إرشاد العقول إلى مباحث الأصول الجزء الثاني ::: 226 ـ 240
(226)
النهي لا ينفع في المقام بعد تحقّق العنوانين في شيء واحد ، فعندئذ تكون نتيجة تجويز الاجتماع هو التكليف بالمحال ، حيث يكلف بالإتيان والترك في آن واحد وإن كان لأجل عنوانين ، لأنّ تعدّد العنوان ، لا يجعل الشيء الواحد ، شيئين.
    وأمّا على القول بتعلّق الأحكام بالطبائع ، فكذلك لأنّ المولى وإن لم يلاحظ عند الأمر بالصلاة ، اقترانها مع الغصب الذي أسميناه بالإطلاق اللحاظي ، لكن حضور الحكم عند حضور الموضوع في كلّ الأمكنة والأزمنة أمر لا يُنكر ، وهذا هو المسمّى بالإطلاق الذاتي للدليل ، فعندئذ يسأل القائل بالاجتماع ، إذا حاول المكلف إيجاد الصلاة في الدار المغصوبة فهل الحضور يختص بأحد الحكمين وهو نفس القول بالامتناع ، أو يعمّ الحضور لكلا الحكمين ؟ ونتيجة حضور الحكمين وحفظ الإطلاقين في المورد هو اجتماع البعث والزجر بالنسبة إلى شيء واحد ، وليس هذا إلا التكليف بالمحال فالمكلّف بحكم إطلاق الأمر بالصلاة مبعوث إلى الفعل ، وبحكم إطلاق النهي عن الغصب مزجور عنه ، فهل هذا إلا الأمر بالمحال.
    قلت : هذا الإشكال كما قلنا هو بيت القصيد في المقام ، فلو أتيح للاجتماعي حلُّه فقد حاز القِدْح المُعلّى فنقول :
    لو كان المنهي عنه بالنسبة إلى المأمور به من قبيل اللوازم غير المنفكة كالزوجية بالنسبة إلى الأربعة ، كان لما توهّم وجه ـ حتّى على القول بتعلّق الأحكام بالطبائع ـ إذ لا يعقل أن يكون اللازم محكوماً بحكم يضاد حكم الملزوم بأن يجب إيجاد الأربعة ويحرم إيجاد الزوجية ، وأمّا إذا كان المنهي عنه بالنسبة إلى المأمور به قبيل المقارن الذي في وسع المكلّف تفكيكه من المأمور به فلا يلزم من إيجاب الشيء ، وتحريم المقارن ، التكليف بالمحال ، لأنّ الحركة في الدار المغصوبة وإن


(227)
كانت واجبة من حيث كونها مصداقاً للصلاة ، ومحرمة من حيث كونها مصداقاً للغصب والمولى في وقت واحد ـ بحكم حفظ كلا الإطلاقين ـ يأمر بها وينهى عنها ، إلا أنّ إيجاد الصلاة في الدار المغصوبة ليس واجباً تعيينياً ، بل هي إحدى المصاديق الواجبة التي يتخيّر المكلّف بينها عقلاً ولما كان هذا المصداق مقروناً بالمحذور ، فعلى المكلّف العدول إلى الفرد الخالي عنه ، وبهذا ينحل إشكال التكليف بالمحال ، من دون حاجة إلى تقييد أحد الإطلاقين بالآخر.
    والحاصل : انّ المولى لو أمر بالصلاة في الدار المغصوبة على وجه التعيين يكون التأكيد على حفظ الإطلاقين موجباً للتكليف بالمحال ، ولكنّه لمّا أمر بها على النحو الكلي مخيّراً المكلّفة بين مصاديقه ، وكانت المصاديق بين مجرّد عن المحذور ، ومقرون به ، فعلى العبد ، أن يختار الأوّل دون الثاني.
    1. فإن قلت : ما فائدة حفظ الإطلاقين في صورة التقارن بالمانع ؟
    قلت : أقل ما يترتّب عليه انّه لو صلّى فيها ، كان مطيعاً من جهة وعاصياً من جهة أُخرى.
    2. فإن قلت : قد سبق في بعض المقدّمات أنّه لا يعتبر قيد المندوحة فيما هو المهم في المقام أعني : أنّ تعدّد العنوان ، هل يوجب تعدّد المعنون أو لا ؟
    قلت : نعم لا تأثير لقيد المندوحة في المسألة الفلسفية ، أعني : كون تعدّد العنوان موجباً لتعدّد المعنون أو لا.
    وبعبارة أُخرى : قيد المندوحة غير مؤثر في مسألة « كون التركيب اتحاديّاً أو انضمامياً » ، وأمّا في رفع غائلة التكليف بالمحال فقيد المندوحة معتبر قطعاً ، وقد مرّ الكلام فيه تفصيلاً وصرّح به المحقّق الخراساني في الأمر السادس فلاحظ.
    3. فإن قلت : قد سبق انّ سوء الاختيار لا يكون مجوّزاً للتكليف بالمحال ،


(228)
وإنّ من ألقى نفسه من شاهق ، وهو في أثناء السقوط ، لا يكون مكلفاً بصيانة النفس ، لعدم التمكّن منه وإن كان بسوء الاختيار ، وقد مرّ انّ الامتناع بالاختيار لا ينافي الاختيار ، عقاباً وملاكاً ، لا خطاباً وحكماً.
    قلت : ما ذكرته صحيح لكنّ المقام ليس من صغريات تلك القاعدة حتّى لا يصح خطابه ، بل هو في كلّ آن من الآنات قادر على ترك الغصب ، والإتيان بها في مكان مباح ، فهو أشبه بمن ألقى نفسه من شاهق ، لكنّه مزوّد بجهاز صناعي لو أعمله لهبط إلى الأرض بهدوء ، فعندئذ لا يسقط النهي لا ملاكاً ولا عتاباً ، ولا خطاباً ولا حكما. (1)
    4. فإن قلت : قد سبق في باب الترتّب أنّه لا يجوز خطاب المكلّف بأمرين متزاحمين من دون تقييد أحدهما بترك الآخر ، كأن يقول : انقذ هذا الغريق ، وانقذ ذاك الغريق ، مع عدم استطاعته إلا بإنقاذ أحد الغريقين ، وما ذاك إلا لكونه تكليفاً بالمحال ، وإن كان في وسع المكّلف تعذير نفسه بالاشتغال بإنقاذ أحدهما ، وإن ترتّب عليه غرق الآخر ، فمجرّد التعذير ، لا يسوِّغ التكليف بالمحال ، والمقام أشبه بذلك حيث إنّه مخاطب بخطابين غير قابلين للامتثال معاً ، لكن باب التعذير واسع ، بأن يصلي في مكان مباح ، فكما أنّ فتح باب العذر غير مسوِّغ لخطابين مطلقين ، فهكذا المقام.
    قلت : الفرق بين المقامين واضح فلا يصحّ قياس أحدهما بالآخر ، وذلك لأنّ التكليف هناك متقدّم على التعذير ، فلا ينقدح في ذهن المولى إيجاب إنقاذ غريقين مع علمه بعدم قدرة المكلّف إلا بإنقاذ أحدهما ، وإن كان للعبد تعجيز
1. وقد اختلف تقرير شيخنا الأُستاذ ـ مدّ ظلّه ـ في الدورة السابقة ، مع ما أفاده في هذه الدورة وما أثبتناه هو الموافق لتقريره أخيراً.

(229)
نفسه وتعذيرها بخلاف المقام فانّ المسوغ مقارن مع التكليف حيث إنّ الأمر بالصلاة في الدار المغصوبة ليس على النحو التعييني من أوّل الأمر.
    5. إن قلت : إنّ وزان الإرادة التشريعية كوزان الإرادة التكوينية ، أو إنّ وزان الإرادة الأمرية كوزان الإرادة الفاعليّة. فكما لا ينقدح في ذهن الفاعل ، إرادتان متضادّتان ، بأن يريد إيجاد الشيء في وقت ، وتركه وعدمه في نفس ذلك الوقت ، فهكذا لا ينقدح في ذهن الآمر إرادتان متضادّتان فيطلب الشيء ( الصلاة التوأمة مع الغصب ) في وقت ، وتركه في نفس ذلك الوقت.
    قلت : إنّ قياس الإرادة التشريعية بالإرادة الفاعلية قياس مع الفارق ، فانّ الإرادة الفاعلية علّة تامّة لتحقّق المراد فلا يمكن اجتماع علّتين تامّتين ـ فضلاً عن كونهما متضادّتين ـ على شيء واحد ، وهذا بخلاف التشريعية فانّها ليست علّة تامّة لتحقّق المراد ، سواء أقلنا بأنّها تتعلّق بفعل الغير كما هو المعروف ، أو تتعلّق بالبعث والطلب كما هو المختار. وعلى كلّ تقدير فبما انّها ليست علّة تامّة لتحقق المراد ، بل أشبه بالداعي ، فلا إشكال في تعلّق إرادتين تشريعيتين بمراد واحد بعنوانين ولا يلزم من جعل الداعيين ، التكليفُ بما لا يطاق ، بل فائدة تعلّقهما انّه لو جمع بين المأمور به والمنهي عنه ، يكون مطيعاً من جهة وعاصياً من جهة أُخرى.
    الوجه السادس : استكشاف جواز الاجتماع من عدم ورود النص على عدم جواز الصلاة في المكان واللباس المغصوبين ، مع عموم الابتلاء به في زمان الدولتين : الأموية والعباسية ، خصوصاً على القول بحرمة الغنائم التي كانوا يغنمونها عن طريق جهاد العدو ابتداءً الذي هو حق طلق للإمام العادل أو المعصوم.


(230)
    والذي يوضح ذلك أنّ الشيخ الكليني نقل عن الفضل بن شاذان ـ الذي هو من أصحاب العسكريين مؤلّف كتاب الإيضاح وقد توفّي عام 260 هـ ـ انّه قال : وإنّما قياس الخروج والإخراج كرجل دخل دار قوم بغير إذنهم فصلّى فيها فهو عاص في دخوله الدار وصلاته جائزة. (1) وهذا يعرب عن كون المشهور لدى أصحاب الأئمّة هو الجواز ، وإلا لصدر النصّ عنهم ( عليهم السَّلام ) على المنع.
    هذه هي الوجوه الستة التي استدل بها القائل بالاجتماع ، بقي في المقام وجه سابع وهو وجود العبادات المكروهة في الشريعة الإسلامية التي تلازم اجتماع الأمر والنهي في الشيء الواحد كصوم يوم عاشوراء ، والصلاة في الحمام ، فقد اجتمع الاستحباب والكراهة في الأوّل ، والوجوب والكراهة في الثاني ، وإليك بيان هذا الوجه.

    الوجه السابع : الاستدلال بالعبادات المكروهة
    أدلّ دليل على إمكان الشيء وقوعه ، وقد تعلّق النهي في الشريعة الإسلامية بالعبادات ، فلو كان التّضاد بين الأحكام مانعاً عن الاجتماع لما تعلّق النهي بصوم يوم عاشوراء ، أو بالنوافل المبتدئة في أوقات خاصّة فكلّ واحد منها بنفسه مأمور به وفي الوقت نفسه منهي عنه.
    وقد أجاب المحقّق الخراساني عن الاستدلال بهذه الموارد إجمالاً بوجوه ثلاثة :
    1. انّ الظهور لا يصادم البرهان فلو قام البرهان على الامتناع فلابدّ من تأويل ما يدلّ على الجواز.
1. الكافي : 6/94.

(231)
    2. انّ الاجتماعي والامتناعي أمام بعض الأقسام كالقسم الأوّل أو جميعها سواء ، حيث إنّ الأمر والنهي تعلّقا بعنوان واحد وهو صوم يوم عاشوراء ، ومن المعلوم أنّه غير جائز حتّى عند الاجتماعي.
    3. انّ الاجتماعي إنّما يقول به إذا كان هناك مندوحة والمورد المذكور خال عن هذا الشرط ، لأنّ صوم يوم الحادي عشر ، موضوع مستقل ، وليس بدلاً عن صوم يوم عاشوراء.
    تقسيم العبادات المكروهة على أقسام ثلاثة
    ثمّ إنّه بعد ما فرغ عن الأجوبة الثلاثة حاول أن يجيب عن الاستدلال على نحو التفصيل ، فقال : إنّ العبادات المكروهة على أقسام ثلاثة :
    أحدها : ما تعلّق به النهي بعنوانه وذاته ، ولا بدل له كصوم يوم عاشوراء أو النوافل المبتدئة في بعض الأوقات.
    ثانيها : ما تعلّق به النهي كذلك ويكون له بدل كالنهي عن الصلاة في الحمام.
    ثالثها : ما تعلّق به النهي لا بذاته ، بل بما هو مجامع معه وجوداً أو ملازم له (1) ، خارجاً كالصلاة في مواضع التهمة بناء على أنّ النهي عنها لأجل اتّحادها مع الكون في مواضعها.
    القسم الأوّل : النهي عن عبادة ليس لها بدل
    ثمّ إنّه شرع بالإجابة التفصيلية فأجاب عن العبادة التي تعلّق بها النهي
1. الترديد لأجل احتمال جزئية الكون للصلاة كاحتمال خروجه عنها.

(232)
وليس لها بدل بأجوبة ثلاثة فقال :
    الأوّل : انّ حقيقة النهي عن الصوم يرجع إلى طلب تركه لأجل انطباق عنوان ذي مصلحة على الترك فيكون الترك ذا مصلحة ، كالفعل ، فحينئذ يكونان من قبيل المستحبّين المتزاحمين ، والأصل فيهما هو التخيير لو كانا متساويين ، وإلا فيتعيّن الأهم وإن كان الآخر يقع صحيحاً حيث إنّه كان راجحاً وموافقاً للغرض كما هو الحال في سائر المستحبّات المتزاحمة ، بل الواجبات ، وأرجحية الترك من الفعل لا توجب حزازة ومنقصة فيه أصلاً كما يوجبها ما إذا كان مفسدته غالبة على مصلحته ، ولذا لا يقع صحيحاً على الامتناع فانّ الحزازة والمنقصة فيه مانعة عن صلاحية المتقرَّب به بخلاف المقام فانّه على ما هو عليه من الرجحان وموافقة الغرض كما إذا لم يكن تركه راجحاً بلا حدوث حزازة فيه أصلاً. (1)
    وحاصل ما أفاده يعتمد على أُمور :
    1. انّ الكراهة في المقام ليست كراهة مصطلحة وهي التي تنشأ من مفسدة في الفعل وحزازة فيه غالبة على مصلحته ، إذ لو كان كذلك لامتنعت الصحة ، مع انّها أمر اتفاقي ، بل هو بمعنى رجحان تركه مع بقاء الفعل على ما هو عليه من المصلحة والمحبوبية. وبعبارة أُخرى النهي ناش من مصلحة في الترك ، لا من مفسدة في الفعل.
    2. انّ رجحان الترك وكونه محبوباً لأجل انطباق عنوان ذي مصلحة عليه كمخالفة بني أُمية ولأجل انطباقها عليه صار الترك ذا مصلحة كالفعل.
    3. انّ النهي عن الصوم ، يؤوّل إلى تعلّق الطلب بالترك ، فيخرج المورد عن صلاحية الاستدلال ، لعدم تعلّق النهي بالصوم أبداً ، بل تعلّق به الأمر فقط ، وفي
1. الكفاية : 1/255 ـ 256.

(233)
الحقيقة هنا طلبان ، يتعلّق أحدهما بالفعل والآخر بالترك فيكون من قبيل المستحبين المتزاحمين فيحكم بالتخيير بينهما لولا الأهمية ، وإلا فيقدم الأهم وإن كان المهم أيضاً يقع صحيحاً لرجحانه وموافقته للغرض ، وأرجحية الترك لا توجب منقصة في الفعل بل الفعل يكون ذا مصلحة خالصة وإن كان الترك لأجل انطباق عنوان عليه مثله.
    الثاني : نفس ذلك الجواب غير أنّ العنوان الراجح ليس منطبقاً على الترك ، بل ملازماً معه كملازمة ترك الصوم مع التمكّن من إقامة العزاء على الحسين ( عليه السَّلام ).
    فإذا فرض أنّ الترك ملازم لعنوان وجودي ذي مصلحة أقوى من مصلحة الفعل لا محالة يكون الترك أرجح منه ، ولا فرق بين العنوان المنطبق والملازم إلا أنّ الطلب في الأوّل يتعلّق بالترك حقيقة ، لاتّحاد العنوان مع الترك ، بخلاف الثاني فانّ الطلب يتعلّق بالعنوان الراجح الملازم حقيقة ، وبالترك بالعرض والمجاز ، إذ الملازم خارج عن حقيقة الترك ، فلا يتجاوز الطلب عن العنوان إلى الملازم.
    الثالث : حمل النهي على الإرشاد إلى أنّ الترك أرجح من الفعل أو ملازم لما هو أرجح وأكثر ثواباً ، فيكون النهي متعلّقاً بالصوم حقيقة ، لا بالعرض والمجاز ـ كما في الوجه الثاني ، والكراهة في المقام ليس بمعنى المنقصة في الفعل ، بل بمعنى كونه أقلّ ثواباً.
    ففي الكراهة اصطلاحان ، أحدهما وجود المنقصة ، والثاني كون العبادة ، أقلّ ثواباً ، وهذا هو المراد من قولهم : عبادة مكروهة.
    هذا إيضاح ما في الكفاية.
    يلاحظ على الجواب الأوّل : أوّلاً بأنّه إذا كان الفعل والترك متساويين في المصلحة فيصبح الفعل مباحاً لا انّه يكون كلّ منهما مستحبّاً ، ويشهد على ذلك


(234)
انّه لم يقل أحد من الفقهاء بأنّ النوافل المبتدئة في أوقات خاصّة مستحبّة فعلاً وتركاً ، أو الإفطار في يوم عاشوراء مستحب فعلاً وتركاً.
    وثانياً : انّ تأويل قوله : « لا تصم يوم عاشوراء » ، الذي هو بمعنى الزجر عن الفعل ، إلى طلب الترك ، بحيث يصبح الترك كالفعل ، أمراً مستحبّاً ، أمر غير صحيح ، فأين الزجر عن الفعل الذي هو مفاد النهي من طلب الترك المقصود منه استحباب الترك.
    ويلاحظ على الجواب الثاني : بأنّ إرجاع لا تصم يوم عاشوراء إلى طلب الترك وجعل الثاني كناية عن الدعوة إلى إقامة العزاء للحسين ، تأويل في تأويل ، مضافاً إلى أنّه يشترط في صحّة الكناية وجود الملازمة العقلية أو العرفية بين ذكر الملزوم وإرادة اللازم ، وهي مفقودة في المقام ، إذ ربّما صائم يقيم العزاء ، وربّما مفطر لا يقيمه ، فكيف يكون النهي عن الصوم المتأوّل إلى طلب الترك ، كناية عن إقامة العزاء ؟!
    نعم لا بأس بالجواب الثالث ، وهو كون النهي إرشاداً إلى أنّ الفعل أقلّ ثواباً من الترك المنطبق عليه عنوان المخالفة لأعداء الدين الملازم لما هو أرجح من الفعل على فرض صحته.
    إلى هنا تمّ تحليل ما أفاده المحقّق الخراساني من الأجوبة الثلاثة ، وقد أُجيب عن الاستدلال بوجوه أُخرى ربّما تصل مع الأجوبة لصاحب الكفاية إلى وجوه ستّة ، فنقول على غرار ما سبق.
    الرابع : انّ السابر في الروايات التي جمعها الحرّ العاملي في الباب 21 من أبواب الصوم المندوب ، انّ يوم عاشوراء يوم حزن ومصيبة لأهل البيت وشيعتهم ، ويوم فرح وسرور لأعدائهم ، وقد صام ذلك اليوم آل زياد وآل مروان شكراً وفرحاً


(235)
وتبركاً ، فمن صامه يقع في زمرة من يصومه شكراً للمصيبة الواردة على أهل البيت وشكراً على سلامة أعدائهم.
    فعند ما سأل الراوي عن صوم يوم عاشوراء ، قال ذلك يوم قتل فيه الحسين ، فإن كنت شامتاً فصم ثمّ قال : إنّ آل أُمية نذروا نذراً إنْ قتل الحسين أن يتخذوا ذلك اليوم عيداً لهم ، يصومون فيه شكراً ويُفرِّحون أولادَهم ، فصارت في آل أبي سفيان سنّة إلى اليوم ، فلذلك يصومونه ويدخلون على أهاليهم وعيالاتهم الفرح ذلك اليوم ، ثمّ قال : الصوم لا يكون للمصيبة ولا يكون إلا شكراً للسلامة ، وانّ الحسين ( عليه السَّلام ) أُصيب يوم عاشوراء فإن كنت فيمن أُصيب به فلا تصم ، وإن كنت شامتاً ممّن سرّه سلامة بني أُمية فصم شكراً للّه تعالى. (1)
    فعلى ضوء هذه الروايات فالمبغوض هو التشبّه ببني أُمية والانسلاك في عدادهم ولو في الظاهر ، فقد كانوا متبرّكين بهذا اليوم كما في الزيارة : « اللّهمّ إنّ هذا يوم تبرّكت به بنو أُمية وابن آكلة الأكباد » ، وكان صوم ذلك اليوم من مظاهر التشبّه على نحو لولاه لما توجّه إليه نهي ، وعندئذ يصبح الصوم مأموراً به ، لا منهياً عنه ، وإنّما المنهيّ عنه هو التشبّه والانسلاك في عدادهم في الظاهر ، فأين اجتماع الأمر والنهي في شيء واحد ؟
    فإن قلت : النهي عن الصوم ، كناية عن النهي عن التشبّه يتوقّف على وجود الملازمة بين النهيين كما مرّ في الجواب الثاني للمحقّق الخراساني.
    قلت : الملازمة هنا واضحة ، بعد شيوع عمل الأمويين والمروانيين في هذا اليوم وانّهم كانوا يصومون ذلك اليوم للتبرّك والفرح.
    الخامس : ما أفاده المحقّق البروجردي من كون الصوم منهيّاً عنه ، وليس
1. الوسائل : 7 ، الباب 21 من أبواب الصوم المندوب ، الحديث 7.

(236)
بمأمور به ، ولو صام وإن كان صحيحاً لكن الصحة لا تكشف عن الأمر ، لاحتمال كونها لأجل الملاك. (1)
    يلاحظ عليه : أنّ الحكم بالصحة جازماً فرع وجود الأمر ولولاه لما كان هنا كاشف عن الملاك قطعاً.
    السادس : انّ متعلّقي الأمر بالصوم والنهي عنه مختلفان فالأمر تعلّق بنفس الصوم ، والنهي تعلّق بالصوم بداعي أمره الاستحبابي فلا يكون متعلّقه متحداً مع متعلّقه ليلزم اجتماع الضدين في شيء واحد ، والنهي ليس ناشئاً عن وجود مفسدة في ذات الصوم أو وجود مصلحة في تركه ـ كما عليه المحقّق الخراساني ـ بل هو ناش عن مفسدة في التعبد بهذه العبارة ( بقصد أمرها ) لما فيه من المشابهة والموافقة لأعداء الدين فالنهي مولوي حقيقي ناش عن المفسدة في التعبدي. (2)
    يلاحظ عليه أوّلاً : نحن نفترض امتناع أخذ قصد الأمر في متعلّقه ـ وإن كان الحقّ خلافه ـ لكن متعلّق الأمر لباً وحسب حكم العقل ، هو إيقاع الصوم بقصد أمره وإلا يصبح الصوم واجباً توصلياً وهو خلف الفرض.
    فإذا كان متعلّق الأمر هو الصوم بقصد العبادة ، وكان هو أيضاً متعلّقاً للنهي يلزم اتحاد متعلق الأمرين.
    وثانياً : أنّ ما ذكره افتراض لا دليل عليه ، ولو انّه ( قدس سره ) اكتفى بما في آخر كلامه من أنّ النهي لأجل المشابهة والموافقة لأعداء الدين ، يكون أفضل ويرجع محصل مرامه إلى ما ذكرنا في الوجه الرابع.
1. نهاية الأُصول : 243 ، والموجود في اللمعات التي هي تقرير لدرس السيد البروجردي غير ذلك ، ويقرب مما ذكرناه في الوجه الرابع فلاحظ.
2. المحاضرات : 4/317 بتلخيص.


(237)
    القسم الثاني : النهي عن عبادة لها بدل
    استدلّ المجوز بورود النهي عن العبادات التي لها بدل ، كالنهي عن الصلاة في الحمام مع تعلّق الأمر بالصلاة مطلقاً ، ولما كان المحقّق الخراساني قائلاً بالامتناع حاول أن يصحح النهي على وجه لا يصادم مختاره.
    توضيحه : انّه لو قلنا بأنّ جواز الاجتماع يختص بما إذا كان بين المتعلّقين عموم وخصوص من وجه كالصلاة والغصب دونما إذا كان بينهما عموم وخصوص مطلق ، كالمقام ، يكون الاجتماعي وا لامتناعي أمام هذا القسم سواء ، فيجب على كلتا الطائفتين الإجابة عن الاستدلال ، وأمّا لو قلنا بجواز الاجتماع مطلقاً حتّى فيما إذا كان بين المتعلّقين عموم مطلق ، فالاجتماعي في فسحة من الجواب ، بل له أن يتّخذ ذلك دليلاً على مدعاه.
    ثمّ إنّ السيد المحقّق البروجردي ذهب إلى الجواز مطلقاً من غير فرق بين العموم من وجه أو العموم المطلق ، ولذلك قال في المقام : نحن في فسحة من القسمين الأخيرين ( القسم الثاني والثالث ) ، لأنّا اخترنا الجواز كما تقدّم. (1)
    وقال أيضاً : وهل يجري النزاع في الأخص المطلق ، كالأخص من وجه حسب المورد ؟ الظاهر جريانه فيه ، ويلتزم الاجتماعي بالجواز في كلا الموردين ، فلو فرض أنّ خياطة الثوب تكون ذات مصلحة تامّة ملزمة وكانت تمام الموضوع لتلك المصلحة بلا مدخلية شيء وجودي أو عدمي فيها بأن يتعلّق الأمر بها بنفس ذاتها على الإطلاق أي بلا دخالة قيد فيها لا بمعنى السراية إلى الافراد.
    ولو فرض انّ في خياطته في دار زيد مفسدة تامّة بحيث تكون الخياطة فيها
1. لمحات الأُصول : 336.

(238)
تمام الموضوع للمفسدة ، فلابدّ أن يتعلّق النهي بها ، فلو خاط المكلّف الثوب في دار زيد أتى بمورد الأمر بلا إشكال لتحقق الخياطة التي هي تمام الموضوع بلا مدخلية أمر وجودي أو عدمي ، وأتى بمورد النهي الذي هو الخياطة في دار زيد وتكون تمام الموضوع للمفسدة والنهي ، فأصل الخياطة مأمور بها ، وهي مع التقييد الكذائي منهي عنها ، فهما مفهومان ، قد تعلّق النهي بأحدهما ، والأمر بالآخر ، وأخذ أحدهما في الآخر لا يوجب اجتماع الأمر والنهي في شيء واحد بجهة واحدة ، واجتماعهما في الوجود بسوء اختيار المكلّف لا يوجب امتناعاً في ناحية التكليف. (1) وأشار السيد الأُستاذ إلى المسألة وذكر لكلّ من جريان النزاع فيها وعدمه وجهاً ولم يختر شيئاً وقال : والمسألة محل إشكال.
    والكلام (2) الحاسم في المقام : هو انّ النهي في المقام على أقسام :
    1. أن يكون النهي إرشاداً إلى مانعية هذه الأُمور عن الصلاة وتقييدها بعدمها كما في النهي عن الصلاة فيمالا يؤكل والنجس والميتة ، فيكون النهي مقيِّداً لإطلاق ما دلّ على صحّة العبادة ، دالاًّ على الفساد في العبادات والمعاملات ، فهذا القسم خارج عن محط البحث.
    2. أن يكون النهي لبيان حكم تحريمي كالنهي عن الوضوء والغسل من الماء المغصوب ، فالنهي يدلّ على مبغوضية متعلّقه ( الوضوء بماء مغصوب ) ، ومعه يقيّد إطلاق الأمر بالوضوء ، إذ مقتضى النهي ، عدم جواز إيجاد هذا الفرد المنهي عنه في الخارج وعدم جواز تطبيق الطبيعة المأمور بها ، عليه ، وهذا أيضاً خارج عن محط البحث ، إذ التقييد في هذين القسمين ممّا لا بدّ منه.
1. لمحات الأُصول : 230.
2. تهذيب الأُصول : 1/389 ـ 390.


(239)
    3. أن يكون النهي تنزيهياً ملازماً للترخيص في متعلّقه ، ففي مثل هذا لا وجه لتقييد إطلاق متعلّق الواجب ، لأنّه غير مانع عن إيجاد الطبيعة في مثل هذا الفرد ، غير أنّه يرى أنّ الأفضل هو غير هذا الفرد من أفراد الطبيعة.
    وعلى ذلك لا مانع من اجتماع الأمر والنهي ، وقد عرفت أنّ الميزان في صدق التزاحم عدم التكاذب في مقام الجعل والتشريع ، والمفروض انّه كذلك ، إذ لا مانع من الأمر بالطبيعة على وجه الإطلاق ، ثمّ النهي التنزيهي عن قسم خاص منها ، ويكون النهي مولوياً تنزيهياً.
    إجابة المحقّق الخراساني عن القسم الثاني
    ثمّ إنّ المحقّق ، لما اختار امتناع الاجتماع ، حاول تأويل الاستدلال بهذا النوع من الاجتماع بحمل النهي على الإرشاد إلى انطباق عنوان قبيح على الفعل ، فقال : إنّ النهي فيه يمكن أن يكون لأجل ما ذكر في القسم الأوّل ، كما يمكن أن يكون لأجل وجه رابع. والفرق بين هذا الجواب وماسبق من الأجوبة الثلاثة انّ بناء الأجوبة الثلاثة على انطباق عنوان راجح على الترك أو ملازمته معه ، وأمّا هذا الجواب فالعنوان القبيح ( مكان الراجح في الثلاثة ) منطبق على الفعل ، وذلك لأنّ الطبيعة تارة تتشخّص بمشخّص غير ملائم لها كالصلاة في الحمام فانّه مركز الخبث والوسخ فلا يصلح أن يكون وعاء للمعراج ، وأُخرى تتشخّص بمشخّص شديد الملائمة معها كالصلاة في المسجد ، وثالثة تتشخّص بما لايكون معه شديد الملائمة ولا عدمها كالصلاة في الدار ، ويكون النهي فيه لحدوث نقصان في مزيّتها فيه ، إرشاداً إلى ما لا نقصان فيه من سائر الأفراد ويكون أكثر ثواباً.
    وهذا مراد مَن يفسر الكراهة في العبادة بكونها أقلّ ثواباً ، المدار في القلة


(240)
والكثرة هو نفس الطبيعة إذا تشخصت الطبيعة بما لا تكون معه شدّة الملاءمة ( كالصلاة في البيت ) ولا عدم الملاءمة ، فإن زاد ثواب الفرد على الثواب المرتب على الطبيعة الكذائية يكون مستحبّاً وإن نقص كان مكروهاً.
    ولا يرد على هذا ، بأنّ لازمه وصف عامّة افراد الطبيعة بالكراهة إلا الفرد الأعلى ، لما عرفت من أنّ الميزان في التفضيل والتنقيص هو الطبيعة المتوسطة فالراجح عليها ، مستحبّ والمرجوح بالنسبة إليها ، مكروه.
    القسم الثالث : تعلّق النهي بشيء خارج عن العبادة
    إنّ للقسم الثالث ظاهراً وواقعاً ، فالنهي حسب الظاهر تعلّق بالعبادة وقال : صلّ ، ولا تصلّ في مواضع التهمة ، فصار كالقسم الثاني من حيث إنّ النسبة بين المتعلّقين ، هو العموم والخصوص المطلق ، وأمّا حسب الواقع فالنهي تعلّق بالكون في مواضع التهمة ، لأجل الصلاة أو غيرها ، فالكون إمّا من خصوصيات المأمور به أو من لوازمه ، والنسبة بين المتعلّقين هو العموم والخصوص من وجه كالصلاة والغصب ، وعلى هذا فالاجتماعي في فسحة من الإجابة ، بل يعدّ ذلك من دلائل رأيه.
    وبما انّ المستدل ، استدلّ بظاهر الكلام وانّ العبادة في مكان خاص صارت متعلّقة للنهي دون خصوص الكون في المكان ، لزمت على الاجتماعي أيضاً ، الإجابة عن الإشكال.
    ثمّ إنّ المحقّق الخراساني ذكر عن جانب الاجتماعي جوابين :
    أحدهما : مبني على التصرف في متعلّق النهي.
    ثانيهما : مبني على التصرف في مفهوم الحكم ومعناه.
إرشاد العقول إلى مباحث الأصول الجزء الثاني ::: فهرس