، خرج المتماثلان لأنّهما داخلان تحت نوع واحد وإن كانا لا يجتمعان.
    5. بينهما غاية الخلاف ، خرج القتمة والحمرة.
    إذا وقفت على تعريف التضاد فهلمّ معي ندرس انطباقَ تعريف التضاد على مطلق الأحكام أو خصوص الوجوب والحرمة وعدمه ؟
    فنقول : المراد من الوجوب والحرمة في اصطلاح الأُصوليّين هو البعث والزجر الإنشائيّان بلفظ : « افعل » أو « لا تفعل » والبعث والزجر من الأُمور الاعتبارية بقرينة إنشائهما باللفظ ، فإنّ الإنشاء يتعلّق بالأمر الاعتباري دون الأمر التكويني ، والإنشاء نوع مضاهاة لعالم التكوين مثلاً انّ الإنسان قبل الحضارة كان يبعث غلامه أو يزجره بيده ولما جلس على منصّة التشريع والتقنين أخذ ينشأ بلفظتي « افعل » و « لا تفعل » ما يضاهي البعث أو الزجر التكوينيين ، فالمنشأ بعث إنشائي قائم مكان البعث باليد ، والأُمور الاعتبارية خارجة موضوعاً عن تعريف التضاد.
    فإن قلت : إنّ الوجوب والحرمة وإن كانا أمرين اعتباريين لكن منشأهما هو الإرادة ، ومن المعلوم انّ إرادة البعث تضادّ إرادة الزجر ، فلعلّ إطلاق التضاد على الأحكام باعتبار مباديها وهي الإرادة.
    قلت : إنّ الإرادتين وإن كانتا غير مجتمعتين لكن عدم الاجتماع ليس لأجل التضاد لما قلنا من أنّ الضدّين عبارة عن الأمرين اللذين يكونان من نوعين داخلين تحت جنس قريب كالسواد والبياض ، إذ هما داخلان تحت الكيف المبصر


(207)
ولكن الإرادتين في الأمر والنهي ليستا من نوعين ، بل من نوع واحد ، غاية الأمر يختلفان باعتبار المراد.
    فإن قلت : إنّ القول باجتماع الأمر والنهي يستلزم ما لا يمكن اجتماعهما ، سواء أكانا من الأُمور المتضادة أم من غيرها ، وذلك في مواضع ثلاثة :
    1. في مقام الجعل حيث لا يمكن البعث إلى شيء في وقت ، والزجر عنه في نفس الوقت.
    2. في المبادئ حيث إنّ الأمر كاشف عن المحبوبية والمصلحة ، والنهي كاشف عن خلافها.
    3. في مقام الامتثال حيث إنّ بينهما مطاردة من حيث الامتثال والإطاعة ، فامتثال الأمر يكون بالإتيان بالمتعلق ، وامتثال النهي بتركه وليس بإمكان المكلّف الجمع بين الفعل والترك.
    قلت : إنّ البحث منصبّ على مسألة وجود التضاد بين الأحكام وعدمه وأمّا البحث عن إمكان اجتماع البعث والنهي وعدم إمكانهما ، أو عن اختلاف المبادي وعدم إمكان اجتماعها ، أو المطاردة في مقام الامتثال فموكول إلى المستقبل وسيوافيك دفع هذه المحاذير.
    تحليل المقدّمة الثانية
    ذهب المحقّق الخراساني إلى أنّ متعلّق الأحكام هو فعل المكلّف وما هو في الخارج يصدر عنه وهو فاعله وجاعله ، لا ما هو اسمه وهو واضح ، ولا ما هو عنوانه ممّا قد انتزع عنه ، وإنّما يؤخذ في متعلّق الأحكام آلة للحاظ متعلّقاتها والإشارة إليها بمقدار الغرض منها والحاجة إليها ، لا بما هو هو وبنفسه وعلى


(208)
استقلاله وحياله. (1)
    ثمّ استنتج ممّا ذكره ما هذا لفظه : انّ المجمع حيث كان واحداً وجوداً وذاتاً كان تعلّق الأمر والنهي به محالاً ، ولو كان تعلّقهما به بعنوانين وذلك لما عرفت من كون فعل المكلّف بحقيقته وواقعيته الصادرة عنـه ، متعلّقاً للأحكـام ، لا بعناوينه الطارئة عليه. (2)
    أقول : إنّ في متعلّق الأحكام احتمالات نذكرها تباعاً :
    1. الأحكام متعلّقة بالمفاهيم الذهنية المقيدة بكونها في الذهن.
    2. الأحكام متعلّقة بالأفعال الخارجية والموجودات العينية ، وهذا ما يعبَّر عنه بالوجود بمعنى اسم المصدر.
    3. الأحكام متعلّقة بإيجاد الطبائع في الخارج ، والذي يقال له الوجود بالمعنى المصدري.
    4. الأحكام متعلّقة بالطبائع المعراة من كلّ عارض ولاحق ، المنسلخة عن كلّ شيء لكن لغاية الإيجاد ، فالإيجاد غاية للبعث وليس متعلّقاً له.
    5. الأحكام متعلّقة بالعناوين بما هي مرآة للخارج وطريق إليه ، وليس مراد القائل بتعلق الأحكام بالخارج ، بتعلّقها به من دون توسيط عنوان مشير إليه.
    هذه هي مجموع الاحتمالات التي تتصوّر في المقام.
    أمّا الأوّل فهو غير صحيح بالمرة ، لأنّ المفاهيم بقيد كونها في الذهن غير قابلة للامتثال أوّلاً ، ولا تغني ولا تسمن من جوع ثانياً.
    وأمّا الثاني فهو الذي بنى عليه المحقّق الخراساني نظرية الامتناع ، فهو أيضاً
1. كفاية الأُصول : 1/249.
2. كفاية الأُصول : 1/251 ـ 252.


(209)
غير تام ، وذلك لأنّه إن أُريد من تعلّق الحكم بالخارج ، الفرد الخارجي من الصلاة بعد وجودها فهو طلب للحاصل ، وإن أُريد الفرد الخارجي قبل وجودها فليس له أيّة واقعية حتّى يتعلّق به الطلب ، وماله الواقعية هي العناوين الكلية التي لا يرضى القائل في المقام بتعلّق الأحكام بها.
    وأمّا الثالث فهو الذي أوعز إليه المحقّق الخراساني عند البحث عن متعلّقات الأوامر في خاتمة كلامه.
    فيرد عليه أمران :
    أ. انّ دلالته على إيجاد الطبيعة فرع وجود دال عليه ، والدال منحصر في الهيئة والمادة ، والأولى وضعت للبعث نحو الطبيعة ، والثانية وضعت لنفس الطبيعة فأين الدال على إيجاد الطبيعة.
    ب. لو افترضنا صحّة النظرية لكانت النتيجة هي جواز اجتماع الأمر والنهي ، لأنّ القول بتعلّق الأحكام بإيجاد الطبيعة عبارة أُخرى عن تعلّقها بالعناوين الكلية من دون فرق بين أن يكون العنوان هو الصلاة أو الغصب أو يكون العنوان إيجاد الصلاة وإيجاد الغصب فيكون متعلّق كلّ غير الآخر.
    وأمّا الرابع فهو الحقّ الذي لا غبار عليه ، فانّ القوة المقننة تنظر إلى واقع الحياة عن طريق العناوين والمفاهيم الكلية وتبعث إليها لغاية الإيجاد أو الترك فيكون متعلّق كلّ من الأمر والنهي مفهوماً فاقداً لكلّ شيء إلا نفسه ، فعندئذ ترتفع المطاردة في مقام التشريع ، لأنّ متعلّق الأمر غير متعلّق النهي.
    كما ترتفع المطاردة في مقام الامتثال ، لأنّه بوجوده الواحد مصداق للامتثال والعصيان لكن كلاً بحيثية خاصة.
    وأمّا الخامس فهو يرجع إلى الاحتمال الرابع ، فإن أُريد من المرآتية ، المرآتية


(210)
بالفعل ، فالمفاهيم الذهنية لا تكون مرآة للخارج بالفعل لعدم وجود المرئي ؛ وإن أُريد المرآتية الشأنية ، فهو يرجع إلى الاحتمال الرابع ، وهو انّ المأمور به هو الطبيعة المنسلخة عن كلّ تعين وعارض سوى نفسها لكن الأمر بها لغاية الإيجاد أو لغاية الترك.
    إلى هنا تمّ تحليل ما أرساه المحقّق الخراساني من الاستدلال على الامتناع ، وقد عرفت عدم تماميته ، فحان البحث في بيان أدلّة القائلين بالجواز.
إرشاد العقول إلى مباحث الأصول الجزء الثاني ::: فهرس