إرشاد العقول إلى مباحث الأصول الجزء الثاني ::: 241 ـ 255
(241)
    أمّا الأوّل فبأن يقال انّ الأمر تعلّق بالعبادة ، والنهي لم يتعلق بها أبداً ، بل تعلّق بالكون فيها ولو نسب إلى العبادة فإنّما هو بالعرض والمجاز ، فالنهي المولوي تعلّق بالكون حقيقة وبالعبادة مجازاً.
    وإلى هذا الوجه أشار في « الكفاية » بقوله : « فيمكن أن يكون النهي فيه عن العبادة ، المتحدة مع ذلك العنوان أو الملازمة له ، بالعرض والمجاز وكان المنهي عنه به حقيقة ذاك العنوان ».
    أمّا الثاني ، فبحمل الأمر على الإرشاد ، إلى ما ليس فيه هذا النقص ولا مانع من اجتماع الأمر والنهي في شيء واحد ، إذا كان النهي إرشادياً.
    وإلى هذا الوجه أشار في « الكفاية » بقوله : « ويمكن أن يكون النهي على الحقيقة إرشاداً إلى غيرها من سائر الأفراد ممّا لا يكون متحداً معه أو ملازماً له ، إذ المفروض التمكّن من استيفاء مزية العبادة بلا ابتلاء بحزازة ذاك العنوان أصلاً ». (1)
    وأمّا الإجابة عنه على القول بالامتناع فالعنوان الموجب للنقصان لا يخلو إمّا أن يكون ملازماً للصلاة ، أو عنواناً منطبقاً.
    أمّا الأوّل فيمكن أن يقال بنفس الجواب المذكور على القول بالاجتماع ، غاية الأمر انّ الاجتماعي يقول به مطلقاً في العنوان المتحد والملازم ، والامتناعي يقول به ـ حسب أُصوله ـ في خصوص الملازم ، بأن يقول : انّ الأمر تعلّق بالعبادة والنهي تعلّق بالعنوان الملازم ، ولو نسب إلى العبادة ، فإنّما هو بالعرض والمجاز ولا مانع من اختلاف المتلازمين في الحكم إذا لم يكونا متساويين كالصلاة ، والكون في مواضع التهمة الملازم لعنوان قبيح.
1. كفاية الأُصول : 1/259.

(242)
    وإنّما قلنا : إنّ هذا النوع في الجواب من الامتناعي يجري في العنوان الملازم دون العنوان المنطبق ، لأنّه لو تعلّق النهي بالعنوان المنطبق ، المتحد مع الصلاة يلزم اجتماع الأمر والنهي في شيء واحد ولو بعنوانين ، وهو خلاف المختار عند الامتناعي ، ولذا اقتصر بهذا الجواب في خصوص الملازم بخلاف الاجتماعي فانّه لقوله بالجواز ، لم يفرق بين الملازم والمنطبق.
    أمّا الثاني ، فيحمل النهي على الإرشاد إلى أفضل الأفراد ، والتحرز ، عن الفرد الفاقد للفضيلة ، ولا مانع من الجمع بين الأمر والنهي الإرشادي وإن تعلّق بشيء واحد لكن بعنوانين.
    وعلى كلّ تقدير فالصلاة على القولين صحيحة ، لأنّ النهي التنزيهي لا يوجب تقييد إطلاق دليل العبادة ، إذ معنى التنزيه هو الدعوة إلى العدول إلى الأفراد الأُخرى ، مع تجويز إيجاد الطبيعة بالفرد المنهيّ.
    ثمّ إنّ المحقّق الخراساني أشار في ذيل كلامه إلى أُمور ، أوضحها شيخنا الأُستاذ ـ مدّ ظله ـ في الدورة السابقة وطوى الكلام فيها في هذه الدورة فمن أراد الوقوف عليها فليرجع إلى تقريرات زميلنا السيد محمود الجلالي. (1)
1. المحصول : 2/247 ـ 250.

(243)
    تنبيهات     إنّ لارتكاب الحرام صوراً أشار المحقّق الخراساني ـ في كفايته ـ إلى ثلاث منها :
    الأُولى : إذا كان المكلّف متمكّناً من امتثال الواجب في غير المكان المغصوب ولكنّه أتى به فيه عن اختيار ، وهذه هي التي مضى الكلام فيها تحت جواز اجتماع الأمر والنهي في شيء واحد بعنوانين.
    الثانية : إذا اضطرّ إلى ارتكاب الحرام لكن لا بسوء الاختيار كما إذا كان محبوساً في الدار المغصوبة فيقع الكلام في دخوله ، وبقائه ، وخروجه وحكم العبادة في هذه الحالات.
    الثالثة : إذا اضطرّ إلى ارتكاب الحرام لكن بسوء اختياره ، كما إذا دخل أرض الغير للتنزّه وأراد الخروج فهو مضطر إلى التصرف في أرض الغير عند الخروج ، لكن الاضطرار طارئ عليه بسوء اختيار ، إذ لم يكن هناك أيُّ إلزام على الدخول ، ليضطرّ في ترك الغصب إلى الخروج الذي هو تصرّف فيه أيضاً ، فيقع الكلام في حكم الخروج تكليفاً أوّلاً ، وحكم الصلاة الواقعة حال الخروج وضعاً ثانياً ، وهذا هو المقصود من عقد هذا التنبيه ، وإليك دراسة القسمين واحداً تلو الآخر.


(244)
    الاضطرار إلى ارتكاب الحرام من غير اختيار
    إذا حبسه الظالم في مكان مغصوب ، فالاضطرار لا عن اختيار رافع للحرمة التكليفية دخولاً وبقاءً وخروجاً أخذاً بالأدلّة.
    1. قال سبحانه : ( لا يُكَلِّفُ اللّهُ نَفْساً إلا وُسْعَها ). (1) فالآية دالة على أنّ الأحكام محدّدة بالقدرة والوسع ، فإذا كانت فوقها ، فليس هناك أي حكم للشرع.
    2. حديث الرفع ، روى الصدوق في خصاله عن شيخه أحمد بن محمد بن يحيى ( رضى الله عنه ) عن يعقوب بن يزيد ، عن حمّاد بن عيسى ، عن حريز بن عبد اللّه ، عن أبي عبد اللّه ( عليه السَّلام ) قال : قال رسول اللّه ( صلى الله عليه وآله وسلم ) : « رفع عن أُمّتي تسعة : الخطأ ، والنسيان ، وما أُكرهوا عليه ، وما لا يعلمون ، وما لا يطيقون ، وما اضطروا إليه ... ». (2) والرواية صحيحة ورواتها كلّهم ثقات ، وأحمد بن محمد بن يحيى العطار من مشايخ الصدوق ثقة بلا إشكال ، وعدم ورود التوثيق في حقّه في الكتب الرجالية لأجل انّ المشايخ فوق التوثيق أوّلاً ، والقرائن تشهد على وثاقة أحمد بن محمد بن يحيى ثانياً ، لأنّ الشيخ الصدوق يروي عنه ويترضّى عليه ويقول رضي اللّه عنه ، وإكثار الثقات النقل عنه ثالثاً ، فإنّ الثقة وإن كان يروي عن غير الثقة أحياناً ولكن كثرة النقل عن الضعيف كان من أسباب الجرح عند القدماء ، ولذلك أخرج الرئيس أحمد بن محمد بن عيسى الأشعري محدّثين عظيمين من قم ـ أعني بهما : أحمد بن محمد بن خالد وسهل بن زياد الآدمي ـ وما هذا إلا لكثرة نقلهما عن الضعاف من دون أي غمز فيهما.
1. البقرة : 286.
2. الخصال : 2 ، باب التسعة ، الحديث 8.


(245)
    في عبادة المحبوس المضطر
    هذا كلّه حول الحكم التكليفي إنّما الكلام في الحكم الوضعي ، أي صحّة عبادته في الحالات الثلاث دخولاً وبقاءً وخروجاً.
    فلو قلنا بجواز الاجتماع فالحكم بالصحة موافق للقواعد بشرط تمشي قصد القربة ، كما أنّه لو قلنا بالامتناع وقدّمنا الأمر على النهي فكذلك إنّما الكلام في القول بالعكس ، أي قلنا بالامتناع وقدّمنا النهي على الأمر ، فالتحقيق صحّة عبادة ذلك المضطر بغير سوء الاختيار.
    لأنّ الاضطرار يرفع الحرمة التكليفية والعقوبة ، ولكن ملاك الوجوب ـ لو كان ـ يكون مؤثراً ، وذلك لأنّه لو كان الاضطرار بسوء الاختيار بأن يختار ما يؤدي إليه لا محالة فانّ سقوط الخطاب لا يلازم الصحة ، لأنّه يصدر عنه مبغوضاً عليه وعصياناً لذلك الخطاب ومستحقاً عليه العقاب ، ولكن المفروض انّ الاضطرار لم يكن بسوء الاختيار ، بل فُرِض عليه ارتكابُ المحرّم من جانب القويّ القاهر وعندئذ فالحرمة ـ مع تقدّمها على الأمر عند الامتناعي ـ شأنية وملاك الوجوب باق مؤثر فيكون صحيحاً.
    يقول المحقّق الخراساني : إنّ الاضطرار إلى ارتكاب الحرام إن كان يوجب ارتفاع حرمته والعقوبة عليه مع بقاء ملاك وجوبه ـ لو كان ـ مؤثراً له كما إذا لم يكن بحرام. (1)
    فإن قلت : إنّ المانع عن تحقّق الوجوب ليس هو الحرمة الفعلية ، حتّى يصير
1. قوله : « لو كان مؤثراً له » لفظة « كان » تامة فاعلها ضمير الملاك ، وقوله « مؤثراً » حال من ملاكه ومعنى العبارة : بعد سقوط التحريم يبقى ملاك الوجوب ـ لو كان ـ مؤثراً في الوجوب ومقتضياً له لسقوط ملاك التحريم من صلاحية المزاحمة له فيترتب على بقاء الملاك أثره فعلاً.

(246)
ارتفاعها سبباً لتحقّقه ، بل المانع عن تحقّقه وتأثير ملاكه فيه ، هو أقوائية ملاك الحرمة ( أعني : المفسدة الداعية إلى جعلها ) من ملاك الوجوب ( أعني المصلحة الباعثة نحو الإيجاب ) فمادامت المفسدة باقية على قوتها لا مجال لتأثير ملاك الوجوب وإن كان هنا مانع عن فعلية الحرمة أيضاً. (1)
    قلت : هذا ما ذكره السيّد المحقّق البروجردي لكن وجود المفسدة الأقوى من مصلحة الواجب ( كالصلاة ) عند الاضطرار أوّل الكلام ، لأنّ العلم بالملاك رهن وجود الحكم وفعليته ، ومع عدم الفعلية كما هو المفروض كيف نستكشف وجود المفسدة الأُقوى من مصلحة الواجب.
    مثلاً انّ التصرف في مال الغير أمر قبيح عقلاً ، لأنّه يعدّ من شقوق الظلم والتعدي على حقوقه وأمواله ، ومن المعلوم أنّ استقلال العقل بقبح التصرف بمال الغير محدّد بصورة الاختيار ، والمفروض انّه مضطر غير مختار ، بل فُرِض عليه التصرف في مال الغير فيكون عمله فاقداً للمفسدة ولو كان هناك ذمّ أو عقاب فإنّما لحامله على الحرام.
    ثمّ إنّ المحقّق البروجردي قاس المقام بالخمر الذي اضطرّ إلى شربه فكما أنّ ارتفاع حرمته لا يصير شربه راجحاً أو واجباً ، فهكذا المقام.
    فقال : مثلاً انّ الخمر مع كونه ذا مصلحة ومنفعة ، لكن لما كانت مفسدته راجحة ، وإثمه أكبر من نفعه ، صار حراماً لغلبة الملاك فلو فرضنا الاضطرار إلى شربه لمرض أو شبهه وارتفع الخطاب لأجله ، فلا يصير راجحاً أو واجباً بمجرده.
    نعم لو حدثت في ظرف الاضطرار مصلحة أُخرى ملزمة أو راجحة على المفسدة صار الفعل لا محالة واجباً لكن هذا غير ما أفاده ( قدس سره ). (2)
1. نهاية الأُصول : 244 ، الطبعة الأُولى.
2. لمحات الأُصول : 239.


(247)
    أقول : البحث في كلام المحقّق الخراساني مركّز على ما إذا كان هناك ملاكان ملزمان للوجوب والحرمة كالصلاة والغصب ، غير أنّ ملاك الغصب غلب على ملاك الصلاة فقدم النهي على الأمر ، فإذا زال النهي لأجل الاضطرار يكون ملاك الوجوب مؤثراً ، لأنّ انقلاب الحرمة الفعلية إلى الشأنيّة يكون كاشفاً عن ضعف الملاك في هذه الحالة.
    وبذلك تظهر الحال في المثال الذي ذكره ، إذ ليس في شرب الخمر ، ملاك ملزم لا قبل الشرب ولا بعده ، حتّى يؤثر في الوجوب ، ولذلك لا يوصف به ، نعم لو طرأ ملاك ملزم كما أشار إليه في آخر كلامه كما إذا توقفت حياة الإنسان عليه ، يوصف العمل بالوجوب ويكون ملاكاً مؤثراً.
    ثمّ إنّه ( قدس سره ) بين أقسام الاضطرار وعلاجه فمن أراد فليرجع إليه.
    فإن قلت : لو كان النهي عن التصرف في المغصوب موجباً لتقيد الصلاة بقيد وجودي كلزوم كون الصلاة في مكان مباح أو بقيد عدمي كاشتراطها بعدم كونها في مكان مغصوب الذي مرجعه إلى مانعية الغصب لصحتها ، فعندئذ يكون المأمور به مقيداً بقيد وجودي ( إذا كانت الإباحة شرطاً ) أو عدمي ( إذا كان الغصب مانعاً ) ومع عدم إمكان تحصيله يسقط الأمر بالمركب لعدم إمكان تحصيله ، لا أنّ الواجب ينحصر في الباقي ويصحّ الإتيان به.
    قلت : إنّ الأحكام الوضعية من الشرطية أو المانعية أُمور منتزعة من الأحكام التكليفية ، فلو كان الحكم التكليفي مرفوعاً بفضل القرآن والسنّة فلا يبقى لاحتمال الشرطية والمانعية في هذه الحالة مجال. فسعة الحكم الوضعي وضيقه تابع لسعة الحكم التكليفي وضيقه فبارتفاعه يرتفع الوضعي.
    فالظاهر صحّة عامة عباداته إلا ما كان له بدل مباح ، فإذا دار الأمر بين


(248)
الوضوء بماء مغصوب أو التيمم بالتراب فالثاني مقدّم على الأوّل.
    فإن قلت : على هذا يجب على المحبوس الاقتصار على الإيماء والإشارة بدلاً عن الركوع والسجود باعتبار انّهما تصرف زائد على مقدار الضرورة. (1)
    قلت : ذهب جماعة إلى أنّه لابدّ في جواز التصرف في أرض الغير من الاقتصار على مقدار تقتضيه الضرورة دون الزائد على ذلك المقدار ، وإليه ذهب الشيخ المحقّق النائيني قائلاً بأنّ الركوع والسجود تصرف زائد عند العرف فيجب الاقتصار على الإيماء.
    ولكن الصحيح ما اختاره تلميذه ـ أعني : المحقّق الخوئي ـ وحاصله : عدم الفرق بين كون المكلّف في الأرض المغصوبة على هيئة واحدة أو كونه على هيئات متعدّدة ، وذلك لأنّ كلّ جسم له حجم خاص ومقدار مخصوص كما عرفت يشغل المكان بمقدار حجمه دون الزائد عليه ، ومن الطبيعي أنّ مقدار أخذه المكان لا يختلف باختلاف أوضاعه وأشكاله الهندسية من المثلث والمربع وما شاكلهما بداهة انّ نسبة مقدار حجمه إلى مقدار من المكان نسبة واحدة في جميع حالاته وأوضاعه ، ولا تختلف تلك النسبة زيادة ونقيصة باختلاف تلك الأوضاع الطارئة عليه ، مثلاً إذا اضطر الإنسان إلى البقاء في المكان المغصوب لا يفرق فيه بين أن يكون قائماً أو قاعداً فيه وان يكون راكعاً أو ساجداً ، فكما أنّ الركوع والسجود تصرف فيه فكذلك القيام والقعود ، فلا فرق بينها من هذه الناحية أصلاً.

    حكم الاضطرار بسوء الاختيار
    هذا هو الموضع الثاني الذي عقد لبيانه هذا التنبيه ، ويقع الكلام في موارد :
1. المحاضرات : 4/355. ولاحظ جواهر الكلام : 8/300.

(249)
    1. حكم الدخول.
    2. حكم الخروج تكليفاً.
    3. حكم العبادة حين الخروج وضعاً.
    أمّا الأوّل فلا شكّ انّه أمر محرم ، لأنّه تصرّف في مال الغير بلا عذر فيكون محرماً ، إنّما الكلام في الأمر الثاني ، وهذا ما سندرسه.
    الثاني : حكم الخروج تكليفاً
    إذا توسط أرضاً مغصوبة بسوء الاختيار كأن دخل حديقة الغير للتنزّه وغيره ، ثمّ حاول أن يخرج ويترك الغصب ، فما هو حكم الخروج من حيث الحكم التكليفي ؟
    هناك أقوال :
    1. انّ الخروج منهي عنه بالنهي الفعلي وليس بواجب شرعاً ، وهو خيرة السيد البروجردي والسيد الأُستاذ قدس سرهما.
    2. انّه مأمور به شرعاً وليس وراء الأمر أي حكم شرعي ، وهو خيرة المحقّق الأنصاري والنائيني.
    3. انّه مأمور به شرعاً لكن مع جريان حكم المعصية عليه حيث إنّه منهي عنه بالنهي السابق الساقط من ناحية الاضطرار ، اختاره صاحب الفصول.
    4. انّه واجب وحرام بالفعل ، وهو خيرة أبي هاشم الجبائي المعتزلي ( المتوفّى عام 321 هـ ) واختاره المحقّق القمي.
    5. انّه واجب عقلاً لدفع أشد المحذورين بارتكاب أخف القبيحين وليس محكوماً بحكم شرعي بالفعل. نعم هو منهي عنه بالنهي السابق الساقط


(250)
بالاضطرار ، وهذا خيرة المحقّق الخراساني وهو الأقوى.
    6. انّه مأمور به ومنهي عنه لكن بالترتّب فكأنّه قال : لا تغصب ، وهو يشمل الدخول والبقاء والخروج ، ثمّ قال : فإن عصيت فاخرج.
    هذه هي الأقوال الستة فلندرس قول المحقّق الخراساني أوّلاً ، ثمّ بقية الأقوال ثانياً.
    فقوله مركّب من أُمور :
    1. واجب بالوجوب العقلي.
    2. ليس واجباً بالوجوب الشرعي.
    3. منهي عنه بالنهي السابق الساقط.
    4. انّ أثر النهي ـ وهو العقاب ـ باق.
    وإليك دراسة الأُمور الأربعة :
    أمّا الأوّل ، فلاستقلال العقل بوجوب الخروج والتخلّص ، لأنّه الطريق الوحيد للتخلّص من أشدِّ المحذورين بارتكاب أقلّهما ، فلو دار الأمر بين قليل العصيان وكثيره فالعقل يستقل بتقديم الأقل.
    وأمّا الثاني ، أي ليس محكوماً بحكم شرعي من الوجوب ، وذلك لأنّه لو كان واجباً فإمّا أن يكون وجوبه نفسيّاً أو مقدّمياً.
    أمّا النفسي فلم يرد في الشرع ما يدلّ على وجوب الخروج من المغصوب وإنّما ورد المنع عن التصرّف في المغصوب.
    وأمّا الغيري فهو فرع القول بأنّ حرمة الشيء تلازم وجوب ضدّه العام ، أعني : تركه ، كحرمة الغصب الملازم لوجوب تركه ، فإذا وجب الترك تجب مقدّمته ، أعني : الخروج حيث إنّه مقدمة لترك الغصب ، أو يقال ـ كما يأتي عن


(251)
الشيخ ـ بأنّ حرمة البقاء الذي هو من مصاديق الغصب ، يستلزم وجوب تركه والخروج مقدّمة له.
    ومن المعلوم أنّ المقدّمات ممنوعة لعدم دلالة حرمة الشيء على وجوب تركه حتّى تجب مقدّمته.
    وأمّا الثالث ، أي كون النهي السابق ساقطاً فلأجل عدم إمكان امتثاله بعد التوسط ، فقوله : لا تغصب ، وإن كان قبل الدخول يعمّ الدخول والبقاء والخروج ، لأنّ الجميع من مصاديق الغصب ، لكنّه بعد الدخول ولو بسوء الاختيار لا يتمكن المكلّف من امتثال قوله لا تغصب المتمثّل في البقاء والخروج.
    نعم ذهب العلاّمة الطباطبائي إلى تصحيح وجوب الخطاب ( لا تغصب ) ولو بعد ما توسط الأرض المغصوبة قائلاً : بأنّه يكفي في صحّة الخطاب ترتّب الأثر عليه وإن كان الأثر نفس العقاب ، ويكفي في القدرة ، القدرة على الامتثال في ظرف من الظروف ، والشرطان حاصلان والمكلّف كان قادراً على ترك التصرّف الخروجي قبل الدخول ، وهو يكفي في بقاء الخطاب حتى في صورة العجز عن الامتثال كما إذا توسّطها ، وفائدة الخطاب مع عجزه هي صحّة عقابه ومؤاخذته. (1)
    يلاحظ عليه : أنّه خلط بين الخطاب النابع عن الإرادة الجدّية في حال الاضطرار وبين قيام الحجة على المضطر في هذا الظرف ، والأوّل منتف ، لامتناع تعلّق الإرادة بفعل العاجز ، والثاني ثابت بلا كلام ، لأنّ القدرة قبل الدخول أتمّت الحجّة على العبد في جميع أحواله من الدخول والبقاء والخروج ، والقدرة في ظرف خاص إنّما تكفي في إتمام الحجّة حين المخالفة لا في توجّه الخطاب.
    وأمّا الرابع ، فهو جريان حكم المعصية عليه وكونه معاقباً فقد علم ممّا ذكرنا
1. التعليقة على الكفاية : 143.

(252)
حيث إنّ القدرة في ظرف من الظروف ـ أعني : قبل الدخول ـ تصحح العقوبة على التصرّف الخروجي وإن لم يكن في ظرف العمل قادراً ، وقد عرفت فيما سبق أنّ الامتناع بالاختيار لا ينافي الاختيار ملاكاً وعقوبة.
    نعم ينافي الاختيار حكماً وخطاباً ولذاك قلنا بسقوط الخطاب السابق وبقاء الملاك ، أعني : العقاب وهو الرابع.
    وبذلك يظهر الحال فيما أفاده السيد المحقّق البروجردي حيث قال : إذا سقط النهي فلا معنى للعصيان والمخالفة ومجرّد كون الاضطرار بسوء الاختيار لا يوجب المخالفة والعصيان ، مع عدم النهي الفعلي. (1)
    يلاحظ عليه : أنّ صدق العصيان ، ليس رهن النهي الفعلي ، بل يكفي في ذلك تمامية الحجّة عليه ولو قبل العمل ، فالساقط من شاهق عاص بسقوطه وإن لم يكن النهي فعلياً ، لتمامية الحجّة عليه ، فمن علم بنجاسة أحد الإناءين تمّت الحجّة عليه ولزمه الاجتناب مطلقاً ، ولو اضطرّ إلى أحد الأطراف لا يحل له الطرف الآخر وإن لم يكن العلم الإجمالي موجوداً لتماميّة الحجّة عليه قبل الاضطرار ، وهو كاف في إيجاب الاجتناب عن الإناء غير المضطر إليه.
    فخرجنا بالنتيجة التالية : نظرية المحقّق الخراساني هي أقوى النظريات في المقام ، فلندرس سائر الأقوال على الترتيب المذكور في صدر البحث.
    الأوّل : الخروج منهي عنه بالنهي الفعلي فقط
    ذهب السيد المحقّق البروجردي إلى أنّ الخروج حرام وليس بواجب ، أمّا أنّه حرام فلأنّ التصرّف في مال الغير ، بغير إذنه أو مع نهيه ، حرام وخروج عن طاعة
1. لمحات : 242.

(253)
المولى ، من دون فرق بين التصرّف الدخولي والخروجي في نظر العقل فإنّه يرى جميع التصرفات ـ في كونها معصية وخروجاً عن رسم العبودية ـ متساوية.
    وأمّا أنّه ليس بواجب ، فلأنّ وجوبه إمّا بالخصوص فلا دليل عليه ، وإمّا لكونه مقدّمة لترك الغصب الواجب ، فهو أيضاً مثله ، إذ لم يرد دليل على وجوب ترك الغصب وما ورد من أنّ الغصب مردود ، فإنّما تأكيد لحرمة الغصب. (1)
    يلاحظ عليه : بأنّ حرمة الخروج إمّا لأجل تعلّق النهي به بالخصوص ، أو لأجل انّه تصرّف في مال الغير ؛ أمّا الأوّل فهو دفع الفاسد بالأفسد ، لأنّ النهي عن الخروج بما هو هو يستلزم البقاء في المغصوب إلى آخر العمر وهو أشدّ محذوراً ، وأمّا الثاني فهو يستلزم التكليف بالمحال ، لعدم قدرته على امتثال ذلك النهي إلا أن يلتجئ إلى البقاء ، وهو أيضاً حرام.
    فإن قلت : إنّ الامتناع بالاختيار ، لا ينافي الاختيار.
    قلت : قد سبق انّ القاعدة صحيحة ، ولكن المراد أنّه لا ينافي ملاكاً وعقاباً ، لا خطاباً وحكماً ، فهو معاقب إذ كان في وسعه امتثال هذا النهي الشامل للخروج أيضاً بترك الدخول ، لأنّه عصى ودخل فيعاقب على الخروج للنهي السابق الساقط لا أنّه مخاطب بالفعل بالنهي عن الخروج.
    ثمّ إنّ السيد الأُستاذ ( قدس سره ) اختار نظرية السيد البروجردي واستدلّ عليه لكن بطريق آخر ، وهو ما اختاره من أنّ خطابات الشرع ، خطابات قانونية وليست خطابات شخصية ، ويكفي في صحّة الخطاب القانوني ، اجتماعُ الشرائط العامّة في كثير من المكلّفين لا في كلّ واحد ، بخلاف الخطاب الشخصي فانّه يشترط اجتماع الشرائط العامة في كلّ مخاطب بالخصوص.
1. لمحات : 244.

(254)
    توضيح ذلك : انّ الخطاب تارة يتعلّق بالعنوان الكلّي كالناس والمؤمنين ، وأُخرى بفرد معيّن ، ومعنى الخطاب في الأوّل جعل الحكم على العنوان الكلّي من دون لحاظ كلّ واحد واحد من الأفراد التي ينطبق عليها العنوان ، ويكفي في صحّة الخطاب وعدم لغويته ، اجتماع الشرائط في كثير من مصاديق العنوان ، لا في كلّ واحد ، بخلاف الخطاب الشخصي ، فانّ الصحّة فيه رهن اجتماع الشرائط في نفس المخاطب.
    فإن قلت : إنّ العقل يتصرّف في الخطابات القانونية ، ويقيّدها بالقدرة ، فعندئذ يكون الخطاب القانوني ، كالخطاب الشخصي في اعتبار القدرة في كليهما.
    قلت : ليس من شأن العقل ، التصرّفُ في إرادة الغير وخطابه ، غاية ما في الباب أنّ للعقل ، التعذير ، فإذا كان بعض المكلّفين فاقداً للشرط أو الشرائط يعدّه معذوراً في مخالفة التكليف من دون أن يتصرّف في إرادة المولى ، أو خطابه.
    وعلى ضوء ذلك يكون الخروج محرّماً ومصداقاً للحكم الكلّي ، أعني : حرمة التصرّف في مال الغير المطلق الشامل للقادر والعاجز ، وأمّا التعذير فإنّما يصحّ إذا كان بغير سوء الاختيار ، دون ما إذا كان معه كما في المقام.
    فخرجنا بالنتيجة التالية : من كون التصرّف « الخروج » حراماً لكونه مصداقاً لحرمة التصرّف في مال ، وانّ الخطاب أو الحكم شامل ، وإن كان عاجزاً ، إذ لا يشترط القدرة في كلّ واحد من الأفراد ، وأمّا التعذير فهو منتف لأجل سوء الاختيار. (1)
    يلاحظ عليه أوّلاً : بالنقض بالخطاب الشخصي فإنّه مقيّد بالقدرة ، مع كون الخطاب أو الحكم مطلقاً ، فهل المقيّد هو المولى أو العقل ؟ والأوّل منتف لإطلاق
1. تهذيب الأُصول : 1/404.

(255)
خطابه وكلامه ، والثاني يستلزم تصرّف العقل في إرادة المولى.
    وثانياً : أنّ العقل لا يتصرّف في إرادة المولى وإنّما يكشف عن ضيق إرادته وعدم تعلّقها إلا بالقادر ، فكم فرق بين التصرّف في إرادة المولى وحمله على ما يحكم به العقل ، وبين كشف العقل عما في ضمير الجاعل وصميم ذهنه ، وهو انّ الطلب من العاجز ـ وإن كان بسوء الاختيار ـ غير صحيح ، لأنّه تكليف بالمحال.
    وثالثاً : بما تقدّم في باب الترتب من أنّ الإجمال في مقام الثبوت غير ممكن ، فلو سئل المولى عن عموم حكمه للعاجز ، لأجاب بالنفي ، لأنّه تكليف بالمحال.
    الثاني : الخروج واجب شرعاً
    ذهب الشيخ الأنصاري وا لمحقّق النائيني إلى أنّ الخروج واجب شرعاً وليس وراء الوجوب حكم سواه ، واستدلّ عليه بوجوه ثلاثة نقلها المحقّق الخراساني بصورة السؤال والجواب.
    الأوّل : أنّ الخروج مقدّمة لترك البقاء الواجب الأهم ، ومقدّمة الواجب ، واجبة ، فلا يكون منهياً عنه لامتناع الاجتماع.
    وأجاب عنه المحقّق الخراساني بوجهين :
    أوّلاً : أنّ مقدّمة الواجب إنّما تكون واجبة إذا كانت مباحة لا محرمة ، وكون الواجب أهمّ من المقدّمة المحرّمة وإن كان يوجب وجوبها إلا أنّه فيما إذا لم يكن بسوء الاختيار ، ومعه لا يتغير عمّا هو عليه من الحرمة والمبغوضية.
    توضيحه : انّ المقدّمة المحرّمة على أقسام ثلاثة :
    1. أن لا تكون المقدّمة منحصرة بالحرام ، بل كان معها مقدّمة مباحة ، وعندئذ لا توصف المقدّمة المحرمة بالوجوب لعدم الانحصار ، وبالتالي عدم
إرشاد العقول إلى مباحث الأصول الجزء الثاني ::: فهرس