إرشاد العقول إلى مباحث الأصول الجزء الثاني ::: 211 ـ 225
(211)
    استدلّ القائل بالجواز بوجوه سبعة نذكرها واحداً تلو الآخر ، ولكن قبل الخوض في بيان هذه الوجوه نلفت نظر القارئ إلى نكتة ، وهي :
    إنّ القائلين بالجواز على طائفتين :
    فمنهم من يقول بأنّ الأحكام تتعلّق بالمصاديق الخارجية والأُمور العينية ، وعلى الرغم من ذلك فهو يقول بجواز الاجتماع لأجل انّ التركيب بين الصلاة والغصب انضمامي لا اتحادي وهذا يقرب ممّا ذكره الآخرون من أنّ تعدد العنوان يوجب تعدد المعنون فالقول بالجواز لأجل انّ متعلق الأمر غير متعلق النهي في الخارج.
    وهذا كالمحقق النائيني الذي تطرق إلى تثبيت الجواز عن طريق انّ التركيب بين المادة والصورة انضمامي لا اتحادي ، فخرج بالنتيجة التالية : انّ تركيب الغصب والصلاة تركيب انضمامي فالحيثية الصلائية غير الحيثية الغصبية.
    ومنهم من يقول بأنّ متعلّق الأحكام هو الطبائع بما هي هي ، وعندئذ يسهل له القول بالجواز ، لأنّ متعلّق الأمر في عالم الجعل والإنشاء غير متعلّق النهي ، وقد ذهب إلى هذا القول السيد المحقّق البروجردي والسيد الأُستاذ ( قدس سرهما ).
    فعلى القارئ الكريم الالتفات إلى هذه النكتة في دراسة أدلّة القائلين بالجواز.
    إذا عرفت ذلك فلنذكر تلك الوجوه :


(212)
    الأول : دليل قدماء الأُصوليّين
    إذا أمر المولى عبده بخياطة ثوب ونهاه عن الكون في مكان خاص ، فخاطه العبد في ذلك المكان عدّ مطيعاً لأمر الخياطة ، ولذا لا يأمره بتجديد الخياطة ، وعدّ عاصياً للكون في ذاك المكان الخاص.
    يلاحظ عليه : أنّ المثال خارج عن محط البحث فلأنّ الخياطة لا تختلط بالغصب ، لأنّ الأولى عبارة عن إدخال الإبرة في الثوب ، كما أنّ الثاني عبارة عن الكون في المكان الخاص فلا يعد إدخال الإبرة في الثوب غصباً ، إذ ليس فيه تصرف في المغصوب ، وليس التصرّف في الهواء تصرّفاً في المغصوب ، لأنّه ليس ملكاً لصاحب المكان.
    الثاني : دليل المحقّق القمّي
    استدل المحقّق القمي بوجه مفصل نذكره ضمن مقاطع.
    قال : إنّ متعلّق الأمر طبيعة الصلاة ، ومتعلّق النهي طبيعة الغصب ، وقد أوجدهما المكلّف بسوء اختياره في شيء واحد ولا يرد في ذلك قبح على الآمر ، لتغاير متعلق المتضادين فلا يلزم التكليف بالمتضادين.
    فإن قلت : الكلي لا وجود له إلا بالأفراد ، فالمراد بالتكليف بالكلي هو إيجاد الفرد وإن كان على الظاهر متعلّقاً بالكلّي.
    قلت : إنّ الفرد مقدّمة لتحقّق الكلّي في الخارج ، فلا غائلة في التكليف به مع التمكّن من سائر المقدمات.
    فإن قلت : إنّ الأمر بالمقدّمة اللازم من الأمر بالكلّي يكفينا ، فإنّ الأمر بالصلاة أمر بالكون الكلي ، والأمر به أمر بالكون الخاص مقدّمة ، فهذا الكون


(213)
بعينه منهي عنه أيضاً بالنهي المقدّمي.
    قلت : نمنع وجوب مقدّمة الواجب ، وعلى فرض الوجوب ، فالواجب هو فرد ما من الكون ، لا الكون الخاص الجزئي ، وإنّما اختار المكلّف مطلقاً الكون في ضمن هذا الفرد المحرّم.
    نعم لو كانت المقدّمة منحصرة في الحرام ، كما إذا لم يتمكن إلا من الصلاة في الدار المغصوبة ، فنحن نقول بامتناع الاجتماع ، فلابدّ إمّا من الوجوب أو الحرمة. (1)
    هذا ملّخص كلامه ، وحاصله :
    1. لا مانع من اجتماع الحكمين لاختلاف المتعلّقين ، واجتماع الحكمين المتضادين في الفرد لا يضر ، لأنّ الفرد مقدمة لهما.
    2. لو قلنا بوجوب مقدّمة الواجب وحرمة مقدّمة الحرام ، فالكون حرام لا انّه واجب لاختصاص الوجوب بالمباح ، ويسقط وجوب المقدّمة بالمحرّم ، لكون وجوبها توصلياً.
    3. لو فرض انحصار المقدّمة بالحرام ، فلابدّ من القول بامتناع الاجتماع ، فلابدّ من تقديم الوجوب أو التحريم.
    وربما ينسب إليه التفصيل بين كون الانحصار بسوء الاختيار وعدمه ، وانّه لا مانع من فعلية وجوب ذيها لكونه بسوء الاختيار ، دون ما لم يكن كذلك ولكنّه ليس في كلامه إشارة إليه ، ولعلّه ذكره في غير هذا المقام ، كما قال المحقّق المشكيني في تعليقته على الكفاية ، وستوافيك النسبة في التنبيه الأوّل من تنبيهات المسألة
1. القوانين : 1/141 ـ 142.

(214)
فانتظر.
    يلاحظ عليه أوّلاً : بما في الكفاية من أنّ الفرد الخارجي نفس الطبيعي في عالم العين وإن كان غيره في عالم التصوّر ، ومع العينية كيف تتصوّر المقدّمية المستلزمة للاثنينية. وهي منتفية قطعاً.
    وثانياً : انّ ما نسب إليه من فعلية وجوب ذيها مع تسليم حرمة المقدّمة غير تام ، لأنّه يستلزم التكليف بالمحال وهو غير جائز ، سواء أكان بسوء الاختيار أو لا.
    وأمّا القاعدة المعروفة من أنّ الامتناع بالاختيار لا ينافي الاختيار فليس بمعنى صحّة الخطاب بل بمعنى وجود الملاك.
    وبعبارة أُخرى : لا ينافي ملاكاً وعقاباً لا خطاباً وحكماً ، فلو ألقى نفسه من شاهق فحال السقوط حرام ملاكاً لا خطاباً لامتناع الامتثال عندئذ.
    الثالث : دليل المحقّق النائيني
    إنّ المحقّق النائيني من القائلين بالجواز مع القول بتعلّق الأحكام بالمصاديق الخارجية ، غير أنّه يسعى ليثبت انّ متعلّق الأمر في الخارج غير متعلّق الأمر فيه ، ودليله مبني على مسألة فلسفية حول تركيب المادة والصورة ، فالحكماء على طائفتين ، فمنهم من يقول بأنّ التركيب اتحادي وليست هنا كثرة.
    مثلاً الحيوان إذا وقع في مدارج الكمال يصير نفس الإنسان لا شيئاً منضماً إلى النفس الناطقة ونظيره : تركب الجسم من حيوان وصورة ، فانّ الهيولى في الماء نفس الصورة المائية كما أنّ الهيولى في النار نفس الصورة الخارجية.
    ومنهم من يذهب إلى أنّ التركيب انضمامي وإنّ هنا كثرة باسم المادة والصورة كالحيوان بالنسبة إلى الناطق ، أو باسم الهيولى والصورة كما في الماء والنار


(215)
على القول بتركب الكل من الهيولى والصورة. وإلى كلا القولين يشير المحقّق السبزواري بقوله :
    ان بقول السيد السناد تركيب عينية اتحاد
    لكن قـول الحكماء العظام من قبله التركيب الانضمام
    ثمّ إنّ المحقّق النائيني ( قدس سره ) برهن على مختاره ببيان مفصل نأتي بموجزه تحت أرقام رياضية حتى يسهل فهم مرامه.
    1. انّ الصلاة الموجودة في المجمع لا تنقص عن حقيقة الصلاة بشيء ، إذا أتى بها في مكان مباح كما أنّ الغصب الموجود في المجمع لا تنقص من حقيقة الغصب بشيء كما إذا كان الغصب مجرداً عن الصلاة.
    2. انّ الصلاة من مقولة الوضع وعُرّف الوضع بأنّه نسبة حاصلة للشيء من نسبة أجزاء الشيء بعضها إلى بعض والمجموع إلى الخارج ( أي الخارج عن ذلك الشيء ) كالقيام والقعود ، والاستلقاء والانبطاح وغيرها ، فالقيام مثلاً عبارة عن الهيئة الحاصلة من نسبة بعض أعضاء البدن إلى بعض كالرأس إلى أعلى والأقدام إلى أسفل ، والمجموع إلى الخارج ككونه مستقبلاً للقبلة ومستدبراً الجدي.
    فعلى هذا فالصلاة مؤلفة من قيام وركوع وسجود ، وجلوس في التشهد كلّها حتّى مقولة الوضع ، وأمّا الهويّ إلى الركوع والسجود فإن قلنا بخروجها عن ماهية الصلاة فهو ، وإلا فما هو جزء للصلاة عبارة عن الأوضاع المتلاحقة والمتلاصقة ، فانّ الهويّ لاينفك عن الأوضاع المتبادلة ، فإذا شرع في الانحناء للركوع أو السجود إلى الأرض يتبدّل الوضع السابق إلى وضع لاحق ويستمر التبدّل إلى أن يصل إلى حدّ الركوع أو السجود.
    كما أنّ الغصب من مقولة الأين ، وعرف الأين بأنّه هيئة حاصلة من كون


(216)
الشيء في المكان وليس مجرد نسبة الشيء إلى المكان ، بل الهيئة الحاصلة من كون المكين فيه ، فالصلاة في الدار المغصوبة لا تنفك عن كون الإنسان فيها ، فتحصل هيئة خاصة باسم الغصب.
    إلى هنا تبيّن انّ الصلاة لا تجتمع مع الغصب في حال من الأحوال ، لأنّ الأولى من مقولة الوضع والثاني من مقولة الأين ، والوضع والأين من الأجناس العالية التي لا جنس فوقها وهي متباينات بالذات غير مجتمعات كذلك.
    3. هذا هو لبّ البرهان غير أنّ المستدل التفت إلى وجود الإشكال في الحركة في حال الهوي إلى الركوع والسجود ، فإنّ الحركة يجتمع فيها عنوان الغصب والصلاة مع كونها أمراً واحداً ، فهذا هو الأمر الثالث الذي حاول أن يثبت فيه انّ هنا حركتين ، لأنّ وحدة الحركة في المقام يتصور على وجهين وكلاهما باطلان.
    أ. أن تكون الحركة جنساً وعنوانا الصلاة والغصب فصلاً.
    ب. أن تكون الحركة عرضاً والصلاة والغصب عارضين لها.
    أمّا الأوّل فغير صحيح بالمرة لاستلزامه أن يكون الشيء الواحد يقع تحت فصلين.
    وأمّا الثاني فيستلزم قيام العرض بالعرض كما يستلزم تركب الأعراض مع انّها بسائط ، فلا محيص إلا عن الالتزام بأمر آخر وهو تعدّد الحركة الذي بيّنه في المقطع الرابع بقوله :
    4. قد حقّق في محله انّ الحركة لا تدخل تحت مقولة ، والمقولات وإن كانت عشرة ولكن الحركة لا تدخل تحت واحدة من هذه المقولات ، وهذا لا يعني انّ الحركة مقولة وراء المقولات العشرة تضاف إليها حتّى ينتهي عدد المقولات إلى إحدى عشرة مقولة بل الحركة في كل مقولة نفسها ، مثلاً :


(217)
    إنّ التفاحة على الشجرة يطرأ عليها حالات مختلفة ، فتنقلب من البياض إلى الصفرة والحمرة ، ومن صغر الحجم إلى كبره.
    فهناك حركتان حركة في الكيف وحركة في الكم والحركة في كلّ مقولة نفس تلك المقولة لا شيئاً وراء ذلك.
    وعلى ضوء ذلك فالحركة في الدار المغصوبة ينطبق عليها الوضع والأين ، فهي مع الوضع وضع ومع الأين أين ، وبما انّهما من الأجناس المتباينة لا محيص إلا أن يقال انّ الصلاة مغايرة بالحقيقة والهوية للغصب ، وبالتالي الحركة الصلائية مغايرة للحركة الغصبية ، بعين مغايرة الصلاة والغصب ، ويكون في المجمع حركتان : حركة صلائيّة ، وحركة غصبيّة ، وليس المراد من الحركة رفع اليد ووضع اليد وحركة الرأس والرّجل ووضعهما ، فإنّ ذلك لا دخل له في المقام حتّى يبحث عن أنّها واحدة أو متعددة ، بل المراد من الحركة : الحركة الصلائيّة ، والحركة الغصبيّة ، وهما متعددتان لا محالة.
    وإلى الأمر الثالث والرابع يشير المحقّق الخوئي في تقريراته عن أُستاذه ، فيقول :
    فإن قلت : أليست الحركة الواحدة الخارجية يصدق عليها انّها صلاة كما يصدق عليها انّها غصب وعليه ، فلا محالة يكون التركيب بينهما اتحادياً ويكون كلّ منهما بالإضافة إلى الآخر لا بشرط.
    قلت : ليس الأمر كذلك فانّ الصلاة من مقولة والغصب من مقولة أُخرى منضمة إليها ، أعني بها مقولة الأين ، ومن الواضح انّ المقولات كلّها متباينة يمتنع اتحاد اثنتين منها في الوجود وكون التركيب بينهما اتحادياً وما ذكر من صدقها على حركة شخصية واحدة يستلزم تفصّل الجنس الواحد ، أعني به : الحركة بفصلين في


(218)
عرض واحد وهو غير معقول.
    هذه عصارة البرهان التي استللناها من كلا التقريرين : ( « فوائد الأُصول » للكاظمي و « أجود التقريرات » للخوئي ).
    يلاحظ على الاستدلال بأُمور :
    الأوّل : فلأنّ التأكيد على أنّ تركيب العنوانين تركيب انضمامي لا اتحادي يعرب عن اتّفاقه مع المحقّق الخراساني على أنّ الأحكام تتعلّق بالأفعال الخارجية ، ولما كانت نتيجة ذلك هو الامتناع لا جواز الاجتماع فانبرى إلى تصحيح الاجتماع بأن تركيب المقولتين انضمامي وكلّ مقولة بمعزل عن المقولة الأُخرى ، فتكون إحداهما متعلّقة بالأمر والأُخرى متعلّقة بالنهي.
    ولكنّك عرفت أنّ الأحكام لا تتعلّق بالأفعال الخارجية لأنّها بعد الوجود ظرف السقوط ، وقبل الوجود ليس لها تحقّق في الخارج حتّى يتعلّق بها الحكم.
    الثاني : انّ حديث التركيب الانضمامي والاتحادي من خصائص الوجودات الخارجية كالمادة والصورة أو الهيولى والصورة ، فمن قائل بأنّ المادة في مدارج حركتها تصير نفس الصورة من دون أن يكون بينهما اثنينية ، والتركيب بينهما اتحادي إلى آخر بأنّ المادة في مدارج حركتها تتشخص بالصورة وبينهما اثنينية والتركيب بينهما انضمامي.
    وعلى كلّ حال فهذا البحث الفلسفي مختص بالموجودات الخارجية دون العناوين الاعتبارية كالصلاة أو الانتزاعية كالغصب.
    أمّا الصلاة فهي عنوان اعتباري يعبر بها عن عدة مقولات متنوعة ومجتمعة فالصلاة تشتمل على الأذكار ، وهي بما انّها مشتملة على الجهر والإخفات من مقولة الكيف ، وعلى القيام والركوع والسجود فهي من مقولة الوضع ، وعلى الهوي فإن


(219)
قلنا بأنّ الواجب هي الهيئة الركوعية والسجودية وانّ الهوي مقدمة فهي من مقولة الوضع ، وإن قلنا : إنّ الواجب هو الفعل الصادر من المكلّف ، فيكون الهُويّ حركة في الوضع إلى أن تنتهي بترك الأوضاع المتلاحقة إلى حدّ الركوع والسجود.
    وعلى ضوء ذلك تكون الصلاة أمراً اعتبارياً باعتبار إطلاقها على ما يشتمل على أزيد من مقولة وأمّا الغصب فهو أمر انتزاعي بشهادة انّه ينتزع من أمرين مختلفين في الماهية.
    1. قد ينتزع من التصرف في مال الغير ، كلبس ثوب الغير.
    2. قد ينتزع من الاستيلاء على مال الغير بلا تصرف فيه ، كما إذا منع المالك من التصرف في ماله فيكون الغصب عنواناً انتزاعياً ، تارة ينتزع من التصرف في مال الغير ، وأُخرى من الاستيلاء على مال الغير وإن لم يتصرف فيه ، فمثل ذلك لا يكون داخلاً تحت مقولة وإنّما يكون أمراً انتزاعياً ، فحديث التركيب الاتحادي والانضمامي في المقام أشبه بالسالبة بانتفاء الموضوع ، وعلى ذلك فالغصب ليس من الماهيات المتأصلة ليستحيل اتحاده مع الصلاة خارجاً وانّه من المفاهيم الانتزاعية القابلة للانطباق على ماهيات متعددة ، وعليه فلا مانع من انطباقه على الصلاة.
    الثالث : انّ القول بتعدّد الحركة وانّ الحركة الصلائية غير الحركة الغصبية يخالف الحس والوجدان ، إذ لا يصدر عن المصلي إلا حركة واحدة وعلى فرض صدور حركتين فالحركة الثانية أيضاً بما انّها تصرف في مال الغير توصف بالغصب أيضاً.
    على أنّ استنتاج الحكم الشرعي من هذه المقدّمات الفلسفية المبتنية على مقدّمات غير واضحة لا يمكن الاعتماد عليه.


(220)
    الوجه الرابع
    ما ذكره بعضهم من أنّ الاجتماع لو كان آمرياً ومن قبل المولى ، لكان ذلك مستحيلاً ، لكنّه ليس في المقام كذلك بداهة أنّه مأموري ومن قبل نفس المكلّف بسوء اختياره ، فلا يكون هناك مانع عن الاجتماع.
    يلاحظ عليه بوجهين :
    1.انّ القائل بالامتناع يقول بأنّ الحكم بصحّة الاجتماع يؤول إلى الاجتماع الآمري ، لأنّ المفروض أنّ كلا من الخطابين ـ لإطلاق متعلّقه ـ يعمّ ما لو وجد كل في ضمن الآخر فيعود المحذور ، إذ لو كان لمقولة : « صلّ » إطلاق ، يعمّ ما إذا كانت متحدة مع الغصب ، للزم أن يكون المجمع واجباً وحراماً وهذا لا يمكن الالتزام به.
    2. لو افترضنا انّ الاجتماع مأموريّ ، فالإشكال غير مندفع أيضاً ، لأنّ التكليف بالمحال أمر قبيح من غير فرق بين سوء الاختيار وعدمه ، هذا وسيوافيك في الوجه الخامس دفع الإشكالين فانتظر.
    الوجه الخامس للمحقّق البروجردي
    وهذا الوجه ذكره المحقّق البروجردي ( قدس سره ) وأوضحه السيّد الإمام الخميني ( قدس سره ) وشيّد أركانه ، ودفع المحاذير المتوهمة شيخنا الأُستاذ ـ مدّ ظلّه ـ ، وحاصل الوجه هو :
    إنّ الأحكام لا تتعلّق إلا بالطبائع دون المصاديق الخارجية ، وعندئذ لا مانع من تعلّق الأمر بحيثيته ، والنهي بحيثية أُخرى وعندما تصادفت الحيثيتان على شيء واحد ، لا مانع من أن يكون ذاك الشيء مصداقاً للمأمور به بحيثيته


(221)
ومصداقاً للمنهي عنه بحيثية أُخرى ، فالتضاد بين الأحكام على فرض صحته ، يرتفع باختلاف المتعلّقات ، وهذا هو حاصل النظرية وإجمالها ، وأمّا التفصيل فيقع الكلام في مقامين :
    الأوّل : إيضاح النظرية بذكر ما تبتني عليه.
    الثاني : دفع المحاذير المتوهمة على القول بالاجتماع في المراحل الثلاث : مرحلة التشريع ، مرحلة المبادئ ، مرحلة الامتثال ، وإليك الكلام في الأوّل.

    المقام الأوّل : في إيضاح النظرية بذكر ما تبتني عليه
    إنّ النظرية تبتني على مقدّمات :
    الأُولى : انّ أساس التشريع هو تعلّقه بالعناوين والطبائع دون المصاديق ، فالمشرِّع ينظر إلى واقع الحياة عن طريق متعلّقات الأحكام التي ليست إلا عنواناً كلياً ، قابلاً للانطباق على مصاديق كثيرة ، فيأمر بها ، لغاية الإيجاد ، كما يزجر عنها لغاية الانتهاء والترك ، وبما انّ هذه المقدّمة قد سبق ذكرها فلا نطيل الكلام فيها.
    الثانية : إنّ الإرادة لا تتعلّق إلا بما هو دخيل في الغرض ، ثبوتاً وتتبعها دلالة الأمر إثباتاً.
    أمّا الثبوت ، فلأنّ تعلّق الإرادة بما لا مدخلية له في غرضه ، أمر جزاف لا يحوم حوله الحكيم ، فلو كان لما هو الدخيل في الغرض ، لوازم وجودية ، أو أُمور مقارنة معه أحياناً فلا تتعلق بهما الإرادة ، وعلى ضوء ذلك ، فالأمر يتعلّق بالحيثية الصلائيّة دون الغصبية وإن قارنت معها أحياناً ، إذ لا مدخلية للثانية في حصول غرض المولى ، كما أنّه لو كان المحصِّل لغرضه شيء له أجزاء أربعة ، فلا تتعلق إرادته إلا بذات الأربعة بما هي هي وإن كانت تلازم الزوجية فاللوازم والمقارنات


(222)
خارجتان عن مصب الإرادة في الإرادة الفاعلية التكوينية ، ومثلها الإرادة الأمرية التشريعية حرفاً بحرف.
    وأمّا الإثبات فلأنّ المفروض انّ المادة موضوعة لنفس الطبيعة بما هي هي ، فلا تدل إلا عليها ، وأمّا اللوازم والمقارنات ، فخارجتان عن حريم دلالة المادة اللفظية وإن كانت ربما تدلّ عليها بالدلالة الالتزامية التي هي دلالة عقلية فلا يتعلق بهما الأمر اللّهمّ إلا بدال آخر والمفروض عدمه ، ولذلك قلنا في محله انّ العام لا يكون مرآة للخاص ، لأنّه موضوع للجامع بين الأفراد ، لا له مع الخصوصيات ، ولذلك اخترنا عدم صحة الوضع العام والموضوع الخاص ، إلا على وجه ـ قد أوضحناه في محله ـ.
    الثالثة : انّ الإطلاق رفض القيود لا الجمع بين القيود ، وبعبارة أُخرى الإطلاق عبارة عن كون ما وقع تحت دائرة الطلب ، تمام الموضوع للحكم لا بعضه وجزئه ، فيكون الحكم ، حاضراً بحضور موضوعه ، وهذا ما نسمّيه بالإطلاق الذاتي.
    وأمّا الإطلاق اللحاظي ، أعني : تسرية الحكم إلى عامة حالات الموضوع ، بلحاظ الحالات واحدة بعد الأُخرى حين الأمر حتّى يكون معنى قوله : « إن ظاهرت أعتق رقبة » هو عتقها سواء أكانت مؤمنة أم كافرة ، عادلة أو فاسقة ، عالمة أو جاهلة ، فممّا لا أساس له ، لما عرفت أنّ الإطلاق هو تسريح الموضوع عن القيد ، لا أخذه مع جميع القيود وبعبارة أُخرى هو : رفض القيود وتركها وعدم العناية بها ، لا جمعها وذكرها في الموضوع ولو بصورة القضية المنفصلة ، لعدم مدخلية القيود في الحكم حتّى تلاحظ وتؤخذ في الموضوع وعلى ضوء ذلك ، فمعنى الأمر بالصلاة على وجه الإطلاق هو كون الحيثية الصلائية تمام الموضوع للحكم ، وليس معناه هو


(223)
الأمر بها سواء أكانت مع الغصب أو لا ، بحيث يعد الغصب ، مأخوذاً في موضوع الأمر ولو على نحو القضية المنفصلة.
    إذا عرفت هذه المقدمات : ظهر لك جواز الاجتماع ، لأنّ تمام المتعلّق للأمر ، هو الصلاة ، وتمامه للنهي هو الغصب ، وهما مختلفان مفهوماً وماهية ، وليس معنى الأمر بها هو الأمر باللوازم الوجودية أو الأُمور المقارنة لعدم مدخليتهما في الغرض المطلوب ، بالإرادة ثبوتاً ، وبالأمر إثباتاً ، فمعنى كون الصلاة مطلوبة مطلقاً ، ليس كونها مطلوبة مع الغصب ، حتّى يكون الثاني ، جزء المتعلّق ، بل المراد عدم أخذ أية خصوصية في المتعلّق ، وتصادقهما على مورد واحد لا يضر ، إذ لا إشكال في إمكان الشيء الواحد مصداقاً لعنوانين لكن بحيثيتين مختلفتين.
    نعم غاية ما يمكن أن يقال : انّه يمتنع أن يكون اللازم محكوماً بحكم مضاد مع حكم الملزوم ، فإذا وجب إيجاد الأربعة ، لا يجوز تحريم إيجاد الزوجية ، وأمّا المقارن المنفك عنه أحياناً ، فلا يمتنع أن يكون محكوماً بحكم مضاد ، إذ في وسع المكلّف التفكيك بينهما كما هو الحال في المقام حيث إنّ الصلاة واجبة والغصب المقارن معها أحياناً حرام.
    هذا هو حاصل النظرية بقي الكلام في المقام الثاني ، وهو دفع المحاذير في المراحل الثلاث على القول بجواز الاجتماع ، وإليك البيان :
    المقام الثاني : دفع المحاذير
    إنّ المحاذير المقصودة في المقام تدور على محاور ثلاثة :
    1. في الجعل والتشريع.
    2. في مبادئ الأحكام ومقدّماتها.


(224)
    3. في مقام الامتثال والطاعة.
    فلندرس الجميع واحداً تلو الآخر.
    1. عدم المحذور في مقام الجعل
    أمّا عدم المحذور في مقام الجعل والتشريع فلعدم التكاذب بين الحكمين ، إذ لا مزاحمة بين إيجاب الصلاة وتحريم الغصب لاختلاف المتعلّقين بالذات ، وتصادقهما في مورد ، لا يضرّ بصحّة التشريع وحفظ الإطلاقين في مورده ، لأنّ الواجب هو الحيثية الصلائية ، والمحرم هو الحيثية الغصبية ، ولا مانع من أن يكون شيء واحد مصداقاً للواجب والحرام بحيثيتين مختلفتين وبما انّا بسطنا الكلام فيه فلا نطيل.
    2. عدم المحذور في مبادئ الأحكام
    إنّ الحبّ والبغض من مبادئ الأحكام فيأمر بإتيان المحبوب وينهى عن ممارسة المبغوض ، كما أنّ المصلحة والمفسدة من مباديها ، فيطلب ذات المصلحة ، وينهى عن ذات المفسدة ولو قلنا بجواز اجتماع الأمر والنهي في شيء واحد ولو بعنوانين ، ربّما يتوهم أنّه يلزم أن يكون الشيء محبوباً ومبغوضاً ، وذات مصلحة ومفسدة ، وهي عين القول باجتماع الضدين.
    يلاحظ عليه : بأنّ الإشكال مبني على كون الحبّ والبغض أو المصلحة والمفسدة من الكيفيات الجسمانية القائمة بالشيء الخارجي كالسواد والبياض ، فيمتنع وصف الشيء بهما ولو بعنوانين ، لكن الأمر ليس كذلك.
    أمّا الحبّ والبغض ، ويقرب منهما الإرادة والكراهة فالجميع من الكيفيات


(225)
النفسانية ذات الإضافة ، فلها إضافة إلى النفس لقيامها بها ، وإضافة بالذات إلى الصورة العلمية من المحبوب والمبغوض ، والمراد والمكروه ، وإضافة بالعرض إلى مصاديقها وأعيانها الخارجية ، وعلى ضوء ذلك فلا مانع من اجتماع الجميع في شيء واحد ، لأنّه إذا اجتمعت حيثيتان في شيء واحد ، تشتاق النفس إليه لحيثية وتزجر عنه لأجل حيثية أُخرى ، فتكريم اليتيم في الدار المغصوبة محبوب من جهة ، إذ فيه ترويح لحال اليتيم ؛ ومبغوض لكونه تصرفاً في مال الغير ، ونقضاً للقانون ، ويقرب منهما ، كون الشيء الواحد مراداً ومكروهاً لجهتين.
    وأمّا المصلحة والمفسدة فليستا من الأُمور القائمة بذات الشيء ، بل المصالح والمفاسد الفردية ، يرجع إلى حياة الشخص الفردية ، فلا غرو في أن يكون الشيء في حياة الإنسان ذا مصلحة باعتبار ، وذا مفسدة باعتبار آخر ، إذ ربما يكون الدواء الخاص مفيداً ومضرّاً باعتبارين ، ومنه يظهر حال المصالح والمفاسد الاجتماعية ، والإشكال نابع من تنزيل المصلحة والمفسدة ، منزلة الكيفيات الجسمانية القائمة بذات الشيء ، وقد عرفت أنّهما من الأُمور الإضافية والنسبية ولا مانع من كون الشيء ذا مصلحة ومفسدة باعتبارات مختلفة.
    3. عدم المحذور في مقام الامتثال
    هذه المرحلة من المراحل الثلاث ، هي بيت القصيد للامتناعي ، وهو يعتمد في إبطال الاجتماع على هذا المحذور ، أكثر من المحاذير الأُخر ، وحاصله انّه لو قلنا بجواز الاجتماع يلزم أن يكون الشيء الواحد مبعوثاً إليه ومنهياً عنه ، أمّا على القول بتعلّق الأحكام بالمصاديق الخارجية فواضح ، إذ يلزم من تصحيح الاجتماع أن يكون الشيء الواحد مبعوثاً إليه ومنهياً عنه ، وكون متعلّق الأمر غير متعلّق
إرشاد العقول إلى مباحث الأصول الجزء الثاني ::: فهرس